فصل: تفسير الآيات (53- 55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (53- 55):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)}.
التفسير:
فى هذه الآيات الثلاث، أقام اللّه سبحانه وتعالى حراسة على حرمات النبي من خارج بيت النبوة، وداخله، حتى لا يشغل النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- نفسه بهذا الأمر الذي من شأن الرجل أن ينظر إليه، ويهتم له.. وذلك حتى يفرغ النبي للدعوة القائم عليها، ولا يلتفت لفتة إلى ما وراءها.
فأولا: نهى اللّه المؤمنين أن يدخلوا بيوت النبي إلا بعد استئذان، وإذن.. فإذا كان الدخول استجابة لدعوة إلى طعام، فلا يتعجلوا الحضور قبل أن ينضج الطعام، وذلك حتى لا يطول مكثهم في بيت النبي، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ} أي غير منتظرين إنضاجه.
فإذا دعوا إلى هذا الطعام، فليدخلوا بعد أن يستأذنوا ويؤذن لهم.. فإذا طعموا فلا يتلبثوا، بل يخرجوا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ}.
ثانيا: نهى اللّه المؤمنين عن أن يسألوا نساء النبي شيئا من متاع أو نحوه إلا من وراء حجاب.. والحجاب هنا هو الباب الذي يدخل منه إلى بيوت النبي.
ثالثا: أمر اللّه نساء النبي أن يقمن الحجاب بينهن وبين غير محارمهن من الرجال، وأذن لهن في أن لا يحتجبن عن المحارم من آباء وإخوة، وأبناء الإخوة، وأبناء الأخوات، كما أمرهن بالحجاب عن النساء غير المعروفات لهن، القريبات منهن، العاملات في قضاء حوائجهن، وغير ما ملكت أيمانهن.. وذلك سدّا لذرائع الفتنة التي قد تجيء من النساء الواردات من موارد مختلفة لا يعرف وجهها.
هذا، ويلاحظ أنه لم يبح لنساء النبي لقاء محارمهن على إطلاقه، بل وقف به عند الآباء، والإخوة، وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات، دون الأعمام، والأخوال، وذلك للتخفيف من الضغط على بيت النبي، بالإقلال من الذين يطرقونه، ويغشونه.. فلو أنه قد فتح بيت النبي لذوى القرابات من محارم نسائه، لما خلا من زائر، رغبة في لقاء النبي وإرواء لظمأ النفوس المتعطشة إلى لقائه في خلواته.. الأمر الذي لا يتيح للنبى فرصة للراحة والكن.
هذه هي الحراسة التي أقامها اللّه على بيت النبي، وهى حراسة تتيح له- صلوات اللّه وسلامه عليه- شيئا من الراحة النفسية والجسدية، هو- صلوات اللّه وسلامه عليه- أشد ما يكون حاجة إليهما في هذا الجهاد المتصل، نهارا مع المسلمين، وليلا مع ذكر اللّه.
وفي الآيات، ما يحتاج إلى بعض الإيضاح.
ففى قوله تعالى: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} إشارة إلى ما يدعو الذين يدخلون بيوت النبي إلى إطالة المكث فيها، وهو الأنس بالرسول، والمتعة الروحية بالحديث إليه.. وهذا وإن كان مما يستحب من المسلم، ويحبّ له، إلا أن هذا ليس مكانه.. حيث جعلت البيوت للسكن والراحة.. والرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- بشر يحتاج إلى الراحة، والهدوء، والانفراد بالنفس.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} إشارة إلى ما كان يجده النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- من أذى وتضرر، في تزاحم المسلمين على بيته، وطول مكثهم فيه.. وهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- يحتمل هذا صابرا، ويمنعه الحياء النبوي أن يظهر ضيقا أو ضجرا.
وفي قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} إعلام من اللّه سبحانه وتعالى بما لم يصرح به النبي، وإن كان حقا.. فالنبى- كإنسان طبع على الحياء- تمنعه إنسانية من أن يصارح الناس بما يسوءهم، ما دام ذلك لا يجور على حق من حقوق اللّه، وإن كان فيه جور على نفسه.. ولهذا فقد دافع اللّه عن النبي الكريم، وتولى سبحانه حمايته، ودفع هذا الأذى عنه.
وفي قوله تعالى: {وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} استبعاد من أن يقع من أحد من المؤمنين باللّه، أن يؤذى رسول اللّه بالنظر إلى نسائه، نظر اشتهاء.. فذلك ما لا يجتمع معه إيمان أبدا.
وإذن فهذا الذي يأمر به اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين في قوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ} ثم في قوله تعالى بعد ذلك: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} هذا الأمر ليس اتهاما للمؤمنين في توقيرهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وفي اتخاذهم نساء النبي أمهات لهم، لا ينظر أحدهم إليهن نظرة رببة أو اشتهاء.
وإنما هذا الأمر هو من باب سد الذرائع، وقطع ألسنة السوء التي تصطاد المفتريات، وتنسج الأباطيل من الأوهام والظنون.. ولهذا جاء قوله تعالى تعقيبا على ذلك: {ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} مشيرا إلى أن هذا الاحتياط في الحديث إلى نساء النبي من وراء حجاب، هو أطهر للقلوب الطاهرة، وأزكى للنفوس الكريمة الزكية.
وفي قوله تعالى: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} دعوة إلى نساء النبي بتقوى اللّه، بعد دعوتهن إلى ضرب الحجاب بينهن وبين غير من ذكرن من محارمهن.
إذ ليسب العبرة في العفة بضرب الحجاب، وإن كانت أمرا لازما لسد الذرائع، وإنما العبرة بما في القلب من تقوى اللّه، وخشيته، والعمل على مرضاته.

.تفسير الآيات (56- 59):

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
مناسبة هذه الآية هنا، هو أن الآيات السابقة عرضت لأمور هي من خصوصيات النبيّ- صلى اللّه عليه وسلم- وبهذه الخصوصيات التي اختصّه اللّه سبحانه وتعالى بها، كحلّ التزوج بعدد من النساء لا يحلّ لغيره من المسلمين التزوج بهن، وكالتزوج ممن يهبن أنفسهن له، من غير مهر، وكتلك الحراسة التي أقامها اللّه على بيت النبوّة من خارج ومن داخل- نقول بهذه الخصوصيات يعرف بعض ما لرسول اللّه من منزلة كريمة، ومقام عظيم، عند ربه.
وإذ عرف المسلمون هذا، فليعرفوا أيضا أنّ ذلك ليس هو كلّ ما للنبىّ عند ربّه.. بل إن له عند ربّه أكثر وأكثر.. {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}.
فهذه صلاة خاصة بالنبيّ، غير تلك الصلاة العامة التي للمؤمنين، والتي جاءت في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ}.
إنها صلاة من اللّه وملائكته، اختص بها النبيّ وحده.. وإذا كان ذلك كذلك فإن على المؤمنين جميعا أن يشاركوا في الصلاة على النبيّ، والتسليم له، تسليم ولاء، وخضوع، وامتثال.
وصلاة اللّه سبحانه وتعالى- كما قلنا- هي الرحمة، والإحسان، والرضوان.
وصلاة الملائكة، هي الدعاء والاستغفار.. أما صلاة المؤمنين على النبي فهى دعاؤهم اللّه سبحانه أن يصلى عليه، وأن يديم هذه الصلاة، ويضاعفها.
فيضاعف من رحمته وإحسانه ورضوانه على رسوله.
وأما التسليم من المؤمنين على النبي، فهو تسليم عليه وتسليم له.. تسليم عليه بالدعاء له بالأمن والسلام من اللّه: {السلام عليك أيها النبي}.
والتسليم له من المؤمنين بالطاعة والولاء.
فهذه الصلاة، وهذا التسليم من المؤمنين هو بعض ما يجزى به المؤمنون النبيّ من إحسان في مقابل الإحسان العظيم الذي أحسن به إليهم، إذ هداهم إلى الإيمان، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وسلك بهم الطريق إلى رضوان اللّه، وإلى جنات لهم فيها نعيم مقيم.. فما أقلّ ما يجزى به المؤمن، هذا الإحسان الذي لرسول اللّه في عنقه! قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً}.
وإذا كانت الصلاة على النبيّ، والتسليم عليه وله من المؤمنين، هي بعض المطلوب منهم، جزاء إحسان النبيّ إليهم، فإن بعض الناس لا يجزون هذا الإحسان بالإحسان، بل يلقونه بالمساءة والضر.
وقد توعّد اللّه سبحانه هؤلاء الذين يؤذون رسول اللّه، باللعنة في الدنيا والآخرة، وبالعذاب المهين، يوم الحساب والجزاء.
وفي قوله تعالى: {يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} تعظيم لشأن الرسول، وتغليظ للجرم الذي يقع في ساحة حرمه، من الكافرين، والمنافقين، ومن في قلوبهم مرض.. فهذا الذي يسوء النبيّ ويؤذيه من أقوال أهل الضلال وأفعالهم، يؤذى اللّه سبحانه وتعالى.. فكيف تكون نقمة اللّه ممن يؤذيه؟
ذلك ما لا يمكن تصوره! قوله تعالى:. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً}.
إن أهل السّوء مؤاخذون بجناياتهم، أيّا كان موقع هذه الجنايات.. ولكنها حين تكون في حق النبي تكون جنايات غليظة، وعدوانا آثما، إذ كان النبيّ داعية خير، ورسول هدى ورحمة.. فإذا لم يكن- والحال كذلك- ثمة جزاء بالإحسان، لقاء هذا الإحسان، فلا أقلّ من ألا يكون بغى وعدوان.. فإذا كان بغى وعدوان، فهو البلاء المبين، والإثم العظيم.
والمؤمنون والمؤمنات، هم أولياء اللّه، وهم جنده في الأرض، ورسله بين الناس.. والعدوان عليهم- بغير ما اكتسبوا- عدوان على الحقّ، واجتراء على حرم اللّه.. ومن ثمّ، فإن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقد احتملوا بهتانا، أي افتراء وعدوانا على الحق، وباءوا بإثم عظيم، يلقون جزاءه عذابا ونكالا.
وفي قوله تعالى: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} احتراس من الأذى الذي ينال المؤمنين والمؤمنات بما كسبت أيديهم.. فهذا الأذى لا يدخل في الحكم الذي ينال من يؤذونهم لغير ذنب ارتكبوه.. فالمؤمن والمؤمنة، قد يسرقان فتقطع أيديهما.. وهذا أذى لهما، ولكنه أذى لا يؤاخذ عليه من أقام الحدّ عليهما.. وهكذا كل أذى يقع على المؤمن والمؤمنة في مقابل ذنب.
هذا، ولم يجيء هذا الاحتراس في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} حيث لا يتصور أن يكون من رسول اللّه كسب يستحق عليه أذى.. ومعاذ اللّه! فقد حرسه اللّه من كل سوء، وحماه من المعاثر والمزالق.. وأكثر من هذا فقد جعله اللّه في ضمانه، إذ ضمه إلى جنابه، وجعل أذاه أذى له!.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
ومن سدّ الذّرائع ألّا يعرّض المؤمن نفسه للشّبه، وألا يدع سبيلا لقالة السوء فيه، بل ينبغى أن يتجنب مواقع التّهم، حتى لا يتعرّض للأذى، ويعرّض غيره للوقوع فيه.
وفي قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ...} الآية دعوة لنساء النبيّ وبناته ولنساء المؤمنين عامة أن يحموا أنفسهم من ألسنة السوء، وذلك بأن يدنين عليهن من ثيابهن، وأن يرسلنها حتى تكسو أجسامهن إلى مواقع أقدامهنّ.. وهذا هو لباس المحتشمات، على خلاف ما كان عليه لباس المتبرجات، الداعيات للرجال إلى أنفسهن.. وبهذا الزىّ ينعزل نساء النبيّ، وبناته، ونساء المؤمنين، عن غيرهن، ممن لا يسوءهن قول، أو فعل.
وفي قوله تعالى: {ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ} إشارة إلى أن هذا الزّى السائر الذي يتزيا به نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين، هو معلم من معالم المرأة الحرّة العفيفة التي لا مطمع لأحد فيها.
وفي قوله تعالى: {أَدْنى}.
إشارة إلى أن هذا الزىّ ليس وحده بالذي بقي الحرائر والعفيفات من ألسنة أهل الفجور والفسق، ولكنه- على أي حال- وقاء يجمّل الحرّة ويزيّن العفيفة، ويضفى على طهرها طهرا، وعلى عفتها جلالا وعفة، فهو وإن لم يكن الكمال كلّه، فهو من سمات الكمال، وإن لم يكن العفة كلّها، فهو مظهر من مظاهرها.
فستر الظاهر وتجميله، مطلوب، أيّا كان الباطن وما يختفى وراءه مما تنطوى عليه الصدور، وتسرّه السرائر.. فإن كان الباطن سيئا كريها، فالأولى بصاحبه أن يستره، ويجمّله بهذا الستر الذي يلقيه عليه من المداراة، والتحفظ.. وإن كان الباطن طيبا كريما، كان تهتّك الظاهر إزراء بقدره، وعدوانا على جلاله وبهائه.
روى أن عابدين من عبّاد البصرة، أحدهما أعور، والآخر أعرج.
تقابلا، فقال الأعرج للأعور: هل لك في أن تكسب أجرا؟ فأجابه صاحبه: وما ذاك؟ قال: نتماشى معا، فيرانا الناس، فيقولون: أعور وأعرج.. فنؤجر ويأثمون!! فرد عليه صاحبه: وهل لك في خير من ذلك؟ قال: ماذا؟ قال: لا نفعل.. فنسلم ويسلمون! إن الغنيمة حقّا، هي في أن يسلم الإنسان من النّاس.. وذلك بألا يمكنهم من نفسه بما يبدى من عيوب، أو ما هو بمظنّة عيب.. ففى ذلك سلامته من الناس، وسلامة الناس منه.

.تفسير الآيات (60- 71):

{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا}.
مناسبة هذه الآية هنا، هي أن الآيات السابقة كانت دستورا سماويا للحياة الروحية في بيت النبيّ، ولحراسة هذا البيت من العيون الفاجرة، والألسنة البذيئة.. وفي المدينة منافقون كثيرون، ومؤمنون لم تخلص قلوبهم بعد للإيمان، ومن هؤلاء وأولئك تهب ريح خبيثة على المجتمع الإسلامى الطهور، الذي أقامه النبيّ في المدينة.. فكان من الحكمة، وقد حصن اللّه قلوب المؤمنين، وأقامهم على طريق الإيمان والتقوى، أن يعزل عنهم هذا الداء الخبيث الذي يتمشى في أجواء المدينة، من المنافقين وممن في قلوبهم مرض من المؤمنين.
وفي قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} إنذار مزلزل لهؤلاء المنافقين ومن انضوى إليهم، بأن يسلط اللّه عليهم النبيّ، فيلقى بهم خارج المدينة، بعيدا عن هذا المكان الطهور الذي لا يجد الخبث حياة له فيه.
والمرجفون: هم الذين يثيرون الشائعات الكاذبة، ويطلقون الأراجيف المصطنعة، ليشغلوا الناس بها، ويفسدوا عليهم حياتهم.
وقوله تعالى: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي لنسلطنك عليهم، فتخرجهم من المدينة على أسوأ حال، كما خرج اليهود من قبلهم.
وقوله: {ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا} إشارة إلى أن هؤلاء المنافقين وإخوانهم، إذا سلّط عليهم النبيّ، لن يجدوا القوة التي يدفعون بها بأسه وقوته.. بما مكن اللّه له في الأرض، وبما جمع له من جند اللّه وأنصاره.
{وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ} [6: الحشر].
قوله تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}.
{ملعونين} حال من فاعل محذوف تقديره: يخرجون منها ملعونين، أي تصحبهم اللعنة.
وقوله تعالى: {أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} كلام مستأنف.
أي أنهم بهذه اللعنة التي خرجوا بها من المدينة، لن يجدوا مأوى يؤوون إليه، ولا معتصما يعتصمون به.. فأينما ثقفوا أي وقعوا ليد النبيّ والمسلمين {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} أي أصبحوا في عداد الأسرى، وليس لهم بعد الأسر إلا القتل، لأنهم عرب، لا تقبل منهم فدية، أو يهود ائتمروا مع المشركين على حرب النبيّ، فجرى عليهم حكم المشركين من العرب.
قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} أي سنسنّ بهم سنة الذين سبقوهم من قبل، ونأخذهم بما أخذنا به أمثالهم من أهل الضلال والنفاق.. فهذا هو حكم اللّه في المفسدين في الأرض، وهو حكم قائم لا يتبدل أبدا.
والمراد بالذين خلوا من قبل هنا هم اليهود- من بنى قريظة وبنى النضير- الذين وقع بهم بأس اللّه، فأخرجوا من ديارهم، وقتل رجالهم، وسبى نساؤهم وذراريهم.
ويجوز أن يكون {الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} هم أمثال هؤلاء المنافقين من أهل الضلال في الأمم السابقة، ويدخل فيهم ضمنا يهود المدينة.
قوله تعالى: {يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً}.
هو تذكير بالساعة، وإلفات إلى يوم القيامة، في هذا الموطن الذي تهددت فيه الآية السابقة جماعات المنافقين، ومن في قلوبهم مرض، وهم صنّاع الأراجيف والشائعات.. وذلك ليرجعوا إلى اللّه، وليخلوا قلوبهم من النفاق، وليطهروها من تلك الآفات الخبيثة التي استوطنتها.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً} هو تهديد لتلك الجماعات التي إن لم تصحح إيمانها، أصبحت في عداد الكافرين، وليس للكافرين عند اللّه إلا اللعنة وسوء الدار، حيث ينزلون أسوأ منزل في جهنم، لا يخرجون من عذابها المطبق عليهم أبدا، ولا يجدون وليّا يقف إلى جانبهم، ولا نصيرا ينصرهم، ويدفع عنهم هذا البلاء المشتمل عليهم.
قوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا}.
فى الآية عرض لصورة من صور العذاب التي يلقاها الكافرون يوم القيامة.
إنهم يقلبون على وجوههم في جهنم، وهم أحياء.. كلما نضجت جلودهم بدلهم اللّه جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، ألوانا، وليطعموه حميما وغسّاقا.. وهم في هذا العذاب لا يملكون إلا صرخات الندم والحسرة، على خلافهم للّه والرسول، فيقولون: {يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا}.
وأنّى لهم أن يصلحوا ما أفسدوا؟ لقد فات الأوان!.
قوله تعالى: {وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}.
أي أن من مقولاتهم التي يقولونها، ويعتذرون بها هو قولهم: {رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}.
إنهم يلقون باللائمة على سادتهم وكبرائهم، وقد كانوا تبعا لهم، فأوردوهم هذا المورد الوبيل.
فقوله تعالى: {وَقالُوا} هو حكاية لما سيقولونه يوم القيامة، وعبّر عنه بالفعل الماضي، لأن هذا القول واقع في علم اللّه القديم.
وتلك حجة داحضة، وعذر غير مقبول..! لقد باعوا أنفسهم لسادتهم، وعطلوا العقل الذي وهبه اللّه إياهم، فلم يصغوا إلى آيات اللّه، ولم يستمعوا إلى دعوة الرسول، ولم يلتفتوا بعقولهم وقلوبهم إلى هذا النور الذي غمر الآفاق من حولهم.. بل تركوا لغيرهم مقودهم، وأسلموه زمامهم... فإذا دفع بهم قائدهم إلى الهاوية، فهم الملومون، ولا لوم على أحد.
قوله تعالى: {رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}.
هذا هو الجزاء الذي يجزى به الضالون سادتهم، ورؤساء الكفر والضلال فيهم.. إنهم لا يملكون أن ينتقموا لأنفسهم منهم بغير هذا الدعاء إلى اللّه أن يضاعف لهم العذاب، الذي يلقاه هؤلاء الأتباع.. فهم رؤساؤهم الذين كانوا يذهبون بالنصيب الأوفر من متاع الدنيا، فليذهبوا كذلك بالنصيب الأوفر من العذاب واللعنة في الآخرة..!
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً}.
أشاع اليهود في المدينة جوّا خبيثا من الدس والنفاق، وخلق الأراجيف وإذاعة الشائعات، واتخذوا من هذا كله أسلحة يحاربون بها الدعوة الإسلامية، ويدخلون منها على من في قلوبهم مرض من المسلمين، فيفتنونهم في دينهم، ويتخذون منهم أبواقا لترديد الأكاذيب، وإشاعة الأراجيف.. وقد أخزى اللّه اليهود، ونكّل بهم، وكفى المسلمين شرهم، وطهر المدينة من رجسهم.
وبقي بعد هذا أشتات من الناس، قد تمكن فيهم النفاق والكيد الذي ورثوه عن اليهود، فجاء قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا} جاء منذرا هؤلاء المخلفين من صنائع اليهود، بأن ينزعوا عما هم فيه، وإلا أصابهم ما أصاب أصحابهم من قبل.
وفي قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} إلفات للمسلمين عامة، وإشارة إلى المنافقين، ومرضى القلوب وضعاف الإيمان منهم، خاصة، إلى أن يعتزلوا اليهود عزلة شعورية، وأن يقطعوا كل ما كان بينهم من صلات قائمة على التشبه بهم، والجري على أساليبهم، لأنهم شر خالص، وبلاء محض.
كالداء الخبيث إن لم يقتل صاحبه، أفسد عليه حياته، ونغّص معيشته.
وإنه لا سلامة للمسلمين من اليهود إلا إذا تخلصوا من كل أثر مادى أو نفسى كان لهم فيهم.. وأما وقد جلا اليهود عن المدينة إلى غير رجعة، ولم يبق إلا ما تركوه في بعض الناس من آثار، في أساليب الحياة، وصور التفكير، فإنه لكى يأمن المسلمون على سلامتهم في أنفسهم وفي عقيدتهم- ينبغى أن يتخلصوا من كل مخلفات اليهود فيهم، من ماديات الحياة ومعنوياتها جميعا.
والتطاولعلى مقام الرسل، والافتنان في إيذائهم والكيد لهم، طبيعة غالبة على اليهود.
وقد قص القرآن الكريم على المسلمين كثيرا من مواقفهم اللئيمة المنحرفة مع رسل اللّه.. فقال تعالى: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [155: النساء].
وقال سبحانه وتعالى متوعدا إياهم: {أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [87: البقرة].
{وموسى} الذي يدين اليهود بشريعته وبالتوراة التي تلقاها من ربه- قد لقى من كيد اليهود وأذاهم في شخصه حيّا، وفي شريعته، بعد موته، ما لقى الأنبياء منهم، من ألوان الكيد والأذى.
وقولهم الذي قالوه في موسى هو ما حكاه القرآن الكريم عنهم في قولهم لموسى: {أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا} [129 الأعراف] وكان ذلك ردّا على قوله لهم: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [128: الأعراف].
فهذا القول هو اتهام له، وتكذيب بالوعد الذي وعدهم إياه بأمر ربه.
وكان في هذا الاتهام أذى له، خاصة وهو في مواجهة فرعون، وفي معمعة الصراع المحتدم بينهما.. إنهم يكذبون موسى، ويتهمونه بالخداع لهم بهذه الأمانى التي يحدثهم بها.
وقد برأ اللّه موسى من هذا الاتهام الوقح، فصدقه الوعد الذي وعده، ونجّى القوم على يديه من فرعون، وأراهم من آيات اللّه عجبا.
والمنافقون ومن في قلوبهم مرض من المسلمين، هم المعنيون بهذا الأمر الذي تحمله الآية الكريمة: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً}.
فلقد كذب إخوانهم اليهود موسى، واتهموه فيما وعدهم به من الخلاص من يد عدوهم، ومن التمكين لهم في الأرض، وقد صدق اللّه وعده، وأنجز لموسى ما وعده في قومه.. وكما صدق اللّه وعده موسى في قومه، سيصدق اللّه وعده محمدا في قومه، فيكبت عدوّهم، ويمكنّ لهم في الأرض.. وكما كان موسى وجيها عند اللّه، ذا منزلة عالية عنده، سيكون محمدا وجيها عند ربه، في مقام رفيع عنده.
فليكن للمنافقين والذين في قلوبهم مرض في هذا عبرة وموعظة، وليقتلوا في نفوسهم تلك الشكوك وهذه الريب في صدق الرسول.. فإنهم إن فعلوا سلمت قلوبهم من النفاق، وصحّت من المرض، وأصبحوا في عباد اللّه المؤمنين، الذين اطمأنت قلوبهم بالإيمان، وخلت مشاعرهم من الشكوك والتّهم، فلم تنطق ألسنتهم بالزور والبهتان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في الآية التالية، والآية التي بعدها.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً} فهذه هي صفات المؤمنين حقّا، وذلك هو منطقهم، وتلك هي سبيلهم.
إنهم على إيمان وثيق باللّه، قد امتلأت قلوبهم بتقواه، وخشيته، فلا يقولون زورا، ولا ينطقون بهتانا، وإنما قولهم الحق، ومنطقهم الصدق.. وبهذا يصلح اللّه أعمالهم، ويتقبلها منهم، ويغفر لهم ذنونهم.. وهذا لا يكون إلا لمن أطاع اللّه ورسوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً}.
إذ أنه لا فوز أعظم من النجاة من عذاب اللّه، والفوز بدخول الجنة: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ} [185: آل عمران].