فصل: تفسير الآيات (17- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (17- 20):

{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)}.
التفسير:
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية التي قبلها توعّدت الذين يجادلون في اللّه وفى آيات اللّه، من بعد ما استجابوا له، وآمنوا به- توعدتهم ببطلان حجتهم عند اللّه، وبحلول غضبه سبحانه عليهم في الدنيا، وعذابه الشديد لهم في الآخرة- فكان قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ} كان ذلك بيانا لمضمون ما تقرر في الآية السابقة، وأن الذين يحاجون في اللّه وفى الكتاب الذي أنزله من بعد ما استجيب للّه منهم- حجتهم واهية باطلة، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد، لأن اللّه سبحانه هو الذي أنزل هذا الكتاب بالحق، وأقامه في الأرض ميزان عدل وحق بين الناس.. وبهذا الميزان- ميزان الحق والعدل- ستوزن أعمال الناس يوم القيامة {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ} [6- 9: القارعة].
وقوله تعالى: {وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} استفهام يراد به التقرير، والإنذار بقرب الساعة، وأن المؤمنين بها، على رجاء اللقاء بيومها.
قوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}.
أي أن الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون لقاء اللّه، يستعجلون الساعة، استعجال التكذيب والتحدّى، ويقولون: {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}؟
أي متى هذا اليوم؟.
وفى تعدية الفعل {يَسْتَعْجِلُ} بحرف الجر الباء وهو فعل متعد بنفسه، إذ يقال مثلا: يستعجل الذين لا يؤمنون بالآخرة الآخرة- واللّه يقول: (أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (1- النحل)- إشارة إلى تضمين الفعل معنى المطالبة بها للتعجيز.. أي يطالب بالآخرة، ويستعجلون يومها، أولئك الذين لا يؤمنون بها.
واستعجال الذين لا يؤمنون بالآخرة ليوم القيامة، لأنهم يستعبدون وقوعه، كما أنهم لا يدرون ما يأتيهم منه من أهوال إذا وقع.. {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [13- 14: الذاريات].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} هو بيان لموقف المؤمنين من يوم القيامة، وهو موقف الخائف المشفق، لأنه يوم الحساب والجزاء، ويوم الأهوال والشدائد: {يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [2: الحج].
وفى النظم القرآنى ما يبدو في ظاهره، أنه جاء على غير الترتيب الذي يقع في نفس المؤمن، من مشاهد القيامة.. فالظاهر أن يؤمن المؤمن أولا بأن الساعة حق، ثم تكون خشيته، ويكون إشفاقه من لقائها.. ولكن النظم القرآنى قدم الخشية للقيامة، والإشفاق منها، على العلم بها وبأنها حق.. هذا ما يبدو في ظاهر الأمر.
والذي ينظر في النظم القرآنى، يرى أن الإشفاق قد تقدمه الإيمان، فالذين يشفقون من الساعة هم الذين آمنوا باللّه وباليوم الآخر.. كما يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها}.
إذ لا يكون المؤمن مؤمنا باللّه إلا إذا كان مؤمنا باليوم الآخر.. أما العلم فهو مادة من المعرفة التي يؤيدها الدليل، ويدعمها البرهان، حيث يجيء إلى الإيمان الغيبى، فيؤكده، ويثبت دعائمه في القلب.
وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} هو حكم على الذين يشكّون في الساعة، ويكذبون بها، ويمارون ويجادلون فيها- حكم عليهم بالضلال البعيد عن الحق: {فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [32: يونس] وماذا بعد الضلال إلا البلاء وسوء المصير؟.
قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ} يشير إلى ما للّه سبحانه وتعالى من لطف بعباده، ورحمة بهم، إذ بعث فيهم رسوله، وأنزل إليهم كتابه هدّى ورحمة.
وقوله تعالى: {يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ} إشارة إلى أن هذا الرزق الذي يسوقه اللّه سبحانه من لطفه ورحمته، هو رزق الإيمان، والهدى، ففى هذا الرزق تزكية النفوس وطهارتها بالإيمان وتقبلها للهدى، واتصالها بالملأ الأعلى، واستعدادها لدخول هذا الملأ، في جنات النعيم.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} إشارة إلى أنه سبحانه هو صاحب السلطان، المتصرف في ملكه كما يشاء، لا ينازعه أحد فيما يسوق من لطفه ورحمته إلى من يشاء من عباده.
قوله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}.
أي هذا رزق اللّه- من هدى ونور- ممدود مبسوط.. فمن كان يريد الهدى والإيمان، ويعمل للآخرة، ويغرس في مغارس الإحسان، يزد له اللّه سبحانه وتعالى فيما غرس، ويبارك عليه، ويضاعف له الجزاء أضعافا مضاعفة.
ومن أعرض عن الآخرة، وعمل للدنيا، وغرس في مغارسها، أخذ ثمر ما غرس في دنياه، واستوفى نصيبه منه، حتى إذا جاء إلى الآخرة، جاءها ولا نصيب له في خيرها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}! (18- الإسراء).

.تفسير الآيات (21- 26):

{أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
هو إضراب على موقف المشركين من قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى}.
ففى هذا دعوة للمشركين إلى الإيمان بهذا الدين الذي شرعه اللّه لهم، وإذ هم أبوا أن يستجيبوا لهذه الدعوة، فقد أضرب اللّه سبحانه عن دعوتهم إلى هذا الدين الذي شرعه لهم، ثم كشف سبحانه عن العلة التي تمسك بهم عن الاستجابة لهذه الدعوة، وهى أنهم على شريعة شرعها لهم رؤساؤهم، وسادتهم، وهى شريعة باطلة من مبتدعات أهوائهم، ونضيح ضلالانهم، لم يأذن بها اللّه، ولم يرسل بها رسولا من عنده.
وفى إطلاق الشركاء على زعماء الباطل، ودعاة الضلال، إشارة إلى أنهم يدينون بهذه الشريعة الباطلة، ويسبحون في ضلالها، مع أتباعهم.. فهم جميعا- أتباعا ومتبوعين- على سواء في هذا الضلال.
وقوله تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} كلمة الفصل، هي الكلمة التي سبقت من اللّه سبحانه وتعالى بأن يؤجل عذابهم إلى يوم القيامة {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً} [17: النبأ] ولولا هذه الكلمة لقضى بينهم في الدنيا، ولأخذهم العذاب كما أخذ الظالمين قبلهم.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي أن هؤلاء الظالمين إذا لم يقع بهم العذاب الدنيوي، فإنه ينتظرهم عذاب أليم في الآخرة.
قوله تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} هو انتقال بهؤلاء المشركين الظالمين من موقفهم في هذه الدنيا، إلى يوم القيامة، حيث يرون العذاب، فيقع في نفوسهم أنهم صائرون إليه، وأن ما أنذروا به في الدنيا قد وقع.. فقد كانوا لا يؤمنون بالبعث، ولا يؤمنون بالعذاب.
وها هو ذا يوم البعث.. ومن ورائه العذاب المرصود لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً} [53: الكهف].
وقوله تعالى: {وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ} الضمير للعذاب الذي جاء ذكره في الآية السابقة في قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
.. وفى عدم ذكره، والإشارة إليه بضميره- إشارة إلى أنه شيء مهول، وأن ما رأوا منه ليس إلا إشارة دالة عليه، أما ما غاب عن أعينهم منه، فهو الذي سيعرفونه حين يلقونه ويعيشون فيه، وهو مما لا يحدّه وصف، من هول وبلاء.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.
هو بيان لما يلقى الذين آمنوا وعملوا الصالحات في هذا اليوم، من نعيم في روضات الجنّات، التي عرضها السموات والأرض {لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} من عطائه الممدود، بلا حساب.
وقوله تعالى: {ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} الإشارة هنا، إلى ما ينال المؤمنون من عطاء ربّهم، وما يتلقون من فضله وإحسانه.. فذلك هو الفضل الكبير حقا، الذي يعدل القليل منه كلّ ما في الدنيا من مال ومتاع.. واللّه ذو الفضل العظيم.
قوله تعالى: {ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} الإشارة بذلك، بدل من الإشارة في قوله تعالى: {ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي ذلك الفضل الكبير، هو ذلك الذي يبشر اللّه به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات... يبشرهم به على لسان رسوله فيما ينزّل عليه من آيات ربّه، ويبشرهم به عند لقاء الموت حيث تلقاهم الملائكة بما أعدّ اللّه لهم من نعيم في الآخرة، وحيث يرون بأعينهم مقامهم في الدار الآخرة، ويبشرهم به يوم البعث، حيث يقومون ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، كما يقول اللّه تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [12: الحديد] قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}.
أي أن هذا الخير الكثير الذي يحمله النبيّ إلى المؤمنين، ويسوق إليهم ما يبشرهم به ربهم، من فضل وإحسان يلقونه في الآخرة {فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ} هذا كله لا يطلب النبي منهم عليه أجرا، فإن يكن ثمة أجر فهو رعاية حرمة القربى بينه وبينهم، وما ينبغى أن يكون بينه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وبينهم من رحمة ومودة،. وها هو ذا- صلوات اللّه وسلامه عليه- يصلهم بأعظم صلات الودّ بما يقدم إليهم من هذا الخير العظيم الذي يكفل لهم حياة طيبة كريمة في الدنيا، ونعيما ورضوانا في الآخرة.
ثم هاهم أولاء يلقونه- صلوات اللّه وسلامه عليه- بالقطيعة، ويرمونه بالعداوة، غير مراعين للقرابة حقّا، أو حافظين لها عهدا، أو مبقين على شيء من الإنصاف معه.. فلو أنهم أنصفوا القرابة، لما كان لهم أن يذهبوا إلى هذا المدى الذي ذهبوا إليه، من قطيعة النبي، والكيد له، والتربص به.. لأنه صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يكن قاطعا لهم، أو متوجها بكيد إليهم، أو متربصا بسوء بهم، بل إنه ليمد إليهم يدا كريمة بالخير والمعروف، ويوجه إليهم دعوة رفيقة حانية، تدعوهم إلى هذا الخير والمعروف.
وكان من شريعة الإنصاف إن لم يقبلوا هذه الدعوة، أن يردّوها برفق وأن يدعوا صاحب الدعوة وشأنه مع من يستجيبون لدعوته، ويطعمون من مائدته، لا أن يزعجوه ويزعجوا ضيف اللّه الذين دعاهم إليه!.
هذا وجه من وجوه تأويل هذا المقطع من الآية الكريمة.
ووجه آخر.. وهو أن النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- لا يسأل قومه أجرا على ما يحمله إليهم من رحمة اللّه، وفضله وإحسانه، وإنما ذلك منه صلوات اللّه وسلامه عليه- هو مودة في سبيل القربى، إذ آثرهم على غيرهم، وجعلهم أول من يمد يده الكريمة إليهم بالنور الذي معه.. فهو منهم، وهم أولى الناس ببرّه وإحسانه.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} [128: التوبة].
وقد بدأ النبيّ رسالته، وما تحمل من هدى وخير، بدعوة قومه إليها، فكانوا أول من استفتح بهم النبي الكريم دعوته، كما أمره اللّه سبحانه بذلك في قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [214: الشعراء].
هذا، ومن بعض التأويلات لهذا المقطع من الآية الكريمة أن المراد بالمودة في القربى، هي مودة آل البيت رضى اللّه عنهم، وهى الأجر الذي يطلبه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- من المؤمنين.. أي لا أسألكم أيها المؤمنون من أجر لى، ولكن أسألكم المودة لآل بيتي. فهو الأجر الذي أسألكم إياه، على ما أقدم إليكم من خير، وما أحمل لكم من هدى.
وهذا التأويل بعيد.. وذلك من وجوه:
فأولا: أن مودة المؤمنين بعضهم لبعض، هي من دين المؤمنين، فالمؤمنون كما يقول اللّه تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}.
وهم بهذا الولاء متوادّون، أو ينبغى أن يكونوا متوادين.. وأولى المؤمنين بمودة المؤمنين وولائهم، أقربهم إلى رسول اللّه.. فآل بيت رسول اللّه داخلون في هذه المودة العامة التي بينهم وبين المؤمنين، من باب أولى.. {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ}! فحبّ آل بيت رسول اللّه ومودتهم، من إيمان كل مؤمن، فلا يحتاج هذا إلى ذكر خاص.
وثانيا: الأجر الذي يطلبه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- ينبغى أن يكون لحساب الدعوة الإسلامية، لا لشخصه، ولا لذى قربى منه.
وهذا التأويل يجعل الأجر محصورا في هذا المعنى المحدود، الذي يذهب بكثير من جلال هذا الأجر الذي لا يوفّيه أجر مما في هذه الدنيا من مال ومتاع.
فالأجر الذي يطلبه النبيّ إنما يطلبه من اللّه، كما يقول سبحانه على لسان أنبيائه.
{وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ} (109، 127، 145، 164 180: الشعراء) وثالثا: هذه الآية مكية، وكان من آل بيت رسول اللّه كثيرون ممن لم يدخلوا في الإسلام، كعميه أبى طالب، والعباس، بل ومنهم من كان يؤذى النبي أذى، بالغا، ويكيد له كيدا عظيما، كأبى لهب، فلم يكن من المقبول- والأمر هكذا- أن تجيء دعوة السماء بمودة آل البيت الذين لم تتضح معالمهم في الإسلام بعد.. وأولى من هذا أن تكون الدعوة بالمودة عامة، بين النبي وقومه جميعا، وخاصة المشركين منهم، ويكون معناها الدعوة إلى التخفف من عداوتهم للنبىّ، وكيدهم له، وتركه وشأنه، مراعاة لتلك القرابة التي بينه وبينهم.. إذ لم يكن منه مساءة لهم، بل كان ودودا لهم، رحيما بهم، يريد لهم الخير، ويؤثرهم به.
ورابعا: أن الخطاب عام موجه إلى المشركين بصفة خاصة، الذين يحاجهم القرآن، ويتهددهم بالنار، ويعرض لهم في مقابلها الجنة، وما يلقى المؤمنون فيها.. {أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}.
أي لا أسالكم أجرا على هذا الخير الذي تنالونه من هذه الدعوة التي أدعوكم إليها، والتي إن استجبتم لها بلغتم منازل الرضوان، ونزلتم حيث ينزل عباد اللّه المكرمون في جنات النعيم.. وذلك كله في غير مقابل منّى، إلا أن ترعوا ما بينى وبينكم من قرابة، هي التي جعلتنى أبدأ بكم، وأوثركم على غيركم، وهذا من شأنه أن يحملكم على رعاية هذه القرابة، فلا تكونوا أنتم أول كافر بي، ثم لا تكونوا أنتم أول من يسعى بالضر والأذى إلىّ.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً}.
هو دعوة إلى المشركين الذين يقفون هذا الموقف العدائى من النبي، أن يأخذوا جانب الخير الذي يدعوهم إليه، وأن يتقبلوا منه هذه المودة التي يؤثرهم بها.. فمن استجاب منهم لهذه الدعوة، وآثر الإحسان على السوء، والإيمان على الكفر، فإنه سيلقى جزاء إحسانه إحسانا مضاعفا من اللّه.
وفى قوله تعالى: {يَقْتَرِفْ} وفى استعمال هذا الفعل في مقام الإحسان، على أنه يستعمل غالبا في مجال الشرّ والمساءة {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ} [113: الأنعام] في هذا إشارة إلى أن اليد التي تعمل السوء، تستطيع أن تفعل الإحسان، وأن الإنسان الذي يسلك طريق الشر، هو نفسه يمكن أن يسلك طريق الخير.. وإذن فإنه لا حجاز بين المشركين وبين الإيمان، وأنهم إذا كانوا يلبسون رداء الشرك الآن، فإنهم قادرون على أن ينزعوا هذا الثوب، وأن يتزبّوا بزىّ الإيمان.. في لحظة واحدة.
وهذا ما يشير إليه التعقيب على هذا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} فهذه مغفرة اللّه الواسعة، مبسوطة لمن يجيئون إليه، تائبين من ضلالهم، متبرئين من شركهم، حيث تشملهم الرحمة والمغفرة.. وحيث يشكر اللّه لهم ما صنعوا بأنفسهم من إحسان.. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} وإنه ليس أخسر صفقة، ولا أضلّ سبيلا، ممن يرى- وهو المذنب الغارق في الذنوب- يد المغفرة مبسوطة له، ويد الإحسان ممدودة إليه، ثم يحمد حيث هو، متلطخا بآثامه، غارقا في ضلاله.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
هو إضراب على موقف المشركين الذين دعوا إلى أن يخرجوا من موقفهم العدائى للرسول- إلى المحاسنة والمودة، إن لم يكن لأنه رسول اللّه، فلأنه منهم، وهم قومه، وأولى الناس به- ولكنهم أبوا أن يستجيبوا لهذه الدعوة التي تأتيهم من جهة القرابة والنسب، بعد أن رفضوا الدعوة التي جاءتهم من قبل السماء، هدى ونورا.
فهاهم أولاء ماضون في كيدهم للنبىّ، وعدوانهم عليه، واتهامهم له بالكذب: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}.
فهذا هو كل ما استقبلوا به الدعوة الكريمة إلى المودة في القربى.
إنه اتهام صريح للنبىّ بأنه كاذب افترى هذا القرآن الذي يدعوهم إليه، بدعوة اللّه.
وقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ}.
هو تهديد للمشركين بقبض هذه اليد الممدودة لهم بالهدى، ورفع هذه المائدة المبسوطة لهم بالخير.. وإذا هذا القرآن الذي نزل على النبي قد ختم عليه في قلبه- صلوات اللّه وسلامه عليه- فاحتواه كله، وغربت شمسه فيه، فلم يخرج منه شيء لهؤلاء المشركين، بل يتركون وما هم فيه من ظلام وضلال، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في قوله: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} [86- 87: الإسراء].. واللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يمحو هذا الباطل المجسد في هؤلاء المشركين ويقطع دابرهم، فلا ترى منهم أحدا، فبكلمة من كلمات اللّه، يمحو سبحانه هذا الباطل، ويقضى على أهله، ويحقّ الحق، ويثبت دعائمه.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي أنه سبحانه إذ يقضى قضاءه في هؤلاء المشركين، فإنما يقضى بعلمه الذي يكشف ما تنطوى عليه الصدور، فيهلك الضالين الظالمين، وينجّى المؤمنين المتقين.
والمشيئة هنا في قوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ} مشيئة غير واقعة، لأنها معلقة بشرط غير واقع.. فاللّه سبحانه لم يشأ أن يختم هذا الختم على قلب النبي.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} وقوله سبحانه: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ} [112: الأنعام]. وقوله جل شأنه: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً} [118: هود].
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} هو بيان شارح لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} فهذه الآية- كما قلنا- دعوة للمشركين الذين اقترفوا السيئات، أن يعودوا إلى أنفسهم، ويقيموها على طريق الهدى، ويقترفوا الحسنات، كما اقترفوا السيئات.. ثم كان أن تهدّدهم اللّه بما يقولون من منكر القول في رسول اللّه، وذلك ما حكاه القرآن الكريم عنهم في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}، ثم تهددهم بذهاب هذا النور الذي طلع في ظلام ليلهم إليهم، فقال تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
وفى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} عودة إلى المشركين بعرض هذا النور عليهم بعد أن آذنهم اللّه بزواله عنهم، وفى هذا وصل لتلك الدعوة التي دعوا إليها باقتراف الحسنة، وبيان شارح لها، على اعتبار أن هذا التهديد اعتراض واقع في ثنايا هذه الدعوة.
ففى قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} دعوة إلى التوبة، وإلى اقتراف الحسنات بعد اقتراف السيئات.. وفى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ} بيان للجهة التي يتوجه إليها التائبون بتوبتهم.. إنها إلى اللّه وحده.. فهم إنما يقدمون أعمالهم إلى اللّه، ويتوجهون بتوبتهم إليه، وعندئذ يجدون اللّه سبحانه هو الذي يتلقاها منهم.
وفى هذا إغراء باللّجأ إلى اللّه، وإطلاق الإنسان من أىّ ولاء لغير اللّه.. وذلك في أول الطريق إلى اللّه.. فإذا آمن باللّه، آمن برسول اللّه، وجعل ولاءه للّه ولرسوله، وللمؤمنين.
وفى تعدية الفعل (يقبل) بحرف الجر {عن} مع أنه يتعدى بمن، فيقال قبل فلان من فلان كذا، ولم يقبل منه كذا- في هذا إشارة إلى تضمين الفعل معنى الحمل، بمعنى أن اللّه سبحانه هو الذي يحمل التوبة عن عباده التائبين، وإن جاءت توبتهم محملة بالذنوب، مثقلة بالأوزار، فإن التوبة ترفع عن كاهلهم ما أثقلهم من ذنوب قد حملها اللّه عنهم.
وقوله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ} أي أنه سبحانه إذ يحمل التوبة عن عباده، ويتلقاها بما تحمل من أوزار وسيئات، فإنه سبحانه، يعفو عن تلك السيئات ويتجاوز عنها، ويغفرها لأصحابها.. فهو سبحانه الذي يقبل التوبة، وهو سبحانه الذي يملك العفو عن السيئات.. وهو سبحانه الذي يعلم ما يعمل الناس من خير أو شر.
وفى الآية الكريمة دعوة إلى العصاة والمذنبين أن يلوذوا برحمة اللّه، ومغفرته، وأن يوجهوا وجوههم إليه تائبين من ذنوبهم، نادمين على ما فرط منهم، فاللّه سبحانه وتعالى يلقاهم بالرحمة والمغفرة.
ففى الصحيح، من رواية عبد اللّه بن مسعود، رضى اللّه عنه، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «للّه تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم، كانت راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدى وأنا ربك»!! أخطأ من شدة الفرح.
هذا، وليست التوبة، كلمة يلفظ بها اللسان، وإنما هي نية منعقدة على الندم على ما وقع من ذنوب، وعلى العزم على تجنب المعصية.
روى عن جابر بن عبد اللّه، أن أعرابيا دخل مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال: اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك، وكبر (أي تكبيرة الإحرام للصلاة) فلما فرغ من صلاته، قال له علىّ كرم اللّه وجهه: يا هذا، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة! فقال: يا أمير المؤمنين.. وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب بالندامة، ولتضييع الفرائض، الإعادة، وردّ المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
قوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} أي وهو سبحانه، يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي أنه سبحانه يقبل على عباده التائبين، ويقبلهم.. فمعنى الاستجابة هنا القبول، ولهذا عدّى الفعل {يستجيب} لتضمنه معنى القبول.. أما الكافرون فلا يقبل عليهم اللّه سبحانه ولا يقبلهم ولهم عذاب شديد.. ويجوز أن يكون الفعل مسندا إلى {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} أي أنهم يستجيبون للّه، ويقبلون عليه تائبين.. وفى هذا إشارة إلى أن تقديم توبته سبحانه وإقباله على التائبين قبل أن يتوبوا- هي دعودة من اللّه سبحانه وتعالى إلى العصاة، وقد قبلت توبتهم قبل أن يتوبوا، وما عليهم إلا أن يستجيبوا للّه، ويقبلوا هذا العطاء العظيم، من الرب الكريم.