فصل: تفسير الآيات (19- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (19- 25):

{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)}.
التفسير:
إن قصة إبراهيم لم تتم بعد، وستأتى بقيتها، بعد تلك الآيات التي جاءت في مساق القصّة، لتكشف لهؤلاء المشركين، قديما وحديثا، عن ضلالهم، وسفاهتهم، وضعف أحلامهم، إذ ينحتون أحجارا ثم يعبدونها، ويجعلونها مشاركة للّه سبحانه وتعالى، في الملك والتدبير، وفي النفع والضر.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هو إلفات لهؤلاء المشركين، إلى ماللّه سبحانه وتعالى من قدرة مطلقة لا حدود لها، وأنه سبحانه هو الذي أوجد هذا الوجود، وأنشأ هذه المخلوقات، وهو سبحانه الذي سيعيدها كما بدأها.. إن ذلك البدء، والإعادة، أمر يسير على اللّه، لا يتكلف له جهدا، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
والمراد بالرؤية هنا، رؤية العلم، الذي يكشف للإنسان حقائق الأشياء، كما يكشف البصر صور المرئيات.. والاستفهام معطوف على محذوف، تقديره:
أعموا ولم يروا كيف يبدئ اللّه الخلق ثم يعيده؟
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا الأمر مترتب على ما سبق في الآية السابقة، التي نخست هؤلاء الغافلين، تلك النخسة الموجعة، لما هم فيه من عمى وضلال عن آيات اللّه.. وأنهم إذا كانوا لم يعلموا، فليطلبوا العلم.. وها هي ذى سبل العلم ميسرة، فليسيروا في الأرض، وليقلبوا وجوه النظر فيها.. وهذا أسلوب من أساليب تحصيل العلم بالتجربة الحسية، والانتقال من المحسوس إلى المعقول، على حين كان أسلوب تحصيل العلم في الآية السابقة عن طريق التأمل والتدبر.. وهذا الأسلوب التجريبي في تحصيل العلم، وإن كان له جلاله وخطره في لمس الحقيقة، إلا أنه دون الأسلوب الأول الذي يحصّل فيه العلم بتوجيه العقل مباشرة إلى الحقيقة، مستهديا في ذلك بحدسه، وبصيرته.. وذلك في مجال البحث عما وراء الطبيعة من الغيبيات، التي تتعلق بالبعث والقيامة، والحساب والجزاء.. فهذه الأمور وأمثالها لا يمكن إدراكها عن طريق الحسّ، ولا بتقليب النظر في المدركات الحسية.. وإن كان المدركات الحسية شأن هنا، فإنما هو فيما يبدو منها من إشارات خافتة، وما يندّ منها من شرارات متطايرة، فإذا وجدت هذه الإشارات بصيرة نافذة، وعقلا متفتحا، كانت منطلقا للمدارك الإنسانية العليا نحو الحقيقة، وإذا وجدت هذه الشرارات المتطايرة قلبا يجمعها إليه اتقدت منها جذوة تضيء جوانب النفس وتكشف للعقل معالم الطريق إلى الحق والهدى.
قوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}.
أي كما أن من قدرة اللّه أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، فإن من قدرته كذلك أن يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء.. لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه في عباده.
وقدّم العذاب على الرحمة هنا، لأن الموقف في مواجهة المشركين الضّالّين الذين أنذروا، فلم تغنهم النذر، فكان من البلاغ والبلاغة في آن- عند دعوتهم إلى اللّه- أن يروا العذاب الذي أنذروا به، وأن يستشعروا أنهم أهله، فإذا كان لذلك العذاب وقع كريه في نفوسهم، فهذه أبواب الرحمة مفتحة لمن يطرقها إلى اللّه، والإيمان به.
وفي قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} إشارة إلى أن مسيرة الإنسان بدأت من عند اللّه سبحانه وتعالى، وانطلقت من يد قدرته.. وأن مسيرة الناس في الحياة، لها نهاية تنتهى عندها، ثم تنقلب راجعة إلى اللّه من حيث بدأت.. فمن يد القدرة انطلقت، وإلى يد القدرة تعود.. كما يقول سبحانه:
{إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى} [8: العلق] والرجوع إنما يكون بالعودة إلى مكان البدء، والانطلاق.
قوله تعالى: {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.
هو توكيد لقدرة اللّه المطلقة، وأن هذه القدرة لا يعجزها الإنسان، في أي منطلق ينطق إليه، سواء أكان منطلقه في الأرض أم في السماء.. فاللّه سبحانه، له ما في الأرض وله ما في السماء.. وإذا كان ذلك كذلك، فإنه لا ملجأ للإنسان من اللّه إلا إليه، وأنه إذا طلب معينا يعينه، فلن يجد العون إلا عند اللّه، ومن اللّه.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
فى الآية حكمان واقعان على الذين كفروا بآيات اللّه واليوم الآخر.
الحكم الأول: أنهم في يأس من رحمة اللّه.. إنهم لا يرجون رحمة اللّه، لأنهم لا يؤمنون به.. ولو كانوا يؤمنون باللّه لآمنوا باليوم الآخر، ولعملوا في هذه الدنيا أعمالا صالحة، يرجون بها رحمة اللّه، ويبتغون ثوابه.
والحكم الآخر: أن لهم في الآخرة عذابا أليما، إذ لم يكن لهم نصيب من رحمة اللّه.. لأنهم لم يرجوها ولم يعملوا لها.
قوله تعالى: {فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} تجيء هذه الآية فتصل أحداث قصة إبراهيم، التي فصلت بينها الآيات السابقة، التي جاءت في سياق القصة- تجيء والنفوس متشوقة إلى متابعة أحداثها، والأبصار شاخصة إلى ما يطلع عليها من وجوه الأحداث المتوقعة، فكان ذلك القطع لمجريات الأحداث، أشبه بصدمة قوية، تتنبّه لها حواسّ الإنسان وتستيقظ لها مشاعره ومدركاته، لينظر ما ذا جرى، وما ذا هناك من أمر قطع تيار الأحداث التي تجرى فيها القصة.. وهنا تلقاه هذه الآيات التي تلفت الأنظار- في قوة- إلى قدرة اللّه، وإلى ماله من تدبير وتصريف، في هذا الوجود، وأنه سبحانه يبدأ الخلق ثم يعيده، وأنه يعذّب من يشاء ويغفر لمن يشاء، وأنه- سبحانه- لن يعجزه هارب في السماء أو في الأرض. فإذا وعى الإنسان ذلك كلّه، لقيته أحداث القصة من جديد، وطلعت عليه بالجواب الذي كان يريد أن يعرف مضمونه من فم القوم، بعد أن دعاهم إبراهيم- عليه السلام- إلى اللّه، وإلى ترك ما يعكفون عليه من أصنام.. فلقد وقفت أحداث القصة عند مقولات إبراهيم لقومه، وحين تهيأت النفوس لاستقبال جوابهم الذي يحدّد موقفهم من هذه المقولات- انتقلت بهم الآيات إلى موقف آخر غير هذا الموقف، وكادت تعزلهم عنه عزلا تاما، حتى إذا كادوا ينسون أحداث القصة، طلع عليهم الوجه الغائب عنهم منها.. وهو جواب القوم وردّهم على مقولات إبراهيم.
فانظر في وجه هذا الإعجاز، واسجد للّه في محراب عظمة آيات اللّه وجلالها.. وإنك لترى الكلمات أحداثا متحركة، وشخوصا حية عاقلة، تتبادل فيما بينها المواقف، كما يتبادل المجاهدون مواقفهم في ميدان الجهاد، حيث يتحرف المجاهد للقتال، أو ينحار إلى فئة، حسب ما يرى ويقدر، لسلامة الموقف، وتحقيق النصر، دون أن يولى ظهره، أو يستسلم لعدوّه.
هكذا نرى آيات اللّه، في مقام الدعوة إلى اللّه.. إنها جنود سماوية في ميدان الجهاد لإزاحة الضلال من العقول، وكشف العمى عن القلوب..!
{فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
هذا هو الجواب لمن كان ينتظر الجواب.. وإنه لجواب أهل السّفه والضلال لكل قول كريم يقال لهم، وإنه لردّ أهل الزّيغ والفسوق على كل دعوة رشيدة يدعون إليها.
فماذا يكون جواب هؤلاء المشركين من أهل مكة لمقولات النبيّ التي قالها لهم، وما ذا يكون ردّهم على دعوته التي يدعوهم إليها؟
لقد قالوا أسوأ القول، وردوا أفحش الردّ.. قالوا إنه ساحر، وقالوا إنه مجنون، وقالوا إنه كاذب مفتر.. وقالوا: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [30: الطور] وقالوا: اعتزلوه وأهله.. وقالوا اقتلوه ضربة رجل واحد، فيذهب دمه في قبائلكم بددا..!
فماذا كانت خاتمة هذا الصراع؟ لقد أنجاه اللّه منهم وخلصه من كيدهم، وأطفأ لهيب هذه الأفواه التي كانت ترمى بالشرر من نار العداوة البغضاء.. تماما كما نجى اللّه إبراهيم من النار، وجعلها بردا وسلاما عليه.. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يراها ذوو العقول الرشيدة، ويشهدها أصحاب البصائر المبصرة، في تلك القوى الغيبية التي تطلع من حيث لا يراها أحد، فتحيل الضعف قوة والقوة ضعفا، وتجعل النار بردا وسلاما! قوله تعالى: {وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ} هذه هي قوله الحق، ينطق بها إبراهيم، وينطق بها محمد، وينطق بها الوجود كله، ردّا على هذا الرد السفيه الأحمق، الذي ردّ به هؤلاء السفهاء الحمقى، على ما دعوا إليه من حق وهدى وخير.
وفي قوله: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً} تقرير لأمر واقع.. فهم إنما اتخذوا فعلا أوثانا، يعبدونها من دون اللّه.. ولكنّ في إعلامهم بها، وكشف وجوهها لهم، تسفيها لهم، ووضعا لجسم الجريمة بين أيديهم، تماما كما يوقف القاتل على جنة قاتله في مواجهة الاتهام والمساءلة!- وقوله سبحانه: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا}.
هو بدل من قوله تعالى: {أَوْثاناً}.
وهذا يعنى أن الأوثان، والمودة مثلان متعادلان.. فالأوثان في هذا التقدير ليست إلا هوى من أهوائهم، وإلا كئوسا من الإثم، يتعاطونها، ويجتمعون عليها، فنقيم بينهم من التآلف والتوافق، ما تقيم مجالس الشراب بين الشّرب من اختلاط وامتزاج.. ثم إذا كانت لأحدهم صحوة بعد هذا، ونظر نظرة سليمة إلى حاله تلك، أنكر هذه المجالس الآثمة، وأنكر أهلها، ولعن كل وجه كان يلقاه فيها.
وعلى هذا نجد وضع الآية الكريمة هكذا: وقال إنما اتخذتم من دون اللّه أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا، فجعلتم هذه المودة القائمة على الهرى، هي الرباط الذي ربط بينكم، وجمعكم على هذا الضلال الذي أنتم عليه.. ولكن أين هذا من نظم القرآن وإعجازه؟ وأين الأرض من السماء؟
قوله تعالى: {يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ} أي ويوم القيامة ينكشف لكم الأمر، وتنقلب هذه المودة بغضة وعداوة، فيكفر بعضكم ببعض، وينكر بعضكم بعضا، ويلعن بعضكم بعضا، كما يقول سبحانه: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [67: الزخرف].. فالمودة التي تقوم بين المؤمنين مودة قائمة على التقوى والخير، يلتقى عليها المؤمنون في الدنيا والآخرة، كما يقول سبحانه في أهل الجنة: {إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ} [47: الحجر] والمودة القائمة على الهوى والضلال، لا يلتقى أهلها يوم القيامة إلا على العداوة والمقت والبغضاء، وفي هذا يقول اللّه تعالى: {قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [27- 28 ق].

.تفسير الآيات (26- 35):

{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
تتصل قصة لوط، بقصة إبراهيم- عليهما السلام- لأن لوطا كان من قوم إبراهيم، وقد اختلف في قرابته لإبراهيم، ودرجة هذه القرابة، وليس لهذه القرابة كبير وزن هنا، إذ كانت بين لوط وإبراهيم تلك القرابة الموثقة التي لا تنقصم أبدا، وهي النسب الذي جمعهما على الإيمان باللّه، فكان لوط من الذين استجابوا لإبراهيم وآمنوا باللّه.. فهذا الإيمان هو جامعة النسب بينهما.
وقوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أي استجاب له، ولهذا عدى الفعل بحرف الجر اللام.. فإن الإيمان بكذا، غير الإيمان لكذا. إذ أن الإيمان بالشيء، هو اعتقاده، وتيقنه كالإيمان باللّه، والإيمان بالبعث، والجزاء، والجنة والنار.
أما الإيمان للشيء، فهو الإقبال عليه، والاستجابة له.. قال تعالى: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [186: البقرة] فالاستجابة إقبال على اللّه، والإيمان ثقة باللّه، واستيقان من صفات الكمال المتصف بها سبحانه.
وفي قول لوط: {إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي} إشارة إلى ما يقتضيه الإيمان باللّه من ابتلاء بضروب من الشدائد والمحن.
والهجرة إلى اللّه، هي الاتجاه إليه سبحانه، والانخلاع عن كل ما يعوّق مسيرة المؤمن على طريق الإيمان، حيث يتخطى المؤمن المهاجر إلى اللّه كلّ ما يعترض طريقه، من أهل، ومال، ووطن، وحيث لا يلتفت إلى ما يصيبه في نفسه من ضر وأذى، ولو كان الموت راصدا له.
وفي هذا إشارة للمؤمنين، الذين كانوا تحت يد قريش، يسامون الخسف، ويتجرعون كئوس البلاء مترسة.. إنهم في هجرة إلى اللّه، وإن لم يهاجروا من بلدهم، ولم يخرجوا من ديارهم.. وإنهم لفى هجرة إلى اللّه، إن هم خرجوا من ديارهم، وهاجروا من بلدهم.
فالمؤمن باللّه إيمانا حقّا، في هجرة إلى اللّه دائما، ما دام قائما على طريق الحق، والخير.. يهجر كل منكر، ويجتنب كل فاحشة، وفي الحديث: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه..».
وقد كانت هجرة لوط إلى ربه هجرة مباركة، إذ التقى على طريقه إلى اللّه، بالنبوّة، فكان من المصطفين الأخيار من عباد اللّه المكرمين.
قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}.
وهو تتمة لقصة إبراهيم، وفي عطف هبة اللّه سبحانه تعالى لإبراهيم إسحق ويعقوب- على إيمان لوط له- إشارة إلى أن إيمان لوط لإبراهيم واستجابته له، هو من كسب إبراهيم، ومن النعم الجليلة التي أنعم اللّه بها عليه. كما أنعم عليه بالولد بعد الكبر.
وفي تأخير الإنعام بالولد، على إيمان لوط مراعاة للترتيب الزمنى من جهة، إذ كان إيمان لوط واستجابته لإبراهيم أسبق زمنا من البشرى بإسحاق.
ثم هو من جهة أخرى جزاء حسن، على هذا الفعل الحسن الذي كان من نتاجه ميلاد لوط في الإسلام، بدعوة إبراهيم.. فقد ولد إبراهيم للّه ولدا، هو لوط.
فأخرج اللّه من صلب إبراهيم ولدا في الإسلام! وهذا ما يشير إليه- قوله تعالى: {وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا}.
فهذا الولد هو بعض أجره في الدنيا.
وفي قوله تعالى: {وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ} إشارة إلى حصر النبوّة في ذرّية إبراهيم، من بعده، بمعنى أن الأنبياء الذي استقبلتهم الحياة من بعد إبراهيم كانوا جميعا من ذريته.. أما الأنبياء الذين سبقوه فكانوا من ذرية نوح، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ} [26: الحديد].. فمن ذرية هذين النبيين الكريمين كان أنبياء اللّه جميعا.
وأما {الكتاب} فهو الرسالة السماوية التي يتلقّاها النبيّ من ربّه، وبهذا يكون نبيّا ورسولا.
وهذا يعنى أن الأنبياء والرسل من بعد إبراهيم كانوا من ذرّية هذا النبيّ الكريم.
قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
الفهم الذي أستريح إليه في قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ}.
أنه معطوف على قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ}.
وفي هذا ما يشير إلى أن لوطا هو من بعض الهبات الجليلة التي وهبها اللّه إبراهيم عليه السلام، على ما أشرنا إليه من قبل.
وعلى هذا، يكون الظرف في قوله تعالى: {إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ} متعلّقا بالفعل {ووهبنا} وهذا يعنى أن هذه الهبة لم تظهر على وجهها الصحيح إلا بعد أن تلقّى لوط النبوّة من ربّه، وحمل الرسالة إلى قومه..! ولعل في هذا ما يكشف عن السرّ في عروج الملائكة المرسلين من عند اللّه إلى لوط- على إبراهيم، وإخبارهم إياه بما أرسلوا به إلى قوم لوط من مهلكات، وما كان من تلهف إبراهيم على لوط، وخوفه أن يناله من سوء إذا دمّرت القرية التي هو فيها، فيقول إبراهيم في لهفة: {إِنَّ فِيها لُوطاً}.
فكان جواب الملائكة: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ}.
وقوله تعالى: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} هو من قبيل قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [27: البقرة].
وقد قلنا في تفسير قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}.
إن الذي أمر اللّه به أن يوصل، هو إيمان الفطرة، مع إيمان الدعوة، وأن الكافرين بكفرهم وتأبّيهم على الاستجابة لدعوة الرسول، قطعوا ما أمر اللّه به أن يوصل، وهو الإيمان المركوز في الفطرة، بالإيمان الذي يدعو إليه الرسول.
وهنا في قوله تعالى: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ}.
إشارة إلى ما يرتكبه قوم لوط من قطع سبيل الفطرة السليمة، التي تدعو إلى اتصال الذكر بالأنثى، والرجل بالمرأة، وذلك باعتزالهم النساء، وإتيانهم الذكران.. وذلك قطع منهم للسبيل المستقيم، الذي تسير عليه الكائنات جميعا، حيث يأخذون هم سبيلا غير هذه السبيل!- وقوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}.
إشارة إلى أن القوم كانوا من الفجور وجفاف ماء الحياء من وجوههم، بحيث لا يجدون حرجا في أن يأتوا هذا المنكر علانية، وهم في مجتمعهم الذي يجتمعون فيه.. وهذا غاية ما يتردّى فيه الإنسان، في طريق الانحدار إلى عالم الحيوان.
هذا وقد عرضنا من قبل لتفسير قصة لوط مع قومه في أكثر من موضع، فلا داعى لإعادة ذلك هنا.