فصل: تفسير الآية رقم (18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (18):

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}.
التفسير:
الذين يؤمنون باللّه، يجدون في كل لمحة من لمحات الوجود آيات تشهد بوحدانيته المطلقة، وتفرده بالوجود المطلق، فإن لم يكن لهم نظر يؤدّيهم إلى التحقق من هذه الحقيقة، فقد حملتها إليهم ثلاث شهادات قاطعة:
أولا: شهادة اللّه، فقد شهد الحق لنفسه: أنه لا إله إلا هو.. وهى عند المؤمنين شهادة صدق مطلق، لا تعلق بها شائبة أو تشوبها شبهة.
ثانيا: شهادة الملائكة، وهم خلق جبله اللّه على الحق والصدق المطلقين.
وقد يقول جهول: كيف يشهد اللّه لنفسه وكيف السبيل إلى سماع هذه الشهادة والتحقق منها؟
أما شهادة اللّه لنفسه، فقد نطق بها هذا الوجود الذي هو صنعة يديه، والذي يشهد كل موجود فيه، بقدرته، وعلمه، وحكمته ووحدانيته، وإن لم تشهد بها الموجودات لسانا، فقد شهدت بها عيانا واعتبارا، لمن نظر واعتبر.
أمّا من لم يكن له نظر واعتبار، فليأخذ بشهادة أهل النظر والاعتبار.. ليأخذ بشهادة الملائكة، وهم بعض هذا الخلق الذي خلق اللّه، وهم الذين لا يفترون عن عبادته، ولا ينقطعون عن ذكره.. فإن لم يجد لشهادة الملائكة أذنا تسمع، فليستمع إلى شهادة بشر مثله، خلقوا من طينته، ونطقوا بلسانه، وهم:
ثالثا: أولو العلم، الذين نظروا في هذا الوجود، فعرفوا اللّه، وعاينوا آثار قدرته، وعلمه، وحكمته، ووحدانيته. وهذه شهادة لا يردّها عاقل، مهما كان حظه من العقل.. فإن الأعمى الذي لا يسلم يده للمبصر الذي يقيمه على الطريق، هو لا محالة ملق بنفسه إلى التهلكة.. والمقعد الذي لا يستسلم لمن يحمله، لا يزال هكذا ملتصقا بالأرض إلى أن يهلك، غير مأسوف عليه.
أما شهادة اللّه وشهادة الملائكة، فقد أخذ بهما أولو العلم فكانت مع شهادتهم نورا إلى نور ويقينا إلى يقين.. {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً} [166: النساء].
وقوله تعالى: {قائِماً بِالْقِسْطِ} صفة للإله المتفرد بألوهيته، كما شهد بذلك اللّه سبحانه، والملائكة، وأولو العلم.. والمعنى شهد اللّه والملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط، أي إلها قائما على الوجود بالعدل المطلق، فيما خلق وفيما نوّع وفرق من مخلوقات، وفيما قدر لكل مخلوق من صورة، ورزق، وأجل.. إذ ليس في الإمكان أبدع مما كان.
وقوله: {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قد يكون توكيدا لما شهد اللّه به والملائكة وأولو العلم، أو يكون إقرارا بلسان الوجود كله بعد أن سمع تلك الشهادة فصدّقها، معترفا بوحدانية اللّه، مقرا بقيامه على ملكه بالعدل، مذعنا لعزته، راضيا بحكمه، فهو {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

.تفسير الآية رقم (19):

{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)}.
التفسير:
بعد أن بين اللّه صفته التي ينبغى أن يؤمن عليها المؤمنون، وهو أنه لا إله إلا هو المتفرد بالألوهية، القائم على ملكه بالعدل، فإلى جانب سلطانه المطلق، عدله المطلق، وهو العزيز الذي تقوم إلى جانب عزته، حكمته، فلا يخاف أحد بغيا أو عدوانا من جهة العزيز الحكيم!- بعد أن بيّن اللّه صفته على هذا الوجه، بيّن دينه الذي يدين عباده به، ويتعبدهم بشريعته، ذلكم الدين هو الإسلام الذي حمله رسل اللّه، إلى عباد اللّه، من آدم إلى محمد، عليهم جميعا الصلاة والسلام.
يقول اللّه سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: {إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} [163: النساء].
فالذى أوحاه اللّه إلى رسله، هو دينه الذي ارتضاه لعباده، وهو الإسلام.
وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [13: الشورى] وفى قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} إشارة إلى ما وقع بين أصحاب الكتب السماوية من خلاف، وأنه خلاف لم يقم على عقل، ولم يستند إلى منطق، لأن الكتب التي يختلفون فيها تجيء من مصدر واحد، وتتجه نحو غاية واحدة، فيلتقى بعضها ببعض، ويصدّق بعضها بعضا، فكيف يقع بينها خلاف أو يدور عليها اختلاف؟ وكيف يؤمن الإنسان ببعض الشيء ثم يكفر ببعضه الآخر؟ إن ذلك لم يكن إلا عن بغى وعدوان بين أصحاب هذه الكتب.. فاختلاف من اختلف من أهل الكتاب، وزيغ من زاغ منهم، إنما هو عن علم، وذلك هو البغي على الحق، والعدوان على العقل! وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} تهديد لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ونذير لهم إذا اختلفوا، وكفّر بعضهم بعضا، ثم هو تحذير لهم من أن يكون شأنهم مع الكتاب الذي نزل على محمد كشأنهم فيما كان منهم مع الكتب التي نزلت على الأنبياء من قبله، وخاصة النبيين الكريمين، موسى وعيسى عليهما السّلام.. إن يفعلوا {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ}.
لهم في الدنيا خزى ولهم في الآخرة عذاب عظيم.

.تفسير الآية رقم (20):

{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)}.
التفسير:
ذلك هو الموقف الذي يتخذه النبي من أهل الكتاب، ألا يدخل معهم في جدل ومحاجّة.. وإنما يلقى لجاجهم ومحاجتهم بما أمره اللّه به، إذ يكون قوله لهم: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أي إنى أسلمت وجهى للّه حنيفا، لا أشرك به أحدا.. هذا هو دينى، ودين من اتبعنى من المؤمنين.
وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} هو ما يعقّب به النبيّ في ردّه على المجادلين من أهل الكتاب ومن مشركى مكة، وهم الأميون.. فبعد أن يلقى جدلهم بقوله: أسلمت وجهى للّه.. يعقبّ على ذلك بدعوتهم إلى أن يسلموا وجوههم إلى اللّه كما أسلم هو وجهه إلى اللّه، فلا يدعون مع اللّه أحدا، وذلك هو الدّين الخالص.. دين اللّه.. دين الإسلام.
{فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ}.
أي إن لم يستجيبوا لك ويؤمنوا كما آمنت، فسيظل أمرهم هكذا في شقاق واختلاف، وليس عليك من أمرهم من شيء، إنما عليك البلاغ {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ}.
يهدى من يشاء ويضلّ من يشاء.. {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [39: الأنعام].

.تفسير الآيات (21- 22):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)}.
التفسير:
هاتان الآيتان لتقرير أمر واقع.. ففيهما كشف عن جرائم أهل الكتاب من اليهود، الذين كفروا بآيات اللّه، وقتلوا أنبياءه، وأشياع أنبيائه، ولهذا أحصت الآيتان الكريمتان، تلك الجرائم الغليظة التي ارتكبوها، وهى الكفر بآيات اللّه التي حملها إليهم رسل اللّه، وهى آيات لا يكذّب بها إلا كل معتد أثيم.. كفلق البحر بالعصا، وتفجير الماء من الصخر بها، على يد موسى عليه السّلام.. فكفروا بتلك الآيات وعبدوا العجل من دون اللّه، وكذلك فعلوا مع الآيات التي أجراها اللّه سبحانه على يد عيسى- عليه السّلام- من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.. فكفروا بتلك الآيات، ورموا عيسى بالبهت والشعوذة، حتى دفعهم ذلك إلى السعى في قتله، وتقديمه للمحاكمة والصلب، ولكن اللّه أبطل كيدهم، وأفسد تدبيرهم، وهم يحسبون أنهم صلبوه: {وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [157: النساء].
فهؤلاء هم الذين كفروا بآيات اللّه، وقتلوا أنبياءه، ومنهم زكريا عليه السلام، وقتلوا كثيرا من صلحائهم ودعاة الخير فيهم.. وقد توعدهم اللّه سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم.
على أن واحدة من هذه الجرائم المنكرة تكفى في تجريم صاحبها، وفى سوقه إلى العذاب الأليم، فالكفر وحده، يحبط كل عمل: {وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ} [104: البقرة].
والقتل العمد وحده، يوجب الخلود في النار: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً} [93: النساء] فكيف بقتل أنبياء اللّه ورسله؟.
ولكن ما ذكر من هذه الجرائم هو تسجيل للواقع الذي حدث- كما ذكرنا من قبل- وهو تشنيع على أولئك اليهود الذين وقفوا من الدعوة الإسلامية موقف المحادّة والخلاف، كما وقف أسلافهم من قبل، مع أنبياء اللّه فيهم، ورسله إليهم. فما أشبه الأبناء بالآباء، والخلف بالسّلف، في المكر بآيات اللّه والزيغ عن الهدى، والإعنات للأنبياء.. وقد سجل القرآن الكريم عليهم هذا الموقف الذي يصل حاضرهم بماضيهم، على طريق الكفر والضلال، فقال تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [91: البقرة].
فهل يلتقى الإيمان وقتل المؤمنين؟ بل وقتل حملة الإيمان ودعاته، من الأنبياء والرسل؟
وفى قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} هو تقرير لما حدث، وإعلان لما تكشف من تلك الحرائم الشنعاء، التي أريقت فيها دماء الأنبياء، إذ قد ثبت لهؤلاء اليهود أنفسهم أن آباءهم الذين ارتكبوا هذا الإثم العظيم إنما قتلوا أنبياء حقيقيين، لم يكونوا من الأنبياء الكذبة كما ادّعوا عليهم، وهذا ما كان في قتل يحيى عليه السّلام، قتله اليهود بأيديهم، وآمن به اليهود وبعد ذلك، نبيا صادقا، ورسولا كريما في كتابهم المقدس التوراة. فشهدوا بذلك على أنفسهم وبلسان أبنائهم أنهم قتلوا هذا النبيّ الكريم ظلما وعدوانا.
بغير حق.
فقوله تعالى: {بِغَيْرِ حَقٍّ} هو من اعتراف القتلة أنفسهم، بما شهد به عليهم بعضهم، وهم أبناؤهم من بعدهم.
وقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} هو غاية في التيئيس من كل أمل في نفحة من خير، أو عافية، من هذا البلاء المطبق عليهم.. إذ كان ما تحمله البشرى إليهم هو العذاب الأليم، فكيف بما يساق إليهم بين يدى النّذر والفواجع؟ ذلك شيء لا يمكن تصوره من الأهوال والشدائد، التي أخفها وأهونها، هو العذاب الأليم!!

.تفسير الآية رقم (23):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}.
التفسير:
الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، هم اليهود، وعلماء اليهود خاصة، والنصيب من الكتاب هو جزء وبعض منه، وذلك أن الكتاب الذي في أيديهم، وهو التوراة، ليس هو كل كتاب اللّه، إذ حرّفوا فيه، وبدّلوا وحذفوا، وأضافوا، فما بقي من كتاب اللّه في أيديهم هو بعض من كلّ.
وفى قوله تعالى: {يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} تنويه بشأن القران الكريم، وأنه كتاب اللّه، الذي يستحق أن يضاف إلى اسمه الكريم، حيث ظل- وسيظل أبدا- محتفظا بالصورة التي نزل عليها دون أن يمسه تبديل أو تحريف.. مصداقا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.
وهؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، وحظا من العلم، حين يدعون إلى القرآن الكريم ليقضى بينهم فيما اختلفوا فيه، وليريهم الوجه الصحيح من الكتاب الذي بين أيديهم،- يأبون أن يسمعوا، {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [127: التوبة].
وفى قوله تعالى: {يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} تصوير لحالهم التي استقبلوا بها دعوة داعيهم إلى كتاب اللّه، وأنهم على خلاف مبيّت على الإعراض عن القرآن، والاستماع إليه، والنزول على حكمه، فإذا سمعوا هذه الدعوة الكريمة الموجهة إليهم أعطوها ظهورهم، منصرفين عنها، حاملين معهم عقدة الإعراض والخلاف التي انعقدت عليها قلوبهم.

.تفسير الآية رقم (24):

{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)}.
التفسير:
هذا التمادي في الضلال، والإعراض عن آيات اللّه، وعدم التوقف للتثبت من الحق، هو مما دخل على القوم من غرور، بسبب ما بدلوا وغيروا في دين اللّه، حتى أخذوا عن هذا الدين المحرّف أنهم شعب مختار، لهم عند اللّه فضل ومنزلة، وأن من يدخل النار من عصاتهم لن تمسّه النار إلا أياما معدودة، على حين يخلد غيره في النار ممن ليس منهم! وبهذا اجترءوا على اللّه، واستباحوا حرماته، لأنهم كما صوّر لهم دينهم الذي لعبوا فيه بأهوائهم- لا ينالهم اللّه بعذابه! وأن العصاة الغارقين منهم في العصيان لن يمسّهم عذاب اللّه إلا مسّا رفيقا.
وكذبوا وافتروا.. وقد فضحهم اللّه تعالى في قوله: {وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [80- 81: البقرة] وفى قوله تعالى في هذه الآية: {أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ} وفى آية البقرة {أَيَّاماً مَعْدُودَةً} هو حكاية لأقوالهم التي تختلف في أسلوبها، وإن لم تختلف في مضمونها، فكل واحد منهم له أسلوبه في التعبير عن هذا المعنى الذي تتوارد عليه ضلالاتهم.. ففريق يقول {أَيَّاماً مَعْدُودَةً}، وفريق آخر يقول {أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ} وذلك بلسانهم العبرىّ، وتلك ترجمته الصادقة الأمينة.

.تفسير الآية رقم (25):

{فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)}.
التفسير:
تنتقل هذه الآية بهؤلاء المفتونين في دين اللّه، والمتألّين على اللّه ألا تمسّهم النار إلا أياما معدودات- تنتقل بهم في لمحة خاطفة إلى الدار الآخرة، حيث الحساب والجزاء، وحيث توفّى كل نفس ما كسبت من خير أو شر.
وفى هذا المشهد يرون سوء المصير الذي ينتظرهم، وأنهم قد مكروا بآيات اللّه، وخانوا أنفسهم، ووجدوا أعمالهم السيئة بين أيديهم، توزن بميزان العدل المطلق، حيث لا محاباة لأحد.. عندئذ يبدو لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون، وعندئذ يمضغون الندم، ويبتلعون الحسرة، ثم يساقون إلى عذاب جهنم، وبئس المصير!.