فصل: تفسير الآيات (15- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (15- 21):

{لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}.
التفسير:
بدأت السورة بحمد اللّه، الذي له ما في السموات والأرض، ودعت الناس إلى حمده سبحانه، وقصر هذا الحمد عليه وحده، إذ كان- سبحانه- المتفرد بالخلق والإحسان.
وقد كشفت الآية في هذا المقام عن الناس، فإذا هم فريقان، حامد مؤمن باللّه واليوم الآخر، وجاحد بكفر باللّه وبالبعث وبالحساب والجزاء.
ثم عرضت الآيات بعد هذا، صورة للحامدين الشاكرين المؤمنين باللّه وباليوم الآخر، مع ابتلائهم بالنعم العظيمة، والسلطان العريض.. وذلك فيما كان من داود وابنه سليمان، عليهما السلام.. ففى ذلك آية لأولى الألباب.
وفى هذه الآيات التي نحن بين يديها- عرض للجاحدين، الكافرين باللّه واليوم الآخر، مع ابتلائهم بالنعم السابغة والخير الوفير.. وفى هذا آية أخرى.. لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وقوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} إشارة إلى هذه الجماعة التي كانت تسكن تلك البقعة، الخصيبة المعطاءة للخير.. وهى سبأ من أرض اليمن.
والمراد بسبأ هنا هم أهلها.. والمراد بمسكنهم، الحياة التي كانوا فيها.
و{آية} اسم كان، ولسبأ خبرها.
وقوله تعالى: {جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ} بدل من {آية}.
والتقدير: أنه كان لأهل سبأ آية، هي جنتان عن يمين وشمال.. وقد كان لهم في هذه الآية منطلق إلى الإيمان باللّه، والقيام بحمده وشكره.. ولكنهم لم ينتفعوا بهذه الآية، بل زادتهم كفرا وإلحادا، ومحادّة للّه.
والمراد باليمين والشمال: كثرة الخير من حولهم، حيث يملئون أيديهم منه، وحيث يتناولونه من قريب، إن أرادوه بيمينهم وجدوه، وإن أرادوه بشمالهم تناولوه، دون أن يجهدوا أنفسهم بالتحول من اليمين إلى الشمال، أو من الشمال إلى اليمين.. وهذا مثل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ} [48: النحل] ومثل قوله سبحانه: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ} [37: المعارج].
فالمراد بهذا كله الإحاطة من كل جانب.
وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} أمر يراد به الإلفات إلى هذه النعم العظيمة التي أسبغها اللّه على القوم، وليس المراد به الأمر بالأكل على إطلاقه.
وقوله تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}:.. المراد بالبلدة الطيبة كثرة خيرها، ووفرة عطائها.. فهم فيها في نعم كثيرة، وخير موفور.. ومن تمام هذه النعم وذلك الخير، أن المتفضل بهذا كله هو {ربّ غفور}.
يتجاوز عن السيئات، ويقبل التائبين، ويعفو عنهم.. وبهذا تطيب النعمة، ويتّسع للإنسان مجال التمتع بها، على خلاف ما لو كان ربّ هذه النعم، يحاسب على الصغير والكبير، ويأخذ أصحابها بكل ما اقترفوا، فذلك مما يقيم الإنسان على حذر متصل وخوف دائم، فلا يهنؤه ما بين يديه من نعم! قوله تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} أي أنهم أعرضوا عن أمر ربهم، بالأكل من هذا الرزق، والحياة مع هذه النعم، في ظلّ من الإيمان باللّه، والحمد له.. فتنكروا لهذه النعم، وجحدوا هذا الإحسان، ونسوا ربهم، ولم يرجوا له وقارا، ولم يعملوا له حسابا.. فكان أن أخذهم اللّه بما يأخذ به الظالمين، فأرسل عليهم سيلا عارما جارفا، أتى على جنتيهم، وأفسد كل صالحة فيها.. ثم أعقبهم جدبا وقحطا، فأمسك الماء عنهم، ونبت مكان هاتين الجنتين ما ينبت في الأرض الجديب، من خسيس النبات والشجر، ومن رديء الفاكهة والثمر.
وفى مقابلة الجنتين الطيبتين، بهذه الصورة الكئيبة لما تنبت الأرض، وفى وصف هذه الصورة بالجنّتين- ما يكشف عن مدى هذا التحول الذي أصاب القوم في حياتهم، وعن الحسرة التي تملأ قلوبهم، حين ينظرون إلى جنتيهم الذاهبتين، ثم إلى هاتين الجنتين اللتين بين أيديهم.. فهذا هو ما يمكن أن يحصلوا عليه من جنات، إن كان يصحّ أن يكون ما في أيديهم مما يطلق عليه هذا الاسم..!! إنه لا جنّة لهم غير هذا النبات الخسيس، الذي تعاف رعيه الأنعام! والمراد بالجنتين- هنا أو هناك- الامتداد والاتساع.
والخمط: الرديء من الثمر والأثل: شجر لا ثمر له.
والسّدر: شجر النّبق.
قوله تعالى: {ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ}.
{ذلك} إشارة إلى ما حلّ بالقوم من نكال وبلاء.. وهو مبتدأ، محذوف خبره، وتقديره: ذلك ما جزيناهم به.. وقوله تعالى: {جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا} بدل من هذا المحذوف المشار إليه، وعطف بيان له.
وقوله تعالى: {وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ} أي لم يكن جزاؤنا لهم إلا بسبب كفرهم بنعمتنا، فما تحل نقمتنا، إلا بمن يكفر بنا وبإحساننا.. {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} [53: الأنفال] والمجازاة غير الابتلاء.. فالمجازاة عقاب على ذنب اقترف، والابتلاه امتحان واختبار.. فقد يبتلى اللّه المحسنين بالضر، كما يبتلى المسيئين بالنفع.
ولهذا جاء التعبير القرآنى هنا: {وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ} أي لا نعاقب إلا من يستحق العقاب من أهل الكفر والضلال.. فلا اعتراض إذن لما يصاب به أهل الإحسان في أموالهم أو أنفسهم، فذلك ابتلاء من اللّه لهم، وامتحان لإيمانهم، يزدادون بهدرجة في مقام الإحسان، إذا هم صبروا على هذا الابتلاء.
وليس ذلك الابتلاء من باب المجازاة لهم على ذنب اقترفوه.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ}.
الحديث في هذه الآية عن أهل سبأ أيضا، وعما كان اللّه سبحانه وتعالى قد ألبسهم إياه من نعم.. فهو معطوف على قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} على تقدير قلنا لهم: كلوا من رزق ربكم واشكروا له.
أي قلنا لهم ذلك، وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة.
والقرى التي بارك اللّه فيها، هي قرى أرض الشام، التي كان يرحل إليها أهل سبأ، ويتجرون معها، وسميت قرى مباركة، لأنها في الأرض المباركة، المقدسة، كما يقول اللّه تعالى على لسان موسى: {يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} والقرى الظاهرة، التي كانت بينهم وبين القرى المباركة، هي ما كان يلقاهم على طريقهم من اليمن إلى الشام، من منازل، وقرى، حيث يجدون فيها الأمن والراحة.
وقوله تعالى {وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ} أي جعلناها صالحة للسير فيها، والتنقل بينها، كما في قوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي اضبطه، وأحكم أمره.
وقوله تعالى: {سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} إشارة إلى هذه النعمة التي يجدها القوم على طريق تجارتهم إلى الشام، حيث يسيرون في هذه القرى تلك المنازل ليالى وأياما، في أمن وسلام، لا يعترضهم في طريقهم ما يخيفهم، أو يفزعهم.
وهذه نعمة من النعم العظيمة، لا يدرك مداها إلا من عاش في تلك المواطن في هذه الأيام، حيث كان الانتقال من مكان إلى مكان، محفوفا بالمخاطر والأهوال، منذرا بالوبال والهلاك.. ولهذا امتن اللّه على قريش بأن آمنهم في أسفارهم في رحلتى الشتاء والصيف، فقال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} فماذا كان من القوم إزاء هذه النعمة أيضا؟
لقد كفروا بها، وتنكروا لها، كما كفروا وتنكروا للخصب والرخاء، والخبر الكثير الذي أخرجته أرضهم.. فقال تعالى على لسانهم:
{فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
لقد بطر القوم معيشتهم، فتنكبوا عن هذا الطريق الآمن المطمئن، والتمسوا طرقا أخرى إلى جهات بعيدة غير تلك الجهة التي ألفوها، وتبادلوا المنافع مع أهلها.. واستبدّ بهم الغرور، وأغراهم الطمع، فركبوا الأهوال ولمخاطر، لا لحاجة إلّا أن يرضوا هذا الغرور الذي ركبهم، إلا ليغذّوا مشاعر الاستعلاء التي استولت عليهم- فكان أن بدد اللّه شملهم، وبعثرهم في الأرض، ومزقهم كل ممزق.. فأصبحوا أحاديث على ألسنة الناس، لما وقع بهم من بلاه، وما حل بديارهم من خراب.
وليس الذي ذهبنا إليه في تأويل قوله تعالى: {فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا} من أنهم ركبوا الأهوال والمخاطر- ليس هذا بالذي يحظر على الناس أن تنزع بهم هممهم إلى أبعد مما هم فيه، وإلى أن يتقلبوا في كل وجه من وجوه الحياة.
فهذا شيء، والذي كان من القوم شيء آخر.. إنهم خرجوا عماهم فيه بطرا واستعلاء، وكانوا أشبه بفرعون حين قال: {يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى}.
إنه يحارب بهذا البناء ربّ الأرباب، وهذا هو الذي جعل بناءه وبالا ونكالا عليه، ولو النمس من هذا البناء أن يرصد الكواكب والنجوم، مثلا أو أن يتخذه مسكنا له يشهد منه عظمة اللّه، ويرى منه فضل اللّه عليه- لكان ذلك عملا مبرورا مباركا.
وهؤلاء القوم، لو كان مقصدهم من الضرب في وجه الأرض، السعى في طلب الرزق، وإقامة حياة قائمة على العدل والإحسان، لبارك اللّه عليهم سعيهم، ولحمد مسيرتهم.. ولكنهم كانوا يركبون شيطانا مريدا، يدفع بهم دفعا إلى الكفر باللّه، وإلى السعى في الأرض فسادا.
وليس بالذي يشفع لهم، هذا القول الذي استفتحوا به ما طلبوا، حين قالوا {ربنا} فهذا قولهم بألسنتهم، ولو كان لهذا القول مكان في قلوبهم لكانوا مؤمنين باللّه حقا، ولما كان منهم هذا الفساد، وهذا الضلال الذي هم فيه.
ولقد قالها إبليس من قبلهم، وهو في موقف التحدّى للّه، والإصرار على الإثم العظيم، فقال: {رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فيهم: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
فلقد انقادوا لإبليس، وأسلموا زمامهم له، وصدّق عليهم ظنه الذي ظنه في أبناء آدم، حين قال: {رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [39- 40: الحجر].. فلقد استجاب هؤلاء المغوون لإبليس، وصدّفوا ظنه فيهم.. إلا فريقا قليلا من المؤمنين منهم، الذين ثبتوا على إيمانهم، ولم يجد إبليس سبيلا يدخل على إيمانهم منه، بالغواية والإضلال.
وقوله تعالى: {وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}.
أي أنه لم يكن لإبليس سلطان قاهر على هؤلاء الذين دعاهم فاستجابوا له، وقد كان أمرهم بأيديهم، إن شاءوا عصوه، وإن شاءوا اتبعوه.. وفى الفريق الذين عصوه، وثبتوا على إيمانهم، شاهد على هذا.. إن إبليس وما معه من مغريات ومغويات، ليس إلا بعض ما يبتلى اللّه به عباده من نقم.. ثم إن للناس- مع هذا- شأنهم فيما ابتلوا به.. وفى هذا الابتلاء تنكشف أحوال الناس، ويميز اللّه الخبيث من الطيب.. ثم إنه- بعد هذا كله، وقبل هذا كله- لا يقع شيء إلا بإرادة اللّه سبحانه وتعالى، وما قضى به في خلقه {وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} فكل شيء بيده وتحت سلطانه.. لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.
والمراد بعلم اللّه هنا، هو علم ما وقع بعد أن يقع، وهو سبحانه، عالم به أزلا، ولكن لا يحاسب عليه إلا بعد أن يقع، ويصبح من كسب العباد.
واختصاص العلم هنا بالإيمان بالآخرة، أو الشك فيها، لأن الإيمان بالآخرة، وبالبعث والحساب والجزاء، هو ملاك الإيمان باللّه، وبآيات اللّه، ويرسل اللّه.. فليس مؤمنا باللّه، ولا بآيات اللّه ولا يرسل اللّه، إلا من كان مؤمنا باليوم الآخر.

.تفسير الآيات (22- 30):

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)}.
التفسير:
فى هذه الآيات، التفات إلى هؤلاء المشركين، وكشف لهم عما هم فيه من ضلال، بعد أن تحدّثت إليهم الآيات السابقة عن مواقف الناس من الإيمان باللّه.. فأرتهم في داود وسليمان، صورة من صور الإيمان الوثيق، الذي لم تفسده نعم اللّه، ولم تغير من مكانه في قلوب أهله.. كما أرتهم في أهل سبأ، كفرهم باللّه، ومحادتهم له، بما مكن اللّه لهم في الأرض، وبما وسّع لهم في الرزق.
وهؤلاء المشركون من أهل مكة، هم أشبه الناس حالا بأهل سبأ.
لقد أقامهم اللّه في مكان أمين، وسط هذه الحياة المضطربة من حولهم، كما يقول سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [67: العنكبوت] وكما يقول سبحانه: {وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ} [57: القصص].
إنهم إذ ينظرون إلى أهل سبأ، وإلى ما حلّ بهم، وإلى هذا الخراب الشامل الذي يطلّ عليهم من مساكنهم التي يمرون بها في رحلة الشتاء- ليجدون في هذا الحديث إشارة إليهم، وتعريضا بهم، وتهديدا لهم، أن يحلّ بهم ما حل بإخوان لهم من قبل.
ولهذا جاءت آيات اللّه، تلقاهم، وهم متلبسون بتلك المشاعر، التي دخلت عليهم من هذا الحديث عن سبأ وأهلها.
وفى قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}.
فى هذا استدعاء للمشركين- وهم مشغولون بآلهتهم تلك عن اللّه- أن يستعينوا بمعبوداتهم هذه، وأن يستنجدوا بها، لتدفع عنهم بأس اللّه الذي يوشك أن يحلّ بهم، كما حل بأهل سبأ.
وها هم أولاء، ينظرون إلى معبوداتهم نظرا مجدّدا، إثر هذه الدعوة.
فماذا رأو منهما؟ إنهم لم يجدوا إلا أشباحا هامدة لا يجيء منها شيء أبدا.
من خير أو شر. {لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ}.
هذا ما ينطق به الواقع، وما يتحدث به إليهم لسان الحال عن آلهتهم.
{وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ}.
أي أنه ليس لهذه الآلهة ملك خالص مما في السموات والأرض، ولو كان مثقال ذرة، كما أنه ليس لهم- ولو على سبيل الشركة- ما يعدل مثقال ذرة أيضا! وكما أنهم لا يملكون شيئا مما في السموات والأرض ملكا خالصا، أو مشتركا، فكذلك لا يستعان بهم في القيام على أي أمر، مما يقضى به اللّه في السموات والأرض. {وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}.
والظهير: هو المعين الذي يسند ظهر من يستعين به.. فهم ليسوا شركاء للّه، ولا أعوانا له، وإنما هم عبيد مسخرون لجلاله وقدرته.
فهؤلاء الآلهة معزولون عزلا مطلقا، عن كل شيء في هذا الوجود.
لا ملك لهم فيه، ولو كان مثقال ذرة، ولا تصريف لهم فيما لا يملكون، على أي وجه من الوجوه.
قوله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
وقد يكون الإنسان ولا يملك شيئا، ولا يتصرف في شيء، ثم يكون له مع هذا رجاء مقبول، أو شفاعة مستجابة، عند صاحب الملك. ولكن هؤلاء الآلهة لا يملكون شيئا، ولا يستعان بهم في تصريف شيء، ولا يقبل منهم شفاعة في أحد.. فماذا يرجى منهم؟ وبأى متعلق يتعلّق المشركون به منهم؟
إنه السفه، والضلال، والخسران المبين!!.
ومعنى نفع الشفاعة هنا، قبولها، والإذن لصاحبها بها.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
التفزيع عن القلوب، إزالة الفزع عنها، فهو تفزيع لهذا الفزع، وإجلاؤه من مكانه.. والذين فزع عن قلوبهم الفزع هم- واللّه أعلم- أصحاب الجنة، حيث يدفع اللّه عنهم الفزع الأكبر الذي يغشى الناس يوم القيامة، وهم الذين أذن لهم بالشفاعة من اللّه يوم القيامة، وقد عاد الضمير على الاسم الموصول جمعا، بعد أن عاد عليه مفردا، وذلك لأن الإذن بالشفاعة يكون لكل من يؤذن له على حدة.. ثم يتعدد أفراد المأذون لهم، فيكونون جمعا.. فهم أفراد في أخذ الإذن، وجمع في العدد المأذون له.
والمأذون لهم بالشفاعة، هم الأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم- فقد أكرمهم اللّه بقبول الشفاعة فيمن ارتضى اللّه لهم الشفاعة فيه من أقوامهم، كما يقول سبحانه: {عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [26- 28: الأنبياء].
ومعنى الآية الكريمة: أن شفاعة المكرمين من عباد اللّه فيمن ارتضى شفاعتهم له، لا ينالها المشفوع لهم إلا بعد أن يتلقى هؤلاء الشفعاء الكرامة من ربهم، ويخلع عليهم الأمن في هذا اليوم، ويدفع الفزع عن قلوبهم.. فهو يوم عظيم، تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها.
وهذا هو السر- واللّه أعلم- في الحرف {حتى} الذي يشير إلى غاية بعده، هي الغاية لابتداء قبلها.. أي أن أهل المحشر يظلون موقوفين، حتى يخلص إليهم الرسل، وهنا يسأل كل رسول قومه: {ما ذا قالَ رَبُّكُمْ} فيقولون جميعا: من مؤمنين وكافرين: {قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
ففى هذا اليوم ينكشف وجه الحق، ويرى أهل الضلال أنهم كانوا على غير طريق الهدى، وأن ما كانوا فيه هو الباطل، وأن ما كان يدعوهم إليه رسلهم هو الحق.
هذا، ويمكن أن يكون للآية الكريمة مفهوم آخر.. وهو أن الضمير في قوله تعالى: {حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعود على المشركين، المخاطبين في الآية، في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ}.
أي أن المشركين حين سمعوا هذا القول، وما وصفت به آلهتهم من أنها لا تملك مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض، وليس لهم فيهما شرك، ولا تصريف، كما أنهم لا يملكون لهم شفاعة، كما كانوا يظنون ويقولون فيهم: {هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} حين سمعوا هذا، فزعوا له، وهالهم الأمر، وركبتهم حال من الاضطراب والخوف من أن يصيبهم شيء من آلهتهم وقد استمعوا إلى هذا الحديث فيهم، حتى لقد عجزت ألسنتهم عن أن تنطق بشيء.
ثم ظلوا هكذا- لا ينطقون.. حتى إذا زايلتهم تلك الحالة، وفزع عنهم الفزع، بوارد من واردات الحميّة.. نطقوا، وقالوا للنبىّ، وللمؤمنين، ردّا على هذا القول الذي سمعوه، وإنكارا له، وتجاهلا لما سمعوه: {ماذا قالَ رَبُّكُمْ}.
وكان جواب النبيّ والمؤمنين بلسان الحال، أو المقال، أو هما معا: {قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
فهذا هو قول ربّنا، وهذا هو ربّنا الذي نعبده.
وهذا الفهم هو أقرب عندنا، إلى القلب، وأرضى للنفس. واللّه أعلم.
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} سؤال آخر للمشركين، يوازنون فيه بين العلىّ الكبير، الذي يؤمن به المؤمنون، وبين آلهتهم التي أقاموها حجازا بينهم وبين اللّه، حتى لقد عموا عن النظر إليه، وحتى لقد أبت عليهم ألسنتهم أن ينطقوا به، وأن يضيفوا أنفسهم إليه، فقالوا للنبىّ والمؤمنين:
{ماذا قال ربكم} ولم يقولوا ربّنا.
وفى هذا السؤال: يطالب المشركون بالكشف عمن يرزقهم، مما ينزل من السماء من ماء، وما يخرج من الأرض من نبات؟ أو من يرزقهم من أهل السموات من ملائكة، أو من أهل الأرض من آدميين وأشباههم؟
ولا جواب إلا هذا الجواب: {الله}.
فهو وحده المالك لكل شيء، المتصرف في كل شيء، لا يملك أحد معه مثقال ذرة في السموات أو في الأرض.
وفى النطق عنهم بالجواب، إلزام لهم به طائعين أو مكرهين.. لأنه لا جواب غيره.. قبلوه، أو ردّوه.
وقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} إشارة إلى أن الأمر- أىّ أمر- لا يعدو أن يكون حقّا أو باطلا، هدى أو ضلالا.
وقد قال النبيّ والمؤمنون معه، قولهم في اللّه، وقال المشركون قولهم.
وإذا كان كلّ على طريق، فإن المقطوع به أن يكون أحد الفريقين على طريق الهدى، والآخر على طريق الضلال.. ولا يجتمعان.
وأصل النظم هكذا: نحن أو أنتم على هدى.. ونحن أو أنتم في ضلال مبين.
أي أنه إذا نظر إلينا على طريق الحق لم يكن فيه إلا أحدنا، وإذا نظر إلينا على طريق الباطل، لم يكن فيه إلا أحدنا.. كذلك.
فريقان مختلفان.. مهتدون، وضالون.
وطريقان مختلفان.. هدى، وضلال.
وأهل الهدى على طريق الهدى، وأهل الضلال على طريق الضلال.
أما أين طريق الهدى ومن هم أهله؟ وأين طريق الضلال ومن هم أصحابه؟ فتلك هي القضية، والحكم فيها لا يحتاج إلّا إلى نظرة هنا، ونظرة هناك، وعندئذ يتبين الرشد من الغىّ، والضلال من الهدى! قوله تعالى: {قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
أي أن كلّ إنسان يحمل مسئوليته، وعليه أن يتحرّى الخير لنفسه، ويطلب لها السلامة والنجاة.. فلا يسأل إنسان عن جناية إنسان، ولا يحمل عنه وزره.. بل كل إنسان وما حمل.. {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [18: فاطر].
وفى التعبير عن جانب النبي والمؤمنين بقولهم: {أَجْرَمْنا} وعن جانب المشركين بالعمل: {تعملون} وكان مقتضى النظم أن يجيء أجرمتم أو تجرمون، بدلا من تعملون، أو أن يجيء: عملنا أو نعمل، بدلا من أجرمنا- في هذا التعبير القرآنى محاسنة للمشركين، ورفق بهم، وإطفاء لحمية الجاهلية التي تعمّى عليهم السبيل إلى الهدى، وهذا هو الأسلوب الحكيم في مخاطبة الجاهلين، وهو أسلوب الدعوة الإسلامية والصميم من رسالة رسولها.. كما يقول سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [125: النحل].
قوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}.
وإذ عجز المشركون عن أن يتبينوا من المحقّ ومن المبطل، ومن هم أهل الهدى ومن هم أصحاب الضلال، في هذه الخصومة في اللّه، القائمة بينهم وبين النبيّ وأصحابه- إذ عجزوا عن أن يحكموا في هذه القضية في الدنيا، فإن القضية ستحال إلى الآخرة، وسيفصل فيها أحكم الحاكمين، يوم يجمع اللّه الناس جميعا.. {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا} يوم القيامة {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ} أي يحكم بيننا بالحق.. {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} أي الحكم العدل، الذي يحكم عن علم محيط بكل شيء.
قوله تعالى: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} بعد هذه الدعوة الحكيمة الرفيقة، التي لانت- أو ينبغى أن تلين لها- القلوب من المشركين- كانت المواجهة مرة أخرى بين المشركين ومعبوداتهم، ليعيدوا النظر إليها، بعد هذا البيان المبين من آيات اللّه.
وقوله تعالى: {أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ} أي أين هم هؤلاء الذين تعبدونهم من دون اللّه؟. وماذا ترون فيهم إذا نظرتم إليهم؟ أترون غير خشب مسندة، وأحجار منصوبة؟ أهذه الدمى يصح أن تلحق باللّه، وتضاف إليه، وتحسب شركاء له؟ {كلا} فما يقبل هذا منطق، ولا يستسيغه عقل.
{بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الذي عزّ فحكم، فلا يشاركه أحد في ملكه، ولا يدخل معه أحد في تدبيره.
هذا هو الإله الذي يجب أن يعبد.. أما من لا يستقلّ بسلطان هذا الوجود، ولا بالقيام عليه، فلا يصح أن يكون إلها.. فكيف بمن لا يملك مثقال ذرة؟
وكيف بمن كان دمية، لا تدفع عن نفسها لطمة يد، أو ركلة رجل؟.
لقد رأى بعض الأعراب ربّا من هذه الأرباب، وقد وقعت الطير على رأسه وتركت آثارها فوقه! ثم نظر فرأى الثعالب قد مرت به، وبالت عليه!! فلم يكن من هذا الأعرابى إلا أن ركل هذا الربّ برجله، ثم داسه بقدميه، وبصق عليه، وولاه ظهره، منصرفا عنه وهو يقول:
أربّ يبول الثّعلبان بوجهه ** لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب

الرسول وعموم رسالته:
قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
هذه الآية، هي تزكية من اللّه سبحانه وتعالى لنبيه الكريم، الذي أمره أن يقف من المشركين هذا الموقف، ويكشف لهم عن ضلالهم، ويزيل الغشاوة التي انعقدت على أبصارهم، فلم يتبينوا طريق الهدى.
وفى قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} بيان لهذا المقام العظيم، الذي لرسول اللّه عند ربه، وهو مقام لا يطاول، ومنزلة لا تنال.. قد انفرد بها- صلوات اللّه وسلامه عليه- من بين رسل اللّه وأنبيائه جميعا.
فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- رسول الإنسانية كلها، والشمس التي تملأ آفاقها، وتدخل كل مكان فيها.. ولهذا وصفه اللّه سبحانه وتعالى بالسراج المنير، فقال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً} [45- 46: الأحزاب].
والسّراج المنير، هو الشمس، كما يقول اللّه تعالى: {تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً} [61: الفرقان].. وقد وصف اللّه سبحانه الشمس بأنها سراج وهاج، فقال تعالى: {وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً} [12- 13: النبأ].
وفى وصف الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- بالسراج المنير، دون السراج الوهاج، إشارة إلى أمرين:
أولهما: أنه صلوات اللّه وسلامه عليه، كالشمس في علوّ منزلتها، وفى بسط سلطانها على الأرض كلها، فلا تغرب عنها أبدا، ولا يزايلها ضوؤها أبدا، بل إن هذا الضوء ليغمر نصف الأرض في كل لحظة من لحظات الزمن.
وهذا يعنى أن رسالة محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- ستبسط سلطانها على هذه الأرض، وأنها لن تزايلها أبدا، وأن أية رقعة منها لا تخلو من شعاعة من شعاعاتها.
وثانيهما: أنّ الشمس المحمدية، شمس، وقمر معا.. الشمس في يمينه، وهى كتاب اللّه وآياته، والقمر في شماله، وهو السنة المطهرة، المستمدة من كتاب اللّه، والمستنيرة من أضوائه.
وعموم رسالة محمد صلوات اللّه وسلامه عليه، مقررة في كتاب اللّه، في أكثر من موضع، فيقول سبحانه وتعالى {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} [107: الأنبياء].
ويقول سبحانه: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [158: الأعراف].
فالذين يمارون في عموم الرسالة المحمدية، أو يقفون بها عند مجتمع من المجتمعات، أو أمّة من الأمم، إنما يتأولون آيات اللّه على غير وجهها، ويخرجون بالكلمات الواضحة الصريحة عن مفهومها.
وإذا لم تكن الرسالة المحمدية رسالة الإنسانية كلها، لم يكن ثمّة معنى لأن تكون خاتمة الرسالات، وأن يكون رسولها خاتم الرسل.
إن الرسالة الإسلامية، هي الكلمة الأخيرة.. الكلمة الحاسمة فيما بين السماء والأرض، فليس بعدها كلام.. إنها الخاتمة.
وصاحب الرسالة، هو خاتم النبيين.. ليس بعده نبى، ولا وراءه بشير ولا نذير من ربّ العالمين.
وإذا كان ذلك كذلك، فإن لنا أن نقول: إن محمدا هو منتخب الإنسانية كلها، وهو مجتمع كمالاتها، في أرفع درجاتها، وأعلى منازلها.
ذلك، لأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- جاء إلى الإنسانية حين بلغت رشدها، وحين أراد اللّه سبحانه وتعالى لها أن تستقلّ بوجودها، وأن تستقيم على الطريق الذي يمليه عليها تفكيرها.
إن الإنسانية- وقت البعثة المحمدية- كانت قد جاوزت طور الصبا، وبلغت أشدها ورشدها، وأصبحت بهذا جديرة بأن تستقل بنفسها، وأن تستهدى بما أودع اللّه تعالى فيها من عقل، وبما حملت إليها السماء من وصايا.
كانت رسالات الرسل- عليهم السلام- قبل البعثة المحمدية، رسالات محلية أشبه بالوصاية على الصغار.. يظهر الرسول في جماعة من الجماعات، أو بيت من البيوت، يقيم لهم وجودهم المعوج، ويضيء لهم طريقهم المظلم، ثم لا يلبث أن يخلفه عليهم رسول، يخلفه رسول.. وهكذا.. حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وأراد اللّه سبحانه للناس أن يستقلوا بوجودهم، وأن يفكروا لأنفسهم بأنفسهم، بعد أن بلغوا رشدهم، وأصبحوا في عداد الرجال- جاءت رسالة الإسلام، يحملها رسولها الأمين.. محمد بن عبد اللّه.. رسول اللّه، وخاتم النبيين.
ومن هنا ندرك السر في أن الرسالة الإسلامية، كانت رسالة عقلية تخاطب العقل، وتجيء لإقناعه عن طريق الحجة القائمة على البراهين الاستدلالية، التي يستقيم عليها تفكير الناس جميعا.. عامتهم وخاصتهم على السواء.
إن الرسالة الإسلامية، لم تستند إلى معجزة قاهرة، تطغى على عقول الناس، وتغتال تفكيرهم، وتشل إرادتهم، وتضعهم أمام أمر ملزم لا فكاك لهم منه.
فماذا يفعل العقل إزاء عصا موسى- عليه السلام- وهو يضرب بها البحر، فتنشق من بطنه طريق يبس؟ أو ماذا يقول العقل إزاء هذه العصا حين يضرب بها الحجر- أىّ حجر- فتسيل منه عيون الماء، وتتفجر ينابيعه؟ وماذا يقول العقل في كلمة عيسى عليه السلام، حين ينطق بها، آمرا الأكمه، أن يبرأ، فيبرأ، وداعيا الأبرص، أن يذهب عنه البرص، فيذهب؟ بل ماذا يقول العقل في تلك الكلمة تخرج من فم عيسى فيحيى بها الموتى؟ إنه لا مكان للعقل هنا.
إنه لا مفر له من أن يستسلم ويذعن، إن كان قد بقي معه شيء من الوعى، أو أن يعيش في اضطراب وذهول، ووجوم!! أما الرسالة الإسلامية، فقد استندت في محاجتها العقل، وفى إقناعه- إلى الكلمة وما فيها من عقل ومنطق..! فلم تطلب إلى الناس أكثر من أن يفكروا في أنفسهم وبأنفسهم، وأن يستخدموا عقولهم المعطلة، وأن يوجهوا حواسهم إلى هذا الوجود، وأن ينظروا فيما خلق اللّه في السموات والأرض.
ثم أن يتقبلوا- في غير عناد- ما ينكشف لهم من آيات اللّه، ودلائل قدرته وعظمته.. فإنهم إن فعلوا، فقد أدوا الأمانة التي حملوها، وهى التفكير، واستخدام العقل الذي أودعه اللّه فيهم! وفى هذا يقول اللّه تعالى لنبيّه الكريم:
{قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [46: سبأ].. هذا هو عنوان الرسالة الإسلامية، وهذا هو ملاك أمرها.
استخدام العقل، واحترام معطياته، وذلك بالتفكير الفردى، والجماعىّ معا، تفكيرا حرّا مطلقا من كل قيد، محررا من كل تلقيات سابقة!.
فالعقل في مواجهة الرسالة الإسلامية، محمول على أن يفكّر، وأن يتحرك في جميع مجالاته، غير مقيّد بشيء، أو مشدود إلى شيء.. إن الرسالة الإسلامية لتغرى العقل إغراء على التفكير، بما تنادى به من دعوات عالية، إلى إيقاظ العقل، وبما تقدّم إليه من صور، وما تفتح له من مجالات، تدعو أكثر الناس بلادة وغباء إلى استخدام عقولهم، واستدعاء تفكيرهم: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [17- 20: الغاشية].. {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ} [6- 11: ق] إنها دعوة إلى سياحة روحية، وعقلية، وجسدية، في رحاب هذا الوجود، وفى استجلاء محاسنه، وملء العين والقلب من روائعه ومفاتنه.
وإنه بحسب المرء أن يصحب معه عقله في هذه السياحة، فيهتدى إلى الحقّ، ويلتقى على طريق سواء مع محامل الدعوة الإسلامية، من عقيدة وشريعة.. فإن العقل بطبيعته- إذا خلا من آفات العناد والاستكبار- ينشد الحق، ويهتدى إليه، لأنه شرارة من نور الحق، وقبس من أقباسه!.
ذلك، على حين كان العقل قبل الرسالة الإسلامية بمغزل عن معجزات الرسل، وبمنقطع عنها، لأنها لا تستقيم على منطق العقل، ولا تدخل في مجال التفكير، إنها أمور خارقة للعادة، لا تقع إلا على يد رسول مؤيد من عند اللّه، فيقع بها الإعجاز القاهر، ويقوم بها التسليم القائم على الدّهش والحيرة، والعجز.
وذلك الذي صنعته السماء، في التدرج في الدعوة إلى اللّه، هو الأسلوب الحكيم في التربية.. فالصغير لا يحتمل عقله أحكام المنطق، ولا يخضع تفكيره لمعطيات ما بين الأسباب والمسببات من ارتباط.. وإنه لمن الخطأ وسوء التقدير، بل ومن القسوة عليه، أن يؤخذ بمنطق العقل، ويحمل على أحكامه، على حين أن الذي يصلحه ويصلح له، هو أن يخاطب بلغة الحسّ، وبمنطق المادة.. فإذا نما عقله شيئا، كان من التدبير الحكيم أن يخاطب بأسلوب المنطق العقلي والحسّى معا، وأن يزاوج له بينهما، بنسب تكثر فيها العناصر العقلية شيئا فشيئا، كلما نما عقله، واتسعت مداركه، حتى إذا بلغ مبلغ النضج والرشد، أمكن أن يكون عقله هو موضع الاعتبار في مخاطبته ومحاسبته.
والإنسانية- في تقديرنا- بدأت وجودها كما يبدأ كل كائن حى وجوده.. نبتة صغيرة، ثم شجيرة لا زهر فيها، ثم شجرة مزهرة.. ثم شجرة مزهرة مثمرة! وشواهد التاريخ تؤيد هذا وتشهد له.
والإنسانية في زمن البعثة المحمدية كانت- كما قلنا- في آخر مرحلة من مراحل سيرها نحو النضج العقلي، والكمال الإنسانى.. كانت بمثابة طفل درج في مدارج الحياة حتى بلغ مبلغ الرجال.. وكان عليه بعد هذا أن يستوفى حظه من الحياة، وأن يأخذ مكانه فيها، غير مستند إلى شيء غير ذاته.
ودع عنك ما يقال من أن الإنسانية كانت قد ارتكست وردّت على أعقابها زمن البعثة المحمدية، وأن الشرّ كان قد استشرى بالناس، وأن الظلام قد أطبق عليهم، ولفّهم في قطع كثيفة من الجهل والضلال، وأن معالم الحضارات التي أقامتها الإنسانية في وادي النيل على يد الفراعنة، وفى بابل وآشور على يد الكنعانيين والآشوريين، قد ذهبت معالمها، وضلّت في ظلمات الجهل شواهدها، ومحيت آياتها.. وأن لمعات العقل اليوناني التي سطعت في العالم القديم قد ذهب الزمن بها، وعقمت الحياة عن أن تلد سقراط، وأفلاطون، وأرسطو.. مرة أخرى.
دع عنك كل هذا، فالدنيا بخير، والحياة ولود، لا يصيبها العقم أبدا، وهى سائرة إلى الأمام، لا ترجع إلى الوراء بحال.. إنها سنّة التطور والارتقاء.. سنة اللّه في خلقه، ولن تجد لسنّة اللّه تبديلا.
ولا نريد أن نقف طويلا هنا، ولا أن نضرب الأمثال والشواهد لهذا.
وحسبنا أن نقول إن القرون الطويلة التي عاشتها الإنسانية، والتي تقدر بعشرات الألوف أو مئاتها من السنين- لم تمكّن لها قبل عصرنا هذا من أن تستخدم قوة البخار والكهرباء، ولم تفتح لها الطريق إلى تحطيم الذرّة، وإلى بناء المراكب الكونية، الكوكبية التي تدور في فلك الشمس كما تدور الأقمار حولها.. بل وأكثر من هذا.. فإننا ونحن نكتب هذا الكلام يطلع علينا حدث عجب لم يكن يقع إلا في الأحلام والخيالات، وهو وصول الإنسان إلى القمر، ووضع أقدامه عليه، يمشى فوق أديمه، ويتنقل بين ربوعه..!
إن هذه الفتوحات العظيمة التي حققها العقل الإنسانى في هذا العصر لهى الشهادة التي لا ترد، على أن الحياة الإنسانية تتجه دائما نحو الأمام، وأنها تضيف كل يوم معارف جديدة إلى معارفها السابقة، وأن رصيدها من المعرفة، يزداد مع الأيام، يوما بعد يوم! فإذا قلنا إن عصر النبوة المحمدية، كان هو العصر الذي بلغت فيه الإنسانية رشدها، وتخطت فيه مرحلة الطفولة والصبا، كان لقولنا هذا مستند من واقع عصرنا هذا الذي يعدّ امتدادا لعصر النبوة.. فإن أربعة عشر قرنا منذ البعثة المحمدية إلى يومنا هذا، لا تعدّ في عمر الإنسانية إلا يوما من أيام حياتها، وإلا مرحلة أو بعض مرحلة من مراحل وجودها.
يتحدث الجاحظ في رسالة حجج النبوة عن طبيعة الرسالة المحمدية، وأنها تتجه إلى مجتمع إنسانى يأخذ الأمور بمعيار العقل، وينظر في أعقابها وما تؤول إليه.. فيقول:
وكذلك وعيد محمد بنار الأبد، كوعيد موسى بنى إسرائيل بإلقاء الهلّاس على زرعهم، والهمّ على أفئدتهم، وتسليط الموتان على ماشيتهم وبإخراجهم من ديارهم، وأن يظفر بهم عدوّهم.
فكان تعجيل العذاب الأدنى- أي القريب- في استدعائهم واستحالتهم، وردعهم على ما يريد بهم، وتعديل طباعهم- كتأخير العذاب الشديد على غيرهم.. لأن الشديد المؤخّر- من العذاب- لا يزجر إلا أصحاب النظر في العواقب، وأصحاب العقول التي تذهب في المذاهب.
اه.
ويريد الجاحظ أن يقول: إن دعوة محمد كانت إلى مجتمع عاقل، مدرك، ينظر في عواقب الأمور، كما ينظر العقلاء الراشدون، وليست كذلك دعوة موسى، التي تتعامل مع مجتمع كان في دور الطفولة والصبا، لا يأخذ من الأمور إلا جانبها الواقعي المعجل!!.
وننتهى من هذه الحقيقة إلى حقيقة أخرى، وهى أن النبيّ الذي يجيء إلى الإنسانية في هذا الطور من حياتها، ينبغى أن يكون أكمل الأنبياء، لأنه على قمة الإنسانية في طورها الذي بلغت فيه رشدها، إذ كان النبيّ في كل عصر، في كل أمة، هو ممثل الإنسانية في هذا العصر، وفى تلك الأمة، وهو خلاصة كل طيب وكريم ونبيل فيها.. وفى هذا يقول النبيّ صلوات اللّه وسلامه عليه «بعثت من خير قرون بنى آدم، قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه» وعلى هذا، فإنه إذا كانت دعوات الأنبياء رحمات وبركات على الناس في أجيالهم وأوطانهم- فإن رسالة محمد صلوات اللّه وسلامه عليه رحمة عامة، وبركة شاملة للناس جميعا.. من كل أمة، ومن كل جنس، على مدى الأيام والدهور.
وإنها رسالة لا تخصّ أمة من الأمم، ولا تنتهى عند زمن الأزمان.. فهى ليست للعرب وحدهم، وليست لعصر النبوة وحده، فما العرب إلا لسانها وترجمانها، وما عصر النبوّة إلا مطلعها ومجلى أنوارها.. {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [158:
الأعراف].
إن الرسالة الإسلامية، تدعو الناس جميعا إليها، ورسولها ينادى الناس كلهم، بهذه الكلمة العامة الشاملة، وبهذا النداء المطلق: {يا أَيُّهَا النَّاسُ} {يا بَنِي آدَمَ} {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ} ولم يتجه بدعوته أبدا إلى العرب وحدهم أو قريش وحدها، فلم يقل. يا أيها العرب، أو يا بنى إسماعيل، أو يا أبناء عدنان وقحطان.. كما كان ذلك شأن أنبياء اللّه في رسلهم وأقوامهم، ومن أرسلوا إليهم.. فقد كان كلّ نبىّ يدعو قومه خاصة، ويقصر دعوته عليهم وحدهم.. فيقول {يا قوم} لا يتجاوزها.
{إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [1، 2: نوح] {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ} [84: هود] {وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ} [50: هود] {وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ} [61: هود].
{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [5: الصف]. {وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [6: الصف] وهكذا كان كلّ نبىّ يعمل في محيط قومه، وفى حدود دائرتهم لا يتعداها، إذ كانت تعاليم رسالته وأحكامها، مقيسة عليهم، ودواء لداء متمكن منهم، لا يكاد يصلح لغيرهم.. حتى أن المسيح- عليه السلام- لم يكن ليقيم معجزة من معجزاته إلا في بنى إسرائيل وحدهم.. وحتى إنه أبى- كما تحدث الأناجيل- أن يستجيب لتوسلات المرأة الكنعانية في أن يشفى ابنها المجنون، وردّها قائلا، لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل (إنجيل متى.. الإصحاح الخامس عشر).. وليس ذلك ضنّا منه- عليه السلام- بالإحسان، وإنما لأنه لم يكن يريد بمعجزاته إلا إقامة الحجة على قومه، لا أن يشفى الأوجاع، ويبرئ الأمراض.
هذا عن رسل اللّه، ومحامل رسالاتهم.
أما خاتم النبيين.. محمد صلوات اللّه وسلامه عليه.. وأما رسالة الإسلام خاتم الرسالات السماوية.. فللإنسانية كلها، وللناس جميعا.. أسودهم وأحمرهم على السواء.
كالبحر يهدى للقريب جواهرا ** منه ويرسل للبعيد سحائبا

إنها رحمة عامة شاملة، من ربّ الناس إلى الناس.. واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ}.
والرسول صلوات اللّه وسلامه عليه يقول: «أنا رحمة مهداة»!! قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
أي يقول المشركون، منكرين، ساخرين: {مَتى هذَا الْوَعْدُ} أي متى يوم القيامة التي تعدنا به في قولك: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ}.
متى يكون ذلك؟. أنبئنا به.. إن كنت من الصادقين.
وقوله تعالى: {قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} هذا هو الجواب الذي أمر اللّه النبي أن يلقى به المشركين، ردّا على هذا السؤال الجهول.. إنه يوم عند اللّه، يأتى به متى شاء، لا كما يشاء أصحاب الأهواء، وأرباب الضلالات.. فإذا حانت ساعة هذا اليوم، جاء، دون أن يتقدم ساعة أو يتأخر، ودون أن يتأخروا هم ساعة عن شهوده، أو يستقدموا.