فصل: تفسير الآيات (12- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (12- 19):

{وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
اختلف في {لقمان} هذا، اختلافا تناول الزمان والمكان اللذين عاش فيهما، كما تناول الصفة التي كان عليها، وهل كان نبيا، أم كان حكيما؟
وهل هو من بنى إسرائيل، أم من غير بنى إسرائيل؟.
والقرآن الكريم، لم يصرح بأنه كان رسولا، ولم يذكره فيما ذكر من أنبياء ورسل، ولم يصله بنسب إلى إبراهيم، كما وصل أنبياء بنى إسرائيل به.
ومع هذا، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون لقمان نبيا، فقد آتاه اللّه الحكمة، وهى نعمة عظيمة حلّى اللّه تعالى بها أنبياءه، فقال تعالى في داود عليه السلام: {وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [251: البقرة].
وقال تعالى في شأن الحكمة، وجلال قدرها: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [269: البقرة].
ومما يرجّح الرأى عندنا بأن لقمان كان نبيا، أن القرآن الكريم سمى سورة باسمه، كما سمى سورا باسم إبراهيم، ومحمد، ويونس، وهود، ويوسف، ومريم.. وهذه التسمية تشير إلى ما للمسمى من شأن وقدر، سواء في مقام الخير أو في مجال الشر.. كما سميت سورة باسم أبى لهب، إذ كان علما بارزا من أعلام الضلال والكفر.. فهو في مجتمع الضلال إمام الضالين، كما أن النبي في مجتمع المؤمنين، هو إمام المؤمنين.
ثم إن الحكمة التي أوتيها لقمان، حكمة ربانية، وليست من الحكم المكتسبة، التي يحصلها الحكماء والفلاسفة، بالبحث والنظر، وإنما هي فضل من فضل اللّه، كالرسالة، والنبوة. اللذين لا تكتسبان بتحصيل واجتهاد.
وقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}.
أن هنا تفسيرية، والجملة بعدها مفسرة للحكمة التي آناها اللّه لقمان، وهى أن يكون عبدا شكورا للّه.. فشكر اللّه هو رأس الحكمة، إذ لا يكون الشكر إلا عن إيمان وثيق باللّه، وعن رضا مطلق بكل شيء يصيب الإنسان، ولهذا كان شكر اللّه من أعظم الصفات التي يخلصها للّه سبحانه وتعالى، على المرضىّ عنهم من عباده، كما يقول سبحانه في إبراهيم: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [120- 121: النحل].
كما كان الشكر دعوة من دعوات اللّه إلى رسله وأنبيائه، كما يقول سبحانه، لداود: {اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} [13: سبأ].
فالشكر، ثمرة الإيمان، ومن حرم الشكر، فقد خلا قلبه من الإيمان.
ولهذا قرن القرآن الكريم الشكر بالإيمان، وجعلهما على كفتى ميزان، سواء بسواء.. فقال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [172: البقرة].
وقال سبحانه: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [152: البقرة].. وهذا ما جاء عليه قوله تعالى في هذه الآية: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
أي أن عائد الشكر، إنما يعود إلى الشاكر نفسه، ليس للّه منه شيء، فإن اللّه غنى عن العالمين، لا ينفعه شكر من يشكر، ولا يضره كفر من يكفر، كما يقول سبحانه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [7: الزمر].
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}.
فإن قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} يفهم منه أنه شكر للّه، بما آتاه اللّه من حكمة، فكان بهذه الحكمة من المؤمنين باللّه، الشاكرين له، وهو إذ كان حكيما إذ آمن باللّه وشكر له، فإنه كان حكيما كذلك إذ نفع بهذه الحكمة أقرب الناس إليه، وآثرهم عنده، وهو ابنه، فدعا ابنه إلى الإيمان باللّه، وإلى إخلاء قلبه من الشرك، حتى يلحق بأبيه، ويكون من الشاكرين للّه، ثم حذّره مغبة الشرك، وما يقع على الإنسان منه من ظلم عظيم، إذ يصيبه في مقاتله، ويورده موارد الهالكين.
قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
جاءت هاتان الآيتان معترضتين وصية لقمان لابنه، وذلك لتكتمل بها الحكمة، التي كان من أولى ثمراتها وأطيبها، شكر الخالق المنعم، ثم تكون الثمرة الثانية، وهى شكر الوالدين، وذلك ببرهما، والإحسان إليهما إذ كان لهما على الولد فضل الولادة، والتربية، والرعاية، ومن حق كل ذى فضل أن يشكر ويحمد ممن أحسن إليه.. وفي المأثور: {لا يشكر اللّه من لا يشكر الناس}.
ووصاة اللّه للإنسان بوالديه، هي أمر، وعزيمة، وتكليف، إذ كثيرا ما ينكر الإنسان هذا الحق الذي لوالديه عليه، كما أن كثيرا من الناس يكفر باللّه، ويجحد إحسان اللّه إليه، وفضله عليه.
وفي قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ} إشارة إلى أخفى لون في الصورة التي نبت منها الولد، ونشأ في حجر والديه، وإلفات للولد إلى هذا الخيط الواهي من الحياة التي كانت له، والتي أمسكت به الأم، نطفة ثم علقة.. ثم ما زالت تمسك بهذا الخيط في حرص وحذر، وتفرز له من عصارة حياتها ما يزيده على الأيام قوة ونماء، حتى تفتق عنه رحمها وليدا، طفلا، ثم ما زالت به تحمله بين يديها، وتضمه إلى صدرها، وترضعه من لبنها، حتى يفطم، ويرفع فمه عن هذا الينبوع الذي يمتص منه رحيق الحياة، ليستقبل بعد هذا ما يمده به والداه من طعام، حتى يشب ويكبر، ويستطيع أن يسعى سعيه في الحياة!.
إنها رحلة استمرت نحو عامين، قطعها هذا الإنسان دائرا في فلك أمه، بين حمل ورضاعة.
والوهن: الضعف.. ووهنا على وهن: أي ضعفا على ضعف.. وهو حال من الفاعل والمفعول معا في قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ}.
فالضعف الذي تبدأ به حياة الجنين، تتلقاه الأم، فيصيبها منه ضعف، هو ضعف معاناة الحمل.
فيجتمع ضعف الجنين، مع ضعف الأم الوارد عليها منه.
والفصال: الفطام، حيث يفصل الطفل عن جسد أمه، الذي يظل ملصقا به نحو عامين، في بطنها، وعلى صدرها، وبين ذراعيها.
وفي قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ} تفسير للفعل {وَوَصَّيْنَا}.
إذ الوصاة تحمل دعوة إلى هدى وخير، ومضمون الوصاة هنا هو الشكر للّه وللوالدين.. وقدم شكر اللّه على شكر الوالدين، لأن اللّه سبحانه هو الخالق وحده، وإذا كان للوالدين شيء هنا فهو للّه أيضا، فما هما إلا من خلق اللّه، وما هما إلا أداة من الأدوات العاملة بقدرة اللّه وبأمره.. ومع هذا، فإن ذلك عمل من عملهما، يجزيهما اللّه عليه، وهو حق للّه جعله اللّه لهما على أبنائهما، فضلا منه- سبحانه- وإحسانا.
وقوله تعالى: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى، له كلّ شيء في هذا الإنسان الذي ولد لهذين الأبوين، وأن هذه المشاركة التي تبدو للوالدين في إيجاد الولد، ليست إلا مشاركة ظاهرية، إن أعطت الوالدين حقّ الإحسان إليهما، والبرّ بهما، فلن تعطيهما حقّ العبادة، على نحو ما كان عليه معتقد أولئك الضالين، الذين يعبدون أصولهم من آباء وأجداد! ومن جهة أخرى، فإن قوله تعالى: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} تنبيه إلى هذا الحق الذي للوالدين على الولد، وأنه إذا قصّر في أدائه لهما، فإنه سيحاسب عليه يوم الحساب، يوم يقوم الناس لرب العالمين، ويعرضون عليه.. لا تخفى منهم خافية.
وفي قوله تعالى: {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً} إشارة إلى موقف آخر، مختلف عن الموقف الأول، الذي يكون فيه الابن مؤديا حق والديه، قائما ببرّهما والإحسان إليهما.. وفي هذا الموقف يكون الأبوان على غير الطريق المستقيم، على حين يكون ابنهما على طريق الهدى والإيمان.. إنهما مشركان باللّه، وهو مؤمن.. وقد رأيا في إيمان ابنهما باللّه خروجا على طاعتهما، واستخفافا بدينهما لذى يدينان به، وخروجا على تقاليدهما الموروثة عن الآباء والأجداد.
وهنا يقع الصدام، ويكثر الشد والجذب.. فالأيوان يؤرّقهما هذا الذي استحدثه ابنهما من دين، والابن على يقين من أمره، وعلى بصيرة من دينه، وإنه لا سبيل إلى أن يجمعه وإياهما طريق، إلا أن يؤمنا باللّه، وهيهات..!
والابن المؤمن هنا، بين حقين يتنازعانه.. حق اللّه، وهو الإيمان به، وحق الوالدين، وهو طاعتهما، والامتثال لما يدعوانه إليه من شرك وضلال.
وإنه لا خيار.. فإن حق اللّه أولى وألزم.. إنه يجبّ كل حق، ويعلو على كل واجب.. ولكن مع هذا، فإنه يبقى- مع الاحتفاظ بحق اللّه، والوفاء به- اللطف، والرفق، والمحاسن.. فإن ذلك لا يجور على حق اللّه ولا يؤثر في الإيمان الذي عمر به القلب: {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً}.
فهذا هو أعدل موقف يأخذه الإنسان هنا، فيحتفظ فيه بحق اللّه، ولا يجحد بعض ما لأبويه من حقوق.
روى عن سعد بن أبى وقاص- رضى اللّه عنه- أنه كان يقول: كنت رجلا برّا بأمى، فلما أسلمت قالت يا سعد: وما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعنّ دينك هذا، أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتغيّربى، فيقال: يا قاتل أمه!! قلت لا تفعلى يا أمّه، فإنى لا أدع دينى هذا لشيء.. فمكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت قد اشتد جهدها.. فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه، تعلمين واللّه لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما تركت دينى هذا لشيء فإن شئت فكلى، وإن شئت لا تأكلى، فلما رأت ذلك أكلت!- وقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ} توكيد لما جاء في قوله تعالى: {فَلا تُطِعْهُما} ومعطوف عليه.
وسبيل من أناب إلى اللّه، هو سبيل المؤمنين، كما يقول سبحانه: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً} [115: النساء].
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قطع لهذا الجدل، وذلك الخلاف حول الإيمان والشرك، فيمايدور بين الابن وأبويه، وإحالة لهذا الخلاف إلى اللّه سبحانه وتعالى، ليحكم فيه، ويجزى كلّا بما عمل.
قوله تعالى: {يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.
المثقال: ما يوزن به.. وحبة الخردل: بذرة نبات الخردل.
عادت الآيات، لتصل ما انقطع من عظة لقمان لابنه.. وقد حذرته الآية السابقة من أعظم خطر يتهدد الإنسان، ويقضى عليه، وهو الشرك باللّه.
وفي هذه الآية، يكشف لقمان لابنه عن علم اللّه، وبسطة سلطانه، حتى يعبده عن علم به، ومعرفة بما ينبغى له من كمال وجلال.
فاللّه سبحانه، الذي يستحق أن يعبد، وأن يفرد بالعبادة، هو المالك لهذا الوجود، العالم بكل صغيرة وكبيرة فيه. حتى الحبة من الخردل، وهى من الصغر بحيث لا تكاد تمسك بها الأصابع.. هذه الحبة، إن تكن في أي مكان في هذا الوجود.. إن تكن في صخرة، أىّ صخرة من صخور الأرض، أو تكن في السموات التي لا حدود لها، أو تكن في الأرض، على أي عمق منها، وفي أي مكان فيها- هذه الحبة الضالة الغارقة في بحر هذا الوجود، يأتى بها اللّه، ويخرجها من هذه الأعماق السحيقة في أحشاء الكون.. {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} ينفذ نور لطفه إلى كل شيء، {خبير} متمكن من كل شيء، ويعلم كل شيء علما كاشفا.
قوله تعالى: {يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
وبعد أن كشف لقمان لابنه عن قدرة اللّه، وعلمه، وحكمته، دعاه إلى عبادته، حتى إذا عبده كانت عبادته عن علم ومعرفة بمن يعبد.. وذلك مما يعطى العبادة مفهوما صحيحا، فيخشع لها القلب، وتسكن بها الجوارح، وتنتعش بها المشاعر.. أما العبادة التي لا تقوم على علم، فهى كالزرع الذي لا يقوم على سوق، أو جذور.
والصلاة، هي رأس العبادات في كل شريعة، وهى عمود الدين، في كل دين.. ولهذا كان مقامها هنا هو المقام الأول: {يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ}.
ثم جاء بعد ذلك، ما تعطيه الصلاة من ثمر، وهو إصلاح كيان الإنسان، وتنقيته من الشوائب والأدران، فيصبح رسولا كريما من رسل الهدى والخير في الناس، حيث ائتمر بالمعروف، وانتهى عن المنكر، وهذا ما يدعوه إلى أن يكون داعيا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، إن لم يكن بلسانه، فيعمله، وبما يجد الناس فيه، من الأسوة الطيبة والقدوة الصالحة!! فمن ائتمر بالمعروف وانتهى عن المنكر، كان أشبه بالمرآة الصقيلة يرى الناس عليها وجه الخير والإحسان، فيتمثلونه ويتخذونه قدوة لهم.
وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ}.
إلفات إلى هذا الزاد الطيب الذي يتزود به الإنسان في الحياة، ويستعين به على الائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر، وذلك الزاد، هو الصبر.. فإنه إذا قل حظ الإنسان من الصبر، فلن يجد العزم الذي يمضى به التكاليف ويقضى به الحقوق.
ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى الصبر دعوة مؤكدة، حيث يستدعى الصبر عند كل عظيمة، ويهتف به عند كل أمر ذى شأن.. ففى ميدان القتال.. لا عدّة للمؤمن أعظم ولا أقوى من الصبر.. {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
.. (46: الأنفال).. {بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [125: آل عمران] {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ}.
إنه لا عاصم للإنسان من الخسران، إلا أن يعتصم بالإيمان، والصبر.
والصبر، مع أنه مطلوب في كل حال، فإن الحاجة إليه أشد، والطلب له أقوى وألزم، حين يواجه المرء ما يكره من عواقب الأمور.. فهنا يكون الإنسان أمام امتحان قاس لإيمانه بربه وتوكله عليه، وتفويض أمره كله إليه.
فإن لم يجد من الصبر ما يمسك عليه إيمانه، ويقيم وجهه على الرضا والتسليم للّه، استبدّ به الجزع، وقتله الهمّ، ووقعت بينه وبين ربه غيوم من التهم والظنون.
وهذه أول مزالق الشرك والكفر باللّه.
وفي قوله: {إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} الإشارة {ذلك} إلى الصبر.
أي إن ذلك الذي تدعى إليه، وهو الصبر، هو من عزم الأمور، أي من جدّها، وصميمها، ولبابها.. وأنه مما ينبغى أن يحصّله الإنسان، ويربّى نفسه عليه، ويروضها على احتمال أعبائه.. إنه لن يرتفع الإنسان عن مستوى هذا التراب، إلا إذا حلّق بهذين الجناحين: الإيمان، والصبر..
قوله تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ}.
الصّعر: ميل الخدّ كبرا وتعاليا.
والمرح: الخفّة عن تيه، وعجب.
وإنه من كمال الإنسان أن يجمّل ظاهره، كما يجمل باطنه.. إذ كان الظاهر هو بعض ما يقرزه الباطن، وينضح به.
وليس صعر الخد، والتبختر في المشي، إلا من مشاعر التعالي، والعجب، وذلك مما يعزل الإنسان عن الناس ويعزل الناس عنه، ولا يكون من هذا إلا الجفاء، ثم العداوة والبغضاء.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ} إشارة إلى أن صاحب الكبر، والتيه، كما يلقى الكراهية، والنفور من الناس، فإنه يلقى البغض من اللّه، والبعد عن مواقع رضاه.. لأن الكبر مفتاح كل رذيلة، وباب كل شر وضلال.. وما أوتى المشركون الذين تحدّوا رسالة الإسلام، وعموا عن مواقع الهدى منها- إلا من كبرهم، وعجبهم بأنفسهم، وبما زينت لهم أهواؤهم.
قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} هو من بعض ما يجيء من التيه والكبر من شر.. حيث يخرج الإنسان في مشيه عما اعتاد الناس في مشيهم، فيصرع أو يبطئ لغير داعية، إلا أن يرى الناس أنه على غير شاكلتهم.. كذلك رفع الصوت، وإطلاقه على مداه، من غير سبب، هو استخفاف بالجماعة، وخروج على مألوفها، وإلفات لهم بهذا الصوت المدوى، إلى مصدره!.
والقصد في المشي، هو الأخذ بالوسط منه، فلا إسراع ولا إبطاء، ما دام الإنسان على حال لا تقتضى هذا أو ذاك، ولا تستدعيه.
وفي قوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} إشارة إلى كسر حدة الصوت حياء من الناس أن يأتى هذا المنكر- وهو رفع الصوت- أمامهم، تماما، كما يغض الإنسان بصره عن الأمور المنكرة، حياء من اللّه، وحياء من الناس!- وفي قوله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} تنفير من رفع الصوت والخروج به على حدود الحديث المدار بين الجماعة- ولكأن هذا الذي يطلق صوته على مداه في مجلس من المجالس، هو حمار، أطلق صوته، فقطع على الجماعة حديثها.. فليكن مثل هذا الحمار إن شاء!.