فصل: تفسير الآيات (54- 60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (54- 60):

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)}.
التفسير:
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}.
عادت الآيات مرة أخرى، لتصل العرض الذي تجلّى فيه آيات اللّه، وتعرض فيها دلائل قدرته على الناس، من مؤمنين وكافرين، فيجد فيها المؤمنون نظرا مجدّدا إلى قدرة اللّه، وإلى علمه، وحكمته، فيزداد إيمانهم تمكينا في قلوبهم، وإشراقا في نفوسهم، على حين تقوم على المشركين والضالين من هذه الآيات حجة أخرى، إلى جانب ما قام عليهم من حجج، بكفرهم وضلالهم.
وفي الآية الكريمة صورة من الصّور الحسّية التي يعيش فيها الناس، ويمرّ بها كل فرد من أفرادهم، على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، وأوطانهم.
فبدء حياة الإنسان تكون صورة باهتة من صور الحياة، لا يكاد يرى ظلّها إلا البصر النافذ، حيث يبدأ خلق الإنسان من نطفة، لا تبدو في مرأى العين أكثر من سائل مختلط، أشبه بالمخلط.. ثم يتدرج الإنسان من نطفة إلى علقة، إلى مضغة، إلى عظام، إلى لحم يكسو هذا العظام.
ثم إلى وليد ينشقّ عنه رحم الأم، وإذا هو إنسان يأخذ مكانه في المجتمع البشرى، وبتدرج في مدارج الحياة، من الطفولة إلى الصبا، إلى الشباب والكهولة، ثم ينحدر إلى الشيخوخة والهرم.
هذا هو بعض ما للّه في الإنسان.. فلينظر الإنسان ممّ خلق؟ ثم لينظر كيف دار دورته في الحياة، كما يدور القمر في دورته من الهلال إلى المحاق!
قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ} وهذا الإنسان الذي خلق من ضعف، والذي تعهدته القدرة الإلهية، فأخرجت من هذا الضعف، قوة وعقلا، وبصرا، وسمعا- هذا الإنسان قد كفر بخالقه، وأبى أن يجعل ولاءه له وحده، فاتخذ من دونه شركاء، وإذا حشود كثيرة في جميع الأزمان والأمكنة، تجتمع على الكفر باللّه، وتعيش في هذا الضلال، لا تعمل ليوم الجزاء والحساب، ولا تؤمن به، حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة، وراجعوا حسابهم مع دنياهم التي أفنوا حياتهم فيها، وجدوا أنها لم تكن إلا لحظة عابرة، بل لقد بلغ بهم الأمر أن أيقنوا هذا، وتحققوا منه، فأقسموا أنهم لم يلبثوا غير ساعة.. ولا شك أن هذا غير الواقع، وأن الوهم هو الذي يحيّل لهم قصر الزمن الذي مضى.. فقد عاش كل منهم سنين في الدنيا، لا ساعة، ولا يوما، ولا شهرا.. ولكن هكذا الدنيا، التي اتخذها الضالون المشركون، لهوا ولعبا، فلم يعمروها بالتقوى والأعمال الصالحة.. ولهذا جاء قوله تعالى: {كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ} مكذّبا مقولتهم تلك، وإنها إفك من إفكهم، وضلال من ضلالهم، الذي كانوا عليه في الدنيا.. ذلك أنهم وهم في الدنيا قد رأوا الحق باطلا، والهدى ضلالا، والخير شرّا.. ووقع في وهمهم أنهم على الحق، وأن ما يمسكون به من ضلال هو الهدى.. وقد صحبهم هذا الإفك في حياتهم الآخرة، فأقسموا هذا القسم الكاذب، أنهم ما لبثوا في دنياهم غير ساعة! وقوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
هو ردّ على هؤلاء المجرمين، الذين أقسموا هذا القسم، وأنهم ما لبثوا غير ساعة، وفي هذا الرد تصحيح لما وهموه من لبثهم في الدنيا.. وهذا التصحيح إنما يجيئهم من أهل العلم والإيمان الذين يقولون لهم: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ}.
وكتاب اللّه، هو علمه الذي حدّد به آجال الناس، وأزمانهم، وأودع فيه أعمالهم، وما هو كائن في هذا الوجود.
وقوله تعالى: {فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ} هو خبر يراد به التقريع والنّخس لهؤلاء المجرمين، فهم يعرفون أن هذا اليوم الذي هم فيه هو يوم البعث، وإخبارهم به هو تذكير لهم بما كان منهم من إنكار له، وسخرية واستهزاء بمن كانوا يحدّثونهم به، والذين كانوا يغرسون في الدنيا ليجنوا ثمار ما غرسوا في الآخرة، وفي ذلك ما يزيد في آلام المكذبين ويضاعف حسرتهم.
وفي قوله تعالى: {وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} تقريع بعد تقريع، ونخسة بعد نخسة! وفي قرن العلم بالإيمان، إشارة إلى أن العلم الذي لا يثمر عملا لا قيمة له، وكثير من الذين أوتوا العلم لا يؤمنون باللّه، بل تغلب عليهم شقوتهم، ويصبح العلم الذي علموه حجّة عليهم، يضاعف لهم به العقاب، وفي هذا يقول اللّه تعالى في علماء بنى إسرائيل: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [71: آل عمران] ويقول سبحانه {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [144: البقرة] ويقول جل شأنه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [75: البقرة].. فالعلم الذي لا يعمل صاحبه بمقتضى ما علم، هو شؤم على صاحبه، لأنه لا يهتدى معه إلى خير أبدا. على خلاف الذي لا علم عنده، فإنه قد يطلب العلم، وقد يجد الهدى مما علم.
قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}.
أي أنه في يوم القيامة، لا يقبل من معتذرين عذر، ولا يطلب منهم أن يقيموا عذرا لما كان منهم من ضلال وكفر.. لقد جلّ الأمر عن العتاب.. إذ أنه إنما يعاتب من يرجى منه إصلاح ما أفسد.. وأما وأنه لا عمل بعد اليوم، فإنه لا عتاب، وإنما حساب وجزاء.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}.
هو بيان لانقطاع عذر المعتذرين، وعتاب المستعتبين، الذين يطلبون المعاتبة.. وذلك لما جاءهم في دنياهم من آيات اللّه، وما حمل إليهم القرآن الكريم من دلائل وبراهين بين يدى دعوتهم إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر، وقد ضربت لهم الأمثال على وجوه مختلفة، فما انتفعوا بها، ولا أخذوا العبرة والعظة من مهلك القوم الظالمين في الأمم الغابرة.
وقوله تعالى: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}.
إشارة إلى أن هؤلاء المكذبين المشركين، لن تنفعهم الآيات المادية التي كانوا يطالبون النبيّ بها، ويتحدونه بأن يأتى بمعجزة من تلك المعجزات المحسوسة التي كانت بين يدى الرسل من قبله.. ففى كل ما جاء به القرآن من آيات، وما ضرب من أمثال، معجزات قاهرة بيّنة، لمن يطلب الهدى أو يقبله، إذا عرض عليه.. وهؤلاء المشركون لا يطلبون الهدى، ولا يستجيبون له إذا دعوا، لما ركب في طبيعتهم من فساد.
قوله تعالى: {كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.
الإشارة هنا إلى ما تضمنته الآية السابقة، من استغلاق مدارك المشركين عن أن يدخل عليها هدى، وذلك لأن اللّه قد طبع على قلوبهم.. وإنه مع ما ضرب اللّه سبحانه ممن أمثال، وما حملت هذه الأمثال من شواهد واضحة وآيات بينة، فإن أهل الضلالات والأهواء لم ينتفعوا بها، ولم يروا إشارة مضيئة من إشاراتها، تعدل بهم عن طريق الكفر الذي يركبونه، إلى طريق الإيمان الذي يدعون إليه، وهذا شأنهم أبدا مع كل آية من آيات اللّه.. وهذا لا يكون إلا عن فساد فطرة، وعمى بصيرة، وزيغ قلب، وهذا ما عليه حال أولئك الذين شغلتهم دنياهم عن أن يقفوا على آيات اللّه، وأن ينظروا فيها، وأن يحصلوا علما منها، فخذلهم اللّه، وخلّى بينهم وبين أنفسهم كما يقول سبحانه: {فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} [5 الصف] قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}.
بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وهى تحمل إلى النبي الكريم دعوة من اللّه سبحانه وتعالى إلى الصبر على ما يلقى من قومه من مكاره، مستعينا على الصبر، واحتمال المكروه، بما وعده ربه من نصر لدين اللّه الذي يدعو إليه، ومن تمكن له وللمؤمنين معه في هذه الدنيا، ومغفرة من اللّه ورضوان في الآخرة، هذا، إلى ما يلقى هؤلاء المشركون الضالون من خزى وخذلان في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة.
وفي قوله تعالى: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} إشارة لافتة إلى ما قد يرد على النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- من تلك الخواطر التي تساور بعض النفوس، من المؤمنين الذين اشتدت عليهم وطأة البلاء، وطال بهم الانتظار لملاقاة ما وعدهم اللّه من نصر، ففى ساعات الضيق والعسرة، قد يتسرب إلى بعض المؤمنين شيء من القلق، وربما شيء من الشك والريب، ذلك أن للنفس البشرية حدا من الاحتمال والصبر على المكاره، إذا بلغته زايلتها القدرة على الاحتمال، وآذنها الصبر بالرحيل، وعندئذ تنحلّ العزيمة، ويضعف اليقين، وتبرد حرارة الإيمان، وفي هذا يقول اللّه تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ} [214: البقرة].. فهذه حال تعرض المؤمنين، ولن يعصهم منها إلا التحصن بالإيمان، واللّياذ باليقين الذي يدفع كل شك في قدرة اللّه، وفي تحقيق ما وعد المؤمنين به، من نصر، وعافية مما هم فيه من بلاء.
فقوله تعالى: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} دعوة للمؤمنين أن يوثّقوا إيمانهم باللّه، وأن يمتحنوا هذا الإيمان على محك الشدائد والمحن، فعلى هذا المحك يظهر معدن الإيمان، وتعرف حقيقته.
والاستخفاف: أصله من الخفة، والمراد به التحول من حال إلى حال، والانتقال من وضع إلى وضع، عند كل خاطرة، ولأية مسة.. فإن الخفيف من الشيء، هدف سهل لكل عارض يعرض له، ويريد زحزحته عن موضعه الذي هو عليه.
والآية، إذ تدعو المؤمنين إلى أن يكونوا من الموقنين باللّه، والمستيقنين بنصره، فإنها تدعو النبي إلى أن يثبت في موقفه من الإيمان بربه، والثقة فيما وعده به، حتى ترتدّ عنه العوارض التي تعرض له داخل نفسه أو خارجها، حين تجده جبلا راسخا، لا تصادف أية خفة في أي جانب منه.. وقد كان صلوات اللّه وسلامه عليه على هذا اليقين الذي تزول الجبال ولا يزول.. حتى ليقول لعمه أبى طالب، وقد جاء يدعوه إلى مهادنة قومه، على أن يحتكم بما شاء فيهم، من مال أو سلطان، فيقول: «واللّه يا عم لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في شمالى على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، أو أهلك دونه».

.سورة لقمان:

نزولها: مكية.
عدد آياتها: أربع وثلاثون آية.
عدد كلماتها: خمسمائة وثمان وأربعون.
عدد حروفها: ألفان، ومائة، وعشرة.
مناسبتها لما قبلها ختمت سورة الروم، بقوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}.
وفي هذا الختام- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- دعوة للنبىّ، وللمؤمنين معه إلى الصبر على المكاره، واحتمال الشدائد، على طريق لإيمان، وذلك بما يمتلئ به القلب من إيمان باللّه، ومن يقين راسخ في لقاء ما وعد اللّه النبيّ والمؤمنين من نصر وإعزاز وتمكين، وأنهم إذا كانوا على يقين من الفوز والرضوان في الآخرة، فليكونوا على هذا اليقين من النصر والتمكين في الدنيا، وأنه إذا طال انتظارهم لما وعدوا به في الدنيا، فهو- على أي حال- أقرب مما وعدوا به في الآخرة.. فليصبروا إذن، حتى يلقوا ما وعدهم للّه به في الدنيا، ليزداد يقينهم بما وعدهم اللّه به في الآخرة.
هذا، هو ما ختمت به سورة الروم، وهو يلتقى لقاء تامّا بما بدئت به سورة لقمان.. وهوقوله تعالى: {الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وذلك على ما نرى عند تفسير هذه الآيات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 11):

{الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)}.
التفسير:
قوله تعالى: {الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ} قوله تعالى: {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ} جملة من مبتدأ وخبر، والتقدير: تلك هي آيات الكتاب الحكيم.. والمشار إليه، يمكن أن يكون {الم} بمعنى أن آيات الكتاب الحكيم، مؤلفة من هذه الحروف المقطعة، التي لا مفهوم لها عندكم.. فمن هذه الحروف وأمثالها جاء نظم القرآن على هذا الأسلوب المحكم المعجز.. إن مادة القرآن هي تلك الحروف المقطعة، وهى بين أيديكم أيها الناس عامة، وأيها المشركون الضالون خاصّة، فأقيموا منها آيات كآيات هذا القرآن، إن استطعتم، ولن تستطيعوا.. ويمكن أن يكون المشار إليه ما تقدّم من آيات القرآن في سورة الروم، وفي غيرها مما كان قد نزل من القرآن.. والإشارة إلى الآيات، تنويه بها، وإلفات إلى جلال قدرها، وعلوّ سلطانها.
قوله تعالى: {هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} أي أن هذا الكتاب الحكيم الذي جاءت آياته على هذا النظم المعجز المحكم، قد أنزله اللّه سبحانه لهداية الناس ورحمتهم.. فقوله تعالى: {هُدىً} مفعول لأجله، وقوله تعالى: {وَرَحْمَةً} معطوف عليه.
وخصّ المحسنون بالتزود بما في الكتاب من هدى ورحمة، لأنهم هم الذين يردون موارده، وينتفعون بما يقدرون على تحصيله وحمله من هداه ورحمته.. أما غير المحسنين، وهم الضالون والمكذبون، فإنهم لن ينالوا شيئا من هدى هذا الكتاب ورحمته.. شأن الكتاب في هذا شأن كل خير بين أيدى الناس، لا يناله إلا العاملون، الذين يسعون إليه، وينقّبون عنه، ويأخذون الوسائل التي تمكنهم منه.. فما أكثر الخير المخبوء في كيان الطبيعة، وما أقلّ الذين طرقوا أبوابها، وفتحوا مغالقها، وعرفوا أسرارها.
والمحسنون، هم أهل الإحسان في القول والعمل.. وهو إحسان مطلق، يتناول كل شيء.. فكل شيء مهيأ لأن يلبس ثوبا من القبح أو الحسن، والإنسان هو الذي ينسج له الثوب الذي يلبسه إياه.. وهكذا يتنازع الناس هذين الوجهين من كل شيء، فيذهب بعضهم بالحسن الطيب من الأشياء، على حين يذهب آخرون بالقبيح الرذل منها.
والحسن هو الحسن، في القول والعمل، وفي أمور الدنيا والدين جميعا.
ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى الإحسان دعوة مطلقة، غير محصورة في أمر، أو جملة أمور، بل إنها دعوة تتناول الأمور كلّها، وتشمل ظاهر الإنسان وباطنه جميعا، وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [195: البقرة] ومن الإحسان، التقوى، وهى تجنّب الإساءة.. وذلك أن من تجنب السيّء من الأمور، فإنه يكون على إحدى منزلتين: إما أن يفعل الحسن، المقابل لهذا السيّء الذي تجنّبه، وهذا هو الأحمد، والأحسن.. وإما ألا يفعل شيئا، وإن كان بتجنّبه القبيح، قد فعل شيئا، وهو تجنب هذا القبيح، وقد كان من الممكن أن يفعله.. وهذا الفعل- وإن كان سلبيا- هو حسن في ذاته وحسب الإنسان منه أن يكون قد احتفظ بفطرته على السلامة والبراءة.
ولا شك أن هذه منزلة دون المنزلة الأولى، منزلة المحسنين العاملين، حتى لقد أنكر بعض الحكماء على أهل زمانه أن يكون حظهم من الإحسان هو ترك القبيح، فيقول:
إنّا لفى زمن ترك القبيح به ** من أكثر الناس، إحسان وإجمال

قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.
هو بيان للإحسان في منزلته العليا، التي يتجاوز فيها المحسن ترك القبيح، وتجنب السيّء، إلى مباشرة الإحسان، والتلبس به، فكان من أعمالهم إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.
وفي قوله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} إشارة إلى أن إقامتهم الصلاة وإيتاءهم الزكاة، ليس عملا تلقائيا، وإنما هو عمل مرتكز إلى عقيدة، هي الإيمان باليوم الآخر، بعد الإيمان باللّه، إيمانا محققا، مستيقنا، لا يتلبس به شك أو ارتياب. وبهذا الإيمان الوثيق الذي يقوم في ظله العمل، يجيء العمل على صفة كاملة، حيث يعطيه المرء كل مشاعره، فلا يلحقه ضعف أو فتور.
وقصر الإشارة هنا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من بين جميع الأعمال الحسنة، للدلالة على أنهما رأس الأعمال الحسنة كلها، والقطب الذي يدور عليه كل حسن.
فالصلاة رياضة للنفس، وإعداد لها لتقبل الأعمال الصالحة، والزكاة تطبيق عملى لكل عمل صالح.. إذ كان المال والتصرفات الدائرة حوله، هو المحك الذي تظهر به أخلاق الناس، لما للمال من سلطان على النفوس، في جمعه، وفي إنفاقه.
قوله تعالى: {أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
الإشارة هنا إلى هؤلاء المحسنين، الذين ذكرتهم الآية السابقة، ووصفتهم بأنهم هم الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون باليوم الآخر، إيمانا مستيقنا.
وهؤلاء المحسنون، إنما أحسنوا، لأنهم على هدى من ربهم، إذ أنهم أقبلوا على اللّه طالبين الهدى، فأقبل اللّه سبحانه عليهم، وأمدهم بما طلبوا، وأقامهم على طريق الهدى، وبهذا كان حظهم الفلاح، والفوز برضوان اللّه.
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ}.
{من} هنا للتبعيض، والمراد من هذا، بيان حال أولئك الذين لم يطلبوا الهدى، ولم يلتمسوا الأسباب التي تفتح لهم الطريق إليه.. فالناس فريقان:
فريق طلب الهدى، فهداه اللّه، وكان من الفائزين المفلحين، وفريق لم يرفع إلى الهدى رأسا، بل أقام وجهه على الضلال، وسعى حثيثا إليه، وأمسك بكل ما يحول بينه وبين الاتجاه نحوه.. وبدلا من أن يغشى مجلس الإيمان، ويستمع إلى آيات اللّه، ويتلقى منها النور الذي يضيء جوانب نفسه المظلمة، ويجلّى عنها غواشى الضلال- بدلا من هذا، شغل نفسه، بتلك الأحاديث اللاهية التافهة، يترضى بها أهواءه، ويشبع بها جوع نزواته، فضلّ بذلك عن سبيل اللّه، واتخذ آيات اللّه التي يسمعها هزوا، لأنها ترد على إنسان قد غرق في اللهو، وسكر بما يتعاطاه من كئوس الضلال، فلا يرى فيها إلا ما اعتاد أن يراه، ويتعامل به من لهو وضلال.. فهذا الضال ومن على شاكلته، لا جزاء لهم إلا النار.
والضمير في قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَها} يمكن أن يعود إلى آيات الكتاب في قوله تعالى: {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ} كما يمكن أن يعود إلى سبيل اللّه في قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
إذ كانت سبيل اللّه هي التي أقامتها آيات اللّه، وكشفت للناس معالم الطريق إليها.
وفي قوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} إشارة إلى أن ضلال هذا الضال لم يكن عن نظر، وتدبر، وتقدير، وإنما كان عن جهل، وغباء، وتسلّط أهواء. فقد يطلب الإنسان الهدى، ثم لا يهتدى إليه، لسبب أو لأكثر، ومثل هذا الإنسان لابد أن يجد الطريق إلى الهدى في يوم من الأيام، ما دام جادّا في الطلب والبحث.. أما من ترك لنفسه الحبل على الغارب، وأخذ بكل ما يلقاه، فإنه لن يجد إلا ما تميل إليه نفسه من أهواء وضلالات.
وفي إفراد الضمير في قوله تعالى: {يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ثم جمعه في قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} إشارة إلى أن تحصيل الهدى، أو الضلال، إنما هو أمر ذاتى، يتعلق بذات الإنسان وحده، ويحاسب عليه وحده.. أما حين يقع الحساب، فإنه يجتمع مع من هم على شاكلته.. فإن كان من أهل الإيمان، والإحسان، اجتمع إليهم، وشاركهم النعيم الذي هم فيه، وإن كان من أهل الهوى والضلال، اجتمع مع أهل الهوى والضلال، وشاركهم ما يلقون من نكال، وعذاب.
قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ}.
هو بيان كاشف لحال هذا الذي يتخذ لهو الحديث، ليصل عن سبيل اللّه، ويتخذ آيات اللّه وسبيل اللّه هزوا. فهذا الضال إذا تليت عليه آيات اللّه، أعرض عنها، مستكبرا أن يتلّقى ما يلقى إليه من النبي، ومستنكفا أن يلقاه أحد بنصح أو إرشاد.
وفي قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها} إشارة إلى أنه يمضى في طريقه، حين تتلى عليه آيات اللّه، كأن شيئا لم يطرق سمعه، فلا يتلفت إلى مصدر هذا الذي يلقى إليه، ولا يتوقف ليسأل: ماذا هناك؟ وماذا يراد منه؟.. هكذا شأن الذين استبدّ بهم الكبر، وركبهم الغرور.
وفي قوله تعالى: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً}.
الوقر: الصمم.
وفي هذا توكيد للصورة التي صورت بها حال هذا الضال الذي أعرض عن آيات اللّه، ولم يأبه لما يسمع منها، حتى لكأن في أذنيه صمعا.. إذ هو والأصم على سواء، في هذا الموقف.
وفي قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} وعيد لهذا المتكبر، العنيد، الأثيم إنه لا يلقى إلا العذاب الأليم، ولا يسمع بعد هذا الإعراض، إلا ما يخرق أذنيه من نذر العذاب والبلاء.. وأنه إذا كان قد أصم أذنيه عن سماع الهدى، فإنه لن يستطيع أن يصمّها عن هذه البشرى التي تزف إليه.
فإن أحدا لا يصمّ أذنيه عن حديث يحمل إليه بشرى مسعدة.. ويا لها من بشرى.. إنها العذاب الأليم! وفي إقامة البشرى مقام النّذير، الذي يفتضيه المقام، إعجاز من إعجاز القرآن.. حيث يستدعى بهذه البشرى، ذلك الذي أصم أذنيه عن سماع آيات اللّه، ومضى إلى حيث يأخذ مكانه في مجلس اللهو والضلال.. ثم ما إن يتوقف عند سماع كلمة البشرى ويفتح أذنيه لها، حتى تحمل إليه معها ما يسوؤه، فيسمعه مكرها.
فقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ} هي اليد القوية التي أمسكت به، وهى المعجزة القاهرة التي فتحت أذنيه، وألقت فيها بهذا النذير: {بِعَذابٍ أَلِيمٍ}! قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وعلى حين يسمع هذا الضال ما سمع.. مكرها- من هذا النذير الذي أمسك به، وفتح أذنيه، فإنه يسمع- مكرها أيضا، وما زالت أذناه مفتوحتين- هذه البشرى المسعدة حقا، ولكنها ليست له، وإنما هي لأعدائه، الذين يسوءه أن ينالهم خير.. فهؤلاء الأعداء، هم المؤمنون، وقد أعدّ اللّه لهم جنات النعيم، خالدين فيها.. وذلك ما وعدهم اللّه به، وهو وعد حق، لا يتخلف أبدا، لأنه من اللّه العزيز، الذي يعنو لعزته كل شيء، الحكيم الذي يقوم أمره على الحكمة، فلا إفراط، ولا تفريط.
و{وعد} منصوب بفعل مقدر، تقديره: وعد اللّه وعدا حقا.. وقد جاء النظم القرآنى على تلك الصورة الموجزة المعجزة، فحذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه، وأضيف إلى فاعل الفعل.
قوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}.
فاللّه العزيز الحكيم، الذي وعد عباده المؤمنين جنات النعيم، لن يخلف وعده، لأنه ذو السلطان الذي يقوم على كل شيء، وأنه لن يعجزه شيء حتى يخلف ما وعد به.. وإن من دلائل عزّته، ونفوذ سلطانه، أنه خلق السموات، وأقامها بغير عمد، وهذا أبلغ في الدلالة على القوة والعزة، والسلطان.
وقوله تعالى: {تَرَوْنَها} يمكن أن يكون حالا من السموات.. كما يمكن أن يكون في محل جر صفة لعمد، أي بغير عمد مرئية لنا، ويكون المراد بالعمد، الأسباب التي أقام اللّه بها السماء، والتي تقوم مقام العمد في تقديرنا.
وقوله تعالى: {وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}.
الرواسي الجبال، وإلقاؤها: نزولها من أعلى، وأخذها مكانا بارزا فوق الأرض، كما يقول تعالى: {وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها} [10: فصلت].
والميد، والميدان: الاضطراب.
فكما أن السماء تقوم على عمد غير مرئية، تقوم الأرض كذلك مرتكزة على عمد مرئية هي الجبال.. ولولا ذلك لاضطربت الأرض، وزالت عن مكانها، وضاعت معالمها.. وفي هذا إشارة إلى أن السموات محمولة على أعمدة من قدرة اللّه، لا تراها الأبصار، وإنما تعرفها البصائر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [41: فاطر].
والمراد بالسماوات، هو العالم العلوىّ، الذي يقوم فوق عالمنا الأرضى.
فحيث كان الإنسان من الأرض، فهو واقع تحت العالم العلوىّ.. وفي هذا العالم كواكب ونجوم، لو اقتربت من الأرض، أو اقتربت منها الأرض، لما كانت الأرض إلا نملة في ظلّة من الجبال، قائمة بلا عمد!.. هذا ما تراه عين العلم الحديث فيما بين السماء والأرض.. فإذا حجبت عن العيون هذه الرؤية الكاشفة، فإنها ترى السماء قائمة على الأرض، كأنها السقف المرفوع.
وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}.
فى العدول من الغيبة في قوله تعالى {خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها} إلى الخطاب في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}.
في هذا استدعاء للجاحدين الكافرين أن يشهدوا جلال اللّه، وأن يروا آياته في هذه الظاهرة التي تطلع عليهم في كل حين، وأنهم إذا كانوا يجدون وجها للمحاولة في خلق السموات والأرض، وأن يقولوا: هكذا قامت السموات والأرض من غير مقيم لهما، فإنهم لا يجدون ما يقولون في إنزال الماء من السماء، وفي إخراج النبات من الأرض.. إن ذلك خلق متجدد يحدث كل لحظة من لحظات الزمن.. فإذا سألوا من أنزل هذا الماء؟ أو من أخرج هذا النبات؟ لم يكن ثمّة إلا جواب واحد، هو اللّه ذو الحول والطول، الذي خلق السموات والأرض.
فإنزال الماء من السماء، وإنبات النبات من الأرض، شاهد قريب حاضر، على وجود اللّه وقدرته، يستدل به على شاهد بعيد أشبه بالغائب، هو خلق السموات والأرض.. فناسب ذلك أن يكون ضمير الغيبة مع خلق السموات والأرض، وأن يكون ضمير الحضور مع إنزال الماء وإنبات النبات.
وقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} الضمير في {فيها} يعود إلى الأرض، وفي التعبير عما تخرج الأرض من ثمرات، بالزوج الكريم- إشارة إلى أن كل ما يجيء من ثمرات طيبة كريمة، هو نتيجة لمزواجة بين ذكور النبات وإناثه، كما يتزاوج الناس، والحيوان.. وإن أي ثمر لا يتولد عن لقاح بين الذكر والأنثى، هو ثمر خسيس رديء، كما تتوالد بعض الحيوانات الدنيا بانقسام الخلية.
قوله تعالى: {هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
الإشارة هنا، إلى ما عرضته الآية السابقة، من آيات صنع اللّه، وآثار رحمته.
والخطاب المشركين، الذين يعبدون غير اللّه.
وفي هذا الخطاب، استدعاء للمشركين، أن ينظروا إلى هذا الوجود، الذي قام بقدرة اللّه، ثم لينظروا ما لمعبوداتهم من خلق.. وهنا يسقط في أيديهم حيث لا يجدون لمبعوداتهم أثرا.. بل إنهم ليجدون معبوداتهم بعضا من خلق اللّه.. ثم إنهم مع هذا لا يزالون متعلقين، بمعبوداتهم تلك، مقيمين وجوههم إليها وذلك هو الضلال المبين، الذي لا يرجى لصاحبه أن يجد الهدى أبدا.. وإن الذي يقف هذا الموقف، ويركب هذا الطريق المهلك، لهو ظالم لنفسه، جائر على فطرته.