فصل: تفسير الآيات (21- 27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (21- 27):

{لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.
الأسوة: التأسى، والاقتداء.
والأسوة في الرسول، هي التأسى به في موقفه من أمر ربه، وامتثاله له، وجهاده في سبيل اللّه، وقيامه على رأس المجاهدين.
وفي وصف الأسوة بأنها أسوة حسنة، إشارة إلى أن هناك أسوة سيئة، يقوم على رأسها كبير من كبار المنافقين، يدعو إلى النكوص على الأعقاب والفرار من مواجهة الأحزاب.
والدعوة هنا عامة للمؤمنين أن يتأسوا برسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وأن يكونوا من ورائه جندا مجاهدين في سبيل اللّه، فذلك هو طريق الخير، والفوز، لا ييسره اللّه، إلا لمن كان يؤمن باللّه ويرجوا ما عنده، من جزاء في الدنيا والآخرة، وكان ذكر اللّه دائما ملء قلبه، حتى يجد من هذا الذكر ما يستحضر به عظمة اللّه، وفضله، وإحسانه، فيصبر على البلاء، ويستخف بالحياة الدنيا في سبيل رضوان اللّه في الآخرة.
قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً}.
هذه صورة من صور التأسّى برسول اللّه، يراها الذي ينظر إلى المؤمنين، الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه.. فهؤلاء المؤمنون حين رأوا الأحزاب لم يهنوا، ولم يضعفوا، ولم ترهبهم كثرة العدوّ، ولم يفزعهم الموت المطلّ عليهم من كل مكان.. فالموت في هذا الموطن هو أمنيتهم التي كانوا يتمنونها على اللّه، ويقدمونها ثمنا لإعزاز دين اللّه، وإعلاء كلمة اللّه.. ولهذا فإنهم حين رأوا الأحزاب، رأوا فيهم تحقيق ما وعدهم اللّه ورسوله به، من الابتلاء والبلاء على طريق الجهاد في سبيل اللّه.. فالمؤمنون دائما على طريق الجهاد، وعلى توقّع الصّدام مع العدوّ، الذي يتربص بهم وبدينهم، الدوائر وإن المؤمن في مرابطة مستمرة، لحماية دين اللّه، ولدفع ما يرمى به من سوء، وردّ ما يراد به من كيد.
قوله تعالى: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} يمكن أن يكون من كلام المؤمنين، معطوفا على مقول قولهم: {هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}.
ويمكن- وهو الأولى عندنا- أن يكون تعقيبا على قولهم، من اللّه سبحانه وتعالى، أو بلسان الوجود الذي إذا سمع قولهم: {هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}!.
نطق بلسان واحد: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}.
وقوله تعالى: {وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً} فاعل الفعل {زادهم}.
يدلّ عليه الفعل {رأى} أي ما زادهم ما رأوه من الأحزاب وكثرة عددهم وعدتهم، إلا إيمانا باللّه، وتصديقا لوعده، وتسليما بما يقضى به اللّه بينهم وبين عدوّهم.
قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
أي من المؤمنين الذين سلموا من النفاق، رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه.. إذ ليس كلّ المؤمنين على درجة واحدة في إيمانهم.. بل هم درجات في الإيمان، كما أنهم درجات عند اللّه.
وحرف الجرّ {من} هنا للتبعيض.. أي من بعض المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه.
وفي قوله تعالى: {رجال} إشارة إلى أنهم أناس قد كملت رجولتهم، وسلمت لهم إنسانيتهم.. فكانوا رجالا حقّا، لم ينتقص من إنسانيتهم شيء.. فالكفر، والشرك، والنفاق، وضعف الإيمان، كلّها أمراض خبيثة، تغتال إنسانيّة الإنسان، وتفقده معنى الرجولة فيه.. فالرجل كلّ الرجل، هو من تحرّر عقله من الضلال، وصفت روحه من الكدر، وسلم قلبه من الزيغ.. ثم لا عليه بعد هذا ألا يمسك بيده شيء من جمال الصورة، أو وفرة المال، أو قوة السلطان.
وفي تنكير {رجال} معنى التفخيم، والتعظيم، كما يقول اللّه تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ} [36: 37 النور] وكما يقول سبحانه:
{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [108 التوبة].
وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ}: النحب: النذر المحكوم بوجوبه، يقال قضى فلان نحبه: أي وفي بنذره، والمراد به انقضاء الأجل.
أي من هؤلاء الرجال من مات، وهو على إيمانه الوثيق باللّه، وفي موقف الجهاد في سبيل اللّه، قد وفى بما نذره اللّه، وعاهد اللّه عليه.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} أي من ينتظر قضاء اللّه فيه، موتا، أو استشهادا في ميدان القتال، فهو على ترقب وانتظار لليوم الذي تتاح له فيه الفرصة للوفاء بنذره وعهده.
وفي قوله تعالى: {يَنْتَظِرُ} إشارة إلى أن المؤمن الصادق الإيمان، ينتظر لقاء ربّه، وهو في شوق إلى هذا اللقاء، يعدّ له اللحظات، ويستطيل أيام الحياة الدنيا، في طريقه إلى ربه.. شأن من ينتظر أمرا محبوبا هو على موعد معه.
وقوله تعالى: {وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
إشارة إلى أن إيمانهم باللّه، ويقينهم بلقائه لم يزايل مكانه من قلوبهم لحظة، ولم ينحرف عن موضعه أي انحراف.. فهم على حال واحدة من أمر ربّهم، ومن الثقة بما وعدهم اللّه على يد رسوله.. على حين أن كثيرا ممن كان معهم ممن أسلموا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، قد بدّلوا مواقفهم، وكثرت تحركاتهم بين الإيمان والكفر.
قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً}.
اللام في قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} هي لام العاقبة لقوله تعالى: {وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
أي أنهم فعلوا ذلك ليجزيهم اللّه بصدقهم في إيمانهم، وبوفائهم بعهودهم.. وقد أقيم الظاهر مقام المضمر فجاء النظم القرآنى {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} بدلا من: {ليجزيهم اللّه بصدقهم} وذلك للتنويه بهم، ولإلباسهم هذه الصفة التي حققوها في أنفسهم وهى الصدق، فكانوا الصادقين حقا.. ولم يذكر القرآن ما يجزيهم اللّه به، إشارة إلى أنه جزاء معروف، وهو الإحسان.. فما يجزى المحسنون إلا إحسانا، كما يقول سبحانه: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ}.
فهو جزاء لا يحتاج إلى بيان.
وقوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً}.
هو الجزاء الذي يلقاه أولئك الذين بدّلوا موقفهم من الإسلام، وهم المنافقون، الذين انحرفوا عن الطريق الذي كانوا عليه.
فالمؤمنون الذين لم يبدّلوا موقفهم، ولم يحيدوا عن طريقهم الذي استقاموا عليه- هؤلاء لهم من جزاء إيمانهم وإحسانهم، ما هم أهل له، من الإحسان والرضوان.. والذين بدّلوا، ونافقوا، ولم يصدقوا في إيمانهم باللّه- هؤلاء إما أن يعذّبهم اللّه، إذا هم مضوا على نفاقهم، ولم تدركهم رحمة اللّه، فتخرجهم من هذا النفاق، وتعيدهم إلى الإيمان، وإما أن تنالهم رحمة اللّه، فيتوبوا من قريب، ويدخلوا في المؤمنين الصادقين.
وفي قيد العذاب بالمشيئة الإلهية، إشارة إلى أن مشيئة اللّه في هؤلاء المنافقين الذين كتب عليهم الشقاء والعذاب، هي التي أمسكت بهم على طريق النفاق، وخلّت بينهم وبين ما في قلوبهم من مرض، وأن رحمة اللّه هي التي أدركت بعض هؤلاء المنافقين، وعدلت بهم عن طريق النفاق.
وإذن فليطلب المنافق من هؤلاء المنافقين السلامة لنفسه، وليسع سعيه ليكون ممن يتوب اللّه عليهم.. وليعلم أن في هؤلاء المنافقين من هو من أهل العذاب، وأن عليه أن يحذر ما استطاع أن يكون منهم.
ثم ليعلم قبل هذا كله، أن الأمر للّه سبحانه وتعالى، من قبل ومن بعد، وأن المطلوب منه، هو أن يعمل على سلامة نفسه، وأن يطلب الخير لها.
وليس له أن يعلم ما اللّه سبحانه وتعالى قاض فيه! فذلك للّه وحده، لا شريك له فيه.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} إطماع في رحمة اللّه، وفي مغفرته للعصاة والمذنبين، أيّا كان ما هم فيه من ضلال.. فرحمة اللّه واسعة، ومغفرته عامة، لمن طمع في رحمته ومغفرته، وعمل على مصالحة ربّه، والتوب إليه.
قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً}.
الواو للاستئناف، ومتابعة عرض الأحداث لقصة الأحزاب، بعد هذا الاعتراض بتلك التعقيبات على ما ذكر من أحداثها.
فقد ردّ اللّه الأحزاب {بغيظهم} فهذا الغيظ هو محصّلهم من هذه الغزوة التي كانوا يمنّون أنفسهم فيها بالنصر والغنيمة.. فبدلا من أن يعودوا إلى أهليهم محمّلين بالغنائم، وبأهازيج الفرح والزهو، عادوا يحملون الغيظ والكمد، ويتلفعون بالخزي والذلة.
وقوله تعالى: {لَمْ يَنالُوا خَيْراً} تأكيد لما أصاب الأحزاب من خزى وكمد، وأنه لم يكن لهم في كيدهم هذا الذي كادوا، أىّ وجه من وجوه النفع، بل كان شرّا خالصا، وبلاء محضا.
وقوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ}.
هو إظهار للمنّة التي امتنّ اللّه بها على المؤمنين يدفع هذا المكروه الذي نزل بساحتهم، وأوشك أن يشتمل عليهم، دون أن يكون منهم قتال.
وقوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً} بيان لما اللّه سبحانه وتعالى من سلطان قاهر، وقوة غالبة.. فلا يملك أحد مع سلطان اللّه سلطان، ولا مع قوة اللّه قوة.
قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً}.
فى الآية السابقة بيّن اللّه تعالى، ما نزل بفريق من الأحزاب، وهم {الكافرون}.
وهم مشركو قريش، ومن انضم إليهم من قبائل العرب.
وفي هذه الآية.. بيان لما أخذ اللّه به الفريق الآخر من الأحزاب، وهم يهود المدينة، من بنى قريظة وبنى النضير، الذين ظاهروا المشركين، أي كانوا ظهرا لهم في هذا الكيد الذي أرادوه بالنبيّ والمسلمين.
فهؤلاء اليهود، أنزلهم اللّه من صياصيهم، وأزالهم من أماكنهم التي تحصنوا فيها {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} أي ملأ قلوبهم فزعا ورعبا، وأراهم أنهم قد أصبحوا في يد النبيّ والمسلمين بعد أن انقلب المشركون مدحورين، مذمومين.
والصياصي: الحصون التي كان يتحصن فيها اليهود، بالمدينة.. وكانت حصونا حصينة، يعيش فيها هؤلاء القوم، ويجدون في ظلها الحماية من كلّ عدو يريدهم، قبل الإسلام، وفي الإسلام.. وهى جمع صيصية.. وبها تسمى قرون الظباء والبقر.. لأنها حصونها التي تدفع بها العدو عنها.
وقوله تعالى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} هو بيان لما انتهى إليه أمر اليهود في هذه الغزوة.. فقد مكن اللّه سبحانه وتعالى النبيّ والمسلمين منهم، فنزلوا على حكم النبيّ فيهم، فقتل من قتل، وأسر من أسر.
ذلك أنه بعد أن زايل المشركون الخندق، ورفع الحصار عن المدينة، وأمن المسلمون شرّهم، عاد النبيّ والمسلمون معه إلى دورهم، ثم إنهم ما كادوا يضعون أسلحتهم، حتى جاء جبريل إلى النبيّ يؤذن بحرب اليهود، الذين لم تعد مجاورتهم للمسلمين في المدينة مأمونة العاقبة، بعد أن صرح الشرّ منهم، وأصبحوا جبهة من الجبهات التي أعلنت الحرب سافرة على الإسلام والمسلمين.
إنهم الآن وقد سفرت عداوتهم للمسلمين لم يكن بدّ من أن يخرجوا من المدينة، أو يخرج المسلمون منها.. إذ لا يستقيم للمسلمين بعد هذا الأمر، وهذا العدوّ يعيش معهم، يراقب حركاتهم وسكناتهم، ويكشف مواطن الضعف التي يدخل عليهم العدو منها.
وأذّن مؤذن النبيّ في المسلمين، بعد أن تلقّى أمر ربه، ألا يصلّى المسلمون العصر- أي عصر هذا اليوم- إلا في بنى قريظة.. فسار المسلمون إلى حيث كان يتحصن بنو قريظة في حصونهم من المدينة. وكانت صلاة العصر قد دخل وقتها.. فكان المسلمون على رأى مختلف في أداء الفريضة في وقتها حيث وجبت أو الانتظار بوقتها حتى يبلغوا بنى قريظة.. وكان ذلك موضع اجتهاد منهم.. فرأى بعضهم أن يمتثل أمر النبيّ من غير تأويل، وألا يصلّى العصر إلا في بنى قريظة، ولو تأخر الوقت إلى العشاء.
ورأى بعض آخر، أن يصلّى العصر، حين وجب وقتها، وقبل أن يخرج هذا الوقت، ودلّهم على هذا الرأى أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلم لم يرد بهذا الأمر إلا المبادرة والإسراع إلى حيث أمرهم، وأن الصلاة لا تفوّت عليهم هذه المبادرة.
وقد علم النبيّ بما كان من المسلمين، فلم ينكر على أىّ من الفريقين رأيه.
إذ كان كل منهم إنما يتحرى الخير، ويطلب رضا اللّه ورسوله.. إن أحدا منهم لم يمل مع هوى، ولم ينظر إلى ذات نفسه في هذا الأمر.. وإذ كان ذلك كذلك لم يكن المقصد إلا طلب الخير، وتحرّى الوجه الذي يلوح منه.
وفي طلب الخير، وتحرّى وجهه، يتساوى الذين يبلغونه، والذين لا يصلون إليه.. فليست العبرة بالأمر في ذاته، وإنما العبرة بالنيّة القائمة عليه، والرسول صلوات اللّه وسلامه عليه يقول: «إنما الأعمال بالنيات.. وإنما لكل امرئ ما نوى».
ولهذا لم يكشف النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- عن وجه الصواب في هذا الأمر الذي اختلف فيه أصحابه.. إذ لا شك أن فريقا أصاب، وفريقا أخطأ.. فالأمر إما صواب وإما خطأ، ولا يحتمل الوجهين معا.
ولكنّ المعتبر هنا ليس الأمر في ذاته، إذ هو شيء عارض، وإنما المعتبر هو النيّة التي تقوم وراء هذا الأمر.. لأن النيّة شيء ذاتى، والذاتي مقدم على العرضي.
وقد حاصر النبي والمسلمون اليهود في حصونهم مدة، حتى إذا اشتدّ عليهم الحصار، نزلوا على حكم النبيّ.. فأمر يقتل كل من بلغ الحلم من الذكور، وسبى الأطفال، والنساء، بعد أن استولى على ما كان مع القوم من سلاح.
وهكذا ذهب هذا الداء الذي كان يعيش في كيان المدينة، ويموج بالفتن فيها.
وهكذا نفت المدينة خبثها.. ولبست اسما جديدا لها هو {طيبة}.
إذ قد طابت الحياة للمسلمين فيها بعد ذهاب هذا الخبث عنها.
قوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} هو إخبار بما كان اللّه من نعمة على المسلمين بعد أن أجلوا اليهود عن المدينة.
فقد ورث المسلمون ما كان للقوم من أرض، وديار وأموال.. وهذا فضل من فضل اللّه على المؤمنين، يجب أن يذكروه، ويشكروا للّه فضله وإحسانه.
وفي قوله تعالى: {وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها}.
إشارة إلى ما سوف يورّث اللّه سبحانه وتعالى المسلمين بعد هذا، من أرض لم يطئوها من قبل.. وهى تلك الأرض التي وراء حدود الجزيرة العربية، مما ستمتد إليه فتوح المسلمين، وتطلع عليه شمس الإسلام.. في مشارق الأرض ومغاربها.. وفي الحديث إلى المسلمين بالأرض التي سيرثونها، مع أن المخاطبين لم يرثوها بعد، وإنما ورثها المسلمون من بعدهم- في هذا إشارة إلى أن المسلمين كيان واحد، وأن ما يرثه المسلمون في أي زمان ومكان، هو ميراث المسلمين جميعا.. لأن هذا الميراث ليس في حقيقته لذات أنفسهم، وإنما هو لدين اللّه الذي يجاهدون في سبيله.
وفي قوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} تطمين لقلوب المؤمنين على مستقبل الإسلام، الذي وعدهم اللّه بنصره وإعزازه، والتمكين له في الأرض.
فإن هذا الوعد من اللّه القوى العزيز، الذي بقوته وعزته يجعل من هؤلاء القلّة من المسلمين كثرة، ومن ضعفهم قوة تنهار أمامها قوى أعظم دولتين كانتا تسيطران على العالم في هذا الوقت، وهما دولتا الفرس والروم.. هذا، وفي الآية الكريمة، إشارة إلى ما أراد اللّه سبحانه وتعالى باليهود من إذلال وامتهان، فقد عرضهم سبحانه وتعالى في معرض الاستباحة والاستخفاف بدمائهم وأموالهم وإغراء المسلمين بهم.. ففى قوله تعالى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} استباحة لدمائهم وإراقتها بغير حساب.. وفي قوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ} دعوة للمسلمين إلى تمكين أيديهم من هذا الذي كان في يد القوم، فالمسلمون أحق به منهم، وأولى.