فصل: تفسير الآيات (40- 61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (40- 61):

{إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)}.
التفسير:
بعد أن عرضت الآيات السابقة، موقف الحساب، والمساءلة لأهل الكفر والضلال، وسوقهم إلى الجحيم، وتجرعهم غصص العذاب- جاءت هذه الآيات لتعرض أصحاب الجنة، أهل الإيمان والعمل الصالح، وما يلقون من نعيم ورضوان.
قوله تعالى: {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} هو استثناء من الاسم الموصول في قوله تعالى:
{وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
ويكون الضمير في تجزون للناس جميعا.. أي ما يجزى الناس إلا بما كان لهم من عمل، إلا عباد اللّه المخلصين، فإنهم يجزون أضعاف ما عملوا، فيقبل اللّه منهم حسناتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، فضلا منه وإحسانا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا} [37 سبأ].. أما أصحاب النار، فإنهم يجزون بما عملوا.. كيلا بكيل. ومثقالا بمثقال.
والمخلصون من عباد اللّه، هم الذين أخلصوا دينهم للّه، فلم يشركوا به شيئا، ولم يجعلوا ولاءهم لغيره.
قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ} هو بعض ما يجزى به عباد اللّه المخلصون:
{لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} أي معدّ وحاضر لهم.. {فَواكِهُ}.
هى بعض هذا الرزق.. وخصّت بالذكر، لأنها مما يتفكه به بعد الطعام، إذ هي مما يناله المترفون في حياتهم، بعد أن يأخذوا حاجتهم من الطعام.. {وَهُمْ مُكْرَمُونَ} أي أنهم ينالون هذا الرزق، وهم في موضع الاحتفاء والتكريم.
{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} متعلق بمكرمون.. أي أن منزل إكرامهم والاحتفاء بهم، هو جنات النعيم.. {عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ} حال أخرى من أحوالهم، وهم في هذا المنزل الكريم.. إنهم على سرر، يواجه فيها بعضهم بعضا، ويأنس بعضهم إلى بعض، كما يقول سبحانه: {عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ} [15- 16 الواقعة].
والسّرر: جمع سرير، والسّرير، المقعد المنضّد.
وقوله تعالى: {يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ}.
أي ومما يطرف به أصحاب الجنة، أنّه يطوف عليهم السّقاة بكئوس صافية الأديم، كأنها الماء يتفجر من {معين} أي من عيون.. والطائفون، هم غلمان مخلدون، كما يقول سبحانه: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [16- 17 الواقعة].
وقوله تعالى: {بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} وصفان للكأس، فهى بيضاء صافية، وهى ببياضها وصفائها، تلذّ الناظر إليها، وتملأ عينه بهجة وحبورا.
وقوله تعالى: {لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ} أي ليس في الشراب الذي تحمله هذه الكأس، مما يغتال العقول، ويذهب بصوابها، كما تفعل الخمر برأس شاربها.. {وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ} أي لا يصدّون عنها، ولا يزهدون فيها، لأنها لا تستنزف لذتهم منها، بل تظلّ هكذا لذة دائمة موصولة.. وقد جاء في قوله تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ} [19: الواقعة] جاء بكسر الزاى، بنسبة الفعل إليهم، على حين جاء في الآية السابقة بفتح الزاى {ينزفون} بنسبة الفعل المسلّط عليهم إلى غيرهم.
وذلك ليجمع بين صفتهم، وصفة الخمر التي يشربونها.. فهى من شأنها أن تمسك شاربها عليها، لطيبها وحسنها، ولذتها.. وهم- بما أودع اللّه فيهم من قوّى- يتقبلون هذا النعيم، فلا يزهدون فيه أبدا.
قوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}.
أي وعند أصحاب الجنة، وبين أيديهم، فتيات {قاصِراتُ الطَّرْفِ}.
والطرف، هي العين، وقصر الطرف، كسره، حياء وخفرا.. وهذا كناية عن صغرهن، وأنهن لم يلقين الرجال، ولم يتصلن بهم.. {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} (56: الرحمن) والعين، جمع عيناء، وهى واسعة العينين، في كمال وجمال.. وفى هذا احتراس مما قد يفهم من وصفهن بأنهن قاصرات الطرف، أن هذا القصر عن داء بهذه العيون، وأن خلقتها هكذا مغلقة، أو متكسرة.
وكلّا، فإنها في حقيقها عيناء.. ولكنه الحياء، والخفر، قد أمسكا بها عن أن تمتلئ بالنظر الحادّ، إلى الرجال!.
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} وصف لألوانهن، وأنهن بيضاوات، كأنهن البيض المكنون، أي المحفوظ من الشمس، والغبار.
تحت أجنحة الطير.. فهو باق على بياضه ونقائه.
وفى تشبيه لون بشرة المرأة بالبيض المكنون، إعجاز من إعجاز القرآن في دقة الوصف، وصدقه.. فالبيض المكنون تحت أجنحة الطير، يضم في كيانه حياة يغتذى منها قشر البيض نفسه، كما تغتذى بشرة الجلد في جسد الكائن الحىّ.. ثم إن هذا البيض يحمل في كيانه الحياة في مطلع نموها، واكتمالها.
فهى إذن ليست حياة مولية، وإنما هي حياة مقبلة، كتلك الحياة التي في كيان هؤلاء الفتيات من حور الجنة.. فالقشرة التي تحتوى البيضة، تشير إلى ما في كيانها من حيوية متدفقة.. تماما كتلك البشرة التي تحتوى جسد الشباب المتدفق حياة وقوة!.
قوله تعالى {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ}.
الفاء في {فأقبل} للسببية، أي أنهم وقد جلسوا على سررهم، متقابلين، وطعموا ما اشتهوا من طعام، وشربوا ما طاف عليهم من كئوس الشراب- لم تبق عندهم إلا لذة الحديث، فأقبل بعضهم على بعض، يتساءلون، ويتسامرون.
وكما أقبل أصحاب النار بعضهم على بعض يتساءلون، كذلك أقبل أصحاب الجنة بعضهم على بعض يتساءلون.. ولكن شتان بين تساؤل وتساؤل، وحديث وحديث.. إنه هناك- كما رأينا- كان اختصاما، وكان اتهاما، وكان تراميا بالشناعات واللعنات..!
أما هنا، فهو حديث الأحبّاء الأصفياء.. يتساقون به كئوس المودة والإخاء.
قوله تعالى: {قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ}.
وهذا من بعض ما يتحدث به أهل الجنة بعضهم إلى بعض.. فقال أحدهم: إنى كان لى في الدنيا قرين.. أي صاحب قد جمعتنا الصحبة في قرن واحد.
ويصغى أهل المجلس إلى هذا الحديث، وما كان من شأن هذا الصاحب مع صاحبهم هذا!.
{يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ}.
أي أن هذا الصاحب، كان مما يحدّث به صاحبهم هذا، أن يشككه في أمر البعث، وأن يكشف له عن استحالته بما يضرب له من أمثال، في هذه العظام البالية، وهذا التراب الذي صارت، إليه العظام، وأن لبسها الحياة بعد هذا، أمر لا يصدقه عقل، ولا يقبله عاقل..!! إنه كان يراود صاحبه على أن يترك هذا المعتقد الذي يعتقده في البعث، والحساب والجزاء، ويقول له ما كان يتردد على ألسنة أهل الشرك:
حياة، ثم موت، ثم بعث؟ حديث خرافة يا أمّ عمرو!
فهذا الاستفهام الذي كان يلقى به هذا المشرك إلى صاحبهم هذا- هو استفهام المنكر، الساخر.
وقوله: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} أي أإنا لمحاسبون، والدينونة، هي الحساب.
أي أنحيا بعد أن نصير ترابا وعظاما، ثم نحاسب، وندان، ونعذب في النار كما يقول محمد بهذا؟.
وطبيعى أن صاحبهم هذا لم يستجب لهذا الضلال، ولم ينخدع لصاحبه المشرك.. ولهذا كان معهم في هذا المنزل الكريم.. وطبيعى أيضا أن صاحبه قد أخذ طريقه إلى جهنم.
{قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}.
أي هل أنتم أيها الصحاب الكرام، ناظرون إلى أين استقر المقام بصاحبى هذا؟ إنه هناك في جهنم! ها هو ذا فانظروا إليه، وإلى ما هو فيه!! {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ} وألقى بنظرة إلى حيث النار وأهلها.. فرأى صاحبه في {سَواءِ الْجَحِيمِ} أي وسط الجحيم، يأخذ مكانا متمكنا منها.. فلقد كان داعية من دعاة السوء، ورأسا من رءوس الكفر.
{قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}.
ولا يجد صاحبهم ما يقوله لصاحبه، إلا أن يتبرأ منه في الآخرة، كما تبرأ منه في الدنيا.. إنه ينظر إليه غير راحم، إذ كان- لولا رحمة اللّه به، وإحسانه إليه- لو اتبعه، وأخذ طريقه معه، أن يكون قرينه في هذا البلاء الذي يعانيه، وهذا العذاب الذي يكتوى بناره!.
{أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}.
وإنه، وقد أمسك بهذا النعيم العظيم، الذي يخيل إليه- من عظمته، وطيبه- أنه في حلم يخشى أن يستيقظ منه إنه ليسأل أصحابه هذا السؤال الذي يريد أن يعرف به، هل هو في حقيقة أم في حلم: {أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} أحقا لا نموت بعد هذا ولا نفارق هذا النعيم الذي نحن فيه؟ إنه ليعلم هذا يقينا، ولكن يريد علما يثبّت علمه، ويقينا يؤكد يقينه.
وفى قوله: {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى} هو استثناء داخل في عموم المستفهم عنه، وهو الموت.. أي أفما نموت إلا هذه الموتة الأولى التي بعثنا منها؟ ألا يكون بعد هذا البعث موت.. ثم بعث..؟ ثم إذا كانت هذه الموتة هي آخر موتة، وكان هذا البعث آخر بعث- فهل نظلّ على حالنا هذه من النعيم الذي نحن فيه؟ ألا تتغير بنا الأحوال، كما كان شأننا في الحياة الدنيا؟ ألا يمكن أن تتبدل حالنا، فنعذب كما يعذّب هؤلاء المعذّبون في النار؟
إن هذا كلّه يكشف عن أمرين:
أولهما: ما يجد أصحاب الجنّة من نعيم عظيم، لم يقع في تصوراتهم، ولم يطف بخيالهم.. فهم يحرصون عليه أشدّ الحرص، ويتمنّون الخلود فيه، وقد وعدهم اللّه الخلود في جنات النعيم.. كما يقول سبحانه: {خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا}.
وثانيهما: ما يراه أصحاب الجنة أيضا، من هذا العذاب الذي يلقاه أصحاب النار.
فهم لهذا يفزعون منه، ويخشون أن يكون لهم نصيب منه.. وقد أمّنهم اللّه شرّ هذه الخواطر المزعجة.. فكانت تحيتهم من الملائكة دائمة موصولة، بقولهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ} [73 الزمر].. {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [23- 24: الرعد].
قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
هو الجواب الذي يجيب به هذا المتحدث إلى أصحابه، على ما كان يسألهم هو عنه في قوله: {أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}؟
إنه تجاهل العارف لما يعرف، ليزداد يقينا بما عرف، واستيقانا منه.. ولهذا فهو يسأل، وهو يجيب: {إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
فأى فوز أعظم من الظفر برضا اللّه، والخلود في جنّاته؟
جعلنا اللّه من أهل الفوز برضاه، والخلود في جنات النعيم.
قوله تعالى: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ}.
هو تعقيب على هذا الحديث الذي كان بين أصحاب الجنة، وما تكشف فلمثل هذا المقام يسعى الساعون، ولمثل هذا المنزل يعمل العاملون.
وكل سعى إلى غير هذا المقام، هو سعى باطل، وكل عمل لغير هذا المنزل هو عمل لا يعقب إلا الحسرة والندامة.

.تفسير الآيات (62- 74):

{أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}.
؟
هو خطاب للمشركين، وأهل الكفر والضلال.. والمشار إليه هو هذا النعيم الذي ينعم فيه أصحاب الجنة.. أي أىّ خير: أهذا المنزل الكريم، والنعيم العظيم الذي يلقاه أهل الجنة.. أم شجرة الزّقوم هذه، التي هي طعام أهل الشرك والضلال؟.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [43- 46 الدخان].
قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} أي إنا جعلنا ذكرها والحديث عنها في القرآن، فتنة لأهل الظلم والعناد من هؤلاء المشركين، وكانت- لو عقلوا- مزدجرا لهم، وطلبا للنجاة منها.
ولكنهم اتخذوها مادة للتفكه والسخرية، وقال قائلهم: انظروا إلى ما يحدّث به محمد!! إنه يعدنا بشجرة تنبت في النار، وتطلع وسط اللهب! أرأيتم شجرا تقوم أصوله وفروعه في النار، فيكون منها ريّه، ونماؤه، ويطلع في أحشائها زهره وثمره؟ وهكذا يظلّون في هذا اللغو من القول، غير ملتفتين إلى ماللّه سبحانه وتعالى من قدرة لا يعجزها شيء، وغير واقفين عند ما لفتهم اللّه إليه في قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}! أو ليس الذي جعل من الشجر الأخضر نارا، بقادر على أن يجعل من النار شجرا أخضر؟ أليس هذا من ذاك؟
قوله تعالى: {إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ}.
أصل الجحيم: قراره- والطلع: الزهر الذي ينعقد عليه الثمر.
وفى تشبيه هذا الطلع برءوس الشياطين، إشارة إلى بشاعتها مظهرا، الذي ينمّ عن مخبر هو أشد منه بشاعة.
والشياطين، وإن لم يكن لها صورة حقيقية تعرف بها، إلا أن لها صورة متوهمة في خيالات الناس وتصوراتهم، وهى صورة بشعة مخيفة.. وإذا كانت رأس الشيء هي أظهر ما فيه، وأدل شيء على حسنه أو قبحه، فقد اختير من الشياطين رءوسها التي تتجمع فيها بشاعة الشياطين وقبحها.
قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ} الفاء للتفريع.. أي وينبنى على وجود هذه الشجرة في أصل الجحيم، أن يأكل منها هؤلاء المجرمون، حتى لكأنّ هذه الشجرة ما غرست ونبتت في الجحيم، إلا ليكون منها طعامهم.
وامتلاء بطونهم منها، ليس عن شهوة أو رغبة، وإنما هو عن قهر وقسر.
إمعانا في عذابهم، والتنكيل بهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ}.
الشوب: المختلط بغيره من كل شيء، ومنه الشائبة، وهى ما يعلق بالإنسان من أمور لا تليق به، والحميم: السائل الذي اشتد غليانه.
ومع كل طعام شراب.. وإذا كان طعام هؤلاء الأشقياء هو من ثمر تلك الشجرة الجهنمية، فإن شرابهم كذلك هو مما ينبع من عيون هذا الجحيم.
وفى قوله تعالى: {عَلَيْها} إشارة إلى أن مورد الحميم، هو قائم عند هذه الشجرة.. والمعنى، أن لهم عند وردهم على هذه الشجرة، وأكلهم منها، شوبا من حميم، أي أخلاطا من سوائل تغلى وتفور.
ويجوز أن يكون {على} بمعنى فوق أي أن لهم فوق هذا الطعام الذي طعموه من شجرة الزقوم- لهم فوق هذا، شراب من حميم، وكأن ذلك مبالغة في إكرامهم، على سبيل السخرية والاستهزاء، والمبالغة في النكال والعذاب؟.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ}.
أي ثم يقادون بعد أن يأكلوا ويشربوا، إلى حيث مربطهم، ومنزلهم.
فالشجرة التي يطعم منها الآثمون قائمة في قعر جهنم، فيساق إليها هؤلاء الآثمون، حتى إذا أكلوا من ثمرها، وشربوا من الحميم الذي يجرى تحت أصولها، أعيدوا إلى حيث كانوا.. وهكذا يغدون ويروحون في أودية جهنم! قوله تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ}.
هو تعليل لما فيه هؤلاء الآثمون الخاطئون، من عذاب عظيم، وبلاء مقيم.
إنهم ضلّوا عن سواء السبيل، ولم يستمعوا إلى ما جاءهم من نذر، ولم يقبلوا ما دعوا إليه من هدى.. بل إنهم وجدوا آباءهم على ضلال، فمشوا على آثارهم، واتبعوا خطوهم، وقالوا: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [22: الزخرف].
ويهرعون: أي يسرعون من غير توقف.. إذ لم يكن لهم عقول يرجعون إليها، ويعرضون ما يعرض لهم من أمور عليها.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ}.
هو عزاء كريم للنبى الكريم، ومواساة له في الضالين من قومه. إنهم ليسوا أول الضّالين، ولا آخرهم.. فلقد ضلّ قبلهم أكثر النّاس، وقليل هم المؤمنون {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [103: يوسف].
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
هو تطمين لقلب النبيّ.. وأن اللّه سيدفع عنه كيد هؤلاء الضالين، كما فعل بالمرسلين من قبله، إذ نجاهم والمؤمنين معهم. من كيد الكافرين، الذين أخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر.
وفى قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
تهديد لهؤلاء المشركين، وجمع بينهم وبين من أهلكهم اللّه من المكذّبين برسل اللّه، على مورد الهلاك، وسوق لهم جميعا إلى عذاب الجحيم.
قوله تعالى: {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}.
هو استثناء من {المنذرين} في قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
أي فلقد أهلكناهم، إلا عباد اللّه المخلصين، والذين استجابوا لرسل اللّه، وأخلصوا دينهم للّه.. ووقع الفعل على المنذرين جميعا، إذ كانوا هم الكثرة الغالبة الذين أهلكهم اللّه.
أما المؤمنون، فهم قلة قليلة مستثناة من هذا الطوفان الكبير.
والمخلص: هو من اختاره اللّه للهدى من بين هذا الركام، وصفّاه من شوائب الضلال الضارب بجرانه على القوم.