فصل: تفسير الآيات (3- 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (3- 5):

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}.
التفسير:
تلك هي صفات المتقين.
يؤمنون بالغيب.. والغيب ما خرج عن متناول الحواس، وإدراك العقل.
والإيمان بما يجيء من عالم الغيب، لا معتبر له إلا إذا كان مستنده إلى جهة لا يتطرق الكذب إليها، وإلا كان التصديق بما يخبر به العرافون والكهنة وغيرهم ممن يدّعون علم الغيب. إيمانا، وهو ليس من الإيمان في شيء، وإنما المراد بالإيمان هنا ما يخبر به رسل اللّه وأنبياؤه أقوامهم، من أمر البعث، والحساب، والجنة، والنار، ونحو هذا، مما هو من أنباء الغيب، التي لا تقع لعلم الناس، ولا تستجيب لمدركاتهم.
فأول صفة من صفات المتقين، هي الإيمان بتلك الغيبيات، على الصورة التي يخبر بها الرسل، حيث تلقّوا الأخبار عن تلك الغيبيات، وحيا من اللّه، وهم الأمناء على ما أوحى إليهم من ربّهم.
فلا إيمان لمن لا يؤمن باللّه، ولا إيمان باللّه لمن لا يؤمن برسل اللّه، ولا إيمان برسل اللّه لمن لا يؤمن بما يحمل رسل اللّه من رسالات، وما يبلغون من أوامر ونواه، وما يلقون من أخبار.
وملاك التقوى هو الإيمان، فلا تقوى لمن لا إيمان له، فإذا جاء الإيمان على تلك الصورة، كان داعية لأن يقيم الإنسان على طريق التقوى، وأن يؤهّله لتلك الصفات التي وصف اللّه سبحانه بها المتقين: الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم اللّه، ويؤمنون بما نزل على محمد، إيمانا مفصلا، وبما أنزل على الرسل من قبله، إيمانا مجملا، ثم ينتهى بهم ذلك الإيمان إلى الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من حساب، وثواب، وعقاب وجنة ونار.. وعندئذ يصبح المؤمن المستكمل لتلك الصفات مؤهلا لأن يحسب من المتقين، ويدخل في عدادهم.

.تفسير الآيات (6- 7):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)}.
التفسير:
الناس ثلاثة: مؤمنون، وقد بدأت السورة بذكرهم. وكافرون، وهم المذكورون في هاتين الآيتين. ومنافقون مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، سيجيئ ذكرهم بعد هذا.
ويلاحظ أن القرآن ذكر هنا كلمة {المتقين} في مقابل الكافرين، ولم يقل المؤمنين، وذلك أن من شأن الإيمان الصحيح أن يبلغ بصاحبه منازل المتقين.
والذين كفروا المذكورون في هذه الآية، ليسوا مطلق الكافرين، بل هم كفار مكة، الذين حادّوا اللّه ورسوله، وأشربوا في قلوبهم الكفر، وعلم اللّه أنهم لن يستجيبوا للرسول، كأبى جهل، وعتبة بن ربيعة وغيرهما ممن مات على الكفر في غزوة بدر وأحد، من قتلى قريش.. فهؤلاء قد حكم اللّه عليهم هذا الحكم: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في سورة يس: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فهؤلاء الذين حق عليهم القول بألا يؤمنوا هم الذين تعنيهم هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
وإلا فلو كان المراد بالذين كفروا في هذه الآية مطلق الكافرين، لما كان لدعوة الرسل حكمة، ولما كان لعرض رسالاتهم على الناس معنى، لأنهم إنما يبعثون إلى قوم كافرين، فيستجيب لهم من يستجيب، ويقيم على كفره من حقّ عليه القول منهم.. أما تيئيس الكافرين مطلقا، والحكم عليهم بألا يؤمنوا أبدا، فذلك بعيد عن حكمة اللّه في ابتلاء الناس واختبارهم، وإقامة الحجة عليهم، بإرسال الرسل إليهم.. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [42: الأنفال].
وقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} هو كشف لما اشتمل عليه كيان هؤلاء الكافرين الذين لا يتحولون عن كفرهم أبدا، بما قام في كيانهم من حواجز تعزلهم عن التجاوب مع دعوة الإيمان، ولا تسمح لشعاعة من شعاعات الحق أن تخترق تلك الحواجز، فقد {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ}.
والختم على الشيء وضع خاتم عليه، أشبه بالقفل المحكم، بحيث لا ينفذ إليه شيء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في آية أخرى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} [24: محمد] {وَعَلى سَمْعِهِمْ} أي وختم على سمعهم، فالواو هنا للعطف على قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ} والختم على السمع: الضرب عليه بحجاب، فلا تنفذ منه دعوة الحق إلى موطن الإدراك من العقل، فهم أشبه بالنائم المستغرق في نومه، حواسه كلها سليمة، ولكنها معطلة لا تعمل في تلك الحال.. كما يقول سبحانه وتعالى في أصحاب الكهف: {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} [11: الكهف].
{وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ}.
أي أن أبصارهم لا ترى الأشياء رؤية واضحة، بل تبدو المرئيات لها مهزوزة غائمة، تضطرب في مجال الرؤية، فلا يعرف الرائي حقيقة ما رأى.
وهذه الصورة الحسية التي صورت بها حال أولئك الكافرين، إنما هي تجسيم لطبائعهم النكدة، وعقولهم المظلمة! وإلا فإن آذانهم مرهفة، وأبصارهم حديدة، ولكنهم لا يحصّلون بها خيرا، ولا يهتدون بها إلى سبيل الرشاد والهدى.
ويثار هنا قول، هو: ما لهؤلاء الكافرين إذ لم يهتدوا إلى الإيمان وقد عطل اللّه مداخل الإيمان إلى كيانهم؟.
وهذه مسألة كثر فيها الرأى، واختلف عليها العلماء، حتى صار المسلمون فيها فرقا، من سنية، ومعتزلة، وشيعة، وخوارج.
والرأى في هذا أن يفوض الأمر كله للّه.. فالخلق خلقه، والناس عبيده، يقضى فيهم بحكمه كيف اقتضت إرادته.. كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن] وكما يروى في الحديث الشريف: عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- سئل عن معنى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ} [172: الأعراف] فقال عمر: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، سئل عنها فقال: «إن اللّه عز وجل لمّا خلق آدم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره بشماله، فاستخرج منه ذريته، فقال: هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقام رجل فقال: يا رسول اللّه: ففيم العمل؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إن اللّه عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل أهل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت وهو على عمل أهل النار فيدخله به النار».
هكذا قضى اللّه في عباده، فريق في الجنة، وفريق في السعير.. ومن حكمة اللّه ولطفه بعباده أنه لم ينكشف الأمر لأىّ من الفريقين، فلا أحد من أصحاب الجنة يعلم أنه من أصحاب الجنة، ولا أحد من أهل النار يعرف أنه من أهل النار، بل الجميع مدعوّون من عند اللّه إلى أن يعملوا على مرضاته، ليفوزوا بالجنة.. وهنا يبدو مجال العمل للجنة فسيحا يسع الناس جميعا، فيسعى كلّ سعيه، فمن كان من أهل الجنة عمل عمل أهل الجنة حتى يبلغها، ومن كان من أهل النار عمل عمل أهل النار حتى يدخلها «وكلّ ميسّر لما خلق له».

.تفسير الآيات (8- 10):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)}.
التفسير:
هؤلاء هم الصنف الثالث من الناس، وهم المنافقون، الذين ليسوا بالمؤمنين ولا بالكافرين.
والنفاق شر من الكفر الصّراح، لأن الكافر على بينة من أمره مع نفسه، وعلى حال يعرف الناس منها وجهه.. وليس الكافر بالميئوس منه أن يتحول في أية لحظة من الكفر إلى الإيمان.
أما المنافق فأمره مختلط، وشأنه مضطرب، يدور حول نفسه التي تحمل الكفر والإيمان معا، فلا هو في الكافرين، ولا في المؤمنين.
ولهذا توعد اللّه سبحانه المنافقين بما لم يتوعد به الكافرين، من عذاب ونكال، حيث يقول سبحانه: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [145: النساء].
وقد توعد اللّه سبحانه المنافقين هنا بالعذاب الأليم، فقال: {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ} على حين توعد الكافرين في الآية قبلها بالعذاب العظيم، فقال سبحانه: {وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} والأليم أشد هولا ونكالا من العظيم، فقد يكون العظيم عظيما في شخصه وهيئته، وليس عظيما في أفاعيله وسطوته.. أما الأليم فهو البالغ الغابة في الإيلام، ولو ضؤل شخصه! {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}.
آفة الكافرين في كفرهم موزعة بين أجهزة ثلاثة في كيانهم، هي القلب، والسمع، والبصر.. فقلوبهم مغلقة عن الخير، وأسماعهم نابية عن الحق، وأبصارهم كليلة عن الهدى.
أما المنافقون فإن آفة نفاقهم في القلوب وحدها، حيث قد سمعوا الحق ووعوه، وأبصروا الهدى واستيقنوه، ولكن حين ينفذ هذا كله إلى موطن الإيمان من قلوبهم، يصادف قلوبا مريضة، لا تقبل الحق والخير، وإن قبلتهما فإنها سرعان ما تلفظهما، كما يلفظ المحموم طيب الطعام.
{فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} يمكن أن تكون الفاء هنا للسببية، ويكون المعنى أن ما أرسل اللّه من هدى على يد النبيّ قد استقبلوه بتلك القلوب المريضة فهيج علّتها، وأيقظ نائم دائها.
كما يمكن أن تكون الفاء للتفريغ، وتكون الجملة بعدها دعائية، والمعنى أن هؤلاء المنافقين- بما استبطنوا من نفاق لا يرجى شفاؤه- استحقوا أن يدعى عليهم بما يزيد مرض قلوبهم مرضا.

.تفسير الآية رقم (11):

{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}.
التفسير:
هكذا ينافق المنافق حتى مع نفسه، فيرى أنه على طريق الحق، على حين أنه غارق في الضلال.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [8: فاطر] فلقد غلبت عليهم شقوتهم، ونظروا إلى أنفسهم في مرايا النفاق، فرأوا أنهم أحسن الناس حالا، وأكملهم كمالا!!

.تفسير الآية رقم (12):

{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)}.
التفسير:
إنهم هم المنافقون! لقد فضح اللّه باطنهم الخبيث، وما انطوى عليه من سوء، فدمغهم بهذا الحكم القاطع المؤكد أوثق التوكيد بجملة أدوات: ألا الاستفتاحية وإنّ المؤكدة وهم ضمير الفصل وال المعرّفة للخبر بما يدل على قصر الفساد عليهم وحدهم.

.تفسير الآية رقم (13):

{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)}.
التفسير:
فى إسناد مقول القول {آمنوا} إلى المبنى للمجهول، ما يشعر بأن ضلالهم- قد أصبح من الانكشاف والوضوح بحيث أنطق كل موجود في محيطهم، بدعوتهم إلى الاستقامة، والانتظام في موكب {الناس}، الذين صانوا إنسانيتهم عن هذا الانحراف السفيه، الذي يعيش فيه المنافقون.
ولهذا جاء قول اللّه تعالى: {كَما آمَنَ النَّاسُ} ولم يجيء: {كما آمن المؤمنون} وفيه ما يدل على أن الإيمان أقرب شيء إلى الفطرة التي فطر الناس عليها، وأن من شأن الناس أن يستجيبوا لدعوة الإيمان، وأن من استجاب للرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- هم الناس، ولا اعتبار لغيرهم.
وجاءت فاصلة الآية هنا: {لا يعلمون} على حين أنها جاءت في الآية السابقة عليها: {لا يشعرون} وذلك لاختلاف المقام هنا وهناك.
{هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ} {هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ} الإفساد في الأرض- مع أنه مما يجابه الحواس، ويقع في محيط إحساسها- لا يشعر به أولئك المنافقون، لكثرة ما ألحقوا على هذه الحواس من خداع وتضليل، ولكثرة ما تعالوا معها بالتعمية والتمويه: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ}.
والسّفه- مع أنه انحراف حاد عن طريق الحق والخير- لا يقع في علم هؤلاء السفهاء، ولا يرون فيه ما يرى الراشدون من الناس من حماقة ومنقصة!: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ}.

.تفسير الآيات (14- 16):

{وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)}.
التفسير:
هذه حال المنافقين دائما.. يلقون الناس بوجهين، وجه يظهر الحب والمودة، ووجه يضمر السوء والشر.. إنهم مع أهوائهم الضالة، ونفوسهم المريضة، فحيث كان لهذه الأهواء منتجع، وكان لتلك النفوس مستراح- فهم هناك.. يتقلبون مع كل ريح، ويطعمون من كل مائدة! و{شياطينهم} هم رءوس النفاق فيهم، وأصحاب الأمر والتدبير عندهم.
وفى قوله تعالى: {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} بعد قوله سبحانه {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ} توكيد لخسرانهم وضلالهم، إذ قد لا يربح التاجر في تجارته، ولكن ذلك لا ينقص من ميزانه الخلقي مثقال ذرة، إذ قد يكون عدم ربحه، أو خسارته، لأسباب لا يدله فيها. ولكن هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى إنما هم مغبونون في تلك الصفقة التي عقدوها، ولو جرّت عليهم كثيرا من حطام الدنيا، لأنهم خسروا أنفسهم، وذلك هو الخسران المبين، فهو خسران محقق، وغبن فاحش، يملأ النفس حسرة وندما. عند من وعى وعقل!

.تفسير الآيات (17- 18):

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)}.
التفسير:
أكثر المفسرين على أن الكاف في {كمثلهم} زائدة، باعتبار أن كلمة {مثل} أداة للتشبيه، والكاف أداة للتشبيه، ولا تجتمع الأداتان على مشبّه به واحد، وعلى هذا تكون الصورة هكذا: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً} أو {مثلهم كالذى استوقد نارا}.
وبلاغة القرآن أعظم وأسمى من أن تخضع لمقاييس النحو وتخريج النحاة! فليس في كلمات اللّه ما يحتاج إلى علل النحاة، وو مما حكاتهم، ليستقيم على علمهم، ولينضبط مع قواعدهم- وحسب القرآن أن يقول قولا، أو ينهج أسلوبا، فيكون قوله الحق، وأسلوبه الفصل، ولا عليه أن تضطرب قواعد النحو، وتتبلبل عقول النحاة! والأمر هنا- فيما يتعلق بالكاف في {كمثل} يجرى على أسلوب القرآن كله، في إعجازه، واستيلائه على أعنّة البلاغة وأزمّتها.
فقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً} هو تشبيه حال بحال، وشأن بشأن.. بمعنى أن شأن هؤلاء المنافقين وحالهم، كشأن أو حال من استوقد نارا.
فهؤلاء المنافقون مثل، وذاك الذي استوقد نارا مثل.. وبين المثلين تشابه وتطابق، فصح أن يكون كل منهما طرفا في تشبيه واحد، وكاف التشبيه أداته.. فكأنه قيل: هذا المثل كهذا المثل! وننظر فيما بين المثلين من وجه شبه، فنرى:
فى المشبه، وهم المنافقون.. كانوا في زمرة الكافرين، ثم إنهم أعلنوا إيمانهم، واتخذوا هذا الإيمان جنّة يتقون بها يد المؤمنين، إذا هي علت على الكافرين، وأنزلتهم على حكمهم، وذريعة يتوصلون بها إلى ما قد يفيء اللّه على المؤمنين من خير!.. فكان أن فضح اللّه نفاقهم، وجاءت آياته تنزع عنهم هذا الثوب الذي ستروا به هذا النفاق، فأصبحوا عراة لا يستطيعون أن يظهروا في الناس، إلا كما تظهر الحيات برءوسها من وراء أجحارها! وفى المشبه به، وهو هذا الذي استوقد نارا.
هذا الإنسان، كان في ظلمة الليل، وفى لفح زمهريره القارس، فاستوقد نارا، كى يجد فيها الدفء والنور! ثم جاء هؤلاء المنافقون فيمن جاء إلى هذا الضوء، ليجدوا عنده الأمن، والدفء.
ولكنّ هؤلاء المنافقين، وإن اختلطوا بالمجتمعين على هذا الضوء، وحسبوا- في ظاهر الأمر- على ما عليه القوم، فإن اللّه سبحانه حجز عنهم النور، وأخذ على أبصارهم، فلم يروا ما حولهم، ولم يعرفوا وجه الطريق الذي يسلكون، فركبتهم الحيرة، وقيدهم العمى والضلال..!
ونقرأ الآية الكريمة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ}، فنجد لمحة من لمحات الإعجاز القرآنى، في هذا التخالف بين أجزاء الصورة في المشبه به، حيث كان الظاهر أن يقال: ذهب اللّه بنوره وترك في ظلمات لا يبصر.
ولكن هذا يفسد المعنى، حيث يقضى بهذا الحكم على موقد النار، فيذهب بنوره الذي رفعه لهداية الناس، وحيث يقع هذا الحكم على غير المنافقين، من طالبى الهدى عنده.
والصورة التي رسمتها الآية الكريمة- على ما جاءت عليه- تأخذ المنافقين وحدهم بجرمهم، فتحرمهم الإفادة من هذا النور الذي يملأ الوجود من حولهم.. ثم لا تحرم المهتدين ما أفادوا من هدى.
ولقد جاء القرآن بمثل آخر لهؤلاء المنافقين في الآيتين التاليتين: