فصل: تفسير الآيات (24- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (24- 28):

{إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ} وليس الرسول.. صلوات اللّه وسلامه عليه.. نذيرا وحسب، وإنما هو نذير وبشير.. نذير للضالين المكذبين، وبشير للمؤمنين المهتدين.
وفى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه قد بعث في كل أمة رسولا، ينذر، ويبشر.. كما يقول سبحانه.
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [165: النساء].
واقتصر هنا في رسالة الرسل، على الإنذار، لأن المقام- كما قلنا- مقام تهديد للمشركين وأهل الضّلال، ولأن أبرز جانب في حياة الرسل، هو الجانب الإنذارى، حيث كانت حياتهم جهادا متصلا لأهل الكفر والضلال.
قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ}.
البينات: المعجزات المادية، البينة الإعجاز.
والزبر: جمع زبور، مثل عمود، وعمد.
والزّبور، الشيء المقطوع من أصل.. والمراد بالزّبر هنا، ما كان ينزل على الأنبياء من آيات اللّه، تحمل عظات وعبرا، وبشريات، ونذرا.
والكتاب المنير: هو التوراة.. كما يقول سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ} [44: المائدة] والآية مواساة للنبىّ، وعزاء كريم له من ربه، فيما يلقى من قومه من تكذيب.. فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليس أول رسول يلقى من قومه ما لقى، من اتهام وتكذيب، وإنما ذلك شأن الرسل قبله مع أقوامهم، جاءوهم بمعجزات مادية محسوسة، وجاءوهم بآيات اللّه وكلماته، وجاءوهم بكتاب منير من عند اللّه، يحمل دستورا متكاملا، للحياة الدنيا والآخرة- جاءوهم بكلّ هذا، فما وجدوا منهم إلا البهت والتكذيب، وإلا التهديد والأذى.
{فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ} [35: الأحقاف] وقوله تعالى: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} تلك عاقبة المكذبين برسل اللّه.. لقد أخذهم اللّه بذنوبهم، وصبّ عليهم البلاء، صبا: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [40: العنكبوت]- وقوله تعالى: {فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} إلفات إلى بأس اللّه، وما أخذ به الظالمين، الذي أتوا المنكرات، فأنكر اللّه عليهم ما أتوه، وليس بعد إنكار اللّه إلا النقمة والبلاء.. فكيف تجد هذا البلاء وتلك النقمة في أصحاب المنكر؟
انظر.. إنه شيء مهول.. نعوذ باللّه منه.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} الجدد: القطع، واحدتها جدّة.. ومنه جدّة البلد المعروف على ساحل البحر الأحمر من الجزيرة العربية، لأنها جدّت أي قطعت من الآكام والهضاب القائمة في هذا الموقع.. ومنه أيضا قول الشاعر.
أبى حبّى سليمى أن يبتدأ ** وأمسى حبها خلقا جديدا

أي أمسى حبها قديما، قد تقطع أديمه.
والغرابيب: جمع غربيب، مثل قنديل وقناديل، وهو الشيء الحالك السواد، ومنه سمى الغراب غرابا.
والآية معرض من معارض الخلق والإبداع، لقدرة اللّه سبحانه وتعالى.
وفيها إلفات إلى هؤلاء السادرين في غيهم، الهائمين في ظلمات جهلهم وضلالهم، أن يقيموا وجوههم على هذا الوجود، وأن يفتحوا أبصارهم على صحفه، وأن يقرءوا ما خط على هذه الصحف من سطور، تحدث عن قدرة الخالق، وإبداعه، وعلمه، وسلطانه.
وفى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها} خطاب للنبىّ ولكلّ من هو أهل لهذا الخطاب، من كل ذى عين، وعقل.
فهذا سطر من صحيفة الوجود، يرى فيه الناظرون ما أبدعت قدرة اللّه، وما أخرجت من هذه الأرض الهامدة ومن ترابها الأسود، من ثمرات مختلفة ألوانها وطعومها.
فمن هذا التراب الأسود، اكتست الأرض العارية الجديب، بحلة قشيبة، من الزهر، والثمر، المختلف الألوان، بين أحمر، وأصفر، وأبيض.. إلى غير ذلك مما لا حصر له من ألوان.
فمن أبدع هذا، وصوره على تلك الصور الرائعة المذهلة؟
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [60: النمل] قوله تعالى: {وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ} سطور أخرى من صفحة الوجود.. يرى فيها الناظرون بألبابهم، قدرة اللّه وإبداعه في هذا الجماد الجامد، وفى الجبال الثابتة الراسخة بالذات- إنها ليست أكوانا متضخمة بلا وزن ولا حساب، بل إن يد القدرة ممسكة بكل ذرة فيها، وإن الناظر ليرى في ألوانها المختلفة من أبيض وأحمر، وأسود وما بين الأبيض والأحمر، والأسود- أن يدا قادرة، مدبرة، قد أقامتها بحساب دقيق وتدبير محكم، حيث أن وراء هذه الألوان صفات أخرى لتلك الجبال، فاللون الأبيض وراءه أحجار جبرية، على حين أن اللون الأحمر يضم أحجارا صلدة جامدة، أما اللون الأسود، ففى كيانه أحجار أشد صلابة، وأكثر احتمالا.
ففى هذه الألوان علم ينفذ منه العقل إلى حقائق، ومعطيات، فيها خير كثير، ورزق موفور.. وفى هذا دعوة إلى الدراسة والبحث والتعمق إلى ما وراء ظوهر الطبيعة.. فهذه الظواهر قشور، تخفى وراءها جواهر كريمة ومعادن نفيسة.. فمن وقف عند هذه القشور، لم يقع ليده إلا التافه المتساقط من لحاء شجرة الطبيعة، وأما من تجاوز هذه القشرة، فإنه خليق بأن يملأ يديه من كل خير، ويطعم من كل ثمر.. فإذا امتد نظر الناظر إلى عالم الإنسان، والدواب، والأنعام، وجد في كل عالم صورا وأشكالا لا حصر لها.
فالعالم الإنسانى مثلا.. كل إنسان عالم بذاته.. في صورته، ولونه، ولسانه، وفى مشاعره، وتفكيره، وتصوراته، وخواطره، بحيث لا يكاد يتفق إنسان وإنسان.. والدواب.. والأنعام كذلك.. كل حى منها، وإن بدا أنه قريب الشبه بغيره، فإن لكل حىّ منها صفات ظاهرة وباطنة، تميزه من غيره.
ولكن من الذي يرى هذا، ويدرك الفروق الظاهرة، أو الخفية بين هذه المخلوقات؟ إنه لا يرى هذا إلا أهل العلم، وأصحاب النظر، الذين ينظرون بعقولهم لا بعيونهم وحدها.. ولهذا جاء قوله تعالى، تعقيبا على هذه الدعوة الداعية إلى النظر في تلك الموجودات:
{إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} فإن هذه الخشية للّه، التي تقع في القلوب، وتستولى على المشاعر، لا تجيء إلا عن علم بما للّه من جلال، وقدرة، وعلم، وحكمة.. وهذا العلم لا يحصّل إلا بالبحث الجادّ، والنظر المتأمل، والعقل الدارس المفكر، في خلق السموات والأرض، وما في السموات والأرض.
فمعرفة اللّه أولا، ثم الخشية له ثانيا.
وإنه لا خشية إلا عن معرفة الذّات التي تخشى، ويخشى سلطانها، ويخاف بأسها.
وإنه لا معرفة إلا عن نظر، وتفكر، وتدبر.
فمن كان أكثر معرفة للّه، وعلما بما له من صفات الكمال والجلال- كان أكثر خشية للّه، وتوقّيا لحرماته.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} أي أنه مع ما للّه من عزة وقوة وسلطان، فإنه سبحانه، غفور، يلقى أهل الإساءة بالمغفرة، إذا سألوا هم مغفرته، وطلبوا عفوه، والتمسوا رضاه.

.تفسير الآيات (29- 37):

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآية السابقة، أشارت إلى العلم، وإلى ما للعلماء من مقام عند اللّه، وما في قلوبهم من خشية له، وذلك بما علموا من دلائل قدرته بالنظر في آياته الكونية، نظرا عاقلا، مدركا، متفحصا. ملأ قلوبهم خشية للّه، ومراقبة له، ومجانبة لحرماته.
وهنا- في هذه الآية- دعوة إلى النظر في آيات اللّه القرآنية، وما يقع للعقل منها من علم باللّه سبحانه، وبما له- سبحانه- من علم، وحكمة، وقدرة.
ففى هذه الآيات القرآنية، معجزات، يرى فيها الذين يتلونها تلاوة مبصرة، وشواهد ناطقة تشهد بما للّه من كمال وجلال، تماما كما يرى الراءون لآيات اللّه المادية المعجزة.
ف قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ} دعوة إلى التلاوة المتدبرة الفاقهة، التي تحصّل علما وحكمة، وهى التي تملأ القلوب إجلالا وخشية للّه.
{وَأَقامُوا الصَّلاةَ}.
الجملة هنا حالية من فاعل يتلون، أي يتلون كتاب اللّه، أي يخشون اللّه، وقد أقاموا الصلاة، في ظل من هذه الخشية، وفى استصحاب لها.
فالآية هنا مثل قوله تعالى: {إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ} [18: فاطر].
{وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} معطوف على {وَأَقامُوا الصَّلاةَ} أي وأنفقوا مما رزقهم اللّه سرّا وجهرا، في ظل من خشية اللّه كذلك، وفى استصحاب لتلك الخشية.
{يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ}.
خبر إن.. أي أن هؤلاء الذين يتلون كتاب اللّه، تلاوة تملأ قلوبهم خشية للّه، ثم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة- وهم على خشية من اللّه- هؤلاء يرجون تجارة رائجة، رابحة لن تبور.
بل إنها تجد من يشتريها منهم، ويضاعف لهم الثمن فيها.. وإنه اللّه سبحانه وتعالى هو الذي يشترى منهم هذه البضاعة، ويضاعف لهم الثمن عليها.
قوله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}.
هو تعليل لنفى البوار عن تجارة هؤلاء العاملين، إنها تجارة يتقبلها اللّه منهم {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} أي ليعطيهم أجر ما عملوا كاملا وافيا غير منقوص، بل وأكثر من هذا، فإن اللّه سيزيدهم، ويضاعف لهم الأجر، فضلا وكرما وإحسانا منه.. {إِنَّهُ غَفُورٌ} يتجاوز عن سيئاتهم، {شكور} يقابل القليل من الإحسان بالجزيل من العطاء.
قوله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}.
هو إلفات إلى هذا الكتاب، الذي دعت الآية السابقة إلى تلاوته.
وأنه هو الحق، المصدق لما بين يديه من الكتب السابقة.
وقوله تعالى: {مِنَ الْكِتابِ} من للتبعيض، وهذا يعنى أن ما كان قد نزل من القرآن الكريم، لم يكن كل القرآن، بل بعضه.. وهذا هو الواقع، فإن السورة مكية.. وهذا يعنى أن القرآن المدني لم يكن قد نزل منه شيء بعد.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}.
أي إنه سبحانه عالم بما يصلح أمر العباد، بصير بهم، فينزّل عليهم من آياته، في كل زمن ما يناسبهم، ويتفق وعقولهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}.
الكتاب هنا، هو القرآن الكريم.
والذين أورثهم اللّه هذا الكتاب هم المؤمنون به، في كل زمن، ومن كل أمة.. فهم الوارثون لهذا الكتاب، المنتفعون بما فيه من خير، انتفاع الوارث بما يرث.. والآية الكريمة تنويه بهذه الأمة الإسلامية، ورفع لقدرها، وحسبها أن تكون المصطفاة من عباد اللّه، لتلقّى هذا الكتاب، وجعله ميراثا دائما، يأخذه الأبناء عن الآباء إلى يوم الدين.
ففى العطف بحرف {ثم} إشارة إلى أن ما أوحى إلى النبي حتى نزول هذه الآية، لم يكن إلا بعضا من الكتاب.. وأن ميراث المسلمين لهذا الكتاب لم يأت بعد، لأن الكتاب لم يتم نزوله، وسيتم ذلك بعد بضع سنوات. ولهذا جاء العطف بثم ليفيد هذا التراخي في الزمن، بين نزول هذه الآية وبين تمام نزول القرآن:
وفى قوله تعالى: {أَوْرَثْنَا} إشارة أخرى إلى أن هذا الكتاب، هو ميراث المسلمين على مرّ الأزمان، وأنه لهم خالصة من دون الناس، إذ كانوا هم الذين ينتفعون به، ويجنون الثمر الطيب منه.. وسمّى القرآن ميراثا، لأنه فضل من فضل اللّه سبحانه وتعالى، لم يحصله المسلمون بكدّهم وسعيهم، وإنما وضعه اللّه بين أيديهم، إحسانا وفضلا.
وفى قوله تعالى: {اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} إشارة ثالثة إلى أن هؤلاء المسلمين الذين ورثوا هذا الكتاب، هم المصطفون من عباد اللّه جميعا، لأنهم هم المؤمنون.
وهذا يعنى أن الذين لا يؤمنون بهذا الكتاب، ليسوا على الإيمان،. بل هم كافرون، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} وهذا يعنى من جبهة رابعة أن المسلمين جميعا هم الفريق المصطفى والمتخير من فريقى الناس.. إذ الناس في الدنيا فريقان:
مؤمن، وكافر، كما يقول اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن].. وهم في الآخرة فريقان كذلك. كما يقول اللّه تعالى {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [7: الشورى]- وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي أن هؤلاء المسلمين، الذين أورثهم اللّه الكتاب، واصطفاهم من بين عباده للإيمان به- هؤلاء ليسوا على درجة واحدة، في إيمانهم باللّه، وفى منزلتهم عنده، بل هم درجات عند اللّه، وإن كانوا جميعا في مقام الاصطفاء.
إنهم في مجموعهم، ثلاث طوائف: طائفة آمنت باللّه، ولكنها لم تعمل بهدى هذا الإيمان، ولم ترتفع بأعمالها إلى مستواه، فظلمت نفسها بالوقوف عند أول درجة من درجات الكمال، وقد فتح أمامها الطريق إليه، وأقيمت لها على جوانبه معالم الهدى.. وإنه لا عذر لها في التوقف عن السير في هذا الطريق الآمن المطمئن، لتجنى ما وعدت به على طريقه من خيرات ومسرات.
وهذه الطائفة هي طائفة العصاة من المؤمنين، أصحاب الكبائر.. وطائفة أخرى.. آمنت به كذلك، ولكنها لم تقف عند أول منزلة من منازل الإيمان، بل خطت خطوات بطيئة متمهلة.. تسير حينا، وتتوقف حينا.
ومع هذا فهى على الطريق سائرة.
وهؤلاء هم المؤمنون، الذي خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.. فأحسنوا وأساءوا، وأطاعوا وعصوا.. وهؤلاء هم وسط بين الذين ظلموا أنفسهم، والذين سبقوا بالخيرات. وهم الطائفة الثالثة من طوائف المؤمنين.. أما الطائفة الثالثة فهى طائفة أولئك الذين ساروا سيرا حثيثا على طريق الإيمان، فلم يقفوا عند إثم، ولم يسكنوا إلى كنف معصية، فسبقوا بالخيرات، وبلغوا الغاية التي يبلغها المؤمنون بإيمانهم.. وهؤلاء هم الأتقياء، والصالحون، والأبرار، وهم الذين أنعم اللّه عليهم، ومنحهم التوفيق، وحفظهم من الزلل على الطريق.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}.
فهذا السبق الذي كان لهم، هو بتوفيق اللّه، وبفضله عليهم، وإلى هذا يشير اللّه سبحانه بقوله: {ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}.
ويجوز أن تكون الإشارة هنا إلى الميراث، أو الاصطفاء في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا}.
فهذا وذاك فضل كبير من اللّه رب العالمين.
ونخلص من هذا إلى تقرير حقيقتين نراهما على ضوء هذه الآية الكريمة:
الحقيقة الأولى، هي أن المسلمين، الذين أورثهم اللّه القرآن الكريم، هم جميعا- المستقيم منهم والمعوج، والمطيع والعاصي- هم الفريق المصطفى المتخير من اللّه من بين عباد اللّه.. فالمسلمون فريق.. والناس جميعا فريق.
الحقيقة الثانية، وهى أن أهل هذه الملة جميعا ناجون، وأن أهل المعصية منهم إذا حبسوا على النار قليلا أو كثيرا، فإنهم من أهل الجنة. وهذا ما بشير إليه الحديث الشريف: «من قال لا إله إلا اللّه مؤمنا بها قلبه دخل الجنة» وفى الحديث أيضا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» وينبنى على هاتين الحقيقتين أمور:
أولها: أن على المسلم أن ينظر إلى نفسه، في هذا المقام الكريم الذي وضعه اللّه سبحانه وتعالى فيه، وجعله من أهل اصطفائه، وهذا يقتضيه أن يحرص الحرص كله على أن يحتفظ بمكانه هذا، وأن يطلب منزلة أعلى، في منازل الإيمان التي لا حدود لها، وألا يسفّ ويتدلّى، فتزلّ قدمه بعد ثبوتها.
وثانيها: أن المسلمين إنما أورثهم اللّه القرآن الكريم، بعد أن تخيرهم له من بين الناس.. فهم أهله، وأولى الناس به.. ولن يكونوا أهله وأولياءه إلا إذا حفظوه، وعملوا بأحكامه، وتأدبوا بآدابه.. إنه ميراثهم من فضل اللّه، فإذا لم يحسنوا القيام عليه، والرعاية له، أفلت من أيديهم هذا الميراث، كما يفلت الميراث من يد الوارث السفيه.. كما يقول سبحانه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} [38: محمد] وثالثها: أن كل مسلم له نصيبه في هذا الميراث، وهو ميراث يسع المسلمين جميعا، فردا فردا، وجماعة جماعة.. وجيلا جيلا.. يسلمه السّلف إلى الخلف.
فهو أمانة في عنق كل إنسان، وهو أمانة في أعناق المسلمين جميعا.. وعلى هذا فإن هذا الميراث لن يضيع أبدا.. إذ لو بقي فرد واحد من المسلمين، لكان هذا الكتاب ميراثا له ولكان أمانة في عنقه، ولكان مطالبا بحمل الأمانة، مطالبا بأدائها.
وقدم الظالم لنفسه، لأن الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي هم الكثرة في المسلمين، ثم جاء بعدهم المقتصدون، وهم أقل منهم عددا، ثم جاء السابقون بالخيرات بإذن ربهم، لأنهم قلة في المسلمين، وصفوة صفوتهم.. وقيل إن هذا الترتيب منظور فيه إلى الأحوال التي تعترى الناس في هذا المقام، وهى ثلاث: معصية، ثم توبة، ثم قربة.. فإذا عصى العبد فهو ظالم، فإذا تاب، فهو مقتصد، فإذا صحت توبته وكثرت مجاهدته، فهو سابق.. وقيل قدم الظالم، لئلا يبئس من رحمة اللّه، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله، فتعيّن توسط المقتصد.
وقوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ} {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدل من قوله تعالى: {الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}.
فالفضل الكبير الذي يتلقاه المؤمنون من ربهم، هو {جنات عدن} أي جنات خلود، لا يخرجون منها أبدا.
وقوله تعالى: {يَدْخُلُونَها} خبر لجنات أي جنات عدن يدخلها المؤمنون.
وقوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ}.
هو حال من الفاعل في قوله تعالى: {يَدْخُلُونَها} وهذه الحلىّ التي يلبسها المؤمنون في جنات عدن، هي من بعض ما كانوا يشتهون في دنياهم، أو مما كانوا يتمتعون به، ويجدون المسرّة منه.. فيكون من تمام النعمة عليهم أن ينالوا كلّ شيء كان مشتهى لهم في دنياهم، وقصرت عنه أيديهم، أو كان متعة من متعهم في هذه الدنيا.
وليس هذا كل نعيم أهل الجنة، بل هو شيء لا يكاد يذكر إلى ما هناك من نعيم لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر.. ولكنه من شهوات النفس في دنياها، فلا نحرم منه إذا هي نزلت منزل الإحسان المطلق، والنعيم الشامل.. تماما كما يجيء إنسان من أقاصى الريف إلى مدينة كالقاهرة.
إن كل ما في نفسه أن ينال شيئا مما كان يراود خياله، ويطرق أمله، كأن يدخل السينما أو يجلس في مطعم فيأكل حتى يشبع، أو يلبس بدلة!! أو نحو هذا.
إن آماله وهو في عيشه الضيق الضنك، لا تتسع لأكثر من هذا.
ولك في هذا مثل تجده في طوارق الأحلام.. إن كل إنسان يقع له في أحلامه، ما يشتهيه في يقظته، وتقصر عنه يده.
وفى عالم الأحلام متسع لكل شيء.. ومع هذا فإن المحروم من الشيء لا يكاد يحلم إلّا به، وإن كان عند غيره تافها لا يلتفت إليه في يقظة أو منام.. وفى المثل: الجوعان يحلم بالرغيف! فمخطئ أولئك الذين يتهمون الإسلام من هذا الجانب، ويحقرون الجنة التي وعد اللّه المتقين بها، ويقولون إنها جنّة حسيّة، تستجيب لشهوات الجسد، أكثر من استجابتها لمطالب الروح.. ثم إنها من جهة أخرى جنّة تافهة، لا تستحق أنه يعمل لها الإنسان في دنياه هذا العمل الشاق الطويل، كى يلبس حريرا، أو يحلّى بذهب أو لؤلؤ، أو يشرب من نهر خمر، أو لبن، أو عسل، أو ينال من لحم طير أو نحوه.. إن ذلك كله موجود في الدنيا، بل هو أقلّ ما يوجد فيها.. هكذا.. يقولون! ويردّ على هذا من وجوه.
فأولا: ليس هذا هو كلّ نعيم الجنة التي وعد به المتقون، وإنما هو- كما قلنا- شيء قليل قليل إلى كثير كثير، لا حصر له، مما لم تره عين في هذه الدنيا، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.
وثانيا: أن هذا الذي يساق إلى أهل الجنة من نعيم الدنيا، ليس فرضا عليهم، وإلزاما لهم، بل هو استجابة لمطلب كان لهم في الدنيا، وعزّ عليهم الحصول عليه.. وأنه لكى تتم سعادتهم، ولكى يدركوا أن ما فاتهم في دنياهم لم يكن إلا شيئا تافها إلى هذا النعيم الذي أعدّه اللّه لهم- كان وضع هذا المتاع الدنيوي بين أيديهم، إزاء ما في الجنة من نعيم.
وثالثا: ليس هذا النعيم جسديّا، بل إن الرّوح لتجد راحتها وسعادتها في حصولها على ما حرمت منه، ولو كان أمرا ماديا في ذاته.. كما يقع ذلك للروح في عالم الأحلام.. إن ما يقع في الأحلام من أمور تستجيب لرغبة الإنسان، هي مما يسعد نفسه، ويرضى مشاعره.
قوله تعالى: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}.
بهذا الحمد الخالص المطلق، يستقبل أهل الجنة هذا النعيم الذي هم فيه.
فهم يحمدون اللّه مع كل نعمة تطلع عليهم من نعيم الجنة التي لا ينقطع نعيمها لحظة.. لقد أذهب اللّه عنهم في هذا المقام الكريم {الحزن} الذي كان قد وقع في نفوسهم لما فاتهم من متاع الدنيا، ولما ابتلوا به فيها من مصائب وفتن.. ولقد غفر اللّه لهم ما كان منهم من ذنب، وما فعلوه من منكر، وستره عنهم، فلم يروه، حتى لا يسوءهم وجهه، وهم في رضوان اللّه، وفى رحاب فضله وإحسانه، وشكر لهم اللّه القليل من صالح أعمالهم فجزاهم عليه هذا الجزاء العظيم.
قوله تعالى: {الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ}.
النّصب: التّعب من العمل والجهد.. واللغوب: الإعياء والفتور.
أي وإنهم ليحمدون اللّه سبحانه، أن أنزلهم هذه الدار الكريمة الطيبة من فضله، والتي لا يتحولون عنها أبدا، والتي لا يمسهم فيها تعب أبدا، ولا ينالهم أدنى عناء أو مشقة.. لأنهم ينالون ما شاءوا من نعيم. وينعمون بما اشتهوا من طيبات، دون أن يبذلوا لذلك جهدا، أو يعملوا له عملا.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} أما أهل الكفر والضلال، فإن لهم دارا غير هذه الدار، وحياة غير تلك الحياة.. إن دارهم هي النّار، وحياتهم فيها عذاب لا ينقضى، ولا ينقطع.. ولا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها، فهم أحياء في عذاب أليم دائم.. وإنها لحياة، يتمنى أصحابها الموت ولا يجدونه، كما يقول اللّه تعالى: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} [12- 13 الأعلى] وهذا ما يشير إليه المتنبي بقوله:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ** وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا

وقوله تعالى: {كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} أي بمثل هذا الجزاء من العذاب الأليم، وتلك الحياة المشئومة النكدة، نجزى كل كفور، أي شديد الكفر، غليظ الضلال.
قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}.
الاصطراخ: التنادى بطلب الغوث من أمر مفظع.. والصارخ هو من يستصرخ غيره، ويدعوه إلى نجدته.. كما يقول الشاعر.
إنا إذا ما أتانا صارخ فزع ** كان الصراخ له قرع الظنابيب

فهذه حال أهل النار.. صراخ، واستصراخ لطلب الغوث والنجدة.
يقولون: {رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}.
ولا يلقون لهذا الاستصراخ إلا الردع والزجر.. {اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} [108: المؤمنون].
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}؟.
هذا ما يجيبهم به لسان الحال. لقد عمروا في الدنيا عمرا طويلا، يتسع لأن يتذكر فيه من تذكر، وأن يتعرف إلى ربه، ويؤمن به، ويعمل صالحا يرضاه له.
وقوله تعالى: {وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ}.
إشارة إلى أنه مع العمر الذي عاشوه في الدنيا، ومع ما معهم من عقول، لو استعملوها لاهتدوا بها، ولعرفوا الطريق إلى اللّه- مع هذا فقد بعث اللّه فيهم رسولا ينذرهم بين يدى هذا العذاب الأليم، فما استمعوا له، ولا التفتوا إليه.
وقوله تعالى: {فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} هو تعقيب على هذا اللوم الزاجر، الذي أجيبوا به على استصراخهم.. فما لهم إلا هذا العذاب، وما لهم هنا من نصير، يستجيب لهم، ويخلصهم مما هم فيه.