فصل: تفسير الآيات (11- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (11- 26):

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ}.
الحديث هنا إلى المشركين.. والحديث إليهم هو لطلب الجواب منهم على هذا السؤال، وهو: أهم أشد خلقا أم من خلق اللّه في السموات والأرض، من ملائكة وإنس وجن وشياطين؟ إنهم قد اتخذوا الشياطين أولياء، ينصرونهم من دون اللّه، كما اتخذوا الملائكة شفعاء لهم عند اللّه.. وهذا يعنى أنهم يضعون أنفسهم في منزلة التابع للسيد، والعبد للرب.
وهؤلاء المخلوقون، من جن وملائكة، هم عبيد للّه، وقد خلقهم، وإنّ من يخرج منهم عن واجب الولاء والعبودية، يلقى عذابا ونكالا في الدنيا والآخرة، كما فعل ذلك بالجن الذين أرادوا التسمّع إلى الملأ الأعلى، فرماهم اللّه بالصواعق المهلكة، وأعد لهم في الآخرة عذابا أليما.
وإذن فهؤلاء المشركون ليسوا أشدّ من الجن بأسا، ولا أقوى قوة، وإنه ليس يعصمهم عاصم من بأس اللّه إن جاءهم.
وفى قوله تعالى {فاستفتهم} بدلا من {فاسألهم} إشارة إلى أن الأمر الذي يسألون فيه ليس امتحانا لهم.. وإنما هو مجرد طلب الرأى فيه، وكأنه أمر لا شأن لهم به، وفى هذا دعوة لهم إلى أن يقولوا الحق فيما يستفتون فيه، وألا يميلوا مع هواهم، إذ لا مصلحة لهم- في ظاهر الأمر- في أن يقولوا غير الحق، في أمر لا شأن لهم فيه..!
وهذا إعجاز من إعجاز القرآن، في الإمساك بمقود الضالين المتكبرين المعاندين، بهذا الأسلوب الحكيم، الذي يستأنس نفار هذه النفوس الوحشية!.
وقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ}.
الطين اللازب، هو اللزج، وهو الزبد الذي يتكون على شواطئ البحار والأنهار.
فهذه هي مادة خلق الإنسان.. حيث تطوّر هذا الطين وتنقل في أطوار كثيرة، ومراحل شتى.. من النبات، إلى الحيوان، إلى الإنسان.. وقد أشرنا إلى هذا في مبحث خاص، من الكتاب الأول في هذا التفسير سورة البقرة أما الجن، فقد خلق من النار.. والنار- في ظاهر الأمر- أفوى من الطين قوة، وأشد أثرا.
قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ}.
الخطاب للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم، الذي استفتاهم- كما أمره اللّه سبحانه- بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً}.
وعجب النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو من أن يستفتى قوما لا يؤمنون باللّه، ولا يستمعون لرسوله.. فكيف يستفتيهم؟ وكيف يتلقّى كلمة الحق منهم، وهم لم يقولوا الحق أبدا؟.
وعجب النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليس إنكارا- وحاشاه- لأمر ربه، وإنما هي مشاعر تقع في نفسه- صلوات اللّه وسلامه عليه- من هذا الموقف الذي يلقى فيه المشركين مستفتيا.. إنه أمر عجيب.. ولكنه أمر اللّه!.
وقوله تعالى: {ويسخرون} هو معطوف على قوله تعالى: {عجبت}.
فقد كان من النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- من هذا الموقف، عجب، وكان من المشركين سخرية!! إن هؤلاء الضالين، وقد دعوا إلى أن يجلسوا مجلس الفتيا، وهم ليسوا أهلا لها، حتى لقد عجب النبيّ من أن يدعى المشركون إلى هذا المقام- هؤلاء الضالون لم يقبلوا هذه الكرامة، وأبوا إلا أن يكونوا في ملعب الصبيان يصخبون، ويسخرون!- وقوله تعالى: {وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} معطوف على قوله تعالى {ويسخرون} أي ومن صفات المشركين وأحوالهم، أنهم إذا جاءهم من يذكرهم بما هم فيه من ضلال، لا يتذكرون، ولا يقبلون نصحا.
وقوله تعالى: {وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} ومن صفاتهم كذلك أنهم إذا رأوا آية من آيات اللّه الكونية، أو سمعوا آية من آياته القرآنية، {يستسخرون} أي يبالغون في السخرية، ويستكثرون منها، ويجتمعون جماعات على مجالسها.
وفى قوله تعالى: {وَإِذا رَأَوْا آيَةً} إشارة إلى تلك الآيات التي عرضتها الآيات السابقة.. مثل قوله تعالى: {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ}.
فهذه كلها آيات كونية، يرى فيها ذوو الأبصار دلائل ناطقة بقدرة اللّه، وبسطة سلطانه.. ولكن المشركين يتخذون منها مادة للهزء والاستسخار!.
قوله تعالى: {وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
الإشارة هنا إلى أمر البعث، وما حدّثوا به من منكر القول في هذا المثل الذي ضربوه بقولهم: {مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}.
فالحديث عن البعث متصل لم ينقطع بين سورتى يس، والصافات.. ويجوز أن تكون الإشارة إلى مقول قولهم في الآية التالية.
وهم هنا ينفون نفيا قاطعا أن يكون هناك بعث، فإن كان فهو من شيء لا واقع له، وإنما هو من حيل السّحر، وألاعيب السّحرة! {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
قوله تعالى: {أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}.
استفهام إنكارى لأن تعود الحياة مرة أخرى إلى الأموات.. إذ كيف ترجع هذه الأجسام التي صارت ترابا، أو تلك التي ما تزال عظاما- كيف ترجع إليها الحياة مرة أخرى؟ كيف هذا، والإنسان إذا فسد عضو من أعضائه وهو حىّ- لا يمكن إصلاحه.. فكيف بهذه الأعضاء- وهى الإنسان كلّه- وقد صارت ترابا، وعظاما؟ أيقوم منها هذا الإنسان إلى الحياة مرة أخرى؟.
وقوله تعالى: {أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ}! أي وهل إذا صحّ- فرضا- أن يبعث الموتى الذين ماتوا من إخوانهم، أو أبنائهم، أو آبائهم الأقربين، أيصح- ولو فرضا- أن يبعث آباؤهم الأولون الذين ماتوا منذ مئات السنين؟ أهذا مما يعقل؟.
قوله تعالى: {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ}.
هو جواب على أسئلتهم تلك المكذبة، المنكرة.
إنه تحدّ لهذا الإنكار، وإهدار له.. ولهذا كان الجواب {نعم} وكأنه جواب عن سؤال يريد به صاحبه أن يعرف الحقيقة، وينشد المعرفة.
وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ داخِرُونَ} جملة حالية من نائب فاعل فعل محذوف، تقديره: نعم، تبعثون.. {وَأَنْتُمْ داخِرُونَ} أي صاغرون، مقهورون، لا تملكون من أمركم شيئا.
قوله تعالى: {فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ}.
الزجرة: الصيحة المفزعة.. وهى صوت البعث الذي يفزع له أهل الكفر والشرك، الذين كانوا ينكرون البعث.
وقوله تعالى: {فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ}.
إذا للمفاجأة، وهى تدل على وقوع الحدث فجأة وعلى غير انتظار وتوقّع له.
وقوله تعالى: {ينظرون} كناية عن يقظتهم، وتنبههم لما حولهم، حين يدعون من قبورهم.
قوله تعالى: {وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
وإنهم إذ يقومون من مرقدهم، وتأخذهم هذه المفاجأة غير المنتظرة- لا يجدون إلا صرخات الوبل، تقطع سكون هذا الصمت الرهيب، الذي اشتمل عليهم.. {يا ويلنا} أي يا هلاكنا وضياعنا!!.
وقوله تعالى: {هذا يَوْمُ الدِّينِ} هو الخبر الذي يطلع عليهم، وهم ينادون بالويل، ولا يدرون أين هم، ولا ماذا يراد بهم؟.. إنه يوم الدين، يوم الحساب والجزاء.. إنه يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون!.
قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ}.
إنه أمر إلى الملائكة، أن يسوقوا هؤلاء المشركين إلى المحشر، وأن يحشروا معهم أزواجهم الذين كانوا على شاكلتهم، وأن يحشروا كذلك معهم ما كانوا يعبدون من دون اللّه.. ثم ليتجهوا بهم جميعا إلى الطريق المؤدى إلى الجحيم.
وفى قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ} إشارة إلى أنهم وقد أبوا أن يقبلوا الهدى إلى الحق، والخير، في الدنيا، فإنهم سيقبلون الهدى في الآخرة، ولكنه الهدى إلى عذاب الجحيم.. حيث يسوقهم الملائكة سوقا إلى هذا المورد الوبيل.
قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ}.
أي احبسوهم هناك على طريق الجحيم، قبل أن تفتح لهم أبواب جهنم، ويلقوا فيها.. إذ لابد قبل ذلك أن يحاسبوا، وأن يسألوا عما أجرموا.. وهو حساب عسير.. لا يقلّ هولا عن عذاب الجحيم.
قوله تعالى: {ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ}.
ومما يسأله هؤلاء الظالمون يومئذ، إذلالا لهم، واستهزاء بهم- هذا السؤال: {ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ} أي ما بالكم هكذا مستسلمين، لا ينصر بعضكم بعضا، ولا يستنصر بعضكم ببعض؟ أين آلهتكم الذين كنتم تعبدون من دون اللّه؟ أين شفاعة الشافعين منهم؟.
قوله تعالى: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}.
ولا يجد الظالمون جوابا.. إنهم جميعا- العابدين والمعبودين- مستسلمون.. صاغرون.. أذلاء.
لا يملكون شيئا.

.تفسير الآيات (27- 39):

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ}.
هو من حديث أهل الضلال والكفر فيما بينهم، وهو حديث ملاحاة وتجريم، واتهام.. إنها حرب كلامية، يرمى بها الظالمون بعضهم بعضا، ويخدش بها بعضهم وجه بعض.
قوله تعالى: {قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ}.
هو بدل من قوله تعالى: {يَتَساءَلُونَ}.
فهذا بعض تساؤلهم.
والقائلون هنا، هم الأتباع، الذين استجابوا لإغواء من أغواهم وأضلّهم من الضالين الغاوين.
وقولهم: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ} إشارة إلى أن قادتهم هؤلاء، كانوا يأتونهم من جهة اليمين، أي من جهة الهدى، فيحولون بينهم وبين سلوك هذا الطريق، ويدفعون بهم إلى طرق الضلال.. ومثل هذا قوله تعالى، على لسان إبليس لعنه اللّه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ} [17: الأعراف] ويجوز أن يكون الإتيان عن اليمين، كناية عن جهة النصح والإرشاد، حيث كانت جهة اليمين جهة اليمن والاستبشار، ولكنه نصح إلى ضلال، وإرشاد إلى هلاك.
قوله تعالى: {قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ}.
هو ردّ المتبوعين على تابعيهم.. وفيه دفع لهذا الاتهام الذي اتهموهم به.
{لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، أي لم نجدكم مؤمنين حتى صرفناكم عن الإيمان.
ثم إننا لم نحملكم حملا على الكفر، ولم نقهركم عليه بسلطان لنا عليكم.
فإنه لا سلطان لأحد على القلوب والضمائر، حيث هي مستقرّ الإيمان، ومستودعه.. بل إنكم كنتم منحرفين بطبيعتكم عن طريق الحق، وأهل بغى، وعدوان، وطغيان.
قوله تعالى: {فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ}.
أي وجب علينا قضاء ربنا فينا أن نكون من أصحاب النار، وأن نذوق عذابها. فهذا حكم اللّه علينا، وإرادته فينا.. وإنه لا مفرّ لنا من هذا المصير.
فإذا كنا أغويناكم، ودفعنا بكم إلى الضلال، فإننا أهل غواية وضلال، وذلك ليحقّ علينا قول ربنا، وتنفذ فينا مشيئته.
وإنهم بهذا ليقولون حقا.. فقد انكشف لهم قضاء اللّه فيهم، وما صار إليه أمرهم.
فالتسليم بالقدر بعد وقوع الأمر.. هو حقّ، وهو إيمان.. وأما تعليق الأمور على القدر قبل أن يقع المقدور، فهو ضلال، ومكر باللّه.
كما يقول المشركون: {لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا} [35: النحل].
إنهم هنا ضالون زائغون.. إن عليهم أن يطلبوا ما يرونه حقا وخيرا، وأن يعملوا له.. فإن كان اللّه قد أراد لهم الخير، التقت إرادتهم مع إرادة اللّه، وتحقق لهم ما أرادوا.. وإن لم يكن اللّه قد أراد بهم خيرا، نفذت إرادة اللّه فيهم، وبطلت إرادتهم.. وهذا موقف غير موقف من يركب الشرّ بإرادته، ثم يقول: لو أراد اللّه بي الخير لفعل.. فهذا حق، وباطل معا!! وقد عرضنا لهذه القضية في مبحث خاص.. من هذا التفسير، وفى كتابنا: القضاء والقدر.
قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}.
أي إن هذه الملاحاة التي تدور بين أهل الضلال، لا تغنى عنهم شيئا.
فهم جميعا مشتركون في هذا العذاب المحيط بهم.. وهذا جزاء كل من أجرم، وكفر باللّه، وضلّ عن سواء السبيل.
قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ}.
أي إن هؤلاء المجرمين الذي نعذبهم هذا العذاب الأليم- إنما نفعل بهم هذا، لأنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان باللّه، وإلى أن يعبدوه وحده، أبوا أن يستجيبوا لهذا الداعي الذين يدعوهم، واستكبروا أن يتلقوا كلمة التوحيد منه.. ويقولون، أنتبع هذا الشاعر المجنون، ونترك آلهتنا؟.
قوله تعالى: {بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} هو إضراب على اتهامهم للنبىّ الكريم بأنه شاعر ومجنون.. إنه ليس بشاعر ولا مجنون، بل جاءهم بالحق من ربّهم وصدّق المرسلين الذين أرسلوا من قبله، إذ دعا إلى توحيد اللّه، كما كان ذلك دعوة كل رسول من رسل اللّه.
وفى وصف الرسول الكريم، بأنه مصدّق للمرسلين، إشارة إلى أنه صلوات اللّه وسلامه عليه- الشاهد الأمين، الذي يشهد لهم على الزمن، بصدق ما جاءوا به، فهو المجدد لدعوتهم، المصحح لما دخل عليها من شبهات وضلالات من أهلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً} [45- 46: الأحزاب].
وكما هو- صلوات اللّه وسلامه عليه- مصدق للرسل، فإن القرآن الذي تلقاه وحيا من ربه، مصدق للتوراة والإنجيل، كما يقول سبحانه: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [48: المائدة].. وهكذا كل رسول، مصدق للرسل الذين سبقوه.. وما معه من كتاب، هو مصدّق لما نزل عليهم من كتب، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [6: الصف].
وإذا كان الرسول الكريم، هو خاتم الرسل، وكتابه جامعة الكتب، فهو بهذا مصدّق لإخوانه الرسل من قبله، وكتابه مصدق لما نزل عليهم من كتب.
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
هو خطاب للمشركين، الذين شهدوا- وهم في هذه الدنيا- مشاهد الآخرة، ثم ووجهوا بما كانوا يقولون في الرسول الكريم: {أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ}.
وهذا الخبر المؤكد، هو وعيد لهم بالعذاب الأليم، الذي سيلقونه يوم القيامة فعلا.. وهذا العذاب الأليم، هو الجزاء العادل، لما كانوا يعملون.
ليس فيه عدوان عليهم، ولا ظلم لهم، وإن كان أليما، بالغ الغاية في الإيلام.