فصل: تفسير الآيات (41- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (41- 48):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} مناسبة هذه الآية لما قبلها من آيات، هي أن الآيات السابقة عليها تضمنت حكما من الأحكام، كان مبعث ظنون، ومثار شغب عند المنافقين والذين في قلوبهم مرض... وليس يحمى المؤمنين من غبار هذه الظنون، ودخان هذا الشغب، إلا أن يعتصموا باللّه، وأن يذكروا جلاله وعظمته، وأن يستحضروا علمه وقدرته، فذلك هو الذي يحفظ عليهم إيمانهم، ويدفع عنهم غواشى الشكوك والريب، التي يسوقها إليهم الكافرون والمنافقون.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}.
هو إعراء للمؤمنين بذكر اللّه، وتسبيحه بكرة، أي صباحا، وأصيلا، أي مساء، كما يقول سبحانه: {فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [17: الروم].
فاللّه سبحانه وتعالى إنما يذكر بالرحمة والرضوان، عباده الذين يذكرونه، ويصلى على من يصلون له ويسبحونه، وفي هذا يقول اللّه تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [152: البقرة] والمراد بالذكر هنا ذكر الرحمة والإحسان.
وصلاة اللّه على المؤمنين هي رحمته لهم، وإحسانه إليهم، ورضاه عنهم.
وصلاة الملائكة، هي الاستغفار للمؤمنين، كما يقول سبحانه وتعالى:
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ} [7: غافر].
وقوله تعالى: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} إشارة إلى أن ذكر المؤمن ربه وتسبيحه بحمده، يدنيه من ربه، ويقربه من منازل رحمته، ويصله بعباده المقربين من ملائكته، وبهذا يستقيم على طريق اللّه، ويخرج من عالم الظلام والضلال، إلى عالم النور والهدى.
وفي قوله تعالى: {وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} مزيد فضل وعناية من اللّه سبحانه وتعالى بالمؤمنين، وأنهم هم الذين ينالون رحمة اللّه، ويختصون بفضله وإحسانه.
قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً}.
هو بيان لرحمة اللّه بالمؤمنين وإحسانه إليهم، وأنهم حين يلقون اللّه يوم القيامة، تلقاهم ملائكته لقاء كريما، بهذه البشرى المسعدة لهم، حيث يلقونهم بهذه التحية: سلام عليكم. فتذهب عنهم تلك التحية، هذه الوحشة، ويزايلهم هذا الخوف، في هذا الموطن الجديد، الذي حلّوا به بعد مفارقة الحياة الدنيا.
ويوم لقاء اللّه هنا، هو اليوم الذي يفارق فيه الإنسان دنياه.. حيث يزايل آخر منزل له من منازل الدنيا، ويحل في أول منزل من منازل الآخرة.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [32: النحل].
وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} هو بيان لما يلقى المؤمنون في الآخرة من جزاء كريم من اللّه.
وفي إعداد هذا الأجر، إشارة إلى أنه أجر عظيم، قد هيئ لهم، ورصد للقائهم من قبل أن يلقوه، وفي هذا مزيد اعتناء بهم، بهذا الاستعداد للقائهم.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً}.
هو إشارة إلى مقام النبي عند ربه، وإلى مكانته في المؤمنين، وأنه هو المرسل من عند اللّه، شاهدا على الناس، بما كان منهم من إيمان أو كفر، ومبشرا المؤمنين بالأجر الكريم، ومنذرا الكافرين بالعذاب الأليم.. وأنه يدعو إلى اللّه، وإلى شريعة اللّه، بما يأذن له به اللّه، فلا يقول شيئا من عنده، وهو- بما يدعو به من آيات ربه- يكشف للناس طريق الحق، ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
وفي قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً} إشارة إلى ما كان من أمر اللّه للنبى- بالتزوج من مطلقة متبناه.. فهو بهذا الزواج شاهد يرى فيه المسلمون القدوة والأسوة.
وفي قوله تعالى: {وَسِراجاً مُنِيراً} إشارة أخرى إلى هذا الزواج، أنار للمسلمين طريقهم إلى الحق في هذا الأمر الذي كان قد اختلط فيه الحق بالباطل.. وهذا القيد للشهادة وللسراج المنير، هنا، لا يمنع من إطلاقهما، فالنبى شاهد قائم على كل حق وخير، وهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- سراج منير، يكشف كل باطل وضلال.
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً} هو معطوف على محذوف تقديره: هذا فضل اللّه عليك، فاهنأ به، وبشر المؤمنين كذلك بأن لهم من اللّه فضلا كبيرا.. فهم أتباعك، وأولياؤك.. فإذا كان لك- أيها النبي- هذا العطاء الجزيل من ربك، فإن للمؤمنين حظا من عطاء ربهم، وما كان عطاء ربك محظورا.
قوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.
وفي هذا العطف أمور:
أولا: قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} يفهم منه ضمنا، وأنذر الكافرين والمنافقين بأن لهم عذابا أليما.
وثانيا: قوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} يفهم منه ضمنا كذلك، واستجب للمؤمنين واستمع لهم، واقترب منهم، وشاورهم في الأمر.
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} لا تستمع إليهم، ولا تأمن جانبهم.
وقوله تعالى: {وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي لا تحفل بما يأتيك منهم من أذى، بالقول أو الفعل، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فهو الذي يتولى حراستك وحفظك مما يكيدون لك به {وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا} فلا وكالة أقوى ولا أمنع ولا أحفظ من وكالته.. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [3: الطلاق].

.تفسير الآيات (49- 52):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا} مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة ذكرت حالا من أحوال الطلاق والزواج، وهو طلاق امرأة الابن المتبنّى، ثم زواجها من أبيه المتبنّى له.. فناسب أن يذكر حكم المرأة المطلقة، من حيث العدة، والنفقة.
فالمرأة المعقود عليها عقد نكاح، ولم يدخل بها الزوج، ولم يمسّها، ولم يختل بها خلوة شرعية- ليس عليها عدة، لمن طلقها، وإنما تحل لمن يريد الزواج منها بمجرد طلاقها.. إذ كانت غير مشغولة بما للرجل عليها من حق، وهو استبراء الرحم.
والمراد بالمسّ هنا المباشرة، ومعاشرة الرجل للمرأة معاشرة الزوجية.
وفي قوله تعالى: {إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ} إشارة إلى أن من شأن المؤمن أن يقصر نفسه على زواج المؤمنة، وإن كان قد أبيح له التزوج بالكتابيات، فإن الزواج من المؤمنات أفضل وأولى.
وفي قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا} إشارة إلى ما توجبه الشريعة السمحاء، من الرفق، والمياسرة، والإبقاء على الصلات الإنسانية، عند انفصام الحياة الزوجية.. والمراد بالمتعة، هو ما يعطيه الرجل مطلقته من مال أو متاع، جبرا لخاطرها، وتأمينا لحياتها المستقبلة، التي كان هذا الطلاق سببا في اضطرابها.
والسراح الجميل، هو الانفصال بالمودة والإحسان، من غير كيد ومضارّة.. كما يقول سبحانه: {فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} مناسبة لهذه الآية للآيات التي قبلها، هي أن الآيات السابقة قد جاءت بأمر انتقض به بناء من أبنية الجاهلية التي قامت على الضلال، وهو تبنّيهم أبناء غيرهم، ثم تجاوزوا هذا إلى تحريم مطلقات هؤلاء الأبناء الأدعياء، عليهم.
تمكينا لهذه البنوّة المدعاة، ومعاملتها معاملة بنوّة النسب، سواء بسواء.
وقد كان من تدبير اللّه سبحانه وتعالى أن يكون للنبىّ ابن متبنّى، وأن يكون هذا الابن متزوجا، ثم يجيء حكم اللّه أمرا بإبطال هذا التبني، وبإلزام النبيّ أن يتزوج مطلقة متبناه، بعد أن طلقها وانقضت عدتها.. وكان ذلك مدعاة للكافرين والمنافقين أن يشنعوا على النبيّ، وأن يكثروا من الأقاويل الباطلة، والأحاديث المفتراة.
وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}.
فهذا الإخبار بحلّ الأزواج، إنما هو تأكيد لحلّهن، ووصف كاشف للحال التي هن عليها، ومنهن زينب مطلقة متبنىّ النبيّ.. وفي هذا ردّ على الكافرين والمنافقين، الذين جعلوا زواج النبيّ من مطلقة متبناه مادة للغمز والاتهام.. وكان الردّ إفحاما للكافرين والمنافقين، وكبتا لهم، إذ قد جاء قول اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} داعيا النبيّ إلى ألا يشغل نفسه بمقولات المبطلين، وأن يتمتع بما أحلّ له من طيبات، فهو من قبيل قوله تعالى {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [4: النساء].
ثم إنه لكى يزداد أهل الضلال والنفاق غمّا إلى غمّ، ذكر اللّه سبحانه وتعالى في هذا المقام، ما اختص به نبيه الكريم، مما لم يكن لغيره من المسلمين، من سعة في الحياة الزوجية.
فأولا: كان في يد النبيّ من النساء اللاتي تزوجهن بمهر، عند نزول هذه الآية تسع نسوة.. ونصاب المسلم لا يتجاوز أربعة.
وثانيا: جاء في قوله تعالى: {وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} من بيان لصنف آخر من النساء، أبيح للنبىّ التمتع بهن، وهن من يملكه النبيّ منهن من الفيء والغنائم، وهذ حكم عام للمسلمين جميعا.. على أن للنبىّ من الغنائم ما يصطفيه من السّبى، قبل قسمة الفيء.. وهذا من خصوصيات النبيّ هنا.
وثالثا: جاء بعد ذلك قوله تعالى: {وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ} مشيرا إلى صنف ثالث أبيح للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- التزوج به، وهن بنات العم وبنات العمات. وبنات الخال وبنات الخالات.. اللاتي هاجرن، مع المهاجرين فرارا بدينهن، وإيثارا للّه ورسوله.. فهؤلاء المهاجرات هن ممن أبيح للنبى التزوج بهن، إلى أزواجه التسع اللاتي كن معه.
ولابد أن يكون الأمر هنا منظورا فيه إلى بعض المهاجرات من أقارب النبيّ، ممن تستدعى حالهن البر والمواساة، في تلك الغربة.
ورابعا: جاء بعد ذلك قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} مبيحا للنبىّ التزوج من صنف رابع من النساء، على أسلوب لا يحلّ لغيره من المسلمين، وهو أن تهب المرأة- غير المتزوجة- نفسها للنبى.
وفي قوله تعالى: {مُؤْمِنَةً} إشارة إلى أن هذه الهبة إنما أرادت بها المرأة المؤمنة التقرب إلى اللّه، والاستظلال بظل رسول اللّه، والظفر بالقرب منه، والفوز بلقب أم المؤمنين.. أما غير المؤمنة من الكتابيات فإنها لا تهب نفسها للنبىّ إلا طلبا لمرضاة نفسها، بأن تكون زوجا لهذا الإنسان العظيم، الذي له هذا السلطان لروحى الذي لا حدود له على المسلمين، ولو أنها كانت تحبّ النبيّ حقّا لآمنت به، ولدخلت في دين اللّه.
وفي قوله تعالى: {إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها} تعليق للزواج على رضا النبيّ، وقبول الهبة ممن وهبت نفسها له.
وقوله تعالى: {خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي فاتخذها زوجا لك، على أن يكون ذلك حكما خالصا لك من دون المؤمنين، لا يشاركك فيه أحد.
وفي العدول عن الخطاب إلى الغيبة، وفي إظهار النبيّ، بدلا من الضمير في قوله تعالى: {إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ} تعظيم لشأن النبيّ، بذكر اسمه، ثم بتكرار هذا الذكر.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن في ذكر النبيّ بصفته وهى النبوّة إشارة إلى أن هذا الحكم إنما هو خاص بمن كان في هذا المقام، مقام النبوّة، لا أي مقام آخر غير هذا المقام.
فهذه الأصناف الأربعة من النساء، قد أحلّ اللّه للنبىّ ضمّهن إلى بيت الزوجية واتخاذهن شريكات للحياة معه.
وواضح أن هذه التوسعة على النبيّ في الحياة الزوجية، لم تكن لمجرد قضاء الشهوة، كما يقول بذلك أهل الضلالات والكيد للإسلام.. بل إن هذه الخصوصيات التي للنبىّ، إنما كانت في مقصدها الأول علاجا لحالات نفسية واجتماعية، واقتصادية، لا تجد لها الدواء الناجع إلا في ظلال النبيّ.. كما رأينا ذلك في زواجه صلوات اللّه وسلامه عليه من زينب مطلقة متبناه، والذي كان من حكمته رفع الحرج عن المسلمين في التزوج من نساء أدعيائهم.. وكما في زواجه- صلوات اللّه وسلامه عليه- من صفية، بنت حيىّ بن أخطب، وكان أبوها سيدا من سادات اليهود، ورأسا من رءوسهم، فلما وقعت في السّبى، استنقذها النبيّ الكريم، وحفظ كرامتها بزواجه منها.. وهكذا نجد مع كل زواج تزوجه النبيّ، حكمة قائمة وراءه، أسمى وأعظم من طلب المتعة وقضاء الشهوة.
وسنعرض لهذا في مبحث خاص.. إن شاء اللّه.
وفي قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} إشارة إلى أن تلك الخصوصيات هي للنبى، وأنه ليس للمسلمين أن يتأسوا بالنبي فيها، فقد عرفوا ما فرض اللّه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم، فليس لهم أن يتجاوزوا هذا الذي بيّنه اللّه لهم.
وقوله تعالى: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} تعليل لهذه الأحكام التي بيّنها اللّه للنبىّ في شأن ما أحلّ له من نساء.. فهذا البيان هو من عند اللّه، وتلك الأحكام هي أحكام اللّه، فليأخذ النبيّ بها، غير متحرّج، ولا ناظر إلى قولة كافر أو منافق.
وقوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
إشارة إلى ما للّه سبحانه وتعالى من مغفرة ورحمة، تسع أولئك الذين تجرى ألسنتهم بقولة سوء فيما اختص اللّه نبيه الكريم به، ثم تابوا من قريب، ورجعوا إلى اللّه، واستغفروا لذنبهم {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}.
قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً} الإرجاء: الإمهال، والإنظار.
والإيواء: الضمّ، والجمع.
والآية، ترسم السياسة التي يأخذ بها النبيّ هذا العدد الكثير من النساء اللائي جمعهن إليه.
إنّهن إذا حاسبن النبي محاسبة الزوجات لأزواجهن، واقتضين حقوق الزوجية كاملة منه- كان ذلك عبئا ثقيلا على النبيّ، الذي يحمل أعباء ثقالا تنوء بها الجبال، في إقامة بناء المجتمع الإسلامى، وإرساء قواعد الدّين.
فكان من رحمة اللّه برسوله، وإحسانه إليه، أن أخلى يديه جميعا من تلك الواجبات المفروضة على الرجال قبل أزواجهم في المعاشرة، والمباشرة، وذلك حتى يفرغ النبيّ للمهمة العظيمة التي أقامه اللّه عليها.
فللنبيّ أن يرجئ من يشاء من نسائه، بمعنى أن يتجنبهن تجنبا مؤقتا من غير طلاق، وله- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يضمّ إليه من يشاء من نسائه، وأن يقسم بينهن كيف يشاء.. ثم إن له بعد هذا أن يضمّ إليه من أرجأ منهن.. إذا رغب فيها.
فذلك كله، تخفيف عن النبيّ، ورفع لإعناته وإرهاقه بعد أن حمل هذا العبء الثقيل من النساء، إلى جانب ما حمل من أعباء ثقال.
وفي قوله تعالى: {ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} إشارة إلى أن هذا التدبير الذي من شأنه أن يجعل نساء النبي كلهن إلى يده، عن قرب أو بعد- فيه إرضاء لهن جميعا، القريبة منهن لقربها، والبعيدة لصلتها بالرسول، وانتسابها إليه، وعدّها من أمهات المؤمنين، وحسبها بهذا قرّة عين، وروح روح، وسكن فؤاد.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً}.
.. علم اللّه سبحانه وتعالى بما في القلوب، داعية إلى أن تكون القلوب مستودع خير وعدل وإحسان، حتى يرى اللّه منها ما هو خير وعدل وإحسان، فيثيب أهلها بما هم أهل له من ثواب جزيل وأجر كريم.
والقلوب في تلك المواطن التي تجمع بين الرجال والنساء في حياة زوجية، هي ملاك الأمر في إصلاح هذه الحياة، وازدهارها، وإرواء النفوس من ينابيع الرحمة والمودة.. وذلك إذا صلحت القلوب، وخلصت النيات.
أما إذا انطوت القلوب على فساد، وتلاقت على غش وخداع، فلن تثمر الحياة الزوجية إلا ثمرا نكدا، يطعم منه الزوجان ما يشقيهما، ويضنيهما.
ويزرع العداوة والشنآن بينهما.
وفي وصف اللّه سبحانه وتعالى بالحلم، دعوة إلى كل من الأزواج والزوجات إلى الأناة والرفق، وإلى الصبر والاحتمال، لما يقع في الحياة الزوجية من أمور يضيق بها أحد الزوجين أو كلاهما.. فالحياة يسر وعسر، واستقرار واضطراب، واستقامة وعوج.. ومن أرادها على الوجه الذي يحبّ فإنما يريد أمرا غير واقع أبدا.
قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً}.
اختلف في المحذوف المضاف إليه {بعد}.
وهل هو قيد لتلك الأصناف الأربعة التي أحلّها اللّه للنبى في قوله {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ...} الآية.
أم أنه قيد لتلك الحال التي تلقى فيها النبي هذا الحكم؟
فعلى التقدير الأول، يكون المعنى، لا يحلّ لك التزوج من النساء بعد هذه الأصناف الأربعة، ويكون المراد بالبعديّة البعدية الوصفية لا الزمانية، أي لا يحلّ لك غير هذه الأصناف الأربعة التي عرفت صفاتها، وهذا من شأنه أن يبيح للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يتزوج غير نسائه التسع اللاتي كن معه، عند نزول هذه الآية- ولكن ذلك التزوج محصور في صنفين من النساء، هما:
ولا: بنات عم النبيّ، وبنات عماته، وبنات خاله، وبنات خالاته، اللاتي هاجرن معه، أي كن من المهاجرات، لا بمعنى أنهن صحبنه في هجرته.
وثانيا: أي امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبىّ.
أما غير ذلك من النساء فلا يحل له التزوج منهن.
أما على التقدير الثاني، فيكون المعنى أنه لا يحلّ للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يتزوّج بعد نزول هذه الآية من أية امرأة أخرى.. بل يقف عند هذا الحدّ.. أما ما ملكت، أو تملك يمينه بعد هذا من نساء فهنّ حلّ له، على الإطلاق.
وهذا هو الرأى الذي نعوّل عليه، ونأخذ به، وذلك لما يأتى:
أولا: هذا الأمر للنبىّ بالوقوف عند هذا الحدّ من التزوج بالنساء، هو في الواقع تخفيف عن النبيّ، ورفع للحرج الذي يجده من حمل نفسه على التزوج ممن يهبن أنفسهن له، وهنّ كثيرات، طامعات في رضا اللّه بالقرب من الرسول والعمل على مرضاته.. وكذلك الشأن فيمن هن قريبات له، وتعرض لهنّ ظروف قاسية، تدعو النبي إلى موساتهن بضمهن إليه، كمن يستشهد أزواجهن في سبيل اللّه.
فهذا لا شك تخفيف عن النبيّ، ودفع للحرج، بهذا الأمر السماوي الذي لا يجعل له سبيلا إلى التزوج بمن تهب نفسها له، أو بمن تدعو الحال بضمها إليه، وتزوجه منها، من بنات عمه أو بنات عماته، أو بنات خاله أو بنات خالاته.
وثانيا: في الإبقاء على حل ما ملك أو يملك النبي من إماء، هو أيضا من باب التخفيف ودفع الحرج عن النبيّ.. وذلك لأن مئونة الإماء أخفّ، إذ ليس لهن ما للحرائر الزوجات من حقوق تقابل ما للرجال عليهن من واجبات.
وثالثا: وعلى هذا يكون ما جاء في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ...} الآية هو إقرار للأمر الواقع، ووصف كاشف للحباة الزوجية في بيت الرسول، وما ضمّ من تلك الأصناف الأربعة التي ذكرتها الآية من أصناف النساء.. ويكون قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ}.
أمرا للنبىّ بالوقوف عند من تزوج بهن إلى وقت نزول هذه الآية، وأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليس له أن يتزوج أية امرأة أخرى غير اللاتي كن معه.
أما ما ملكت أو تملك يمينه، فيبقى على أصل الإباحة له.
وفي قوله تعالى: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} تطيب لخواطر نساء النبي، وتطمين لقلوبهن، ألا يدخل عليهن من النساء من يشاركهن الحياة مع النبي، والسّكن إليه في بيت النبوة.. وأنهن في أمان من أن يخرجن من هذا الجناب الكريم أو يفارقن النبي بالطلاق.
وهذا جزاء عاجل من اللّه سبحانه وتعالى لهن إذ اخترن اللّه ورسوله، ورضين الحياة الرّوحية مع رسول اللّه، مؤثرات ذلك على الحياة الدنيا وزينتها.
وأما ما جاء في الآية السابقة من قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فهو على الإباحة التي تضمنها، من أن يتزوج النبي من أية امرأة مؤمنة- غير متزوجة- تهب نفسها للنبى، ويقبل النبي هذه الهبة.. وذلك الحكم موقوت إلى أن نزل قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} فلما نزلت هذه الآية، توقف العمل بهذه الرخصة.
وعلى هذا لم يكن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يتزوج من أية مؤمنة- غير متزوجة- تهب نفسها للنبى، بعد نزول هذه الآية.
وليس هذا من النسخ، كما يبدو في ظاهره، ولكنه إنهاء لحكم رخصة موقوتة، جاء قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} محددا نهاية هذا الوقت.. وهذا يعنى أنه قد كان بين نزول الآيتين فسحة من الوقت، بحيث كان من المؤمنات غير المتزوجات من وهبن أنفسهن للنبىّ، فقبل منهن من قبل.
هذا، ويرى بعض المفسرين، أن هذه الآية: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} منسوخة بالآية التي قبلها: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ} الآية.
وهذا يعنى، أن المنسوخ يسبق الناسخ، وأن الحظر جاء أولا، ثم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يحظر عليه التزوج من بنات عمه وبنات عماته، وبنات خاله، وبنات خالاته اللاتي هاجرن معه أو من أية مرأة مؤمنة تهب نفسها له، وذلك إلى أن لحق صلوات اللّه وسلامه عليه- بالرفيق الأعلى.
ونحن على رأينا، من أنه لا نسخ، ولا تناسخ بين الآيتين.. وأن الآية الأولى ظلت عاملة إلى أن نزلت الآية الثانية، فأقرت الأوضاع التي انتهى إليها بيت النبوة، وما ضمّ عليه من أزواج النبي: وبقيت الآيتان تمثلان دورين من أدوار التشريع، للنبى خاصة، من حياته الزوجية.. وهذان الدوران، يسبقهما دور ثالث، هو الإباحة المطلقة للنبى، بالتزوج ممن يشاء من النساء، بأى عدد شاء منهن.
وعلى هذا كانت مراحل التشريع للحياة الزوجية للنبى ثلاثا:
المرحلة الأولى: الحلّ المطلق في الزواج من أية امرأة مؤمنة، يحل زواجها في الشريعة الإسلامية، دون تقيد بعدد.
المرحلة الثانية: وفيها يتقرر ما يأتى:
أولا: الوقوف بالعدد من الزوجات عند الحد الذي كان موجودا عند نزول الآية.. وهو تسع نساء.
وثانيا: إن أراد النبي أن يتزوج على من عنده من النساء، فلا يجوز له أن يتزوج من غير صنفين من النساء: بنات عمه أو بنات عماته، وبنات خاله أو بنات خالاته.. ثم من أي امرأة مؤمنة- غير متزوجة- تهب نفسها للنبى، وهذا صنف جديد جاءت بحلّه هذه الآية، خاصا بالنبي.
المرحلة الثالثة: وفي هذه المرحلة تستقر الأوضاع للحياة الزوجية في بيت النبوة، فلا يدخل عليها جديد من النساء، ولا يخرج منها أحد ممن هن فيها.
وهذا- كما أشرنا إلى ذلك- تخفيف عن النبي، ورفع للحرج عنه، من تلك العيون الكثيرة المتطلعة إلى الصهر إليه أو الزواج منه.