فصل: تفسير الآيات (47- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (47- 52):

{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآية السابقة عليها قد كانت دعاء من الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى ربه أن يفصل بينه وبين قومه، فيما اختلفوا فيه عليه، وفى تكذيبهم إياه- فجاءت هذه الآية، وكأنها استجابة لدعوة الرسول.. فها هو ذا يوم الفصل، وها هم أولاء الذين ظلموا يساقون إلى جهنم، ويطلبون الشفعاء فلا يجدون شفيعا، ويستصرخون ولا صريخ لهم إلا زبانية جهنم، يدعّونهم إلى النار دعّا.
فلو أنه كان بين يدى أحدهم ما في الأرض جميعا، ومثل ما في الأرض مضافا إليه، لافتدى به نفسه من عذاب هذا اليوم، ولوجد ذلك صفقة رابحة له.. وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ} [91: آل عمران].
وقوله تعالى: {وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} إشارة إلى ما ينكشف للمشركين والضالين في هذا اليوم، مما لم يكن يقع في حسبانهم.
ففي هذا اليوم يرون أن ما كانوا يعبدون من دون اللّه، هو ضلال في ضلال، ويرون أعمالهم التي زينها لهم الشيطان، وجوها منكرة، تطلع عليهم بالويلات والحسرات.. وأكثر من هذا، فإنهم يرون هذا الهول الذي يلقاهم من جهنم، مما لم يقع في خيال، أو يخطر على بال.
كما يرون أناسا كانوا يسخرون منهم ويستهزئون بهم قد لبسوا حلل النعيم، ونزلوا منازل الرحمة والرضوان، على حين يشهدون سادتهم وكبراءهم ممن كانوا ينزلونهم منازل الآلهة، وقد قطّعت لهم ثياب من نار، يصبّ من فوق رءوسهم الحميم.. يصهر به ما في بطونهم والجلود.. ولهم مقاطع من جديد.. كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ أعيدوا فيها.
إن معارف الناس، وتصوراتهم وأخيلتهم في هذه الدنيا، لا تكاد تلتقى مع شيء من أمور الآخرة، وإن كان المؤمنون باللّه أكثر تصورا لها، وأقرب إدراكا لمجملها.
روى أن بعض الصالحين حين حضره الموت، فزع واضطرب، فسئل في هذا، فقال: ذكرت قول اللّه تعالى: {وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} فما أدرى ماذا يبدو لى من اللّه وأنا مقدم عليه!.
قوله تعالى: {وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} من عطف الخاص على العام.. فمما يبدو للظالمين- مما لم يكونوا يحتسبونه- هو سيئات ما كسبوا، حيث يبدو كسبهم الذي كسبوه، وعملهم الذي عملوه في الدنيا، ضلالا في ضلال، وسوءا إلى سوء. وخسرانا إلى خسران، مع أنهم كانوا يحسبون أن هذا الذي يعملون، هو الحق، وهو الخير.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (103- 104: الكهف) وقوله تعالى: {وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
حاق بهم: أي نزل بهم، واشتمل عليهم.. وأصله من الحقّ.
ومعنى هذا، أن الحق الذي كانوا يستهزئون به قد جاء ليحاكمهم، وليقتصّ منهم لجنايتهم التي جنوها عليه، بالانتصار للباطل، ومحاربة أولياء الحق.
قوله تعالى: {فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
خولناه نعمة: أي آتيناه نعمة، صار بها من أصحاب الوجاهة والرياسة.
وأصلها من الخيلاء والعجب.. ومنها الخال وهو الشامة السوداء التي تزين الوجه الحسن، وتزيده حسنا.
والفاء في قوله تعالى: {فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا} هي فاء العطف، للتفريع على قوله تعالى: {وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}، أي فكان من استهزائهم بالحق أن الإنسان منهم إذا أصابه ضر دعا ربه.. ثم إذا كشف اللّه الضرّ عنه، وخوله نعمة من نعمه، تنكر للّه، ولم يذكر أن هذه النعمة من عند اللّه، بل قال إنما أوتيت ما أوتيت عن علم منّى.
إن ذلك كان بحولي وحيلتى.. وهذا من ضلال العقل، وخداع النفس.. فلو أن هذا الجهول كان يملك أن يجلب لنفسه نفعا، لكان يملك أن يدفع عن نفسه كل ضر ينزل به، ولما كان له أن يدعو اللّه عند كل ضر يقع له.. فهل يظن هذا الجهول أن اللّه يملك الضر ولا يملك النفع؟ ولكنها سكرة النعمة تلبس الأحمق الجهول، فإذا هو فيها مارد جبار يخيل إليه أنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا! ثم إن هذا الجبار، يشاك بشوكة أو يحتبس له بول، ليوم أو بعض يوم، فإذا هو ذليل مهين، يصرخ صراخ الأطفال، ويئنّ أنين الثّكلى! وقوله تعالى: {إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ}.
الضمير في أوتيته، يعود إلى المال الذي جمعه، فهو لا يرى النعمة إلا مالا، أما غير المال من نعم اللّه، فلا يلتفت إليه.
وقوله تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي هذه النعمة، هي فتنة وابتلاء، فكما يبتلى اللّه بالشر، يبتلى كذلك بالخير، كما يقول سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [35: الأنبياء].
قوله تعالى: {قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
أي قد قال مثل هذه القولة الضالة الآثمة أقوام كثيرون قبل هؤلاء المشركين.. قد قالها قارون، إذ قال: {إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي} بل وقال أشنع منها، ذلك الذي حاجّ إبراهيم في ربه: {إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}! (258: البقرة) فماذا كان وراء هذا الضلال في الرأى؟ لم يكن إلا الخيبة والخسران، فقد أهلك اللّه الضالين، وأخذهم البلاء من حيث لا يشعرون.. فما كان لهم من هذا الذي بين أيديهم ولىّ ولا نصير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ}.
وفى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا} تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين الظالمين من قريش، وأنهم سيقع بهم ما وقع بالظالمين قبلهم {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [62: الأحزاب].
فاللّه سبحانه لا يبدل سنته مع هؤلاء الظالمين {وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي لن يعجزوا اللّه، ولن يفلتوا من عقابه، وهو القوىّ العزيز.
وفى الإشارة إلى مجتمع الجاهليين جميعا، وفيهم المؤمنون والمشركون- في الإشارة إليهم بهؤلاء، بدلا من أن يقال من قومك، أو من المشركين أو نحو هذا- ما يدل على أن الظالمين معروفون لكل من ينظر إليهم، وأنهم بحيث يشار إليهم باليد، واحدا واحدا.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
أي ألم يكن لهؤلاء الضالين نظر في تصريف اللّه وتدبيره؟ إنهم لو نظروا نظرا عاقلا مستهديا، لعلموا أن اللّه سبحانه {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ} أي يوسعه ويكثره لمن يشاء، {ويقدر} أي يقبضه ويقلله لمن يشاء، بحكمة الحكيم، وتدبير العليم..!
وهذا الاختلاف في حظوظ الناس من الرزق، هو الذي يضبط ميزان الناس في الحياة، ويجعل لحياتهم هذه الطعوم المختلفة، وتلك الألوان المتباينة، التي بغيرها لا تكون الحياة حياة، ولا الناس ناسا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} [118- 119 هود].
فهذا الاختلاف بين الناس في الرزق، هو الذي يدفع موكب الحياة، ويبعث الناس إلى الجدّ والتحصيل.. ولو كانوا على درجة واحدة، لماتت نوازع التنافس بينهم، ولخمدت روح الابتكار والتجديد، ولركدت الحياة الإنسانية كما تركد المياه في المستنقعات! وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي في هذا التفاوت في الرزق، والاختلاف في حظوظ الناس منه- آيات وشواهد للمؤمنين باللّه، يشهدون منها حكمة الخالق، وقدرته، وسلطانه، وعلمه.

.تفسير الآيات (53- 61):

{قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
فى وسط هذا الظلام المتراكم من الكفر، ومن خلال هذا الدخان المتصاعد من معاقل الضلال، ومواقع الشرك- تشرق الأرض بنور ربها، وفى سنا هذا النور القدسي يؤذّن مؤذّن الحق، بين ظلام هذا الكفر المتراكم، ودخان هذا الضلال المتصاعد، داعيا هؤلاء الغرقى في بحار الكفر والضلال: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
إن الغرقى إذ يسمعون هذا النداء الكريم ليرون بأعينهم رأى العين، مراكب النجاة تخفّ إليهم من كل جهة، وليس عليهم إلا أن يتعلقوا بها، ويشدوا أيديهم عليها، لتحملهم إلى شاطئ النجاة والسلامة.
ولكن ما أكثر الذين يرون الخير ولا يتجهون إليه، ويشهدون النور ولا يفتحون أعينهم عليه.. وفى ابن نوح مثل يشهد لهذا، فقد كان يرى بعينيه الطوفان يهجم عليه، ويكاد يبتلعه فيمن ابتلع من الضالين والغاوين، وأبوه يناديه: يا بنىّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين.. فيأبى إلا أن يركب رأسه، ويلقى بيده إلى التهلكة! وهؤلاء هم أبناء نوح، يناديهم ربّ العزّة هذا النداء الرحيم: {يا عبادى}.
ويضيفهم سبحانه وتعالى إليه إضافة رحمة ورعاية، وإحسان، تعلو على إضافة الأبناء إلى الآباء، حنانا ورحمة وإحسانا.
وهؤلاء الذين ينادون من ربهم هذا النداء الرحيم الكريم، ويضافون إلى عزته وجلاله إضافة الرحمة والإكرام- هم العصاة، الخارجون على حدود اللّه، المعتدون على حرماته، الجاحدون لنعمه.
إنهم الذين أسرفوا على أنفسهم، وجاروا عليها بهذه الأوزار التي حمّلوها إياها.. فيالطف اللّه، ويا لسعة كرمه.. وعظيم مننه، وجليل إحسانه!! وقوله تعالى: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} هو اليد البرة الرحيمة الحانية التي يربت اللّه بها على هؤلاء المذنبين العصاة، بمجرد أن يلتفتوا إلى هذا النداء الرحيم اللطيف: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}.
إنها قريبة منكم، دانية لأيديكم.. فهيا أقبلوا عليها، واستظلوا بظلها، واقطفوا ما تشاءون من ثمرها.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}.
شحنة من النور تضيء ظلام هذه النفوس التي تنظر إلى اللّه سبحانه وتعالى من خلال هذا الضباب المنعقد من اليأس حولها، وهى تذكر بشاعة جرائمها، وشناعة آثامها، وتحسب- جهلا وضلالا- أن ذنوبها أكثر من أن تغفر، وأن جرائمها أكبر من أن يتجاوز لها عنها.. وكلّا.. فإن ذلك ظن سيئ باللّه:
{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} مهما تكن بشاعتها وشناعتها.. {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فما أعظم مغفرته، وما أوسع رحمته.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [156: الأعراف]!! فأى عذر لمذنب بعد هذا البلاغ المبين، إذا هو لم يسع إلى اللّه، ويغتسل في بحر رحمته، من أدرانه، ويتطهر من ذنوبه؟
وأي عذر لمجرم بعد هذا النداء الكريم الرحيم، إذا هو لم يمدّ يده إلى ربّه، ليقيل عثرته، ويحمل عنه وزره؟ {يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
إنها ضيافة كريمة في ساحة رب كريم.
وإنها نزل مهيأة، بكل أسباب الهناءة والرضوان، يستقبل فيها على طريق الحياة، أولئك الذين أضناهم السفر الطويل، وأكلت وجوههم لوافح الهجير.
فيجدون حيث ينزلون ظلا ظليلا، وطعاما هنيئا، وشرابا باردا.
فقل لمن يرى هذا المنزل الكريم ويعدل عنه: ألا ما أعظم غباءك، وما أشأم حظك، وما أولاك بالذئاب تفترسك، وبالحيات تنهشك، فلا يرحمك راحم، ولا يبكيك باك.. من قريب أو صديق! قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}.
إنه دعوة إلى رحاب اللّه، بعد أن فتحت الأبواب، ومدت موائد رحمته.
فلم يتبق إلا أن يمد المدعوون أيديهم إلى هذه الموائد، وأن ينالوا منها ما يشتهون.
ومن عظيم لطف للّه بعباده، وسابغ برّه بهم، وسعة رحمته لهم، أن لقيهم، وهم على طريق الضلال، وبين مراعى الإثم والمعصية، وأراهم منه- سبحانه- ما بين يديه من رحمة ومغفرة، وأنهم مع ما هم فيه من محاربة له، وعصيان لأمره، واعتداء على حرماته- لا يزالون من عباده، الذين لا تغلق دونهم أبوابه، ولا تحجب عنهم رحمته- ذلك كله قبل أن يطلب- سبحانه وتعالى- إليهم أن يرجعوا إليه، وأن يلقوا الأسلحة التي يحاربونها بها.. إنهم على ما هم عليه عباده، وأبوابه لن تغلق دونهم، ورحمته لن تحجب عنهم، ماداموا في هذه الدنيا.
ألا خسئ من لا يستحى من ربه، فيظل قائما على حربه، على حين يبسط إليه ربه يده، ويظلله بربوبيته، ويمده بنعمه وفضله! فقوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} هو رحمة من رحمة اللّه، وإفساح لطريق النجاة، بالعودة إلى اللّه والمصالحة معه، في أية لحظة من لحظات الحياة، قبل أن تدنو ساعة الموت، وينقطع العمل، وينتقل الإنسان إلى الدار الآخرة بما مات عليه في الدنيا.
وعندئذ ينزل الإنسان منزله في الآخرة، بآخر منزل كان عليه في الدنيا.
{فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [88- الواقعة].
قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}.
أحسن ما أنزل إلى العباد من اللّه، هو كلمات اللّه، وهى القرآن الكريم.. فقد أنزل إلى العباد من اللّه نعم كثيرة، وخيرات موفورة، وأرزاق لا تحصى، ولكن أحسن ما أنزل إليهم من هذه النعم وتلك الخيرات، وهذه الأرزاق، هو هذا الكتاب، الذي به يعرف الإنسان قدر هذه النعم، وطعم هذه الخيرات.. فهو الميزان العدل الذي يقيم هذه النعم وتلك الخيرات على طريق الحق والإحسان، وبغير هذا الميزان تتحول هذه النعم إلى نقم في يد أصحابها، تفسد عليهم وجودهم، وتحرمهم الثمرة الطيبة المرجوّة منها.
وفى قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}.
إشارة إلى المبادرة بالرّجوع إلى اللّه، والتخلّي الفوري عن مشاعر الإمهال والتسويف، من يوم إلى يوم، إذ لا يدرى المرء متى يحين حينه، ويأتيه أجله.. فقد يؤخّر المرء التوبة إلى غد، ثم لا يأتى الغد إلّا وهو في عالم الموتى. وقد يؤخر التوبة من صبح يومه إلى مسائه، فلا يكون في المساء بين الأحياء. فالمراد بإتيان العذاب هنا، هو وقوع الموت بالعصاة والمذنبين قبل التوبة.. فإتيان الموت لهم وهم على تلك الحال، إتيان بالعذاب الذي يبدأ دخولهم فيه منذ لحظة الموت.. وهنا تكون الحسرة والندامة، حيث لا تنفع حسرة، ولا نجدى ندامة!.. وهذا ما يشير إليه- قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
فهذه مقولات ثلاث، للذين أدركهم الموت وهم على كفرهم وضلالهم.
وهى بدل من قوله تعالى: {أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ}.
أي واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن تقولوا في حسرة وندم هذه المقولات.
وكل مقولة من هذه المقولات الثلاث، يقولها الكافر الضال، في مرحلة من مراحل الآخرة.. من الموت.. إلى البعث.. إلى الحساب والجزاء.
فعند الموت، يرى أهل الضلال مصيرهم المشئوم الذين هم صائرون إليه، فيعرف الضالّ منهم أنه كان من أمره على ضلال، فيقول: {يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}.
والتفريط، معناه: التقصير، وجنب اللّه: هو ما للّه، وما ينبغى له من طاعة وولاء من عباده.. و{إن} هي المخففة من إنّ الثقيلة المؤكدة.
أي وإنى كنت لمن الخاسرين، إذ بصّرت فلم أبصر، وجاءنى الهدى، فلم هتد، وقد اهتدى الناس وضللت، وربح المؤمنون وخسرت.
والمقولة الثانية، وهى قوله: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} يقولها عند ما يبعث من قبره، ويساق إلى المحشر.. حيث يأخذ مكانا ضيقا بين المجرمين، على حين يرى أهل الإيمان والإحسان في سعة، في موكب كريم، تحفّ به البشريات من كل جانب.
والمقولة الثالثة.. يقولها حين يرى العذاب، ويساق إليه، فيقول: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
و{لو} هنا للتمنّى: حيث يفزع أهل النار إلى هذه الأمانىّ الباطلة، قائلين: {رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [37: فاطر].
قوله تعالى: {بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ} هو جواب على سؤال، مقدّر، هو والسؤال ردّ على هذا الذي يتمناه الضالّ يوم القيامة، من العودة إلى الحياة الدنيا، ليؤمن باللّه، ويكون من المهتدين.
والسؤال المقدّر هو: ألم يأتك رسولى؟ ألم يسمعك الرسول كلامى؟
ألم يتل عليك آياتي؟ {بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ}.
فما لك تطلب العودة إلى الدنيا مرة أخرى؟ وهل تكون في هذه المرة على حال غير حالك الأولى؟ إنك لن تكون من المهتدين أبدا.. إنك من أصحاب النار.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} [28: الأنعام].
قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ}.
ما أشأم هذا الإنسان الذي يدعى من ربّه بهذا النداء الكريم: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
ثم لا يستجيب لهذا النداء، ولا يحثّ الخطا إلى ربّه، ثم يظلّ جامدا في مكانه، مسرفا على نفسه في مواقع الضلال، حتى تطوى صفحته من هذه الدنيا، ثم إذا هو يساق إلى جهنّم، لتكون له مأوى، يذوق فيه العذاب طعوما وألوانا! وقوله تعالى: {ترى} بمعنى تبصر، فالرؤية رؤية بصرية، لا علمية وقوله تعالى: {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} جملة من مبتدأ وخبر، وقعت حالا من الاسم الموصول {الذين} أي تبصرهم يوم القيامة، وهم على تلك الحال:
{وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}.
واسوداد الوجوه، كناية عن الكرب العظيم الذي أحاط بهؤلاء الكافرين، إذ كانت الوجوه هي الصفحة التي يبدو عليها ما يجرى في كيان الإنسان، من مشاعر وعواطف وأحاسيس، سواء أكان في حال نعيم، ومسرة، ورضوان، أم كان في حال بلاء، ونكد، وشقاء! وقوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ}.
استفهام يراد به الخبر على جهة التقرير والتوكيد.. أي إن في جهنم مأوى ومنزلا لكل متكّبر كافر باللّه.
قوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} المفازة: الطريق المخوف، الذي يجتازه المنتقل من مكان إلى مكان، وسمّى مفازة على سبيل التفاؤل، كما يقال للملدوغ. السليم.
ويذهب المفسّرون إلى أن {بمفازتهم} جار ومجرور متعلق بالفعل {ينجّى} على تقدير أن المفازة بمعنى الفوز، والباء للسببية.. أي بسبب فوزهم.
ويكون المعنى: وينجى اللّه الذين اتقوا بهذا الفوز الذي حصلوا عليه في الآخرة.
والرأى عندنا- واللّه أعلم- أن متعلق الجار والمجرور هوقوله تعالى: {وينجى} ولكن وتبقى المفازة على معناها الذي صار حقيقة لغوية عليها، والباء للملابسة.. ويكون المعنى: وينجى اللّه الذين اتقوا وهم ملتبسون بهذه المفازة، سائرون في هذا الطريق المحفوف بالمخاطر {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} حيث تحرسهم عناية اللّه، وتحفّ بهم ألطافه.. {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على فائت فاتهم من أمر الدنيا.
ويجوز كذلك- واللّه أعلم- أن يتعلق الجار والمجرور بقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} ويكون المعنى: وينجى اللّه الذين اتقوا، لا يمسهم السوء وهم بمفازتهم التي يجتازونها إلى موقف الحساب والجزاء، ولا هم يحزنون على فائت، إذا هم رأوا ما أعدّ اللّه لهم من نعيم ورضوان، في جنة عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين.