فصل: تفسير الآيات (30- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (30- 35):

{إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.
هو عرض للوجه الآخر، من وجوه الإنسانية، وهو وجه المؤمنين باللّه، المستقيمين على طريق الهدى، بعد أن عرضت الآيات السابقة أهل الضلالة والكفر، وما أعد اللّه لهم من عذاب أليم.
فالذين قالوا ربنا اللّه، وحده، لا شريك له، ولا نعبد إلها غيره، ولا نتخذ معه شركاء، ثم إنهم مع إيمانهم هذا، قد عملوا بمقتضى هذا الإيمان فاستقاموا على ما يدعو إليه الإيمان باللّه، من امتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه- هؤلاء المؤمنون تتنزل عليهم الملائكة بالرحمات والبركات من ربهم، فيلقونهم عند كل مطلع من مطالع القيامة، وعند كل شدة من شدائدها، بما يملأ قلوبهم أمنا وسكينة ورضا، قائلين لهم:
ألّا تخافوا مما أنتم مقدمون عليه من حساب وجزاء، ولا تحزنوا على فائت فاتكم في الدنيا، فقد أخذتم خير ما فيها، وهو الإيمان باللّه، والعمل الصالح الذي تقبله اللّه منكم، وأعد لكم الجزاء الطيب عليه، وهو الجنة التي وعدكم.. واللّه منجز وعده.
قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ}.
وإنه لكى يأنس المؤمنون بالملائكة الذين يلقونهم لأول مرة، يكشف لهم الملائكة عن تلك العلاقة التي كانت بينهم في الدنيا، إذ كان الملائكة- من غير أن يشعر المؤمنون- أولياء لهم، تجمع بينهم جامعة الولاء للّه، والطاعة له.. فهم والملائكة كانوا إخوانا في اللّه، ومن هنا كانوا يستغفرون للمؤمنين، كما يقول اللّه سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ} [7: غافر].
ثم إن الملائكة كانوا في الدنيا جندا من جنود اللّه، يقاتلون في سبيل اللّه مع المقاتلين في سبيله من المؤمنين، كما يقول سبحانه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ} [12: الأنفال].
قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ}.
الضمير في {فيها} للجنة التي جاء ذكرها في قوله تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.
.. أي أبشروا بهذه الجنة التي لكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، أي ما تتمنون، مما يطوف بخيالكم، ويقع في عالم الأمانى، فكل ما تتمنونه تجدونه حاضرا بين أيديكم.
وإنه ليس أهنأ للإنسان، ولا أسعد لقلبه، من أن يجد كل ما يتمناه حاضرا بين يديه، فتلك هي السعادة المطلقة، الخالية من كل شائبة من شوائب الحرمان، الكلّى أو الجزئى.
قوله تعالى: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} أي منزلا من غفور رحيم، قد أعده اللّه لكم وقد غفر لكم ذنوبكم، وأنزلكم منزل رحمته.. ومن نزل هذا المنزل فهو في ضيافة رب كريم، ينال من فضل اللّه ما يشاء.
وفى هاتين الصفتين الكريمتين من صفات اللّه سبحانه- إشارة إلى أن المغفرة والرحمة، هما اللتان أنزلتا المؤمنين هذا المنزل الكريم.. أما الإيمان والأعمال الصالحة، فهى وسائل يتوسل بها المؤمنون إلى مرضاة اللّه.. وفى الحديث «لا يدخل أحد الجنة بعمله» قالوا ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدنى اللّه برحمته».
فاللهم تغمدنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
الاستفهام هنا مراد به الخبر، أي أنه لا أحد أحسن في الناس قولا ممن دعا إلى اللّه، وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين.
والآية تنويه بالمؤمنين، الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا.. فقولهم ربنا اللّه، هو أحسن قول نطق به لسان.
والمراد بالدعاء إلى اللّه، الانجاه إلى اللّه، بأن يدعو الإنسان نفسه إلى ربه، وأن يخلص بها من مواقف الضلال، ومجتمع الضلالة، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم: {وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [99: الصافات].
وفى عطف العمل الصالح، على الدعاء إلى اللّه: {دعا إلى اللّه وعمل صالحا} إشارة إلى أن الدعاء إلى اللّه، وهو الإيمان به، لا يؤتى ثمره الطيب، إلا بالعمل الصالح.. فإذا اجتمع الإيمان باللّه، والعمل الصالح، فقد أمسك المؤمن بالخير من طرفيه، واستمسك بالعروة الوثقى من صميمها، وفى هذا يقول الرسول الكريم لمن جاءه يسأله عن طريق النجاة: {قل ربى اللّه ثم استقم}.
وفى قوله تعالى: {وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} إشارة إلى أن ثمرة الإيمان باللّه والعمل الصالح، إنما تظهر آثارها في المجتمع الإنسانى، وفى العطاء والأخذ بين الناس.. فالإيمان والعمل الصالح إذا أمسك بهما إنسان ثم عاش بهما في نفسه، منعزلا عن الناس، منقطعا عن الحياة، فذلك إنسان قد عطل الخير الكثير الذي معه، وأمسك به عن أن ينمو ويزدهر في مزرعة الحياة، وخير منه ذلك الإنسان الذي يعيش بإيمانه وبعمله الصالح مع الناس، فيتبادل معهم الخير، الذي يخصب وينمو بهذا التبادل! وهذا ما تشير إليه الآية التالية:
قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
فهذه الآية تشير إلى التطبيق العملي للإيمان والعمل الصالح، حيث يحتسب الإنسان نفسه واحدا من جماعة المسلمين، فيعيش معهم، ويلقاهم بإيمانه وبعمله الصالح، فلا يجزى السيئة بالسيئة، بل يلقى السيئة بالحسنة.
إذ لا تستوى الحسنة ولا السيئة.. ومن شأن المؤمن أن يأخذ بالأحسن دائما.
وقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي ردّ السيئة بالتي هي أحسن، وهى الإحسان في مقابل الإساءة.. فإن من حقّ الإنسان إذا أسيء إليه أن يردّ السّيئة بالسيئة، كما يقول اللّه تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} ثم يعقب ذلك بقوله: {فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
فردّ السيئة بمثلها، ليس حسنا ولا سيّئا، والعفو عن السيئة حسن، وأحسن من هذا الحسن أن تردّ السيئة بالحسنة.. فهذه درجات ثلاث، والمؤمن بالخيار فيها.. وخير المؤمنين من أخذ بالدرجة الثالثة، وهى دفع السيئة بالحسنة.
وقوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} بيان للأثر الطيب، الذي يجيء من هذا العمل الطيب، وهو دفع السيئة بالحسنة، وهو أنه بالإحسان إلى المسيء، تنطفئ نار الفتنة التي كان يمكن أن تشتعل من احتكاك السيئة بالسيئة.. ثم إن هذا المسيء الذي كان يتوقع الإساءة ممن أساء إليه- حين يرى أن اليد التي مدّها بالإساءة قد عادت إليه ملأى بالإحسان ممن أساء إليه، يستخزى من نفسه وتخفّ موازينه حين ينظر إلى فعله، وفعل المحسن إليه، فيذلّ، وينقاد.. إن لم يكن عاجلا فآجلا.
والخطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم، وهو خطاب لكل مؤمن باللّه ورسوله.. وقد كان النبي صلوات اللّه وسلامه عليه المثل الكامل في امتثال هذا الأمر الإلهى، وتطبيقه على أكمل صورة وأنمها، وحياة الرسول كلها مليئة بالشواهد لهذا.. فعلى كل خطوة من خطواته الشريفة على طريق دعوته، يقوم شاهد يحدّث بإحسان الرسول الكريم إلى من يسيئون إليه، ويؤذونه وحسبنا أن نذكر هنا موقفه في أحد، وقد أثخنه المشركون جراحا، فما زاد صلوات اللّه وسلامه عليه، على أن قال: {اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون}.
ثم بحسبنا أن نذكر موقفه يوم الفتح، وقد أصبح المشركون في قبضته، وفيهم كثيرون ممن آذوه بالقول وبالعمل، بل إن فيهم وحشيّا قاتل عمّه حمزة.
وقد لقى الرسول الكريم هؤلاء المشركين جميعا بالصفح الجميل، وقال لهم قولته الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
قوله تعالى: {وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
فى الآية الكريمة إشارة إلى أن هذا العمل، وهو دفع السيئة بالحسنة، ليس بالأمر الهيّن الذي تستطيع كل النفوس احتماله، وإنما هو من صنيع النفوس الكبيرة، التي آتاها اللّه قوة على الصبر والاحتمال، فلا يعكّر صفوها هذا المكروه الذي ورد عليها.
ما يضير البحر أمسى زاخرا أن رمى فيه غلام بحجر!
وفى قوله تعالى: {وَما يُلَقَّاها}.
إشارة إلى هذه الدرجة من العظمة الإنسانية، وإلى أن متنزلها من عل، وأنها هبة من هبات اللّه سبحانه، وعطاء من عطاياه. {وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} من فضل اللّه وإحسانه.
وهنا سؤال: إذا كان المؤمن في مجتمع المؤمنين مطالبا بأن يدفع السيئة بالحسنة، حتى ينال درجة الكمال والإحسان.. فهل يتوقع أن يرى- في مجتمع المؤمنين، من يأتى بالسيئة ابتداء، فيسيء إلى من لم يسئ إليه؟
والجواب على هذا، من وجهين:
أولا: أن القرآن الكريم حين دعا إلى دفع السيئة بالحسنة، إنما خاطب بذلك مؤمنا في جماعة المسلمين، وليس في جماعة المؤمنين، وذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
فالمسلمون أعمّ من المؤمنين، وقد يكون الإسلام باللسان دون القلب، وقد يكون باللسان والقلب وليس معه عمل، أما الايمان، فهو قول باللسان، واستيقان بالقلب، وتصديق بالعمل.. وعلى هذا يكون كل مؤمن مسلما، وليس كلّ مسلم مؤمنا.
فقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} وإن كان دعوة عامة للمسلمين جميعا، إلّا أنه منظور فيه إلى القمة العالية فيهم، وهم الذين أشار إليهم قوله تعالى: {وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
وثانيا: أن المؤمنين ليسوا درجة واحدة في مقام الكمال والإحسان.
ففي بعضهم من يسيء ابتداء، وفى بعضهم الآخر من يردّ الإساءة بالإساءة، وفيهم من يردّ الإساءة بالعفو، وفيهم من يردّ الإساءة بالإحسان، وهذا أعلى درجات الإيمان.

.تفسير الآيات (36- 43):

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
النزغ: المسّ والنخس، ويراد به ما يكون من لمّة يدخل بها الشيطان على الإنسان ليعد به عن سواء السبيل.
ومناسبة الآية لما قبلها أن الآية السابقة دعت إلى دفع السيئة بالحسنة، وإنه لن يقوم بالوفاء بهذه الدعوة إلّا من كان على درجة عالية من وثاقة الإيمان وقوة العزيمة.. وللشيطان هنا مداخل يدخل بها على من يجمع أمره على دفع السيئة بالحسنة، فيكون له نخسات ينخس بها في صدر المؤمن، كى يخرج به عن هذا الموقف الكريم.. وهنا لا يكون للمؤمن- كى يردّ كيد الشيطان ويخزيه- إلا أن يستعين باللّه منه.. فالاستعاذة باللّه من الشيطان خزى للشيطان، ودحر له، إذ يرى المؤمن وقد دخل في هذا الحمى الذي لا ينال، فيرتدّ مذموما مدحورا.
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
أي وإن من آيات اللّه السميع العليم، الليل والنهار والشمس والقمر.
فهذه العوالم، هي بعض الآيات التي تشهد بجلال اللّه، وقدرته، وأن المستعيذ باللّه إنما يستعيذ بمالك الملك، ربّ الأرباب، فلا يصل إليه أذّى، ولا يناله مكروه.
و{من} هنا للتبعيض.. أي ومن بعض آيات اللّه الليل والنهار والشمس والقمر.. وهناك آيات كثيرة لا تحصى، وإنما خصت هذه الآيات بالذكر لأنها تجمع الناس جميعا تحت لوائها، وكل إنسان داخل تحت سلطانها طوعا أو كرها.
وقوله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} نهى عن عبادة هذين فهما بهذا السلطان، قد فتنا كثيرا من الناس، حتى لقد اتخذهما بعض الشعوب آلهة يعبدونها من دون اللّه، في صور وأشكال شتّى من المراسم والطقوس.
وقوله تعالى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} أمر بعبادة الإله المستحق للعبادة، وهو الخالق، لا المخلوق.. فالشمس والقمر مما خلق اللّه، وعبادتهما ضلال.
وفى عود الضمير على الشمس والقمر جمعا للمؤنث العاقل في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَهُنَّ} في هذا أكثر من إشارة:
فأولا: الإشارة ضمنا إلى النهى عن عبادة الليل والنهار، لأن النهى عن عبادة الشمس والقمر، يتضمن- من باب أولى- النهى عن عبادة الليل والنهار، إذ كان الليل والنهار من مواليد الشمس، فهذا أشبه بالمخلوقين التابعين لهما، فإذا وقع النهى على عبادتهما، شمل ذلك النهى عن عبادة توابعهما، ولهذا جاء الضمير جمعا: {الَّذِي خَلَقَهُنَّ}.
وثانيا: الإشارة إلى أن هذه المخلوقات الليل والنهار والشمس والقمر، وإن بدت جمادا صامتا في نظر الإنسان، فإنها عند اللّه سبحانه وتعالى تسمع، وتبصر، وتعقل، وتتلقى أمر اللّه سبحانه وتستجيب له في ولاء مطلق.. ولهذا جاء الضمير للعقلاء.
وثالثا: الإشارة إلى أن هذه العوالم من ليل ونهار، وشمس، وقمر، وإن بدت ذات سلطان قائم على الناس، إلا أنها إلى جانب قدرة اللّه مستسلمة لا تملك من أمرها شيئا.. ولهذا لبست ثوب الأنوثة، الذي يدل غالبا على الضعف، وخاصة عند الجاهلين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، في موضع آخر: {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [18: الزخرف] وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} إشارة إلى أن إخلاص العبادة للّه وحده، هو الذي يعتبر عبادة مقبولة.. أما أن يعبد اللّه في صورة هذه المخلوقات، أو أن تعبد معه هذه المخلوقات تقربا بها إليه، فهذا ليس من عبادة اللّه في شيء.
قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} أي إن استكبر هؤلاء المشركون عن عبادة اللّه، وأبوا أن يعطوا ولاءهم خالصا مطلقا له، فاللّه سبحانه وتعالى في غنى عنهم، وإن استكبارهم هذا سيوقعهم تحت غضب اللّه، الذي لا يرجون له وقارا، ولا يخشون له بأسا.. وهذا ضلال مبين منهم، باستخفافهم بقدرة اللّه وبأس اللّه.. فالملائكة الذين هم أقرب خلق اللّه إليه سبحانه- وهم الملائكة المقربون- لم يكن لهم من هذا القرب ما يخليهم من خوف اللّه وخشيته لحظة واحدة، بل لقد كان خوفهم من اللّه وخشيتهم للّه على قدر قربهم منه.. فكلما ازدادوا قربا من اللّه ازدادوا خوفا وخشية، لأنهم يرون من جلال اللّه، ويشهدون من عظمته وقدرته مالا يشهده غيرهم.. وإنه على قدر المعرفة والشهود، تكون الخشية ويكون الولاء، ولهذا فهم يسبحون الليل والنهار، في صورة متصلة دائمة، {لا يسأمون} من هذا التسبيح، ولا يملّون، بل يزدادون مع دوام التسبيح نشاطا وقوة، لما يجدون من لذة ورضا بهذا الذكر المتصل الذي لا ينقطع به أنسهم وحبورهم في مناجاة ربهم.
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هو معطوف على قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي ومن آيات اللّه الدّالة على بسطة سلطانه، وكمال قدرته، ما تراه العين من هذه الحياة التي تلبس الأرض الميتة.. فبينما تقع العين على عالم فسيح من الأرض الجديب، والأصقاع الموات الهامدة، إذا هى- وقد أصابها الغيث، وجرى على وجهها الماء- حياة تموج في أعصابها، ودماء تتدفق في شرايينها، وإذا هي جنّات وزروع ونخيل وأعناب.
وقوله تعالى: {تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً} إشارة إلى ضراعة الأرض، في جدبها، ومواتها، وما تكون عليه من شحوب الفقر والمسغبة. إنها أشبه بالكائن الحىّ حين تنقطع عنه موارد حياته، فيضرع ويخشع، ويذل..!
وقوله تعالى: {فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} إشارة إلى تلك التفاعلات العجيبة، التي يحدثها التقاء الماء بالأرض الميتة.. فهذا الاهتزاز هو فرحة الحياة التي تسرى في هذا الجسد الهامد، وهذا الرباء والنماء هو من فعل تلك الحرارة التي تملأ كيان هذا الجسد المنكمش المقرور.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هو تعقيب على هذه الحقيقة التي يشهدها الناس من أمر الأرض الميتة، وما يلبسها من حياة دافقة، وشباب ناضر.. وإن هذه المقدرة التي أحيت تلك الأرض الميتة، لا يعجزها أن تعيد الأجسام الميتة الهامدة إلى الحياة مرة أخرى.. فهذا من ذاك سواء بسواء: فاللّه سبحانه الذي {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} بقدرته.
{إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هو تهديد لأولئك الذين أشار إليهم سبحانه في قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}.
وقد هدّدوا من قبل بعذاب اللّه، في قوله سبحانه: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ}.
ثم ها هم أولاء يتهددهم عذاب اللّه مرة أخرى بعد أن تليت عليهم آيات اللّه، وفيها معارض كثيرة لقدرة اللّه سبحانه، وما تملك هذه القدرة من اقتدار على البعث الذي ينكرونه، ولا يعملون له حسابا.
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا} أي الذين يستخفون بها، ويسخرون منها ويتعابثون عند الاستماع إليها- هؤلاء: {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا} بل إن علم اللّه سبحانه محيط بكل ما يسرون وما يعلنون، لا تخفى على اللّه منهم خافية.. ثم إنهم لمحاسبون، ومجزيون بأسوأ ما كانوا يعملون.
{أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي أفهذا العذاب وهذا البلاء، الذي يلقاه هؤلاء المجرمون- خير، أم جنات الخلد التي وعد المتقون؟ لا يستويان أبدا؟
وفى النظم الذي جاء عليه القرآن هنا من الاختلاف بين المتعادلين، ما يجعل هذا النظم على إيجازه يتسع للكثير من المعاني، حيث يرى في المعادل الأول، أن الذين يلقون في النار لم يلقوا فيها إلا بعد أن قطعوا طريقا طويلا مضنيا إليها، تطلع عليهم فيه المخاوف من كل جانب.. على حين يرى في المعادل الآخر، أن من يأتى آمنا يوم القيامة قد انتهى به هذا الأمن إلى أمن دائم، وهو الجنة التي طابت لأهلها مستقرا ومقاما: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [103: الأنبياء].. {يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} [12: الحديد].
وقوله تعالى: {اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هو تهديد بعد تهديد لهؤلاء المشركين، الذين لا يريدون أن يتحولوا أبدا عن هذا الموقف الضال من آيات اللّه، ومن رسول اللّه.. فليعملوا ما شاءوا.. إن اللّه بما يعملون بصير.. وإنهم لمحاسبون على ما يعملون، ومجزيّون بأسوأ الذي كانوا يعملون.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} الذكر: هو القرآن الكريم: وسمى ذكرا، لأنه يذكّر باللّه، ويكشف طريق الهدى إليه.
وخبر {إن} محذوف، وفى حذفه إشارة إلى أن يفسح المكان لكل وارد من واردات العذاب، والبلاء، ولكل صورة من صور الانتقام والنكال فيمكن أن يقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ} سيحشرون على وجوههم إلى جهنم.. لهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق- ويمكن أن يقال هنا، كلّ ما جاء في القرآن من صور العذاب والنكال لأهل الكفر، والإلحاد.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ} جملة حالية، تكشف عن هذا القرآن الذي يكفر به الكافرون، ويلحدون في آياته.. أي أنهم يكفرون بهذا القرآن مع أنه كتاب عزيز، أي منيع: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} وكيف يلم به الباطل من أية جهة، وهو {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}؟ فالحكيم لا يدخل على عمل من أعماله دخل أو فساد، فكيف بأحكم الحاكمين رب العالمين؟ والحميد المستحق لأن يحمد ويمجد، لا يكون حمده وتمجيده إلا لما هو قائم على الحكمة والسداد.. فكيف بمن هو المحمود وحده، حمدا مطلقا في السراء والضراء؟
قوله تعالى: {ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} أي أنك أيها النبي لست بدعا من الرسل، وإنما أنت رسول اللّه إلى عباد اللّه، تحمل دعوة الحق إليهم، أن يؤمنوا باللّه وحده، وألا يشركوا به شيئا.
فهذا هو مجمل رسالة رسل اللّه جميعا، وهو مجمل رسالتك، وعنوانها، وصميمها.. فالقول هنا بمعنى الوحى: أي ما يوحى إليك إلا ما أوحى إلى الرسل من قبلك، كما يقول اللّه سبحانه: {إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً} [163- 164: النساء] ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: {ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} أي ما يقال ذلك من هؤلاء المشركين من قومك، من تكذيب لك واتهام بالسحر والجنون إلا مثل ما كان يقال للرسل من قبلك من أقوامهم..
وفى هذا عزاء للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه.. ودعوة له إلى الصبر على ما يكره من قومه، كما صبر الرسل على ما رماهم به أقوامهم من سوء.
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} هو تعقيب على هذا الخبر، وهو أن الرسول ليس بدعا من الرسل، وأنه إنما يدعو بما دعا به رسل اللّه من قبله، من الإيمان باللّه وحده، من غير شريك له.. وفى هذا التعقيب دعوة إلى المشركين إلى الإيمان باللّه، وأنهم إذا آمنوا، وتابوا إلى اللّه، ونفضوا أيديهم مما يعبدون من آلهة، وما يفعلون من منكرات، تقبل اللّه توبتهم، وغفر لهم ما كان منهم.. وفى هذا التعقيب مع هذه الدعوة إلى الإيمان، والإغراء بالمغفرة تهديد بالعذاب الأليم، والعقاب الشديد، لمن لم يستجب لدعوة الإيمان، ولم يرجع إلى اللّه منيبا، تائبا.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} هو مقول القول للّه سبحانه وتعالى: {ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} أي ما يقال لك إلا هذا القول، وهو: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} وهو ما قيل لكل رسول من قبل.. فهذا هو الإله الذي يدعو إلى الإيمان به كل رسول من رسل اللّه.. إنه ذو مغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا، وذو عقاب أليم لمن صد عن سبيل اللّه، وكفر به، وسعى في الأرض فسادا.