فصل: تفسير الآيات (41- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (41- 44):

{وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ}.
هو دعوة أخرى إلى النبي الكريم من اللّه سبحانه وتعالى، أن يذكر هذا الذي بذكره له ربّه من أمر عبد من عباده الصالحين، ونبى من أنبيائه المقربين، هو أيوب عليه السلام.
والذي يدعى النبي- عليه الصلاة والسلام- إلى تذكره، والوقوف على موضع العبرة والعظة منه، من أمر أيوب- عليه السلام- هو ضراعته لربه، ولجوؤه إليه، فيما مسه من ضرّ.
وأيوب- عليه السلام- إنما يقف على حدود هذا الأدب النبوي الرفيع، حين يرفع إلى اللّه- سبحانه- شكواه مما به، ولا يسأل العافية، وكشف الضر.
فذلك إلى اللّه سبحانه وتعالى، حسب مشيئته وإرادته في عبده.. فقد يكون هذا البلاء خيرا له من العافية.. وإنه كبشر، يشكو إلى ربه ما يجد من آلام، ويفوض الأمر إليه سبحانه فيما يريد به.. ولو أنه استطاع ألا يشكو لفعل، فاللّه سبحانه وتعالى أعلم بحاله، ولكنها، أنّات موجوع، وزفرات محموم! {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ}.
والنّصب، كالنّصب، وهو الرهق والتعب، والعذاب: الألم الناجم عن هذا التعب.
وفى إسناد المسّ إلى الشيطان، إشارة إلى أن هذا الذي نزل بأيوب، هو من الأسباب المباشرة، التي تجيء من النفس الأمارة بالسوء، ومثل هذا ما كان من موسى عليه السلام، حين قتل المصري فقال: {هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ}.
قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ}.
وهذا جواب الحق سبحانه وتعالى على ما سأله أيوب، ولم يفصل بين السؤال والجواب فاصل، للإشارة إلى أن الإجابة كانت متصلة بالسؤال والطلب، من غير تراخ.. فما هو إلا أن سأل، حتى وجد ما طلب حاضرا.
وهذا يشير إلى أن أيوب صبر زمنا طويلا لا يشكو، فلما شكا، أزال اللّه سبحانه شكاته.
والركض: الجري، والمراد به الضرب بالرجل على الأرض بقوّة، حيث أن الرّجل تخدّ الأرض وتضربها أثناء الجري.
وقد ضرب أيوب برجله الأرض، كما أمره ربّه، فتفجر نبع من الماء! وماذا يعمل أيوب بهذا الماء؟ هكذا وقف عليه متسائلا.. فكشف له ربّه عمّا وراء هذا الماء، فقال له: {هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ}.
إنه ماء عذب، بارد سائغ للشاربين.. فاغتسل به، واشرب منه.
قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ}.
أي وهبنا له أهله، الذين كانوا قد نفروا منه، وتخلّوا عنه أثناء محنته، فلما لبس ثوب العافية، وخرج من ضباب المحة، عاد إليه أهله، وعاد إليه الغرباء، فكانوا له مثل أهله، تقرّبا إليه، وتودّدا له، إذ أفاض اللّه سبحانه وتعالى عليه من الخير، ما جعل العيون تتطلع إليه، والآمال تتجه نحوه.
وهكذا الناس.
والناس من يلق خيرا قائلون له ** ما يشتهى ولأمّ المخطئ الهبل

وفى التعبير بالهبة عن عودة أهله وغير أهله إليه في قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} في هذا التعبير إشارة إلى أن هذا التحول في حال {أيوب} من تلك العزلة الموحشة بينه وبين أهله وغير أهله، إلى إقبال القريب والبعيد عليه، وتوددهم له- إنما كان هبة من هبات اللّه له، ورحمة من رحماته، على هذا العبد الذي ابتلى هذا الابتلاء العظيم، فصبر راضيا بأمر اللّه سبحانه وتعالى فيه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [10: الزمر].. وفى ذلك ذكرى وموعظة لأولى الألباب، الذين يأخذون العبر من الأحداث التي تمر بهم، أو بالناس من حولهم.
قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}.
الضّغث: الخليط من كل شيء.. والمراد به هنا، مجموعة من العيدان الدقيقة، من حطب أو غيره.. والحنث: الذنب المؤثم، واليمين الغموس.
والآية معطوفة على قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ} الذي هو اعتراض بين الآيتين اللتين يحملان خطابا من اللّه سبحانه وتعالى إلى أيوب.
فالأمر الموجّه من اللّه سبحانه وتعالى إلى أيوب هو: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ}.
وقد جاء قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ}.
بين الأمرين- إشارة إلى أن هذه الأوامر ليست تكليفا، كما هو الشأن في الأمر، وإنما هي دعوة إلى تناول هذا العطاء الكريم من ربّ كريم، إلى عبده الصابر الشكور.. فهذان الأمران، يحملان هبات من عند اللّه، كما يحمل الخبر في قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ}.
فإن قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} يحمل إليه الشفاء والعافية، وقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} يحمل إليه الوفاء بيمينه، ويدفع عنه الحرج.. إذ كان قد حلف وهو في حال مرضه أن يضرب امرأته، مائة سوط على أمر خرجت به عن رأيه.. وكان من لطف اللّه به وبامرأته، أن جعل تحلّة يمينه بأن يضربها بعرجون يحمل مائة أو أكثر من الشماريخ!!

.تفسير الآيات (45- 54):

{وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ}.
أي واذكر- أيها النبيّ- وأنت تدعو نفسك إلى الصبر على ما تكره من قومك- اذكر فيمن تذكر من عبادنا الصالحين، إبراهيم وإسحاق ويعقوب.. فهؤلاء من ذوى الأيدى العاملة في كل مجال للخير والإحسان، ومن ذوى الأبصار الكاشفة عما في هذا الوجود من بعض جلال اللّه، وعظمته، وعلمه، وقدرته.. إنهم لم يؤنوا ملكا وإنما أوتوا نبوّة، وهم لهذا إنما يعملون بأيديهم، ويسعون في تحصيل معاشهم بأنفسهم، لا يملكون سلطانا يعمل لهم العاملون فيه.. ثم إن لهم إلى جانب هذه الأيدى العاملة في الدنيا، أبصارا عاملة في التدبّر في ملكوت اللّه، والتسبيح بحمده.
قوله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}.
هو بيان لقوله تعالى: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ}.
أي إننا أخلصناهم لعبادتنا، إذ أخلينا أيديهم من الملك والسلطان، فلم يشغلوا بتدبير ملكهم وحراسة سلطانهم، عن ذكرنا، وذكر لقائنا.
فقوله تعالى: {بخالصة} متعلق بقوله تعالى: {أَخْلَصْناهُمْ}.
أي نجيناهم من الفتنة بمنجاة، هي إقامتهم على تذكر الدار الآخرة.. وقوله تعالى: {ذِكْرَى الدَّارِ} بدل من (بخالصة).
قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ}.
أي، فهم لما أخلصناهم به، في مقام عظيم عندنا، إنهم من المصطفين الأخيار من عبادنا.
هذا، ويلاحظ أن ذكر إبراهيم وإسحق ويعقوب، قد جاء متأخرا عن ذكر داود وسليمان وأيوب، مع أن إبراهيم، هو الأب الأكبر لهم، كما أن إسحق ويعقوب، من آبائهم الأولين.
فما سر هذا الترتيب الذي جاء عليه النظم القرآنى، مخالفا الترتيب الزمنى؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو:
أولا: أن داود وسليمان، وأيوب، كانوا أصحاب دنيا عريضة، إلى جانب النبوة.
فقد كان داود وسليمان ملكين، يقومان على ملك عظيم، على حين كان أيوب ذا ثراء كبير، ومال وبنين، إلى جانب نبوته أيضا.
وهذا الملك، وذلك الثراء، هما ابتلاء وفتنة حيثما وجدا، سواء أكان ذلك مع الأنبياء، أو غير الأنبياء.. وهذا يقتضى ممن يبتلى بهما أن يكون على حذر دائم، ومراقبة متصلة لنفسه، في كل ما يأتى وما يذر من عمل.. إنه في مواجهة الفتنة أبدا، فإذا لم يكن على حذر منها، جرفه تيارها، فكان من المغرقين.
ثانيا: لم يكن إبراهيم وإسحق ويعقوب، أصحاب مال أو سلطان- كما قلنا- ولهذا فقد خلصت نبوتهم من عوائق الفتن الدنيوية، فأخلصوا للّه وجودهم ووجوههم، فلم تكن منهم زلة أو هفوة.
وثالثا: في هذه الصورة التي تفرّق بين الأنبياء الملوك أو أشباه الملوك، وبين الأنبياء المخلصين للنبوة- يرى النبيّ صلوات اللّه وسلامه عليه- أين منزلته التي جعله اللّه فيها.. فهو صلوات اللّه وسلامه عليه- نبى خالص النبوة، لا تشغله الدنيا، ولا تعرض له بفتنة من فتنها.. ومن ثم فهو في عصمة من نبوته. فلا يذكر غير اللّه، ولا يلتفت إلى غير الرسالة التي في يديه، يحوطها، ويرعاها، ويحتمل الضر والأذى في سبيلها.
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ}.
وهؤلاء ثلاثة آخرون من أنبياء اللّه، هم على شاكلة إبراهيم وإسحق ويعقوب.. أنبياء لم يكن لهم مع النبوة ملك أو سلطان.. فهم {من الأخيار} كما أن إبراهيم وإسحق ويعقوب من (الأخيار).
وليس يعنى هذا أن داود وسليمان وأيوب، لا يدخلون في هذا الوصف الجليل.. وكلّا.. فهم أنبياء للّه قبل أن يكونوا ملوكا.. ولكن الخيرية درجات.
وأنبياء اللّه في مقامهم العظيم، هم درجات أيضا.. {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} [253: البقرة].
واليسع: هو إلياس، وهو الياسين.
وذو الكفل: هو- واللّه أعلم- زكريا عليه السلام، لأنه هو الذي كفل مريم، كما يقول اللّه تعالى: {وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا} [37: آل عمران].
قوله تعالى: {هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}.
الإشارة هنا إلى ما ذكر من حديث عن هؤلاء الأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم- وفى الحديث، ذكر وموعظة، لمن يتذكر ويتعظ، فيكون بهذا من المؤمنين المتقين.
قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ}.
هو بدل من {حسن مآب}.
فالمآب الحسن، هو جنات عدن، أي جنات خلود، يجدها المتقون، وقد فتحت أبوابها لهم، يدخلونها من أي باب شاءوا، دون أن يحجبهم عنها حاجب.
قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ}.
الاتكاء هنا كناية عن الراحة من السعى وراء المطالب المعيشية.. فهم لا يعملون عملا في سبيل ما يريدون.. بل إن كل شيء حاضر عتيد بين أيديهم، وما عليهم إلا أن يطلبوا فيجدوا ما طلبوا حاضرا.. إنهم يأكلون ما يشاءون، ويشربون ما يشتهون، مما كان قد فاتهم من حظوظ الدنيا.. هذا إلى ما أعدّ اللّه لهم، مما لم تره عين ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.
قوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ}.
قاصرات الطرف: أي غاضّات البصر، حياء، وخفرا، وعفّة.
الأتراب: جمع ترب، والترب الشبيه والمثيل.
أي وبين يدى أهل الجنة حور عين، قاصرات الطرف، أي خاشعات الأبصار، حياء وخفرا، على صورة كاملة في الجمال، والشباب.. كلهن على ميزان واحد في الجمال، ليس في أىّ منهن زيادة لمستريد.
قوله تعالى: {هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ}.
أي هذا النعيم الخالد، بألوانه، وأشكاله، هو ما وعد اللّه به المؤمنين، حيث يلقونه يوم الحساب، والجزاء.
قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ}.
أي هذا النعيم الخالد، هو الرزق الذي يرزقه اللّه أصحاب الجنة، وهو رزق لا ينفد أبدا، ولا ينقص منه شيء أبدا، على كثرة الواردين عليه.

.تفسير الآيات (55- 64):

{هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)}.
التفسير:
قوله تعالى: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ}.
هذا هو الوجه المقابل لأصحاب الجنة، الذين ينعمون بهذا النعيم الخالد، ويهنئون بما أفاء اللّه سبحانه عليهم من رحمته ورضوانه.
فقوله تعالى: {هذا} إشارة إلى المؤمنين وأحوالهم في الجنة، أي هذا شأن.. وشأن آخر، هو شأن الطاغين، من رءوس أهل الكفر والشرك والضلال.. فهؤلاء لهم شرّ مآب، وسوء منقلب، هو هذا العذاب الذي يلقونه في جهنم، التي هي المهاد الذي يجدون فيه متكأهم وراحتهم.. إن لهم في دارهم هذه مهادا ومتكأ، كما للمتقين في دارهم مهادا ومتكأ! وشتان بين مهاد ومهاد! {هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}.
هو في مقابل لقوله تعالى في المؤمنين: {يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ}، فأهل الجنة يطلبون ما يشتهون، فيجدونه حاضرا.
أما أهل النار، فإنهم لا يطلبون شيئا.. وماذا يطلبون من النار، إلا النار؟.
ومع هذا، فإنهم لابد أن يطعموا من ثمر جهنم، ويسقوا من شرابها، كما طعم أهل الجنة من فاكهة الجنة، وشربوا من شرابها.
وإنه إذ لم يطلب أصحاب النار طعاما ولا شرابا. فهذا طعام وشراب حاضر بين أيديهم.. هذا حميم وغساق. فليدوقوه!.
والحميم: اللهب، ومنه الحمم وهو قطع الجمر.
والغساق: القيح والصديد.
وإذا كان لأهل الجنة حور عين: {قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ} فإن لأهل النار كذلك أزواجا من شكل هذا الحميم والغساق {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ}.
أي وعندهم إلى جانب هذا الطعام والشراب، من الحميم والغساق، أزواج مشكّلة على شاكلة هذا الحميم والغساق..!!
وليس هذا فحسب..!
إن أهل الجنة يدخل عليهم الملائكة من كل باب، يؤنسونهم، ويحيونهم قائلين {سلام عليكم}.
وإن هؤلاء الطاغين، ليرد عليهم بين حين وحين، من يصبّ عليهم اللعنات، من أتباعهم وأشياعهم: {هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ}.
إنهم قد سبقوا إلى النار، وتقدموا أتباعهم، فهم أئمتهم في الدنيا والآخرة.
فإذا أخذوا أماكنهم من جهنم، دفع إليهم {فوج} أي فريق من أتباعهم، {مقتحم} أي يقتحم عليهم مكانهم الضيق الذي هم فيه، ليأخذ له مكانا.
فليقاهم الذين سبقوهم قائلين: {لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ}.
ويجيئهم ردّ التحية من أتباعهم: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا} أي أنتم الذين دفعتم بنا إلى هذا المصير المشئوم.. {فَبِئْسَ الْقَرارُ} الذي استقر بنا وبكم.
ولا يقف الأتباع عند هذا مع سادتهم، بل يدعون اللّه عليهم أن يقتصّ لهم منهم، وأن يضاعف لهم العذاب، إذ كانوا هم الذين زينوا لهم الضلال الذي أوردهم هذا المورد.. {قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ}.
وفيما هم في هذا التلاحي والتخاصم، ينظرون في وجوه من حولهم من أهل النار، باحثين عن أناس كانوا يعرفونهم في الدنيا، ويرونهم أهل سوء، وأنهم أولى بالنار منهم.
{وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ}؟ فأين فلان وفلان، وفلان.. من الفقراء والضعفاء والعبيد والإماء؟ ألا ينزلون هذا المنزل؟ وإذا لم ينزله هؤلاء، فمن ينزله؟.
{أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا} أي أاتخذناهم سخريا، وكنا على خطأ في استهزائنا بهم، وسخريتنا منهم في الدنيا؟
{أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ}؟ أم أننا كنّا على صواب في سخريتنا واستهزائنا، وأنهم على ما كنا نقدّر، فهم موجودون هنا في جهنم، ولكن أبصارنا زاغت عنهم؟ لا ندرى!.
{إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}.
أي إن هذا التخاصم والتلاحي بين أهل النار، هو حق واقع.
فمن كذّب، فلينتظر، وسيرى.