فصل: تفسير الآيات (5- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (5- 6):

{إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)}.
التفسير:
هنا استعراض لقدرة اللّه، وكشف لمظاهر هذه المقدرة، فيما أبدعت وصورت، من آيات مبثوثة في ملكوت السموات والأرض! فهذه القدرة محيطة بكل شيء، عالمة بكل شيء، وهو سبحانه خالق كل شيء، فما من شيء إلّا وهو من فيض صنعه وتدبيره، فكيف لا يعلم ما خلق؟ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [14: الملك] ومن شواهد قدرة اللّه، وسلطان علمه، تلك العملية التي تتخلق منها الكائنات الحية، والتي من بعض كائناتها الجنس البشرى! فهذا الإنسان، الذي يفور كيانه عظمة وكبرياء. حتى ليكاد يطاول الإله في عظمته وكبريائه- هذا الإنسان نشأ على يد القدرة، وتنقّل في أطوار الخلق، من عدم إلى وجود.. وفيما بين العدم والوجود قطع مراحل طويلة، وتقلب في صور شتى.. من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى عظام عارية، إلى عظام يكسوها اللحم، إلى كائن له سمع وبصر وشم وذوق.. كل هذا وهو في عالم مطبق عليه.. {فى ظلمات ثلاث} في بطن أمه، فإذا خرج من هذا العالم إلى عالم الناس.. تنقل في أطوار.. من الطفولة، إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الاكتهال، والشيخوخة.
فأين أول الإنسان من آخره؟ وأين النطفة من الطفل؟ وأين الطفل من الشاب؟ {أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [67: مريم].
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ} يشير إلى ماللّه سبحانه من شأن، في تقدير خلقنا، وتحديد أرزاقنا، وأوضاعنا في الحياة، حيث اختلفت صور الناس، وتباينت حظوظهم، حسب إرادة اللّه وتقديره.. فكل إنسان منا هو عالم مستقل بدأته، دائر في الفلك المقدور له.

.تفسير الآية رقم (7):

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)}.
التفسير:
اختلف الأئمة المفسرون في هذه الآية، وتضاربت آراؤهم في مواضع كثيرة منها.. في الآيات المتشابهة.. ما هى؟ وما مدلول التشابه هذا؟
ومن هم المقصودون بقوله تعالى: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} وهل الوقف على لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}؟ أم يعطف عليه قوله سبحانه: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}؟ وهل الواو هنا للعطف أم للاستئناف؟
وفى الإجابة على أي سؤال من هذه الأسئلة، عشرات من الأجوبة التي يذهب كل منها مذهبا غير مذهب صاحبه! وندع كل هذا، وننظر في الآية الكريمة نظرا مباشرا، يصافح وجهها المشرق، ويتملّى بيانها المبين.
ونقف قليلا عند قوله تعالى: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ونطلب المعنى اللغوي لكلمة التأويل.
وإذ ننظر في معاجم اللغة.. لا نجد فيها ما يشفى.. إذ لا تبعد كثيرا عن معنى التفسير، أو التخريج، وقد يراها بعضهم هي والتفسير سواء، فلا فرق عندهم بين التفسير والتأويل.
والقرآن الكريم- وهو الحجة على اللغة، وليست اللغة حجة عليه- يفرق بين التأويل والتفسير، ويجعل لكل منهما مجالا لا يعمل فيه الآخر.
يستعمل القرآن الكريم التأويل للأمور الخفيّة الغامضة، التي يخفى ظاهرها ما ضمّ عليه باطنها، من أمور محجبة وراء هذا الظاهر.. وبين الظاهر غير المراد والباطن المراد بون شاسع، وبعد بعيد، لا يبلغه إلا بصر ذوى البصائر، ممن رضى اللّه عنهم، ورفعهم إلى هذا المقام الكريم، الذي يطلعون منه على ماوراء الحجب من علم اللّه.
ذكر القرآن الكريم أن هذا المقام الكريم- مقام التأويل- كان ليوسف عليه السّلام، فقال تعالى: {وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ} [21 يوسف]. وقال تعالى: {وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ} [6: يوسف] وقال سبحانه على لسان يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ} [101: يوسف] وقال سبحانه على لسانه أيضا: {يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ} [100: يوسف] وقال تعالى على لسان صاحبى السجن {نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [36: يوسف] وقال سبحانه على لسان يوسف: {لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [37: يوسف] وقال تعالى على لسان أصحاب فرعون: {وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ} [44: يوسف]. وقال تعالى على لسان أحد صاحبى السجن، وهو الذي نجا: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [45: يوسف].
وكما كان ليوسف هذا العلم الذي فضل اللّه عليه به، فكشف بهذا العلم ما وراء تلك الحجب من الأزمنة والأمكنة.. كان ذلك العلم أيضا للعبد الصالح صاحب موسى عليهما السلام- والذي يقول للّه تعالى فيه: {فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [65: الكهف].
وفى صحبة موسى للعبد الصالح، رأى موسى العجب في أمور كان يأتيها العبد الصالح بين يديه، فتجرى في وضع مقلوب، كما يبدو ذلك في مستوى النظر الطبيعي للناس، بينما هى- في حقيقة أمرها- تسير في أعدل وجه وأحسنه! كما ظهر ذلك منها، حين كشف العبد الصالح لموسى، عما وراء هذا الظاهر غير المستقيم، أو بمعنى أوضح، حين كشف له عن حجاب الزمن، وأراه مسيرتها، والنهاية التي تنتهى إليها، وما تؤول إليه عاقبة أمرها.
وفى هذا يقول العبد الصالح لموسى- بعد أن حجز موسى عن السير ممه في هذا الطريق- في هذا يقول، كما قال القرآن على لسانه: {هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [78: الكهف] هذا ما ورد في القرآن الكريم من لفظ التأويل وهو في جميع موارده لم يستعمل إلا في الكشف عن أمور غامضة، متخفية وراء ستر، تحول بين الناظر إليها وبينها.. وهى- كما نرى في سورة يوسف- أحلام.. هي رموز إلى أشياء وأحداث، لم يستطع قراءتها وفك رموزها إلا يوسف عليه السلام.. أو هي كما نرى في مسيرة العبد الصالح مع موسى، أضغاث أحلام من أحلام اليقظة.. لا يكاد المرء يصحو، حتى ينكرها، وينفض أطيافها المحوّمة أمام عينيه.
فالتأويل على هذا هو فك طلاسم ورموز، يقف الناس جميعا أمامها حائرين، ويقول فيها كل إنسان يقول، وينظر كل ناظر إليها بنظر.. وهيهات أن يلتقى قول بقول، أو يقع نظر على نظر! فكل ما يقال فيها هو رجم بالغيب، إلا من علّمه اللّه تأويل الأحاديث! وقد آن لنا بعد هذا أن ننظر في الآية الكريمة:
فقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ}.
يبيّن الأسلوب الذي جاءت عليه آيات القرآن.. فمنه الآيات المحكمة، وهى التي تنطق بدلالتها نطقا واضحا محددا لا يقبل التخريج أو التأويل.. وهذه الآيات هي التي تحمل أحكام الشريعة.. من صلاة وصيام، وزكاة، وحج، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} وقوله سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.
وكذلك الآيات التي تتعلق بالإيمان باللّه وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجنة والنار.. لأن هذه أمور إن حملها نص غير واضح الدلالة محدد المفهوم- أوقع الناس في لبس وخلاف، وذهب كلّ فيها مذهبا، ففرقوا دين اللّه، وتفرقوا فيه، وهو الذي من شأنه أن يجمعهم عليه، وأن يجتمعوا هم على كلمة سواء فيه.
فهذا المحكم من آيات الكتاب الكريم، يعطى دلالته، محددة واضحة، لأول نظرة فيه.
وهناك آيات متشابهة، تحتمل وجوها من التأويل والتخريج.. وسنعرض لها بعد قليل.
وبين الآيات المحكمة والآيات المتشابهة آيات ليست من هذه أو تلك، ليست محدّدة الدلالة، ولا مغلقة المفهوم.. بل يمكن- مع النظر السليم- أن ينكشف مدلولها، ويتحدد مفهومها، وذلك هو معظم القرآن، فيما جاء في الأخلاقيات وفى الأحكام الجزئية. ذلك أن القرآن الكريم لم يجيء على الأسلوب العلمي، الذي يصبّ قواعد العلم ومقرراته في قوالب لفظية جامدة، لا تنفتح إلا على حكم واحد لا شيء بعده، بل جاء القرآن على أسلوب أدبى رفيع، استولى على قمة الفن الأدبى، بلا منازع، وهذا الأسلوب مهما كان من الدّقة والإحكام لا يمكن أن ينضبط على القالب العلمي، ولا أن تحمل ألفاظه أحكاما صامتة- مغلقة- مثل ما تحمل ألفاظ الأسلوب العلمي، بل تجيء الأحكام في هذا الأسلوب مغلّقة في غلائف رقيقة مشعّة، تومئ إلى المعنى ولا تكشفه، وتتخافت به ولا تجهر! وهذا ما يجعل للقرآن الكريم حياة متجددة في العقول وفى القلوب، لا يمل مرتله الترتيل أبدا، إذ يجد لما يعاود ترتيله روحا في كل مرّة، ووجها جديدا في كل ترتيلة.
ونعود إلى المتشابه.. ما هو؟ وأين هو في القرآن؟ وما الحكمة منه؟
المتشابه- كما قلنا- هو المغلق، الذي لا ينكشف للنظر، بل يتراءى لمعطيات الحدس والرجم بالغيب، أشبه بالأحلام وأضغاث الأحلام التي يتأولها المتأولون، ويقول فيها القائلون! وليس يعلم قولة الحق فيها إلا علّام الغيوب.. ذلك هو المتشابه.
أما أين هو في القرآن.. فإنا إذا نظرنا في كتاب اللّه، فيما بين أوله وآخره نجد أن قوله تعالى: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} يلفتنا لفتا قويا إلى هذا المتشابه، وهو تلك الأحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض سور القرآن الكريم، مثل الم، الر، المر، كهيعص، طس، طسم... فهذه الأحرف هي التي يقف أمامها دارس القرآن حائرا، لا يدرى لها مفهوما، إلا أن يكون ذلك بضرب من الحدس والتخمين، ولهذا كثرت فيها تأويلات المتأولين، إلى أن جاوزت السبعين قولا فيها، بل ويمكن أن نزاد هذه الأقوال إلى مئات، بل وتتسع لألوف، دون أن يكون قول أحق فيها من قول، أو أولى بالقبول والتسليم.. إذ كل الأقوال هي اجتهاد شخصى، كالحدس عن شيء داخل صندوق مغلق، ولهذا كان أعدل قول فيها وأصدقه هو القول: اللّه أعلم بمراده فما يعلم تأويلها إلا اللّه! وقد عرفنا معنى التأويل، وأنه- كما جاء في القرآن- لا يكون إلا في مواجهة الأمور المغلقة، كالأحلام وأضغاث الأحلام!
قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}.
أي إن الذين في قلوبهم مرض، بما عشّش فيها من نفاق، وضلال.
هؤلاء لا ينظرون في كتاب اللّه، ولا يقفون عند محكم آياته، لأنهم لا يؤمنون به، بل يجعلون همهم كله في صيد ما يمكن صيده من كتاب اللّه، من هذا المتشابه من كلماته، التي أشرنا إليها، والتي يمكن ألا يقال فيها أىّ شيء، كما يمكن أن يقال فيها كل شيء! لأنها- كما قلنا- كتاب مغلق.. إذا سئل الإنسان عما فيه، فإن احترم عقله، قال: لا علم لى، وإن سفه وحمق، قال، وأكثر القول، وتحدث وأطال الأحاديث بما هو أكثر مما في الكتاب امتدادا وطولا، وربما كان الكتاب في علم الحساب، على حين يحسبه المتخرصون كتابا في الفقه، أو الحديث، أو الأدب، أو الموسيقى مثلا!! وهؤلاء من مرضى القلوب، إنما وقفوا عند هذه المتشابهات، لأنها تفتح لهم أبوابا واسعة إلى أن يقولوا فيها ما يشاءون، وأن يحمّلوها من المعاني ما يريدون من مقولات، تفتن وتضلّ، دون أن يقف لهم أحد، أو يفنّد مقولاتهم مفنّد، فإذا واجههم أحد، أو حاجّهم محتاج سألوه رأيه فيها، وقوله عنها، وقد عرفنا أنها تتسع لكل رأى، وتتقبل كل قول، وليس فيها إلا قول واحد، علمه عند علام الغيوب. {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}!.
ولو كان هؤلاء الزائغون المنافقون يؤمنون بالقرآن، وبأنه من عند اللّه، لكان لهم أن يقولوا في المتشابه ما يقولون، مما يؤدى إليه نظرهم واجتهادهم، ولكان لهم من إيمانهم ما يعصمهم من أن يزلّوا ويضلّوا، ولكنهم- كما عرفنا- لا يمسكون من القرآن إلا بتلك الكلمات المتشابهة، التي رصدها اللّه ابتلاء وفتنة، تزداد بها قلوب المنافقين مرضا إلى مرض، ورجسا إلى رجس، أما المؤمنون فقد عافاهم اللّه من هذا البلاء، وعصمهم من تلك الفتنة، لأنهم يتقبلون هذا المتشابه كما يتقبلون المحكم وغير المتشابه من كتاب اللّه، ويقولون فيها جميعا: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا}.
وقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ}.
هو بيان لموقف المؤمنين من متشابه القرآن، إزاء موقف المنافقين منه، وهو أنهم- أي المؤمنون- يؤمنون بالمتشابه إيمانهم بالمحكم وبغير المتشابه، إيمان تسليم وامتثال، لأن كتاب اللّه- المتشابه، وغير المتشابه والمحكم- كله من عند اللّه، فليس في المتشابه- والأمر كذلك- ما ليس في كتاب اللّه، لأنه بعض كتاب اللّه، ولا يخرج البعض الكلّ، وإلّا كان غريبا عنه! فإذا كان لقائل أن يقول في هذا المتشابه فليقل ما يشاء، شريطة أمر واحد، وهو ألا يخرج في قول من أقواله عمّا في كتاب اللّه من أحكام ومقررات.
ولهذا لم يكن ثمة حرج عند علماء التفسير أن يقولوا في هذه المتشابهات ما قالوه من مختلف الآراء. لأنهم يقولون ما يقولون، وهم مؤمنون بكتاب اللّه، كله، محكمه ومتشابهه.
وفى قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} إشارة إلى أن الراسخين في العلم- وهم ما هم في العلم والحكمة والعقل- إذا كان موقفهم من هذا المتشابه موقف عجز وتسليم، فلا ينطقون إزاء هذا المتشابه- إذا نطقوا- إلّا كان قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا} إذا كان هذا هو موقف الراسخين في العلم، فإن من السفاهة والحمق والجهل جميعا أن يقول غيرهم مما لا رسوخ له في العلم- غير هذا القول، وألّا يؤمن إيمان عجز وتسليم، كما آمن الراسخون في العلم إيمان عجز وتسليم، بهذا المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه.
وعلى هذا، فإنا نرى أن الوقوف على لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} هو وقوف لازم، حتى يكون العلم بتأويل هذا المتشابه مقصورا على اللّه وحده، أما الراسخون في العلم فهم والجاهلون سواء في هذا المتشابه، لا يملكون إزاءه إلا التسليم بالعجز، وإلا أن يقولوا: {آمنّا به} على ما هو عليه، لأنه هو والمحكم على سواء.. {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا}.
وهذا موقف يجب أن يتملّاه العقلاء، وينتفع به أولو الألباب، وذلك بقياس الغائب على الشاهد، والبعيد على القريب، وإحالة المتشابه على المحكم!

.تفسير الآية رقم (8):

{رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)}.
التفسير:
مما يقضى به العقل، وينزل على حكمه العقلاء، أن تكون الأحداث والمواقف دروسا نافعة، وعبرا مثمرة، يجتنى من ثمرها الخير، ويدفع بها البلاء.
وقد كان في الموقف الذي وقفه أهل الزيغ والضلال والنفاق، من المكر بآيات اللّه، ما أركسهم في الفتنة، وأغرقهم في الضلال، حيث طرحوا كتاب اللّه وراء ظهورهم، وتعلقوا بالمتشابه من آياته، ليفتنوا الناس ويضلوهم، بما يتأولون لهم من مقولات عمياء.. فزادهم اللّه عمى إلى عمى، وضلالا إلى ضلال.
وإذ يرى المؤمنون هذا الموقف الذي اتخذه الزائغون، فتقطعت بهم الأسباب، التي كانت تصلهم بالإيمان، والتي كان جديرا بهم- لو عقلوا-
أن يستعصموا بها، وأن يحكموا فتلها، بتوجيه قلوبهم إلى اللّه، وإخلاص نياتهم للإيمان به- إذ رأى المؤمنون هذا فزعوا إلى اللّه وضرعوا بين يديه، ألّا يصير أمرهم إلى ما صار إليه أمر هؤلاء السفهاء الحمقى، الذين غلبت عليهم شقوتهم.. فضلوا سواء السبيل.. فبين يدى اللّه يضرع المؤمنون بهذا النداء الذي ساقه اللّه إليهم، ليكون سفينة النجاة لهم {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.