فصل: تفسير الآيات (29- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (29- 34):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
وهذا معرض آخر من المعارض الدالة على قدرة اللّه، وسعة علمه، ونفوذ سلطانه، إلى جانب تلك المعارض التي عرضتها الآيات السابقة.
فهنا- في هذا المعرض- نشهد تلك الحركة الدائبة التي يدور في فلكها الليل والنهار، على هذا النظام الدقيق البديع، الذي لا يتوقف لحظة، ولا ينحرف قيد أنملة.
وولوج الليل في النهار، مغيبه فيه، ودخوله في كيانه، وكذلك ولوج النهار في الليل، هو مغيبه في الليل، وتواريه في داخله.
ومن هذه الصورة نرى الظلام مستكنّا في أحشاء النور: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ} ثم نرى النور مطويّا في كيان الظلام: {وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ}.
فمن أحشاء النور يخرج الظلام، ومن أحشاء الظلام يولد النور.. وهذا من دلائل القدرة القادرة، التي تؤلّف بين الأضداد.. {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [95: الأنعام].
ومن آياته سبحانه، أنه سخر الشمس والقمر، وأجراهما على هذا النظام المحكم، فجعل الشمس ضياء والقمر نورا، فتتجلّى آية الشمس في النهار، ونتجلى آية القمر في الليل: {تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً} [61: الفرقان].. ولكلّ من الشمس والقمر فلكها الذي تدور فيه، من غير أن ينحرف أىّ منها عن مداره: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [40: يس].
وقوله تعالى: {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى}.
الأجل المسمى، هو الزمن المحدد لدورة كلّ من الشمس والقمر، أو هو الأمد المحدد لهما الجريان فيه، ثم إذا انتهى هذا الأمد توقّفا، أوأخذا اتجاها آخر.. شأنهما في هذا شأن كل مخلوق.
فلا دوام لحال أبدا.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} معطوف على قوله تعالى:
{أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ} وكأنه تعقيب عليه.. وذلك أن الذي ينظر متأملا في نظام الوجود، وفي قدرة اللّه الممسكة به، لابد أن يؤدّيه هذا النظر المتأمل، إلى إدراك هذه الحقيقة، وهو أن اللّه عليم بكل ما نعمل، فلا تخفى عليه خافية من أعمالنا، دقيقها وعظيمها، خيرها وشرّها.. إنه علم العليم الخبير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
الإشارة هنا، إلى ما عرضته الآيات من مظاهر قدرة للّه، وسعة علمه.
والجار والمجرور في قوله تعالى: {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} متعلق بمحذوف، يدل عليه السياق وتقديره: يقضى، أو يقطع. ونحو هذا.. أي أن ذلك الذي يراه الراءون في هذا الوجود من آيات القدرة، ومظاهر العلم- يقضى، ويقطع بأن اللّه هو الحق، أي الإله الحق، الذي يتفرد بالألوهة، من غير شريك، كما يقضى بأن تلك الآلهة التي يعبدها المشركون من دون اللّه، هي الباطل كله، لا شيء من حق فيه أبدا.. وذلك من شأنه أن يقضى ويقطع بأن اللّه هو {العلىّ}، المنفرد بالعلوّ والسلطان، {الكبير} الذي له الكبرياء وحده، وأن مادونه دون ضئيل، لا وزن له، ولا قدر!.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
وهذه نظرة أخرى، بعد هذه النظرات التي دارت في هذا الوجود، ورأت ما رأت من آيات اللّه، وكشفت ما كشفت من جلاله، وعظمته، وقدرته. وهذه النظرة تتجه إلى تلك الفلك التي تجرى في البحر.. إن جريانها آية من آيات اللّه، لا يراها إلا كل {صبار} على ما يلقى من شدائد، فلا ييأس من روح اللّه، ولا يجحد حكمته فيه، وإحسانه إليه، وابتلاءه بالخير والشر.. فيصبر على البلاء، ويشكر على العافية.
وفي قوله تعالى: {بِنِعْمَتِ اللَّهِ} إشارة إلى أن الفلك تجرى مدفوعة بنعمة اللّه، ومسيّرة بقدرته.. فالباء هنا للاستعانة، كما تقول: استدفأت بالنار، وتطهرت بالماء.
وعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقا بقوله تعالى: {تَجْرِي} وتكون نعمة اللّه، هي الريح، التي تدفع الفلك.. ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالا متعلقا بمحذوف، وتقديره، تجرى محملة بنعمة اللّه، أي بما تحمل من تجارات، تنقلها من مكان إلى مكان.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} إشارة إلى أن آيات للّه، لا يراها، ولا ينتفع بها إلا أهل الإيمان الوثيق باللّه، الذين إذا أصابهم الضرّ صبروا، وإن أصابهم الخير شكروا.
وصبار: صبغة مبالغة: أي كثير الصبر، وذلك في جميع الأحوال، التي يبتلى فيها الإنسان بما يكره.
والشكور: للمبالغة أيضا.. أي كثير الشكر، الذي يستقبل كل نعمة من نعم اللّه بما تستأهل من حمد وشكران.
قوله تعالى: {وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}.
هو تعقيب على قوله تعالى في الآية السابقة: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
والآية هنا تعرض حالا من أحوال الناس، وخاصة أولئك الذين لم يتصفوا بهذا الوصف الذي أشار إليه قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
أي إذا مسهم الضر دعوا اللّه مخلصين له الدين، يوجّهون وجوههم إليه وحده، يطلبون الخلاص والسلامة، فإذا استجاب اللّه لهم، ونجاهم مما هم فيه، لم يكونوا على حال واحدة، بل كانوا فريقين، فريق منهم {مقتصد} أي غير مسرف على نفسه في الكفر بنعمة اللّه، والجحود لفضله، وفريق آخر، كافر، جاحد، مسرف في كفره، وجحوده.
وفي قوله تعالى: {وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} مقابلة لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
فالصبار الشكور، هو المؤمن الذي يصبر على البلاء، ويشكر على العافية، و{الختار الكفور} هو الكافر، الذي يلجأ إلى اللّه في ساعة الشدة، وينكره ويكفر به في أوقات العافية.
والختّار: المخادع، الذي يمكر بآيات اللّه، فلا يعرف اللّه إلا وقت المحنة والضيق.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}.
يجزى: أي يتحمل الجزاء عن غيره، ويستقلّ به دونه.
الغرور: ما يغرّر الإنسان، ويدفع به إلى مواطن البلاء، والشر.. من شيطان، أو مال، أو سلطان.
وبهذه الآية، والآية التي بعدها تختم السورة.. وفي هذا الختام دعوة عامة للناس جميعا إلى اللّه، وإلى الإيمان به، والخشية له، واتقاء عذابه يوم القيامة، حيث تجزى كل نفس بما كسبت، ولا يغنى أحد عن أحد شيئا.
فهنالك تتقطع الأنساب، ويشغل كل امرئ بنفسه، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [34- 37: عبس].. {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [88- 89: الشعراء].
وقوله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} وعد اللّه هنا هو يوم القيامة، حيث وعد الناس بالبعث من بعد موتهم، ليلقوا جزاء ما عملوا.. وهذا وعد حق.
{وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [6: الروم].
وقوله تعالى: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} تحذير من الغفلة عن هذا اليوم، ومن عدم العمل له، والحذر مما يشغل الإنسان عنه، من متاع الحياة الدنيا وزخارفها، ومن المغربات التي تزين للإنسان الشر، وتدفعه عن مواقع الإحسان، بما يوسوس له به الشيطان، وما تزين له به النفس.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآية السابقة قد جاءت داعية إلى الإيمان باللّه، وإلى خشية عقابه يوم القيامة.. وقد جاء فيها قوله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ليؤكد وقوع هذا اليوم، وأنه آت لا ريب فيه، إذ كان وعدا من اللّه.. واللّه لا يخلف وعده.
وهنا في هذه الآية، تقرير لهذه الحقيقة، وتأكيد لوقوعها كما وعد اللّه.
وذلك أن أكثر ما أضل الضالين، هو إنكارهم ليوم القيامة، أو تشككهم في وقوعه، إذ كان أمرا بعيدا عن متناول الحس، والإدراك، بعيدا عن التصور، إذا قيس بمقاييس المادة.
فجاءت هذه الآية لتؤكد هذه الحقيقة، ولترى أن هناك أمورا حاضرة يعمل فيها الإنسان، ثم هي مع هذا محجوبة عنه، إن عرف مبتداها، لم يعرف منتهاها، وإن أمسك بأولها، أفلت منه آخرها، ومن ذلك اتجاه مسيرة الإنسان في الحياة، وما يقرر له من رزق فيها.. إن أحدا لا يستطيع أن يخطّ المصير الذي هو صائر إليه، ولا يدرى ماذا ستطلع به الأيام عليه من خير أو شر.. فإذا كان ذلك كذلك، فلم يجادل الإنسان في أمر الآخرة؟
ولم يشكّ في وقوعها إذا كان علمه قاصرا محدودا، لا يستطيع أن يكشف به ما يلقاه في عده؟
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أسلوب قصر، مؤكد، ويراد به قصر علم الساعة على اللّه وحده. وعلم الساعة هو كل ما يتصل بها، من اليوم الذي تجيء فيه، وما يقع فيها من أحداث، وما يلقى كل إنسان من جزاء.
وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} معطوف على خبر إنّ، وهوقوله تعالى: {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فهو جملة بمعنى يعلم.. أي إن اللّه يعلم الساعة، وينزل الغيث.. أي أنه سبحانه هو الذي ينزل الغيث بأمره وقدرته.. يسوقه إلى حيث يشاء، وينزله حيث يشاء، ومتى يشاء.. وليس يعترض على هذا بما يصطنعه العلم اليوم من مطر صناعى، فإن هذا المطر إنما يصطاده العلم اصطيادا، من بخار الماء الذي أنزله اللّه.. وإنه لا يعدو أن يكون أشبه بقطرات الماء التي تتكاثف على سطح إناء مملوء بماء مثلوج، أو قطرات الندى التي تتساقط من الهواء على النبات في الليل!.
وإذا كان للعلم أن يقف لهذه الحقيقة، فليصطنع الهواء أولا، ثم ليصطنع الماء ثانيا، ثم ليجمع بين الماء والهواء ثالثا.. وعندئذ يقال إن العلم إنما يعمل فيما هو له.. أما أن يعمل العلم فيما هو للّه، فهو لا يعدو أن يكون نفسه مادة من تلك المواد التي يعمل فيها.
وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ} معطوف على قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}.
وقد عرضنا لتفسير هذه الآية عند تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ} [8: الرعد].
وعلم اللّه تعالى لما في الأرحام، هو علم شامل يكشف عما في الأرحام كلها، في الإنسان والحيوان، وما في كل رحم من ذكر أو أنثى، وما يكون لهذا المخلوق من حياة، وما يقدّر له من رزق!.
وقد وقف أكثر المفسرين بمفهوم هذا العلم على نوعيّة الكائن في الرحم، أهو ذكر أم أنثى؟. وهذا مفهوم قاصر لا يناسب علم اللّه الواقع على ما في الأرحام.
إن علم اللّه علم كاشف لكل ما في الأرحام، ما كان منها، وما سيكون، ثم هو علم كاشف لكل مولود يولد منها، والصورة التي سيكون عليها، والمكان الذي يأخذه في الحياة، والخطّ الذي يسير عليه المولود من مولده إلى مماته.
هذا، وقد انزعج إيمان كثير من المؤمنين حين جاءتهم أنباء العلم، بأن العلماء قد استطاعوا- أو هم على وشك أن يستطيعوا- معرفة ما في رحم الأمّ.. من ذكر أو أنثى! ونقول لهؤلاء المشفقين على إيمانهم من هذا الذي دخل به العلم على الدين متحديا قدرة اللّه- كما يتصورون- نقول لهم: ليس الأمر على ما تتصورون.
فلا تضيقوا بالعلم ذرعا، ولا تنظروا إليه شزرا، بل دعوا العلم ينطلق إلى أبعد غاياته، وشاركوا في موكبه الفاتح المظفر.. فما هو إلا ضوء من أضواء الحق، تكشف عن بعض آيات اللّه، وعلمه، وقدرته.
وماذا على الدّين من أن ينظر العلم في آية من آيات اللّه، كهذه الأجنّة التي أودعها الخالق في الأرحام، فعرف العلم منها ماذا أودع اللّه فيها؟ وماذا على الدين من أن ينظر العلم إلى البعوضة بالمجهر، فيرى فيها كائنا سوىّ الخلق، ذا فم، وعين، وأجنحة، وأرجل.. ثم أعمل فيها مبضعه تحت المجهر، فرأى لها أجهزة للهضم والتنفس! وجوارح للسمع والبصر، والشم، والذوق؟ وماذا على الدين من العلم، لو نظر إلى الشمس، ووضعها تحت مقاييسه، فرأى فيها أنها ليست هذه الكرة الصغيرة المضيئة، التي نراها، بل رآها كونا عظيما، ملتهبا، يبلغ حجمه مليونا وربع مليون من مثل حجم الأرض؟ وماذا على الدين لو نظر العلم في المجرة فرأى فيها ملايين من الشموس التي تكبر شمسنا حجما وأثرا؟
ماذا على الدين من فتوحات العلم هذه؟
إن العلم هنا هو خير داعية إلى اللّه، وإلى الإيمان به، وملء القلوب والعيون جلالا وهيبة وإعظاما للّه!
إن العلم إنما يعمل هنا فيما خلق اللّه، لا فيما خلق العلم.
فليغرس الماديون الذين يجهلون قدر العلم، كما جهلوا قدر اللّه.. إن من صفات اللّه سبحانه أنه العليم، وأن العلم هو أجل نعم اللّه على عباده، وهو الذي ترجح به موازين الناس، وترتفع به منازل بعضهم على بعض: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [9: الزمر].. وإنه ليكفى العلم قدرا وجلالا، أن يرفع اللّه قدر أهله، وينزلهم منازل رضوانه، بقدر ما حصّلوا من علم، وما حققوا من إيمان.. فيقول سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ} [11: المجادلة].. بل يكفى أن نظم اللّه سبحانه وتعالى العلماء في عداد الملائكة، فقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ} [18: آل عمران].
وقوله تعالى: {وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} هو من بعض علم اللّه في خلقه، وأنه سبحانه، هو الذي يقدّر الأرزاق، كما يقدّر الأعمار.. فلا يدرى إنسان ماذا قسم اللّه له من رزق، وماذا كتب اللّه له من عمر.. كما لا يدرى أحد على أي ميتة يموت، ولا في أي موضع يموت! {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
فهو سبحانه الذي يعلم كل هذا علم الخبير بما يعلم.