فصل: تفسير الآيات (9- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (9- 12):

{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ}.
بعد أن تهددت الآيات السابقة المشركين الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر- جاءت هذه الآيات لتلقاهم بما للّه سبحانه وتعالى من علم وقدرة وسلطان، حتى يكون لهم من ذلك ما يفتح مغالق عقولهم، فينظروا إلى جلال اللّه، ثم لينظروا إلى آلهتهم على سنا هذا الجلال، ثم ليحكموا عليها، ما ذا تكون هذه الدّمى إزاء ربّ الأرباب، خالق الأرض والسموات! وفى قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ.
الآية}.
تهديد لهؤلاء المشركين، الذين يكفرون باللّه، ويعبدون هذى الدّمى الجاثمة على التراب! والاستفهام إنكارى.. أي ما كان لكم أن تكفروا يمن هذه قدرته، وتلك آثاره.
وفى قوله تعالى: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ} قلنا في أكثر من موضع في تفسيرنا للآيات التي تشير إلى زمن محدّد لما خلق اللّه من مخلوقات، مثل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [54: الأعراف]- قلنا إن هذا الزّمن إنما هو منظور فيه إلى طبيعة المخلوق لا إلى قدرة الخالق.. وإلى أن هذا الزمن، هو الذي قدّره الخالق سبحانه وتعالى لينضج فيه المخلوق، ويستوفى فيه تمام خلقه، كالجنين في الرحم، حيث يتم تكوينه في تسعة أشهر، في عالم الإنسان، وفى زمن أقل أو أكثر في العوالم الأخرى من الأحياء.. فالزمن جزء من وجود كلّ موجود، وفى تطوره من حال إلى حال.. سواء في هذا، الحيوان، والنبات، والجماد.
فقوله تعالى: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ}.
.. إشارة إلى الزمن الذي نضجت فيه الأرض، وتمّ تكوينها، وتهيأت لاستقبال الحياة فيها.
والأيام هنا هي أيام اللّه.. أي الأيام التي يحويها فلك هذا الوجود، فكل فلك له زمن معلوم، تتم فيه دورته، وتلك الدورة هي يوم، كيوم عالمنا الأرضى.. ففى يومين من أيام اللّه.. ولا يعلم قدر هذا اليوم إلا اللّه- ثمّ تكوين جرم الأرض، فكانت أشبه بالعلقة في رحم الأم.
ثم بعد ذلك بدأت تظهر عليها الجبال، وتجرى فيها الأنهار، وتتحدد عليها كميات الهواء، والحرارة، إلى أن أصبحت صالحة لأن تلد الكائنات الحيّة، وأن تمدّها بالغذاء الذي يحفظ عليها حياتها.. وذلك في مدى يومين آخرين من أيام اللّه.. فكانت حضانة الأرض في كيان الكون أربعة أيام، من أيام اللّه، قبل أن تتهيأ لاستقبال الحياة، وظهور الكائنات الحية على ظهرها.
وقوله تعالى: {وَبارَكَ فِيها} إشارة إلى توالد الأحياء على الأرض، وتكاثرها بما توالد فيها من عوالم النبات والحيوان والإنسان.
فهذا من بركة اللّه سبحانه وتعالى على هذه الأرض! وقوله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها}.
أي وقدّر على هذه الأرض الأقوات التي تضمن الحياة لهذه المواليد المتكاثرة فيها.. وذلك بما أودع فيها من هواء، وماء، وطعام.
وقوله تعالى: {سَواءً لِلسَّائِلِينَ} هو حال من الأقوات، أي أن هذه الأقوات مقدّرة بقدر معلوم، وموزونة بميزان دقيق.. فالهواء مثلا، لو زادت نسبة الأوكسجين فيه عن قدر معلوم لاحترق الأحياء، ولو نقصت تلك النسبة عن قدر معلوم كذلك لاختنق الناس والحيوان والنبات.. وهكذا كلّ ما في هذه الأرض، وما عليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [19: الحجر] والسائلون هنا، هم أصناف الأحياء، الذين يسألون، أي يطلبون ما يمسك عليهم حياتهم.. فكل حىّ يسأل، ويطلب ما تطلبه حياته، سواء أكان هذا إنسانا أو حيوانا أو نباتا.
وفى التعبير بالسائلين، إشارة إلى أن هذه المخلوقات- ومنها الإنسان- إنما تقف جميعها سائلة من فضل اللّه وإحسانه، الذي بثّه في هذه الأرض.
هذا، وقد رأى بعض المفسرين أن مدة خلق الأرض هي ستة أيام، أخذا بما ذكر في هذه الآية، من اليومين، والأربعة الأيام.. ولما كانت مدة خلق السموات يومين، فتكون مدة خلق السموات والأرض، هي ثمانية أيام.. والقرآن الكريم صريح الدلالة في أن خلق السموات والأرض كان في ستة أيام، وذلك بما نطق به في أكثر من موضع منه.
ولا يمكن أن يقع هذا الاختلاف في كتاب اللّه.. {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}.
والذي ينظر في قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ} الذي ينظر في هاتين الآيتين، يرى أن مدة خلق الأرض هي أربعة الأيام، وهى التي ذكرت في الآية الثانية، ويدخل فيهما اليومان اللذان ذكرا في الآية الأولى.. ولهذا عطف قوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ} على قوله تعالى: {خَلَقَ الْأَرْضَ}.
أي خلقها وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام.. منهما يومان كان فيهما خلق جرم الأرض.. أما ذكر اليومين فللدلالة على أن الخلق غير الجعل.
فخلق الأرض، كان له زمن تمّ فيه هذا الخلق.. ثم كان لتلك الإضافات التي دخلت على الأرض بعد خلقها، زمن آخر، ومجموع هذا وذاك هو أربعة أيام من أيام اللّه.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [15: الأحقاف] وقوله في آية أخرى: {وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ} [14: لقمان].
قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ}.
استوى إلى السماء، أي نظر إلى السماء، نظر تمكن واستعلاء.
وهى دخان: أي بخار.
أي أنه بعد أن تمّ خلق الأرض، وتهيأت لاستقبال الحياة، بعد هذا نظر سبحانه وتعالى إلى السماء، نظرة تمكن واستعلاء، وكانت دخانا، أي بخارا غير متماسك، {فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} أي دعا الأرض والسماء أن يأتياه، أي يستجيبا له، ويخضعا لمشيئته، ويستقيما على ما أراد منهما، إما طائعتين أو مكروهتين أي أن تأتيا إما مستسلمتين بلا إرادة، أو مكرهتين، فتكون إرادتهما تبعا لإرادة اللّه سبحانه وتعالى: {قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} أي مستسلمين، دون أن نخرج على النظام الذي أقمتنا عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ} [72: الأحزاب].. فقد خيرت السموات والأرض في أن تأتيا طوعا أو كرها، فاختارتا أن تأتيا طائعتين، وذلك معناه، إباؤهنّ قبول الأمانة التي عرضت عليهن، وتلك الأمانة هي أن يوكل إليهن تصريف شئونهن بإرادتهن.. فأبين ذلك، وأسلمن الأمر كله للّه.
أما الإنسان، فهو وحده الذي حمل الأمانة، وهو الذي يأتى ما أراد اللّه منه سواء أكان طائعا أو عاصيا، لأن إرادة اللّه تعلو إرادته، وكل ما يفعله الإنسان وإن كان بإرادته، هو من إرادة اللّه له، ومشيئته فيه.
فهو مكره في صورة مريد!.
قوله تعالى: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.
أي فدبّر أمرهن وقضى فيهن بما شاءت إرادته، فكنّ سبع سموات.
والضمير في {قضاهن} هو للسبع السموات، وقد قدم الضمير هنا للدلالة على أن التدبير والقضاء قد وقع عليهن بعد أن خلقن، وكنّ سموات سبعا.. فالضمير يعود إلى وجود قائم، وإن لم يجر له ذكر، وذلك أدل على وجوده وتحققه.. وسبع سموات بدل من هذا الضمير، كما تقول:
أكرمته عليا، وأكلته عنبا.
وقوله تعالى: {وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها} أي أوحى، وأنزل في كل سماء ما أمرها به، وما قدره لها من نظام تجرى عليه.
وقوله تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً}.
السماء الدنيا، هي السماء التي تعلو هذه الأرض، وهى السماء الأولى، وفوقها بقية السموات.
والمصابيح، هي الشمس، والقمر، والنجوم، التي تظهر ليلا، فتبدو وكأنها معالم زينة في هذا السقف المطلّ على العالم الأرضى.
وقوله تعالى: {وَحِفْظاً} معطوف على محذوف، هو مفعول لأجله، وتقديره {زينة} أي زينا السماء الدنيا بمصابيح للزينة والحفظ، أو زينة، وحفظا.
والحفظ، هو ما تقوم به النجوم من حراسة السماء من الشياطين، إذا أرادوا التسمع لما في الملأ الأعلى، كما يقول سبحانه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ} [5: الملك] وقوله تعالى: {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي هذا النظام الذي قام عليه الوجود في أرضه وسماواته، هو من تدبير {العزيز}، أي ذى العزة والقوة {العليم} الذي يحيط علمه بكل شيء.. فلا يقضى بأمر إلا عن علم كاشف لكل أمر.

.تفسير الآيات (13- 18):

{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ}.
أي فإن أعرض هؤلاء المشركون، بعد أن عرضت عليهم هذه الآيات، ونصبت لهم تلك المعالم الدالة على قدرة اللّه، وعلى تفرده- سبحانه- بالملك والسلطان- إن أعرضوا فقل لهم منذرا: إنى أتوعدكم بعذاب اللّه، وأن يحلّ بكم ما حل بعاد وثمود من قبلكم، وقد رماهم اللّه بالصواعق فأهلكوا، فلم تبق منهم باقية.
روى أن قريشا- وقد ضاقت بالنبي، وبدعوته- جاءت إلى النبي تعده وتمنّيه، وتعرض عليه ما قدّرت أنه يطلبه من هذه الدعوة القائم عليها، من مال وسلطان، فانتدبت لذلك عتبة بن ربيعة، فجاء عتبة إلى النبي، يقول له: إنك قد أحدثت في قومك ما ترى من فرقة وشقاق، فإن كنت تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا ما تشاء حتى تكون أكثر رجال قريش مالا، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، وإن كنت تريد وتريد.. فلك عندنا ما تريد، على أن تدع آلهتنا، ولا تعرض لها بذكر! فقال له النبي صلوات اللّه وسلامه عليه: وقد قلت، فاسمع منّى، فقال هات:
فقرأ عليه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه-: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
.. حتى إذا بلغ النبي قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ} فزع عتبة واضطرب، وقام فوضع يده على فم الرسول الكريم، خوفا من أن يقع هذا النذير به وبقومه..!
إن القوم كانوا يعرفون صدق النبي، ولكنهم كانوا يكابرون ويعاندون، ويأبى عليهم كبرهم وعنادهم أن يذعنوا للحق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [33: الأنعام].
قوله تعالى: {إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ}.
{إذ} ظرف، هو قيد للوقت الذي وقعت فيه الواقعة بعاد وثمود.
فالصواعق التي رموا بها إنما كانت بعد أن جاءتهم رسلهم بالبينات، فكذبوهم، وأعرضوا عنهم.
وقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي جاءوهم من كل ناحية، والتقوا بهم بكل سبيل.
وقوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أي أن رسلهم التقوا بهم من كل وجه بهذه الدعوة، يعرضونها عليهم، ويقيمون لهم الحجج عليها، وهى ألا يعبدوا إلا اللّه.
وقوله تعالى: {قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ}.
هو بيان لما استقبل به القوم دعوة الرسل، وهو أنهم ردوهم، وكذبوهم، وقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا، تريدون أن تتفضلوا علينا، ولو شاء ربنا أن يبعث رسلا لبعث ملائكة من عنده، فهم أولى بهذا الأمر منكم، وهم أهل لأن نقبل منهم، وتصدق أنهم رسل من عند اللّه، وإذن فنحن بما أرسلتم به كافرون.. لا نقبل منكم ما جئتم به، ولا نصدقه.
قوله تعالى: {فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ}.
هو بيان كاشف لما كان عليه القوم من ضلال، حتى عمّيت عليهم السبل إلى اللّه، واستبد بهم منطق سفيه.
فهؤلاء عاد.. استكبروا في الأرض، وتطاولوا على العباد، بغير الحق، إذ لم يكونوا أهلا لما رأوا في أنفسهم من هذا الرأى الفاسد، وهم غارقون في هذا الضلال.. لقد غرتهم هذه القوة الجسدية الحيوانية التي وجدوها في كيانهم، فطاروا بها فرحا وزهوا، وقالوا: من أشد منا قوة؟
إنها القوة الجسدية وحدها، هي التي يملكونها.. فما ذا عندهم من تلك القوة؟
أو لم يروا أنهم مخلوقون من هذا التراب؟ أولم يروا أن اللّه الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، إن كانوا لا يرون في مخلوقات اللّه، من هو أشد منهم قوة؟ إنهم لو نظروا لوجدوا أن قوتهم تلك لا وزن لها بين تلك القوى الهائلة التي يرونها في مخلوقات اللّه.. فكيف بقوة اللّه سبحانه وتعالى؟
وفى قوله تعالى: {وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} هو معطوف على قوله تعالى: {وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}.
ويصح أن يكون معطوفا على محذوف هو جواب لهذا الاستفهام الإنكارى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}؟ أي لم يروا هذا ولم ينظروا فيه {وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ}.
قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ}.
هذا مصير عاد، وتلك عاقبة تكذيبهم لرسلهم وكفرهم بآيات اللّه لقد أرسل اللّه سبحانه وتعالى عليهم ريحا صرصرا، أي شديدة عاتبة، ذات صرير وزئير.. {فى أيام نحسات} أي في أيام طلعت عليهم بالشؤم، والبلاء، على حين طلعت على غيرهم بالعافية والخير.. وذلك {لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} حين يعصف بهم هذا البلاء، وتقهرهم الريح، التي كانت تهب عليهم نسيما عليلا، وتصفعهم هذه الصفعة التي تذل كبرياءهم وتفضح قوتهم، وهى خلق ضعيف ليّن، من خلق اللّه!.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في موضع آخر: {وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ} [5- 8: الحاقة].
{وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى} أي والعذاب الذي ينتظرهم في الآخرة أشد خزيا لهم، وأوقع نكاية بهم من هذا العذاب الدنيوي.. إن هذا العذاب الدنيوي ما هو إلا جرعة يتجرعونها قبل أن يعبوا عبّا من عذاب يوم القيامة {وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} بقوتهم تلك التي طغووا بها، ولا بأية قوة أخرى يستنصرون بها.
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
وهذه ثمود.. هداهم اللّه، أي دعاهم إلى الهدى، ونصب لهم معالمه بما بعث فيهم من رسول كريم، يحمل بين يديه أقباس الهدى والنور، فأغمضوا أعينهم، واستحبوا العمى على الهدى، ومضوا في ظلمات يتخبطون.
{فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} أي رماهم اللّه بصاعقة من عذاب، أذلّهم بها، وجعلهم عبرة ومثلا للظالمين المكذبين، جزاء ما كسبوا من سيئات، وما لجوا فيه من ضلال.
قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ}.
أي أنه حين أخذ العذاب هؤلاء المكذبين الضالين، نجى اللّه الذين آمنوا، وكانوا يتقون اللّه، ويخشون بأسه، فلم يصبهم من هذا المكروه شيء، بل سلموا من كل سوء.