فصل: تفسير الآيات (66- 68):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (66- 68):

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ}.
هذا هو موقف الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، من آيات ربه، تلك الآيات التي تلقاها وحيا من ربه، ثم بلغها- كما أمره ربه- إلى الناس، فاهتدى بها من اهتدى، وكفر بها من كفر!.
والنبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- يمثل النموذج الأمثل والأكمل في الأخذ بآيات ربه، والامتثال لما تأمر به، واجتناب ما تنهى عنه.
فهو صلوات اللّه وسلامه عليه، قد نهى من ربه أن يعبد ما يعبد المشركون من دون اللّه.. وقد اجتنب ما نهى عنه.
وهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- قد أمر أن يعبد اللّه وحده، ويسلم وجوده للّه رب العالمين، فامتثل ما أمر به.
هذه هي سبيل النبي.. فمن أراد أن يكون مع النبي، فهذه سبيله: أن يجتنب عبادة ما يعبد المشركون، وأن يخلص العبادة للّه وحده.
وهنا سؤال:
كيف ينهى النبيّ عن عبادة ما يعبد المشركون، وهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يسجد لصنم، ولم يوجّه وجهه إلى غير اللّه، قبل أن تأتيه الرسالة، إذ كان له من فطرته السليمة ما عصمه به اللّه من أن يشتهى هذا الطعام الخبيث، الذي كان يقتات منه قومه..؟
والجواب على هذا من وجهين:
فأولا: ليس النهى عن الشيء بالذي يلزم منه أن يكون الموجّه إليه النهى مواقعا له، أو متلبسا به.. بل يصح أن يكون النهى واقعا على ذات الشيء المنهّى عنه وحده، أشبه بلافتة تشير إلى الخطر الكامن فيه، وتنبه إلى الحذر منه.. فإذا نهى النبي عن الشرك، فإنما ينهى عن أمر، ينبغى عليه أن يحذره ويتوقاء أبدا، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [65: الزمر] وثانيا: أن هذا النهى- وإن كان موجها إلى النبيّ- هو في حقيقته موجه إلى كلّ مدعوّ إلى الإيمان باللّه.. فمن أراد أن يدخل في الإيمان، فلينزع ثوب الشرك أولا، ولينفض يديه، وبخل نفسه من كل ما يصله بتلك المعبودات التي تعبد من دون اللّه.. ثم ليدخل بعد هذا إلى ساحة الإيمان نفيّا، طاهرا من الشرك ورجسه.
وفى قوله تعالى: {لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي}.
إشارة إلى أن هذا الذي تلقاه النبيّ من نهى عن الشرك، وأمر بالإسلام لربه، إنما كان بعد بعثته، واصطفائه لرسالة ربه، وتلقيه ما ينزل عليه من آياته وكلماته.. فهذا النهى وذلك الأمر، إنما هو من محامل الرسالة التي أرسل بها من ربه، وأمر بتبليغها، وإلّا فإنه قبل أن يتلقى هذه الرسالة، لم يكن منهيّا عن شيء أو مأمورا بشيء.. وإنما كان يأخذ الأمور بما تهديه إليه فطرته، ويدعوه إليه عقله.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
هو بيان لما لربّ العالمين الذي دعى النبي والمؤمنون معه إلى الإسلام له- من قدرة، وعلم، وحكمة، يراها ذوو الأبصار في هذا الإنسان، وفى مادة خلقه، وكيف تنقّل من طور إلى طور، حتى كان هذا الكائن العجيب، الذي يحارب اللّه، ويكفر به!! فالمادة الأولى للإنسان- أي إنسان- هي هذا التراب.. إذ كان غذاء أبويه من نبات الأرض المتخلّق من التراب، وكانت النطفة متخلقة من هذا الغذاء.. وهذه هي جرثومة الحياة للإنسان.. ثم تنتقل هذه النطفة في الرّحم، فتكون علقة، فمضغة، فعظاما، فلحما يكسو هذه العظام.. حتى إذا اكتمل الجنين في بطن أمه، ولد طفلا، هو الصورة المصغرة لهذا الإنسان الذي سيكونه يوم يكبر، ويبلغ أشدّه.
هذه هي مراحل الحياة الإنسانية.. من التراب: إلى الإنسان.. ثم إلى التراب..!
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} عطف وجود ذى خصائص مميزة للإنسان على وجود آخر، له خصائصه ومميزاته.. فالإنسان في بطن أمه، يعيش في عالم، ثم ولد فكان في عالم آخر، يختلف عن عالمه الذي كان فيه.
فكأن هذا الميلاد إخراج جديد له من وجود إلى وجود، ولهذا جاء التعبير القرآنى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} بالعطف بثم التي تفيد التراخي، ثم بفعل الإخراج الذي يدل على المغايرة، بين ما كان قبل هذا الإخراج، وبعده.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} ثم هنا زائدة، والغرض منها الدلالة على أن هنا زمنا ممتدا بين خروج الإنسان من بطن أمه طفلا، ثم بلوغه أشده.
فقوله تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} هو تعليل لخروج الإنسان من بطن أمه إذ لولا هذا الخروج، لما بلغ الإنسان هذه الغاية.. وكأنّ النظم هو: ثم يخرجكم طفلا لتبلغوا أشدكم ولتكونوا شيوخا.
وبين بلوغ الإنسان أشده، وبين شيخوخته مسافة زمنية، يملأ فراغها حرف العطف {ثم}.
وقوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} احتراس، يراد به تقييد هذا الإطلاق في قوله تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} أي ومنكم من يتوفى من قبل أن يبلغ أشده، أو من قبل أن يكون شيخا.
وقوله تعالى: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} معطوف على قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} بتقدير محذوف يدل عليه ما قبله: أي ومنكم من يمدّ في أجله، لتبلغوا الأجل المكتوب لكم.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي أن من قدرة اللّه سبحانه ومن تدبيره في خلقه، أنه {يحيى} أي يخلق الأحياء، ويمسك عليهم الحياة {ويميت} أي يميت الأحياء، التي ألبسها ثوب الحياة.
وعمليات الإحياء والإماتة، ليست بالأمر الذي يتكلف له اللّه- سبحانه- جهدا، أو يبذل فيه عملا.. إذ أن كل شيء في هذا الوجود خاضع لسلطانه، مستجيب لقدرته. منفذ لمشيئته، من غير تأبّ أو انحراف.. {فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي أنه سبحانه إذا شاء أمرا، كان هذا الأمر، وجاء كما شاءت مشيئته.
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} [93: مريم].

.تفسير الآيات (69- 77):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ}.
بعد هذا الاستعراض الرائع لقدرة اللّه، وآثاره في خلقه، لا يزال هناك كثير من أهل الضلال، يقفون من هذه الآيات موقف العناد والتكذيب.
فإلى أين يصرفون عن هذا الحق الذي بين أيديهم؟ وماذا بعد الحق إلا الضلال؟.
وفى تعدية الفعل {يجادلون} بحرف الجر {فى} إشارة إلى أنهم يجادلون بغير علم، لجاجة وسفها وتطاولا.. ولهذا ضمن الفعل معنى الخوض.
قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
هو بيان يكشف عن الذين يجادلون في آيات اللّه.. إنهم هم هؤلاء الذين كذبوا بهذا الكتاب، أي القرآن الكريم، وهم هؤلاء الذين كذبوا من قبلهم بما أرسل اللّه به الرسل من آيات ومعجزات.. فهؤلاء الذين يجادلون في القرآن الكريم، هم وأولئك الذين سبقوهم من المكذبين، الذين جادلوا في آيات اللّه التي جاءهم بها رسل اللّه- هؤلاء وأولئك جميعا سوف يعلمون ما ينتظرهم من بأس اللّه وعذابه، وسوف يرون ما أنذرهم به رسلهم من عذاب، فلم تغنهم النذر!.
قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}.
{إذ} ظرف متعلق بقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي فسوف يعلمون الحق الذي أنكروه، حين يساقون إلى جهنم يسحبون على وجوههم، والأغلال في أعناقهم، والسلاسل في أيديهم وأرجلهم.
وقوله تعالى: {فِي الْحَمِيمِ} متعلق بقوله تعالى: {يُسْحَبُونَ} أي يسحبون بالأغلال التي في أعناقهم، في الحميم.. والحميم هو ما يغلى من السوائل.
وقوله تعالى: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} أي يربطون على النار، لتشوى عليها أجسامهم، بعد أن غرقت في هذا الحميم.
قوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ}.
فى قوله تعالى: {قِيلَ لَهُمْ} بدلا من: يقال لهم، حيث نسق النظم الذي جاء معلّقا الأمر بالمستقبل، في الأفعال {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
{ويُسْحَبُونَ} {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} في هذا حكاية لما يقال لأصحاب النار يومئذ، وكأنه قيل بالفعل، وذلك لتقرير وقوعه وتوكيده، ثم ليسمع هؤلاء المشركون ما قيل لمن سبقوهم من أهل الضلال، فهذا خبر من أخبارهم، وأنهم إنما يسألون عن معبوداتهم الذين عبدوهم من دون اللّه، فيلتفتون فلا يجدون لهم ظلّا.. فيقولون: لقد ضلوا عنا، أي تاهوا في هذا المزدحم.. ثم إذ يتبين لهم أن ما كانوا يدعونه من دون اللّه، باطل، وضلال، يقولون: {لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} أي شيئا يعتدّ به، ويستند عليه.. تلك هي حال المشركين الذين سبقوا هؤلاء المكذبين من قريش، وهذا ما سئلوا عنه، وذلك هو جوابهم.. فماذا يكون جواب هؤلاء المكذبين المشركين من قريش حين يسألون هذا السؤال؟ أيجدون ما يقولون غير هذا القول؟
وهل يرون لمعبوداتهم وجها يوم الحساب؟ وإذا رأوا لهم وجها فهل يغنون عنهم من عذاب اللّه من شيء؟.
وقوله تعالى: {كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ} أي كما أضل اللّه المكذبين برسل اللّه، كذلك يضل اللّه هؤلاء المشركين الذين يكذبون رسول اللّه.
لأنهم جميعا ظالمون كافرون، إذ خرجوا عن سنن العدل والإنصاف بإنكارهم الصبح المبين، وتكذيبهم الحق الواضح.
قوله تعالى: {ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ}.
أي ذلكم الذي أنتم فيه من بلاء وعذاب في الآخرة، هو بسبب ما كنتم عليه في الدنيا، من غرور، بما ملكتم فيها، وزهو وعجب بما بين أيديكم من زخرفها ومتاعها، فصرفكم ذلك عن أن تنظروا إلى ما وراء يومكم الذي أنتم فيه، فقطعتم حياتكم في فرح ومرح، ولهو وعبث.
وفى قوله تعالى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} إشارة إلى أن الفرح المذموم، هو الفرح الذي ينبع من استرضاء عواطف خسيسة، وإشباع شهوات بهيمية، كما يقول اللّه تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [81: التوبة].
أما الفرح الذي يقع في نفس الإنسان، ويهزّ مشاعره، من انتصار حق، أو استعلاء على شهوة، فهو فرح محمود، بل ومطلوب، كما يقول اللّه تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} [4- 5: الروم].
والمرح: الفرح الشديد، الذي يصحبه عبث ولهو.
قوله تعالى: {ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} هو دعوة إلى أهل الكفر والضلال، أن ينزلوا منازلهم التي أعدت لهم في الآخرة.. فلكل جماعة بابها الذي تدخل منه إلى منزلها المعدّ لها في جهنم، كما يقول اللّه سبحانه: {لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [44: الحجر] ودخول الأبواب- كما قلنا من قبل- هو دخول في جهنم ذاتها، إذ كانت تلك الأبواب قطعة من جهنم، مطبقة على أهلها.
قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ}.
هو دعوة إلى النبي الكريم بالصبر على ما يلقى من عنت قومه، وتكذيبهم له، والتربص لدعوته، وللمؤمنين بها.. وفى الدعوة إلى الصبر، مع كل موقف، وفى أعقاب كل مواجهة بين النبي وقومه- في هذا ما يشير إلى ما كان يلقى النبيّ من أذى وما يحتمل من ضرّ، وأنه ليس له إلا أن يصبر ويحتمل، حتى يحكم اللّه بينه وبين قومه.. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} وهو أن اللّه سينصره، ويعزّ المؤمنين الذين آمنوا به، ويمكّن لهم في الأرض، وأنه- سبحانه- سيخزى الضالين المكذبين، ويوقع بهم البلاء في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة.
وقوله تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} أي أن هؤلاء الضالين المكذبين، لن يفلتوا من قضاء اللّه فيهم، ومما يتوعدهم اللّه به من عذاب. سواء أرأيت هذا أيها النبي، في الدنيا، أو متّ قبل أن ترى قضاء اللّه فيهم، فإنهم راجعون إلينا في الآخرة، وما فاتك أن تراه من قضاء اللّه فيهم في الدنيا، سترى أضعافه فيهم الآخرة.

.تفسير الآيات (78- 85):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ}.
كانت الآية السابقة دعوة للنبى الكريم، من ربه سبحانه وتعالى، أن يصبر على أذى المشركين له، وأن ينتظر وعد اللّه وحكمه.. فإن وعد اللّه لآت لا شك فيه، ولكنّ لهذا الوعد أجلا موقوتا عند اللّه، لا يجيء إلا في وقته الموقوت له.
وفى هذه الآية ردّ على تحديات المشركين بإنزال العذاب الذين أوعدوا به.. فقد كانوا يقولون، فيما حكاه القرآن الكريم عنهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [32: الأنفال].
كما أن في هذه الآية دفعا لما يساور بعض نفوس المؤمنين من قلق، حتى إنهم ليقولون تحت وطأة البلاء الواقع عليهم من المشركين: {مَتى نَصْرُ اللَّهِ} ففى هذه الآية، يخبر اللّه سبحانه وتعالى نبيه الكريم، بأنه سبحانه، قد أرسل رسلا كثيرين من قبله، منهم من قص عليه أخبارهم، ومنهم من لم يقصصهم عليه.. وأن هؤلاء الرسل جميعا لم يأت أحد منهم بآية من تلك الآيات المعجزة أو المهلكة التي أخذت أقوامهم إلا بإذن اللّه، فهو سبحانه الذي أمدهم بهذه الآيات.. وأن هذه الآيات لم تأت من عند اللّه بطلب من الرسل، أو استجابة لتحدّى أقوامهم، وإنما هي بتقدير العزيز الحكيم.
وقوله تعالى: {فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ}.
أمر اللّه: هو وعده.. ومجيئه: هو وقوعه في وقته الموقوت له.. أي إذا جاء الوقت الموقوت لقضاء اللّه، {قضى بالحق} أي حكم بالحق، بين الرسول وقومه المكذبين به.. وفى هذا القضاء بالحق تقع الواقعة بالمبطلين، وينزل بهم بلاء اللّه، على حين ينجّى اللّه الرسول والذين آمنوا معه.
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآية السابقة تهددت المشركين بوقوع ما توعدهم اللّه به، إن عاجلا، أو آجلا، إذا هم ظلوا على ما هم عليه من ضلال وعناد.. فجاءت هذه الآية، تفتح طريقا لهؤلاء المشركين إلى الهدى، إن كان بهم متجه إليه، بعد أن سمعوا هذا التهديد.
ففى قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ} تذكير لهم بنعم اللّه فيهم، وإحسانه إليهم، وأنه سبحانه- لا أصنامهم- هو الذي سخر لهم هذه الأنعام، ليركبوا منها، ما يركبون، ويأكلوا منها ما يأكلون.
{ومن} هنا تبعيض، أي لتركبوا بعض هذه الأنعام، وتأكلوا بعضها.
ويجوز أن تكون {من} للتعدية، أي ليكون من هذه الأنعام ركوبكم، ويكون منها أكلكم.. بمعنى أن هذه الأنعام مادة صالحة للركوب، كما هي مادة صالحة للأكل.. كالإبل مثلا.
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} إشارة إلى فوائد أخرى لهذه الأنعام غير الركوب، وغير الأكل، فيما ينتفع به من أصوافها وأوبارها، وجلودها، وفيما يحقق به الإنسان من اقتنائها، وتربيتها وتثميرها من آمال وغايات ورغائب في صدره، فيقتنى من ثمنها ما يشاء من أثاث ومتاع.. وفى تعدية الفعل {تبلغوا} بحرف الاستعلاء {على} إشارة إلى أنها المطية إلى تحقيق هذه المطالب.
وقوله تعالى: {وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} إشارة أخرى إلى ما ينتفع به من هذه الأنعام، وهى حمل الأثقال، كما يقول سبحانه: {وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} وقد قرنت بها الفلك، التي هي نعمة أخرى في حمل الأثقال والناس إلى أماكن بعيدة فوق ظهر الماء، الذي لا سبيل إلى اجتيازه بالإبل، أو الخيل، ونحوها من دواب الركوب.. فهذه للبر، وتلك للبحر.. وهكذا تتم النعمة! قوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}.
أي ويريكم اللّه من هذه النعم آياته الدالة على قدرته، وفضله وإحسانه.
فأىّ آية من هذه الآيات ترون أنها ليست من عند اللّه، وأنها ليست ذات فضل عظيم عليكم.؟
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ} هو تهديد للمشركين، بعد هذا العرض الذي رأوا فيه آيات اللّه، وما أمدهم اللّه به من نعم.. فكما أن للّه سبحانه وتعالى نعمه وفضله وإحسانه، كذلك له- سبحانه- نقمه، وسطوانه، بالمكذبين الجاحدين.. ولو أنه كان لهؤلاء المشركين عيون تبصر، وعقول تعقل، لرأوا ما أنزل اللّه سبحانه وتعالى من بلاء ونقم بالمكذبين الضالين قبلهم، وقد كانوا أكثر منهم مالا وولدا، وأشد منهم قوة وبأسا، وأعظم منهم آثارا وعمرانا في الأرض.. فلما أخذهم اللّه ببأسه لم يغن عنهم شيء مما كان في أيديهم، من مال، ورجال، وما أقاموا من دور وقصور وحصون.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} الفاء في {فلما} للسببية، ولمّا، بمعنى حين.. أي فإنه حين جاءتهم رسلهم بالبينات، استخفوا بهم وبما معهم، واغتروا بما في أيديهم من أباطيل، وفرحوا بها، واطمأنوا إليها.. فأحاطت بهم خطيئتهم، ووقع بهم البلاء، جزاء لاستهزائهم بهذه الآيات البينات.
وفى قوله تعالى: {فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} إشارة إلى قوله تعالى: {ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ}.
فهم قد فرحوا بهذا الباطل الذي بأيديهم، وعدوه كل حظهم من الحياة.
قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} البأس: العذاب، والبلاء الواقع بالمكذبين.
أي وحين رأى هؤلاء المكذبون برسل اللّه نذر العذاب تطلع عليهم آمنوا باللّه، وقالوا: آمنا باللّه وحده، لا شريك، وكفرنا بتلك المعبودات التي كنا بسبب عبادتها مشركين باللّه.. فالباء في {به} للسببية.
قوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ}.
بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وفى هذا الختام عرض لموقف الضالين جميعا، حين يرون بأس اللّه يحيط بهم.. إنهم إذ ذاك يقولون: آمنا باللّه ولكن لا يقبل منهم هذا الإيمان، وقد حل بهم البلاء. فتلك هي سنة اللّه.. إنه لا ينفع إيمان في غير وقته، وإنما لذى ينفع هو حين يكون الإنسان في سعة من أمره، وفى قدرة على امتلاك الأمر فيما يختار من إيمان أو كفر.
أما هذا الإيمان الذي يقع تحت حكم الاضطرار والقهر، فهو إيمان باطل، لا إرادة للإنسان فيه.. ومن ثمّ فلا يحسب له، ولا يعدّ من كسبه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً} (158: الأنعام).