فصل: تفسير الآيات (114- 132):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (114- 132):

{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ}.
هو استئناف لقصة أخرى من قصص أنبياء اللّه، وما أفاض عليهم اللّه سبحانه وتعالى، من جزيل عطاياه، وسابغ أفضاله.. وقد ذكرت الآيات السابقة قصة نوح وإبراهيم.
وهنا في هذه الآيات تذكر قصة موسى وهرون، ثم قصة إلياس، كما سنرى.
والمنّ: في الأصل تذكير المحسن للمحسن إليه بالإحسان، في شيء من الاستعلاء، الذي يجرح العواطف ويؤذى الشعور. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [17: الحجرات].
ومنّ اللّه سبحانه وتعالى على عباده بتذكيرهم بنعمه وإحسانه إليهم- ليس فيه شيء مما يكون بين الناس والناس من منّ.. بل هو الشرف الذي لا ينال، والعزة التي لا تطاول، أن يكون الإنسان بموضع الإحسان من ربه.
إنه إحسان من مالك الإحسان، وفضل من رب الفضل، وجود من صاحب الجود.. فمن أصابه شيء من عطاء ربه وإحسانه، فهو تاج شرف يزين به جبينه، وثوب فخار وعزة يمشى به في الناس.
فمن يستحى أن يمد يده إلى اللّه سائلا متضرعا؟
ومن يجد في صدره حرجا- من أمير أو صغير- أن يسأل رب الأرباب، وسيد الملوك والأمراء؟
روى أن لبيدا الشاعر، تلقّى من أحد الأمراء عطاء جزلا، وكان قد حرّم على نفسه أن يقول شعرا بعد أن أسلم، فقال لابنته- وكانت شاعرة- أجيبى عنى الأمير، فمدحته بقصيدة ختمتها بقولها:
فعد إنّ الكريم له معاد ** وظنى بابن أروى أن يعودا

فقال لها أبوها أحسنت يا بنية، لولا أنك سألت!! فقالت: إن الملوك لا يستحى من مسألتهم! فقال لها أبوها، وأنت في هذا أشعر!! فالمنّ إنما يستقبح حين يكون بين الأنداد، أو المتقاربين منزلة.
أما حين يكون المنّ من عظيم لصغير، فهو تنويه به، وهو مدح له، وهو ثناء، عليه.
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ} هو تنويه بشأنهما، ورفع لقدرهما عند اللّه، وأنهما أهل لفضله وإحسانه.
قوله تعالى: {وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}.
الكرب العظيم: هو ما كان فيه بنو إسرائيل من محنة قاسية تحت يد فرعون، كما يقول سبحانه: {وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [30- 31: الدخان].
فهذا من منن اللّه سبحانه وتعالى على عبديه، موسى وهرون، وعلى قومهما، إذ نجاهما من هذا البلاء المبين، الذي كانوا فيه تحت يد فرعون.
قوله تعالى: {وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ}.
والنصر والغلب، هو ما كان من نجاة بنى إسرائيل، وغرق فرعون.
إذ كانت هناك معركة قائمة فعلا بين الفريقين.. حيث كان موسى وبنو إسرائيل جادين في الهرب، وكان فرعون من ورائهما بجنوده يريد اللحاق بهم.. ولو لحق بهم لأهلكهم جميعا.
قوله تعالى: {وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ}.
المستبين: أي الواضح البين.. وهو التوراة.
وقد نسب الكتاب إلى موسى وهرون، مع أن الكتاب كتاب موسى، لأن هرون كان يبشر في قومه بهذا الكتاب، وإن لم يكن تلقاه من ربه.!
فهو شريك في الرسالة، وشريك في الكتاب بهذا الاعتبار!.
قوله تعالى: {وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}.
هذه الآيات، تعدد النعم التي أنعم اللّه بها على هذين النبيين الكريمين.
وهذا هو جزاء المحسنين من عباد اللّه.. وقد شرحنا في آيات سابقة المعاني التي ضمت عليها هذه الآيات.
قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}.
اختلفت أقوال المفسرين في إلياس عليه السلام والذي لا شك فيه هو أن إلياس عليه السلام كان معروفا عند العرب، فيما يحدثهم به اليهود عن أنبيائهم.
وإلياس، هو المذكور في التوراة باسم إيليا بن متى.. وهو من أنبياء بنى إسرائيل، الذين سبقوا زكريا ويحيى عليهما السلام.
وقد كان اليهود، لجفاء طبعهم، وبلادة حسهم، وكلب أنانيتهم- ينظرون إلى اللّه نظرا قاصرا محدودا، فيرونه إله إسرائيل، لا إله العالمين، ومن ثمّ جعلوه قائد جيوشهم، وسموه {رب الجنود} ثم تمادوا في هذا التصور الخاطئ لجلال اللّه وعظمته، فتصوروه رجلا شديد البأس، مثل فرعون الذي كانوا يرون فيه أقصى ما يمكن أن يتصوروا من قوة، حتى لقد امتلأت التوراة بالحديث عن اللّه، بأنه {رجل حرب}.
وحتى إنهم ليتحدثون إليه على لسان أنبيائهم كحديثهم مع واحد منهم.
فكانت دعوة إلياس- عليه السلام- إلى اليهود، هي أن يصححوا هذا الفهم القاصر الجهول، للّه، وأن يقيموا وجوههم إليه على أنه ربّ العالمين! فقوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} إنكار عليهم أن يدعوا اللّه بعلا.. والبعل هو الرجل، كما في قوله تعالى: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [72: هود].
وقوله: {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}؟
أي أتدعون اللّه رجلا، وتلبسونه صفات الرجال، وتتركون دعوته بالصفات اللائقة به، وهو أحسن الخالقين، ورب العالمين؟.
قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}.
أي أنّهم إذ لم يأخذوا بنصحه، ولم يقبلوا ما دعاهم إليه من تصحيح معتقدهم في اللّه- {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي فهم لهذا سيساقون إلى الحساب والجزاء بين يدى اللّه يوم القيامة، وسيجزون جزاء المكذبين الضالين.
{إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ويستثنى من هذا الجزاء عباد اللّه الذين أخلصوا دينهم للّه، ولم يلبسوا إيمانهم بالضلالات والأباطيل.
قوله تعالى: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}.
مضى تفسير أمثال هذه الآيات.
والياسين: هو إلياس الذي جاء ذكره في قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}.

.تفسير الآيات (133- 148):

{وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} الظرف {إذ} هو قيد لنجاة لوط وأهله بسبب أنه كان من المرسلين، الذين اختارهم اللّه لحمل اللّه رسالته إلى عباده، فدخل بهذا في الحكم الذي تضمنه قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} [51: غافر].
وقوله تعالى: {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ} إشارة إلى امرأة لوط، التي كانت من الضالين، الذين لم يستجيبوا لدعوته، فأهلكها اللّه فيمن أهلك من قوم لوط، وقد ضربها اللّه سبحانه وتعالى مثلا لنبتة السوء تنبت في الأرض الطيّبة، فقال تعالى فيها وفى امرأة نوح: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [10: التحريم].
والعابرون: هم من عبروا، وهلكوا، وعلتهم غيرة التراب. وقوله تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ}.
إشارة إلى قوم لوط الذين أهلكهم اللّه، بعد أن نجّى لوطا وأهله، إلا امرأته، التي هلكت مع الهالكين قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
الخطابللمشركين من قريش، وأنهم يمرون على أطلال هؤلاء القوم الهالكين، ويرون ما حل بهم من غضب اللّه ونقمته.. يرون ذلك في وضح النهار، ويرونه بالليل، وذلك في طريق تجاراتهم إلى الشام.
وفى قيد المرور بالصباح وبالليل، إشارة إلى أن آثار القوم الهالكين قائمة في مكانها، يراها كل من يمر بها في أي وقت.. إنها في معرض النظر دائما.
وفى هذا تهديد لهؤلاء المشركين، أن يفعل اللّه بهم ما فعل بإخوان لهم من قبل، خالفوا رسولهم، وكذبوه، وتهددوه بالأذى.. فلو أنه كان لهؤلاء المشركين عقول، لكان لهم في مصارع الظالمين عبرة ومزدجر! قوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}.
يونس- عليه السلام- هو نبى من أنبياء اللّه، ورسول من رسله إلى قرية من قرى الشام، اسمها نينوى.
وهو إذ أبق إلى الفلك المشحون، كان من المرسلين، أي لم تنزع عنه صفة الرسالة.
وأبق: أي هرب، وهروبه كان من الرسالة التي حملها إلى قومه، حيث لم يصبر طويلا على أذاهم، فسمى آبقا، أي هاربا، كما يأبق العبد من سيده. وسيد يونس، هو اللّه سبحانه وتعالى.
والفلك المشحون: أي الممتلئ بالناس والأمتعة.
وقوله تعالى: {فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}.
ساهم: أي اقترع، وأخذ سهما.. والمدحضين: المغلوبين، الساقطين، الذين خاب سهمهم.. ومنه حجة داحضة: أي ساقطة، غير مقبولة.. وأرض دحض: أي زلق، لا يثبت من يمشى عليها.
أي أن يونس، حين فر من قومه، وزايل المكان الذي يجب أن يكون فيه، ليؤدى رسالة ربه- ركب مركبا مشحونا، ثم حين سارت السفينة واحتواها البحر، ماجت واضطربت، وكادت تغرق.. وكان من تدبير ركاب السفينة أن يتخففوا من أمتعتهم، فألقوها في اليم، ثم لمّا لم يجد ذلك شيئا، رأوا أن يلقوا ببعض ركابها في الماء، حتى يسلم الباقون من الغرق، ثم إنه لكى يكونوا جميعا على سواء في هذا الأمر، اقترعوا على من يخرج من السفينة منهم، فأصابت القرعة- فيمن أصابت- يونس.
{فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}.
قوله تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}.
أي حين وقعت القرعة على يونس، وألقى به في الماء- التقمه الحوت..!!
وفى تعريف {الحوت} إشارة إلى أنه حوت مرصود لهذه الغاية، وأنه مسوق بقدرة اللّه إلى تلك المهمة، وهى ابتلاع يونس!.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مُلِيمٌ} جملة حالية، أي ابتلعه الحوت، وهو ملوم على ما كان منه من فرار من قومه.
و{مليم} اسم فاعل من الفعل ألام، أي أتى ما يستحق اللوم عليه.
قوله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
أي لولا أن يونس حين التقمه الحوت، ذكر ربه، واستغفر لذنبه، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى على لسانه: {فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لولا هذا، لما خرج من بطن الحوت، ولما عاد إلى الحياة إلى يوم البعث.. ولبثه في بطن الحوت إلى يوم البعث، أي موته في بطنه، ثم قبره فيه.. إلى أن يموت الحوت، فإذا مات الحوت، كان البحر قبرهما معا.
والسؤال هنا هو: ما ذا لو لم يكن يونس من المسبحين؟ أكان يلبث في بطن الحوت إلى يوم البعث؟.
والجواب بلا تردد: نعم، فقد قرن اللّه سبحانه الأسباب بالمسببات، وجعل المسببات رهنا بأسبابها.
وحيث أن اللّه سبحانه وتعالى، قد جعل نجاة يونس قدرا من قدره، وحيث أنه سبحانه، قد جعل نفاذ هذا القدر متعلقا بوقوع التسبيح من يونس- فإنه كان من الحتم المقضىّ، أن يسبّح يونس حين التقمه الحوت، وأن ينجو بسبب هذا التسبيح.
فتسبيح يونس قدر من قدر اللّه.. تماما، كنجاته من بطن الحوت.
وعلى هذا فإنا إذا أعدنا السؤال بصورة أخرى، وهو:
أما وقد نجا يونس من الموت في بطن الحوت.. فهل لو لم يسبح أكان ينجو؟.
والجواب هنا هو: إنّ فرض عدم التسبيح أمر مستحيل، ما دامت النجاة قد تمت، وما دامت النجاة مشروطة بالتسبيح.. وفى الأصول الفقهية: أن ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب!.
وقد سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم: ما أدوية نتداوى بها.. أتردّ من قدر اللّه شيئا؟.
فقال- صلوات اللّه وسلامه عليه-: {هى من قدر اللّه}!
فالقدر ليس حكما مستقلا بذاته، منعزلا عن أحداث الوجود.. بل إن كل قدر هو مقدور لأقدار سابقة، كما أنه- وهو مقدور- هو قدر لأقدار لاحقة.
قوله تعالى: {فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}.
نبذناه. أي طرحناه، ونبذ الشيء: لفظه وطرحه.
والعراء: الخلاء.
واليقطين: اختلف فيه.. أهو الدّباء، أي القرع، أم الطّلح، وهو الموز..؟
وفى قوله تعالى: {فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ} إشارة إلى أن يونس عليه السلام، ما يزال واقعا تحت اللائمة من ربه سبحانه وتعالى، وأنه لم ينل الرضا بعد، وإن كان في الطريق إلى هذه الغاية، بما أخذ به من تربية وتأديب من ربّه!.
فلقد نبذه اللّه سبحانه بالعراء، ولو شاء سبحانه، لكساه سندسا وحريرا.
ولكن هكذا كانت إرادة اللّه فيه، أن يخرجه من الدنيا عاريا، كما خرج من قومه هاربا.. ولقد أظلّه- سبحانه- بشجرة من تلك الأشجار التي تنبسط أوراقها على سطح الأرض، فيضطر المستظل بها إلى أن يضع خذه على الأرض!.
وهذا كلّه أدب سماوى لعبد من عباد اللّه المكرمين.. وهو أدب فيه معاناة ذاتية، وتعمل لها أجهزة الإنسان كلها، من جسمية وعقلية، وروحية.
ولو شاء سبحانه- لما أدخل عبده يونس في هذه التجربة، ولكنه- سبحانه- قضت إرادته- جلّ وعلا- أن يقوم كل كائن بما أودع فيه من قوّى.
ففى ذلك تحقيق لذاته، وإثبات لوجوده.. والإنسان من بين الكائنات كلها، النصيب الأوفى في هذا المجال، فذلك من مقتضى الأمانة التي حملها الإنسان، والتي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها!.
قوله تعالى: {وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}.
وهذا الإرسال، هو بعد تلك التجربة، فهو إرسال متجدد، بعد أن ليس يونس عزما جديدا، ومشاعر جديدة.. وكأنه بهذا يبدأ الرسالة من جديد!.
وقوله تعالى: {إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} هو التحديد الحق، الذي يضبط أعداد تلك الجماعة.. فهى ليست مائة ألف، بل إنها نزيد على مائة ألف، أما هذه الزيادة على مائة الألف، فلا يمكن ضبطها إلا للحظة لا تتجاوز غمضة عين، إذ كانت مواليد هذه الجماعة مستمرة، ونموها مستمرا في كل لحظة، وإن أي قول يضبط به عددها ضبطا كاملا، لا يمكن أن يقع موقع الصدق الذي يمثل الواقع، حيث أنه ما يكاد المحصى الذي يحصى هذه الأعداد- ما يكاد ينطق بما أحصى، حتى تكون الحياة قد ألقت إلى هذه الأعداد بأعداد.. فإذا قال إنها مائة ألف ومائتان وعشرون مثلا، تغير هذا العدد بمجرد تلفظه به، فزاد واحدا أو اثنين.. أو عشرة، أو أكثر.
والذي يلفت النظر أيضا من هذا التعبير القرآنى، هو لفظ {يزيدون}.
فهذا اللفظ لا يتغير أبدا، وحكمه ملازم لهذه الجماعة ما دامت على الحياة، فهى في زيادة، وليست في نقص، إذا أن هذا هو شأن الكائنات الحية.. إنها في زيادة.
حيث أن مواليدها أكثر من أمواتها.
قوله تعالى: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
وفى العطف بالفاء، دليل على سرعة استجابة القوم لرسولهم.. وهذا ما يكشف عن أنهم كانوا على استعداد للإيمان، وإن توقفوا شيئا ما، عند دعوة يونس لهم أول الأمر.. ولو أنه صبر قليلا على خلافهم له، لآمنوا.
وهذا التلبث والانتظار في عدم قبول الدعوة، هو حق لهم، إذ أن من حق الإنسان أن يلقى الأمور بعقله، وأن يأخذ الوقت الكافي للنظر والبحث، حتى يعرف ما هو مدعو إليه، وهل هو حق أو باطل؟.
وفى هذه القصة، إشارة إلى أن الإنسان- من حيث هو إنسان-
ليس شرّا خالصا، وأنه يشتمل على قدر كبير من الخير، وأنه كما في الناس الأشرار الذين يغلب شرّهم خيرهم، ويغتال ما فيهم من فطرة، فإن في الناس من يغلب خيرهم شرّهم، وأنهم مستعدون لتلقّى الخير.. وفى هذا إشارة أيضا إلى أنه ليس كلّ النّاس على شاكلة هؤلاء المشركين من قريش، الذين جمدت عقولهم على هذا الضلال الذي أمسك بها.. ثم إن في هذا إشارة ثالثة إلى أنه ليس للرسول أن تقوم له الحجة على قومه، إلا بعد أن يبلغ رسالته إليهم كاملة، وأن يحتمل في سبيلها كلّ جهد، وأن يبذل لها كل قدرة ممكنة لديه، وإلا كان في موضع اللوم والعتب، كما أن المرسل إليهم يكونون تحت طائلة اللوم والعقاب، لو أنهم دعوا وأبوا أن يستجيبوا.. وهكذا يسوّى حساب الناس عند اللّه. كلّ يأخذ حقّه كاملا، يستوى في هذا الحساب، الرسل ومن أرسلوا إليهم.. إنهم جميعا عباد اللّه.. وإنه لا محاباة ولا مجاملة.
ولا شك أن هذه اللّفتة السماوية إلى الإنسان- من حيث هو إنسان- جديرة بأن تفتح عيونا أعماها الضّلال، إلى ما للّه سبحانه على الإنسان من فضل وإحسان، وأنه لن تخفّ موازينه عند اللّه- حتى مع أنبيائه وسفرائه إلى خلقه- إلا إذا استخفّ الإنسان بميزانه، واستهان بوجوده، وقبل أن ينزل راضيا، عن هذا المقام الكريم الذي أحلّه اللّه فيه، فزهد في عقله، وأبى أن يوجهه ليرتاد له مواقع الخير.
فهل وقف المشركون من قريش، وغير قريش، عند هذا؟ وهل أخذوا بحقّهم الإنسانى في هذا الوجود؟ وهل هم مستعدّون لأن يثبتوا أنهم أهل لهذا المقام الكريم، الذي سوّى اللّه سبحانه وتعالى فيه بين عباد اللّه، وبين رسل اللّه، في موقف الحساب والمساءلة؟ ذلك ما يكشف عنه الزمن منهم، وذلك ما ينجلى عنه الموقف بينهم وبين هذا الرسول الكريم الذي لا يزال معهم.