فصل: تفسير الآيات (53- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (53- 59):

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ}.
هو استكمال لقصة موسى، ولرسالته كرسول من عند اللّه.. فقد ذكرت الآيات السابقة رسالة موسى إلى فرعون وهامان وقارون، وهى جزء من رسالته إلى بنى إسرائيل، فلما انتهت قصة موسى مع فرعون، اقتضى المقام الإشارة إلى رسالة موسى، وهى أنها لبنى إسرائيل في عمومها.
والهدى الذي آتاه اللّه موسى، هو التوراة، كما يقول اللّه سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ} [44: المائدة].
وفى قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ} إشارة إلى أن بنى إسرائيل لم يرثوا هذا الهدى الذي تحمله التوراة، والذي حمله إليهم موسى فيها.
وإنما ورثوا الكتاب، أي هذه الكلمات المكتوبة في كتاب..!
قوله تعالى: {هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ}.
أي أن هذا الكتاب، هو هدى وذكرى لمن يطلب الهدى، وينتفع به.. وفى هذا تعريض ببني إسرائيل، وأنهم لم يستقيموا على ما في هذا الكتاب من هدى، ولم يذكروا ما فيه من وصايا وعظات.
وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ}.
الخطاب هو من اللّه سبحانه، لنبيه الكريم- صلوات اللّه وسلامه عليه- ومناسبة هذا الخطاب هنا، هو ما جاء في الآيات السابقة من موقف فرعون، ومكابرته، وعناده، وتحديه لآيات اللّه.. وهو نفس الموقف الذي يقفه المشركون من دعوة النبي، ومن آيات اللّه يتلوها عليهم، وإن النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليلقى من عنادهم واستكبارهم ما ينوء به كاهله، وتضيق به نفسه.. فكان هذا الخطاب الكريم له من ربه، مددا من أمداد السماء، يجد في ظله أرواح الطمأنينة والرضا.
ويحمل إليه هذا الخطاب الكريم أكثر من دعوة.
فأولا: دعوته- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى أن يصبر لحكم ربه، وينتظر ما يقضى به اللّه سبحانه وتعالى فيما بينه وبين قومه.. وفى هذا إشارة إلى ما يلقى النبيّ من قومه من عنت وضيق، وأنه لابد أن يقيم أمره على الصبر، حتى يستطيع أنه يمضى بدعوته إلى غايتها.
ثم إن مع هذه الدعوة إلى الصبر، وما يحمل النبيّ الكريم من أعبائه الثقال- فقد حملت معها من ألطاف اللّه سبحانه، ما يشدّ عزم النبيّ، ويثبت خطوه على طريق الصبر الطويل، فهو على موعد مع نصر اللّه: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ووعد اللّه هو ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ}.
وثانيا: دعوة النبيّ إلى أن يستغفر ربه لذنبه.. {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}.
وهنا سؤال: وهل للنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- ذنوب؟ أو بمعنى آخر هل يتفق أن يكون نبيّا ويذنب؟
والجواب، أن النبي- أي نبى- تقع منه ذنوب، ومع هذا فإن تلك الذنوب لا تنزل من قدره عند ربه، ولا تدخل على نبوّته ضيما.
وإذا قلنا إن النبي تقع منه ذنوب، فذلك مما يقرره القرآن في قوله:
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}.
فهذا صريح في أن للنبىّ ذنوبا، يستغفر ربه لها، ويطلب منه مغفرتها له.
على أن الذي ينبغى أن يكون مفهوما في هذا المقام، هو أن ذنوب الأنبياء من الصغائر، واللّمم، المعفوّ عنه بالنسبة لغير الأنبياء، ولكنها تعتبر ذنوبا في مقام الأنبياء.. فالصغيرة من النبي كبيرة، وما لا يعد ذنبا عند بعض الناس هو ذنب عند آخرين.. فالذنب إنما يقاس بالنسبة لقدر من يقع منه.. فيكبر أو يصغر بحسب قدر مرتكبه.
والرسول الكريم- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو صفوة خلق اللّه، وأقربهم إليه، تحسب عليه ذنوب قد لا تعدّ ذنوبا على بعض الأنبياء.. فهم- صلوات اللّه وسلامه عليهم- درجات، وهم في درجاتهم العالية فوق الناس جميعا.
وسؤال آخر.. ما الذنوب التي يستغفر لها النبي ربه، وقد غفر اللّه له سبحانه ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟
والجواب أن غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب، هو وعد من اللّه سبحانه وتعالى، كما جاء في قوله سبحانه: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ}.
وهذا الوعد وإن يكن واقعا محققا من غير شك، فإن الأمر بالاستغفار للذنب، أمر مطلوب من النبي، وهو واقع محقق كذلك.
وإذن فغفران الذنوب للنبى- ما تقدم منها وما تأخر- مرتبط باستغفاره لذنوبه، واستغفاره لذنوبه واقع محقق منه، فيكون غفران ذنوبه واقعا محققا كذلك..! وإذن لا تعارض بين الوعد المحقق بغفران ذنوب النبي- ما تقدم منها وما تأخر- وبين أمره باستغفاره لذنوبه.
هذا، والإشارة إلى أن للنبى ذنوبا، مطلوبا منه الاستغفار لها- يشعر بأن الإنسان مهما بلغ من الكمال، فلن يتخلص من الجلد البشرى الذي يلبسه.. فهو إنسان قبل كل شيء، وكماله البشرى هو محصور في هذا الحد لا يتجاوزه، فلا يكون من عالم الملائكة بحال أبدا، والرسول صلوات اللّه وسلامه عليه يقول: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».
لم يستثن الرسول الكريم في هذا أحدا من أبناء آدم.. والأنبياء من أولاد آدم بلا شك، وإن كانوا الصفوة المتخيرة من بين هؤلاء الأبناء، وإن كان رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- صفوة هؤلاء الصفوة!! ولنذكر هنا في هذا المقام، أن ما يحسب من ذنوب للمصطفين من عباد اللّه، هو مما يعد من حسنات غيرهم، كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ثالثا: دعوته- صلى اللّه عليه وسلم- أن يسبح بحمد ربه بالعشيّ والإبكار، أي أول الليل، وبواكير النهار.. أي قبل أن تطلع الشمس.
وليس ذكر هذين الوقتين حصرا لتسبيح الرسول ربّه فيهما، فهو صلوات اللّه وسلامه عليه- على ذكر دائم لربه، مسبحا، وحامدا، ومستغفرا.. وإنما خصّ هذان الوقتان بالذكر، لأنهما أثقل وقتين، يشق على النفس فيهما العمل، وتعرض فيهما الغفلة، حيث يستقبل الإنسان أول الليل بالخلود إلى الراحة، وإعطاء الجسد حاجته من الليل، وحيث يكون الإنسان في أواخر الليل وأوائل النهار مستغرقا في سكونه وراحته، فيثقل عليه أن ينخلع عن تلك الحال.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا} [6: المزمل].
ومن جهة أخرى، فإن حمد اللّه في هذين الوقتين- وقد خلت النفس من شواغل الحياة ومن الاتصال بالعالم الخارجي- يجد فيهما القلب طمأنينته وسكينته فيتجه بوجوده كله إلى اللّه.
وهذا ما يعطى للذكر في هذه الأوقات طعما لا يجده الذاكر في غيرها، حيث تكثر الشواغل والمعوقات.. ومن هنا كان الليل خلوة العابدين، ومسبح المسبحين، وملتقى العاشقين.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} هو خطاب للمشركين، بعد خطاب النبي.. وهو تهديد وعيد لهم، وأنهم لن يبلغوا شيئا مما يريدون به النبي ودعوته من سوء.. إذ أن اللّه سبحانه وتعالى سيقضى بينهم وبين النبي، وسيكون هذا القضاء إدانة لهم، وخذلانا لجمعهم، على حين يكون نصرا للنبى، وللمؤمنين، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في الآية السابقة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}.
وقوله تعالى: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ}.
{إن} هنا نافية، بمعنى {ما} والكبر الذي في صدور المشركين: هو هذا الغرور الذي زينه الشيطان لهم، وأنهم على الحق، وأن الغلبة آخر الأمر لهم وفى هذا يقول سبحانه: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ} [48: الأنفال].. فهذا الكبر الذي يملأ صدورهم، ما هو إلا دخان من الباطل، وإنهم لن يبلغوا به ما يطمعهم فيه من آمال.
فالضمير في {بالغيه} يعود إلى الكبر، بمعنى أنهم لن يبلغوا ما ينطوى عليه هذا الكبر من أمانىّ وآمال..!
وقوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} دعوة إلى النبي الكريم من ربه سبحانه وتعالى، أن يلقى كبر هؤلاء المتكبرين، وتطاول هؤلاء المتطاولين المدلّين بجمعهم، المغرورين بقوتهم- أن يلقى ذلك منهم باللّجأ إلى اللّه، واللّياذ بقوته، فهو سبحانه {السميع} الذي يسمع للنبى ما يدعو به ويستجيب له، وهو {البصير} الذي يرى أين تنزل مواقع رحمته وإحسانه، وأين تقع صواعق نقمه وبلائه.
قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى، أن الآية السابقة، أشارت إلى ما يملأ صدور المشركين من كبر وغرور واستعلاء، وأنهم يحسبون بما ملكوا من كثرة في المال والرجال- أنهم لن يغلبوا.. فجاء قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} ليريهم أنهم، وإن كانوا- كما يرون في أنفسهم- أصحاب قوة وبأس، فإن قوتهم وبأسهم لا يغنيان عنهم من اللّه شيئا، ولا يردّان عنهم بأسه إذا جاءهم.. فأين هم من الناس؟ وأين الناس من السموات والأرض؟ إن كل ذلك من خلق اللّه، وفى قبضة اللّه.. فهل من خلق هذا الوجود، وقام بسلطانه عليه، يعجزه قهر هؤلاء المتكبرين، وإذلالهم والتنكيل بهم؟
وفى قوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} إشارة إلى جهل هؤلاء المشركين، وغيرهم من الضالين، بقدرة اللّه وسلطانه القائم على كل شيء.. وإنهم ما استعظموا ما هم فيه من قوة إلا عن جهل بقدرة اللّه، بل وعن جهل بقدرة مخلوقات اللّه، التي إذا وضعوا أنفسهم إزاءها كانوا أشبه بالذرّ أو النمل تحت سفح جبل شامخ..!
قوله تعالى: {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ} هو تعقيب على قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وذلك أنه إذا كان أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق التي تكشف لهم عن قدرة اللّه سبحانه وتعالى، وقوة سلطانه القائم على هذا الوجود- فإن بعضا من الناس- وهم أقلهم- يعلم من جلال اللّه، وعظمته، وقدرته، ما يملأ القلب هدى وإيمانا.. ومن هنا يختلف الناس، إيمانا وكفرا، وهدى وضلالا، وإحسانا وإساءة. وإنه كما لا يستوى الأعمى والبصير، كذلك لا يستوى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والذين كفروا وعملوا السيئات.. إن الاختلاف بينهما واضح لا يحتاج إلى بيان.
وقد جاء النظم القرآنى على نسق يخالف ما يجيء عليه النظم الكلامى.
فلم يلتزم القرآن الترتيب الذي يردّ الإعجاز على الصدور- كما يقول أهل البلاغة- إذ كان من مقتضى هذا أن يجيء النظم هكذا: وما يستوى الأعمى والبصير، ولا المسيء والمحسن.. ولكن جاء النظم القرآنى كما ترى.. فقدّم الأعمى على البصير، ثم عاد فقدم المحسن على المسيء فلم تقع بذلك المقابلة المطلوبة عند علماء البلاغة حيث يقتضى النظم عندهم، أن يقدّم المسيء على المحسن، ليقابل المسيء الأعمى، والمحسن البصير.
وهذا التدبير من النظم القرآنى يخفى وراءه أسرارا، ولطائف، هي من بعض الدلائل على إعجازه.
فمن بعض هذه الأسرار هنا، هو أن القرآن قد جمع بين البصير، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حتى لكأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الامتداد الطبيعي لهذا البصير.. {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}.
فهذا هو أصل القضية: الأعمى والبصير.. ثم مع البصير كان الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لأنهما طبيعة واحدة.. إذ قلّ أن تكون بصيرة لا يتبعها إيمان وعمل صالح.. وهذا هو السر في التعبير بالبصير دون المبصر.
أما الأعمى، فقد يكون أعمى عين، فهو من جهة النظر لا يستوى مع المبصر.. وقد يكون أعمى قلب، فلا يهتدى إلى هدى.. وهو من هذه الجهة لا يستوى مع صاحب البصيرة.
ولهذا لم يقترن المسيء بالأعمى، ولم يقابله مقابلة توافق، وتوازن.. إذ ليس مع كل عمى إساءة، وإنما تكون الإساءة مع عمى البصيرة.. ومن هنا جاء النفي بعدم التسوية واقعا على المسيء: {وَلَا الْمُسِيءُ} وكأن القضية من وجهة نظر أخرى هي هكذا: {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ}.
وقوله تعالى: {قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ} أي قليل منكم أيها الناس من يتذكر ويعقل هذه الأمثال.. وقليل تذكّر من يتذكر منكم، إذ النسيان غالب عليكم.
قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} وإذا كانت القضية قضية تفرقة بين المؤمنين ذوى البصائر، والكافرين الذين أصمهم اللّه وأعمى أبصارهم، وإذ كان هناك مؤمنون وكافرون- فقد حسن أن تعرض هذه الحقيقة التي هي المحكّ الذي يعرف به إيمان المؤمنين وكفر الكافرين، وتلك القضية، هي قضية البعث والحساب والجزاء.. فمن آمن باليوم الآخر. فهو المؤمن حقا، لأنه لا يؤمن من يؤمن باليوم الآخر إلا إذا كان مؤمنا باللّه إيمانا خالصا، مبرّأ من كل شرك.. ومن كفر بالآخرة، فهو كافر باللّه، أو مشرك به.
ومن هنا، جاء هذا الإعلان في قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها} ليكون في ذلك اختبار لإيمان المؤمنين، وكفر الكافرين.. فمن تقبّل هذه الحقيقة، وصدّقها، واستيقن بها، فهو من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومن كذب بها، أو شكّ فيها، فهو من الضالين المسيئين.
وقوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} هو بيان لما ينكشف عنه امتحان الناس بهذا الإعلان، وبتصديقهم به، أو تكذيبهم.. وقد كشف هذا الامتحان عن أن أكثر الناس لا يؤمنون، لأن أكثر الناس كذلك لا يعلمون ولا يتذكرون.. كما يقول تعالى في الآية السابقة: {قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ}.

.تفسير الآيات (60- 65):

{وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} هو التفات بعين الرضا والرحمة والإحسان من اللّه سبحانه وتعالى، إلى عباده المؤمنين، الذين آمنوا به، واستيقنوا أن الساعة آتية لا ريب فيها.
فهؤلاء المؤمنون يدعوهم اللّه سبحانه إلى ساحة فضله وإحسانه، قائلا لهم:
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
اسألوا تعطوا.. {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وفى الدعاء رغب إلى اللّه، ووقوف بين يدى رحمته وإحسانه.. وفى الاستجابة إظهار لما للعبد عند ربّه من احتفاء وتكريم، وأنه بموضع الرضا والقبول.
والدعاء، هو عباده المؤمنين، وهو ولاء، وتسبيح، وصلاة للّه رب العالمين.
ومن هنا عرّف الدعاء بأنه مخّ العبادة.. لأنه مفزع العبد إلى ربه، وفيه يتجلى ضعف العبد وانكساره، وذلّه، أمام قدرة اللّه وعظمته وجلاله.. فهو- في صميمه- عبادة خالصة، وابتهال خاشع، وولاء واستسلام.
ولكل إنسان دعاؤه الذي يدعو به ربه.. فمنهم من يطلب الدنيا، ويجعلها همّه فيما يدعو به ربه، ومنهم من يطلب الآخرة ويرجو بدعائه رحمة ربه، ومنهم من يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فيجمع بين الدنيا والآخرة.
وكثير من الناس، لا يذكرون اللّه بالدعاء إلا عند الشدة والضيق.
فهم في غفلة عن ذكر ربهم، حتى إذا نزل بهم مكروه، أو أحاط بهم بلاء ضرعوا إلى اللّه، وأسلموا إليه أمرهم،. فإذا زايلتهم تلك الحال، مضوا إلى ما كانوا فيه من شغل عن اللّه، واشتغال بدنياهم، وتقلبهم في لعبهم ولهوهم.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ} [12: يونس] هذا، وقد عرضنا موضوع الدعاء في بحث خاص، ذكرنا فيه ماهيّة الدعاء، ومواقع الإجابة، ومواطنها، وهل يردّ الدعاء القضاء؟ وهل يجاب كل دعاء؟ ثم عرضنا بعضا من أدعية الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، وأدعية الصحابة، وغيرهم من صالحى المؤمنين.. وذلك في كتابنا: الدعاء المستجاب.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} الداخر: الذليل المهين.
وفى هذا إشارة إلى أن الدعاء عبادة، وولاء، وخضوع للّه، واعتراف بجلاله وقدرته.. وأن الذين لا يدعون اللّه، ولا يوجهون وجوههم إليه، هم أهل كفر باللّه، وضلال عنه.. إذ يمنعهم كبرهم واستعلاؤهم عن أن يذلّوا للّه، ويمدوا أيديهم سائلين من فضله، طالبين من رحمته.. إنهم سيدخلون جهنم أذلاء، محقرين، بعد أن صرفوا وجوههم عن اللّه مستعلين مستكبرين.. إنه الهوان والإذلال، هو جزاء كل متكبر جبار.
وفى قوله تعالى: {عَنْ عِبادَتِي} بدلا من {دعائى} إشارة إلى أن الدعاء من العبادة، بل إنه- كما قلنا- مخّ العبادة.
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآية السابقة قد حملت دعوة إلى الناس أن يدعوا اللّه ربهم، وأن يوجّهوا وجوههم إليه.. كما توعدت الآية الذين يستكبرون عن عبادة اللّه ودعائه، بالإلقاء في النار، في ذلة وصغار.
فجاءت هذه الآية والآيات التي بعدها، تعرض بعض مظاهر قدرة اللّه ورحمته وإحسانه إلى عباده، ليرى هؤلاء المستكبرون أين يقع استكبارهم من جلال اللّه وعظمته.
فقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً} أي أن اللّه الذي يدعوكم إليه، ويستضيفكم إلى ساحة فضله وإحسانه، ثم تأبون أن تستجيبوا له أيها المستكبرون- اللّه الذي. إنه سبحانه جعل لكم ذلك من غير طلب أو دعاء، فاللّه سبحانه يعطى من غير طلب، ويجود من غير سؤال.. وما الدعاء الذي تدعونه به، إلا عبادة وولاء للّه رب العالمين.
وفى قوله تعالى: {وَالنَّهارَ مُبْصِراً} إشارة إلى أن النهار وضوءه هو الذي يعطى العيون وظيفة الإبصار، وأنه لولا هذا الضوء لما كان للعين أن ترى شيئا، فالتقاء الضوء بالعين هو الذي يعطيها القدرة على الإبصار، وأنه لولا هذا الضوء لكان البصير والأعمى على سواء.. وإلى هذا يشير المعرى بقوله:
وبصير الأقوام في مثل أعمى ** فهلمّوا في حندس نتصادم

والحندس: الظلام الشديد.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} إشارة إلى موقف كثير من الناس من فضل اللّه ونعمه عليهم، حيث يلقونها بالجحود والكفران، فلا يشكرون للّه، بل ولا يؤمنون به.
قوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.
فى الإشارة إلى اللّه سبحانه وتعالى، إلفات لهؤلاء الغافلين عنه، المشركين به، العاكفين على عبادة ما يعبدون من أوثان وغير أوثان، مما صنعت أيديهم، أو تصورت أوهامهم.. فاللّه سبحانه هو خالق كل شيء، وما يعبده هؤلاء المشركون من معبودات، هي مخلوقات للّه، والمنطق يقضى بداهة بألّا تكون عبادة إلا للخالق وحده سبحانه وتعالى، وأن عبادة غيره سبحانه، ضلال مبين.
وقوله تعالى: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} استفهام إنكارى، ينكر على هؤلاء المشركين أن يولوا وجوههم إلى غير اللّه الواحد، الخالق لكل شيء.. والإفك: العدول عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال.
قوله تعالى: {كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
أي بمثل هذا الإفك، والافتراء على اللّه سبحانه بنسبة الشركاء إليه، يأفك ويفترى كل من يجحد بآيات اللّه، ولا يعرف ما فيها من دلائل الكمال والجلال لذات اللّه سبحانه وتعالى.. إن آفة الضالين والمشركين، هي جهلهم بآيات اللّه، وعدم وقوفهم عليها، الأمر الذي ينتهى بهم إلى إنكارها، ثم إلى إنكار اللّه.
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.
وهذه آية من آيات اللّه.. فهل لأهل الضلال والإفك أن ينظروا فيها، وأن يخرجوا من هذا الظلام الذي هم فيه، وأن يصافحوا بأبصارهم هذا النور المشّع من آيات اللّه، ليروا على ضوئه الحق الذي ضلوا عن طريقه.
وكأنّ سائلا سأل: وما اللّه الذي بآياته يجحدون؟ فكان الجواب:
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} الذي أقامكم على هذه الأرض، وجعلها لكم مستقرا ومقاما، وجعل فوقكم السماء سقفا محفوظا، تمسكه قدرته.. فإذا نظرتم في أنفسكم رأيتم كيف أخرجكم اللّه في تلك الصورة الكريمة من الخلق، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة.. ثم ساق لكم من الرزق ما يقيم حياتكم، ويحفظ وجودكم.. {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} إن كنتم تريدون التعرف إليه، والإيمان به.. {فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.
أي علا، وعظم. ربكم هذا، إنه رب العالمين.
قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
أي ذلكم اللّه ربكم {هو الحي} حياة أبدية سرمدية.. وكل شيء هالك إلا وجهه.. {لا إله إلا هو} وإذ تفرد سبحانه بالحياة الدائمة السرمدية، فهو المتفرد كذلك بالألوهية.. وإذ تفرد سبحانه بالألوهية، فمن حقه أن يتفرد وحده بالعبودية له من جميع خلقه {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} لا تشركوا معه معبودا آخر، واجعلوا الحمد له، مفتتح عبادتكم ومختتمها.. فهو- سبحانه- المستحق للحمد، أولا وآخرا.