فصل: تفسير الآيات (66- 73):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (66- 73):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)}.
التفسير:
قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
هو عودة بالخطاب إلى المشركين، بعد أن ضرب لهم المثل بالمسيح بن مريم، وبما كان منهم من شغب في هذا المثل، وما كان من بنى إسرائيل من خلاف في شأنه.. وفى هذا الخطاب الاستفهامى تهديد للمشركين بما سيحل بهم، إذا هم أمسكوا بما هم عليه من شرك وضلال.. فماذا ينتظرون؟ إنه ليس وراء هذا الانتظار إلا أن يموتوا على شركهم، وإلا أن يجدوا أنفسهم فجأة، وعلى غير توقع منهم- أنهم بين يدى عذاب اللّه، الذي أعدّ للضالين المكذبين.
قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} الأخلاء: جمع خليل.. وهو الصاحب الذي اتصل الودّ بينه وبين صاحبه.
والمعنى: أنه في يوم القيامة يشغل كل إنسان بأمر نفسه، لما يرى من أهوال هذا اليوم.. {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [34- 37: عبس].. هذا شأن الناس جميعا.
أما أهل الضلال، وإخوان السوء، فإن لهم إلى هذا الشأن شأنا آخر.. وهو أنهم يترامون بالتهم، ويتقاذفون باللعنات.. كل منهم يلقى باللأئمة على صاحبه ويقول له أنت الذي دعوتنى إلى كذا وكذا من المعاصي، وأنت الذي زينت لى كذا وكذا من الشرور، كما يقول اللّه سبحانه على لسان المستضعفين، ونقمتهم على سادتهم وكبرائهم: {رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} (38: الأعراف).
وكما يقول سبحانه عن أهل الضلال جميعا: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ} [25: العنكبوت].
وقوله تعالى: {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} استثناء من هذا الحكم العام: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}.
فليس كل الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو.. وإنما هذا الحكم واقع على إخوان السوء، وأهل الضلال.. أما أهل الإيمان، والتقوى، المتحابون في للّه، المجتمعون على ذكره وطاعته- فهؤلاء يلقى بعضهم بعضا بالحمد والثناء، حيث كان بعضهم لبعض ناصحا وهاديا.
قوله تعالى: {يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}.
هو دعاء من رب كريم، لعباده المتقين، الذين استخلصهم سبحانه من بين هذه الجموع المتخاصمة الملاعنة من أهل الفسق والضلال.
فأهل المحشر جميعا بعضهم عدو لبعض إلا المتقين، الذين ينادون من قبل الرحمن بقوله تعالى: {يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}.
وفى نداء المتقين من بين هذا المعترك الصاحب من حولهم، وفى إضافتهم إلى اللّه سبحانه وتعالى: {يا عِبادِ} لطف من لطف اللّه بهم، حيث تسكن بهذا النداء الكريم نفوسهم المضطربة، وتطمئن قلوبهم الواجفة، لما يرون من تناهش أهل الضلال حولهم، وتراميهم بالعداوة والشنآن.. فإذا سمعوا هذا النداء الكريم بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أمنوا من خوف، واطمأنوا من فزع.. إنهم ناجون وحدهم من بين الركب الذي تتخبط به السفينة في متلاطم الأمواج، وتوشك أن تهوى إلى القاع!.
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ}.
هو وصف لهؤلاء العباد، الذين ناداهم الحق جل وعلا بقوله: {يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}.
فهم إنما استحقوا هذا التكريم من اللّه سبحانه وتعالى، بندائهم، وبإضافاتهم إلى ذاته جل وعلا.
لأنهم آمنوا بآيات اللّه.. وكانوا مسلمين.
وفى وصفهم بالإيمان، ثم وصفهم بأنهم كانوا مسلمين قبل أن يكونوا مؤمنين- في هذا إشارة إلى أنهم قبل أن يؤمنوا على يد الرسل، ويصدّفوا بآيات اللّه التي في أيديهم- كانوا مسلمين، أي على فطرتهم السليمة، التي لم تفسدها الأهواء الموروثة، لقل كانوا على السلامة والبراءة، حتى إذا التقوا برسل اللّه، ونظروا فيما معهم من آيات، استجابوا لدعوة الحق، وآمنوا بآيات اللّه.. أشبه بالأرض الطيبة، التي احتفظت بكل ما فيها خير، حين لم تجد الماء الذي يحيى مواتها، حتى إذا غائها الغيث، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج كريم.. وليس كذلك الأرض الخبيثة، فإنها حين لا تجد الماء، حيث تنضح بكل ما فيها من خبث، فتصبح منبتا للحسك والشوك، ومأوى للآفات والهوام.
وقوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ}.
بعد أن يجتمع المؤمنون على هذا النداء الكريم من ربهم، يدعوهم اللّه سبحانه وتعالى إلى ضيافته في الجنة.. {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ} أي حيث تلقون المسرة والحبور مع أزواجكم اللاتي آمنّ معكم.
وبهذا يكمل أنسهم، ويتم نعيمهم.
قوله تعالى: {يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ}.
فى الانتقال من الخطاب في قوله (أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) إلى الغيبة، في قوله تعالى: {يُطافُ عَلَيْهِمْ} بدلا من {يطاف عليكم} في هذا إلفات للأنظار إلى هذا النعيم الذي يساق إلى عباد اللّه المتقين، الذين استضافهم سبحانه وتعالى في رحاب كرمه، وأنزلهم منازل رضوانه.. وفى هذا ما يبعث في قلوب المكذبين والضالين، من حسرات، إلى ما هم فيه من آلام، وأحزان، كما أنه يضاعف من نعيم أهل هذا النعيم، حيث ينظرون إلى أنفسهم وإلى ما هم فيه من عافية، وحيث يلقى غيرهم صنوف البلاء والهوان.
وفى قوله تعالى: {بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ} إشارة إلى الطعام وهو في آنية الطعام، وهى الصحاف، جمع صحفة.. وإلى الشراب وهو في آنية الشراب، وهى الأكواب: جمع كوب.. وهى جميعا من ذهب.
وقوله تعالى: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} إشارة أخرى إلى أن وراء هذه الأطعمة والأشربة التي يطاف على أهل الجنة بها- وراء هذه الأطعمة كل ما تشتهى الأنفس من طيبات.. فلا يطلب أحد شيئا إلا وجده حاضرا بين يديه، كما يقول اللّه تعالى: {وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ} [31: فصلت].
وقوله تعالى: {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} إشارة ثالثة إلى ما للأعين من متع خاصة، تجدها فيما ترى من آيات اللّه، وبديع صنعه في هذه المنازل الكريمة، التي استضافهم اللّه سبحانه وتعالى فيها.
هذا، وقد تأول بعض المفسرين قوله تعالى: {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} بأنه النظر إلى اللّه سبحانه وتعالى، حيث لا يكمل نعيم أهل الجنة إلا بالنظر إلى اللّه سبحانه، فيتجلى اللّه سبحانه وتعالى على أهل الجنة، فيكون لهم من ذلك ما لا يحيط به الوصف من رضا ورضوان.
هذا وقد أشرنا في أكثر من موضع إلى أن هذه الأوصاف الحسية التي يذكرها القرآن لنعيم الجنة، من ألوان الطعام والشراب، وأنواع اللباس والحلىّ- كلها مما يساق إلى أهل الجنة، الذين كانوا يشتهون هذه الأمور في الدنيا، ثم تقصر أيديهم عنها، أو كانوا يحرمون أنفسهم منها، ابتغاء مرضاة اللّه!.
فكان من تمام إكرامهم، أن يجدوا بين أيديهم كل ما كان من نعيم الدنيا، الذي فاتهم حظهم منه.. عجزا، أو استعلاء.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ}.
الإشارة إلى الجنة هنا، هي دعوة لأهلها إلى أن يزفّوا إليها، وأن ينالوا منها ما يشاءون.. فقد أصبحت ملكا لهم، يتصرفون فيها تصرف المالك فيما ملك.
وقد عبّر القرآن عن الملك بالميراث، لأمرين:
أولا: أن الوارث لا يبخل على نفسه بالتمتع بكل ما ورث، حيث لا يشتد حرصه عليه، لأن ما ورثه قد جاء إليه من غير عناء.. وفى هذا دعوة إلى أهل الجنة أن ينالوا من هذا النعيم الموروث ما يشاءون، غير مضيقين على أنفسهم في شيء.
وثانيا: أن هذه الجنة التي نزل المؤمنون رحابها، وورثوا نعيمها- هي فضل من فضل اللّه عليهم، وإحسان من إحسانه إليهم، وأن أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا ليست هي الثمن الذي يكافئ هذا النعيم العظيم.
وأن هذه الأعمال لم تكن إلا سببا ووسيلة يتوسلون بها إلى مرضاة اللّه.
كما يتوسل الوارث إلى مورثه بسبب من قرابة ونسب، فتكون هذه القرابة سببا لميراث ما يرث، وإن لم يكن له فيما ورثه من عمل.
أما قوله تعالى: {بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فهو لتحقيق أمرين كذلك.
أولهما: الاحتفاء بالأعمال الصالحة، والإشارة بقدرها، وإلى أنها تثمر ثمرا طيبا.. وأن من يغرس في مغارسها لابد أن يجنى منها ثمرا طيبا مباركا.
وثانيهما: تكريم العاملين، وإطعامهم من ثمرة عملهم.. ففى هذا لذة مضاعفة لهذا الثمر الذي غرسوا مغارسه، وتعهدوها بالعمل.. على خلاف ما يناله الإنسان عفوا من غير عمل له.. فإنه وإن كان طيبا كريما، يجد فيه المرء هناءته وسعادته- فإنه يقوم معه شعور في النفس بأنه ليس ملكا خالصا لصاحبه، وأنه أشبه بالضيف الوارد عليه.. وفى هذا ما يزعج الإنسان عما يجد فيه من هناءة وسعادة.
وفى التعبير القرآنى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ما يجعل هذه الجنة ونعيمها، ملكا، مصفّى من كل شائبة، معزولا عن كل شعور يعزل الإنسان عن هذا النعيم، أو يقطعه عنه.. فهى ميراث ينفق منه الإنسان كيف يشاء، وينال منه ما يريد.. وهى ثمرة عمل وجهد.. ومن حق العامل أن ينعم بما عمل!.

.تفسير الآيات (74- 83):

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ}.
هو بيان لما يلقى أهل الضلال والكفر من عذاب وبلاء في الآخرة، بعد هذا البيان الذي كشف عما للمؤمنين المتقين عند اللّه من جنات ونعيم.. فالناس في الآخرة فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير.. فريق يتلقى الكرامة والتكريم، وفريق يلقى الهوان والعذاب.
وفى التعبير عن أهل الضلال بالمجرمين، إشارة إلى أنهم أصحاب جنايات جنوها على أنفسهم وعلى غيرهم من عباد اللّه.. وأن هذا العذاب الذي يعذّبون به في الآخرة بالخلود في نار جهنم- إنما هو جزاء لهذه الجرائم التي اقترفوها في دنياهم.
قوله تعالى: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}.
هو صفة للعذاب الذي يخلد فيه المجرمون.. فهو عذاب لا ينقطع عنهم أبدا، ولا يفتر أو يضعف أبدا، بل هو متصل دائما، وعلى حال واحدة من الشدة والبلاء، وإن اختلف صورا وألوانا.
وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} حال كاشفة عن هؤلاء المجرمين وهم يصلون هذا العذاب الأليم.. والإبلاس: هو الوجوم، والجمود، من شدة الحزن واليأس.. فهم أجسام قد تبلدت فيها العقول، وجمدت منها المشاعر، وذهلت النفوس.
قوله تعالى: {وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}.
أي أن هذا العذاب الذي هم فيه، لم يكن لظلم وقع عليهم، حيث يراهم الرائي فيستفظع هذا العذاب، الذي لا ينقطع أبدا، ويخيل إليه أنه ليس هناك من ذنب يستحق هذا العذاب الذي لا تحتمله السموات والأرض.. وكلا فإنهم لم يظلموا، وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم، فأوردوها هذا المورد، وسعوا بها إلى هذا البلاء، فكفروا باللّه، وحاربوا الخالق، وخرجوا بهذا على الولاء للّه، والانقياد لرب العالمين، الذي انقاد له الوجود كله.
قوله تعالى: {وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ}.
مالك، هو الملك الموكّل بالنار من عند اللّه سبحانه وتعالى، وهو الذي يقوم على أهل النار، كما يقوم السبحان على المسجونين.
وفى قولهم: {يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} ما يكشف البلاء النازل بهم، كما يكشف اليأس الذي وقع في نفوسهم من أن ينالوا من اللّه خيرا.. فهم لا يرجون اللّه في هذا اليوم، ولا يطمعون في رحمته، حتى إنهم لينادون مالكا:
{يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} ولم يقولوا {ليقض علينا ربنا} إنهم على يأس من أن ينسبوا إلى اللّه، وأن يقبل اللّه منهم قولا.. وذلك من ضلالهم الذي صحبهم في آخرتهم. فلم يقدروا اللّه قدره.. ولم يروا سعة رحمته.
وقوله تعالى: {قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ} هو ردّ مالك على ما طلبوه منه أن يسأل ربه القضاء عليهم، وإهلاكهم، حتى ينقطع عنهم هذا العذاب.
وقول مالك: {إِنَّكُمْ ماكِثُونَ}.
أبلغ من قوله إنكم لن تموتوا أو لن يقضى عليكم، لأن قوله: {إِنَّكُمْ ماكِثُونَ} يدل على أنهم لن يموتوا، ولن يقضى عليهم، كما يدل في نفس الوقت على أنهم لن يتحولوا عن حالتهم تلك التي هم فيها.. إنهم ماكثون فيما هم فيه من عذاب أليم، وعلى تلك الحال التي هم عليها.
أما لو قيل لهم لن يقضى عليكم، أو لن تموتوا، فقد يظلون أحياء، ولكن في غير صحبة هذا العذاب الذي معهم! وإن كان ذلك بعيدا عن محامل اللفظ، إلّا أن المكروب يتعلق بأوهى الأسباب، وفى هذا القول متعلق لهم، وإن كان متعلقا كاذبا.. فجاء قوله تعالى: {إِنَّكُمْ ماكِثُونَ} ليقطع حتّى هذا الوهم الذي يتعلقون به!.
قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ}.
يكاد يجمع المفسرون على أن هذا الخطاب موجه إلى أهل النار، وأنه من مقول القول الذي ردّ به مالك عليهم، وأن جمع الضمير في قوله {جِئْناكُمْ} لأن مالكا إنما يتحدث إليهم بلسان الملائكة الذين هو منهم، والذين جاوءا إلى هؤلاء المشركين بالحق من ربهم، فيما حملوا إلى رسل اللّه من آيات اللّه! وهذا مردود من وجهين:
فأولا: في قوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ} ما يشير إلى أن بعضا من المخاطبين بهذا الحديث غير كارهين للحق، بل هم مستعدون لقبوله، والانتفاع به.
وهذا لا يتفق مع أهل النار، الذين قيل إن هذا الخطاب موجّه إليهم، إذ ليس فيهم أحد لم يكن كارها للحق، مجانبا له، بل ومحاربا لكل من يتجه إليه.. ولو كان على غير تلك الصفة لما ورد هذا المورد، ولما لقى هذا المصير المشئوم!! وثانيا: أن قوله تعالى في الآية التالية: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}.
هو- وبإجماع المفسرين- خطاب إلى المشركين! وهذا الخطاب- كما ترى متصل بالكلام الذي سبقه، إذ هو إضراب عنه، وإنشاء لخطاب آخر معهم.. كما سنرى.
وعلى هذا، فإن قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ} هو خطاب.
من اللّه سبحانه وتعالى للمشركين، على لسان النبي صلوات اللّه وسلامه عليه.
وفى هذا الخطاب ردّ على هؤلاء المشركين، الذين يدعون إلى هذه النار التي يعذّب فيها المجرمون، الذين نادوا مالكا قائلين: {لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} هؤلاء المشركون يدعون في هذه اللحظة إلى تلك النار، وهم إذ يطلبون وجها للفرار منها، يلقاهم هذا القول الذي يمسك بهم، ويدفعهم دفعا إلى جهنم: {لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ}.
والمخاطبون بهذا إنما هم أكثر المشركين الذين كانوا إلى هذا الوقت يقفون من اللّه هذا الموقف العنادي، فأبوا أن يستمعوا لآيات اللّه، وأن يستجيبوا لها.
أما الذين استجابوا للرسول، وآمنوا باللّه، فقد كانوا قلة قليلة منهم.
ولهذا صح أن يخاطبوا بقوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ}.
قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}.
هو إضراب عن هذا الخطاب الذي وجه إليهم، والذي كان من شأنه أن يحدث لهم ذكرا، وأن ينقادوا للحق، ويذعنوا له.. وأما ولم يكن لهم من هذا الحديث عبرة وعظة، فقد كان من التدبير الحكيم أن يطوى عنهم هذا الحديث، وأن يواجهوا بهذا الواقع الذي هم فيه، وهو أنهم قد أبرموا أمرهم وأحكموه على هذا الضلال، واللّه سبحانه قد أحكم أمره، على أن يأخذ المجرمين يجرمهم.. وفى هذا وعيد لهم بما سيلقون من عذاب أليم، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون.
قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}.
هو إضراب أيضا عن الخطاب الذي وجه إليهم في قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}.
حيث أن هذا الوعيد الذي يحمله الخطاب إليهم لم يلق منهم إلا استهزاء، واستخفافا، لأنهم على ظنّ بأن لا بعث، ولا حساب، ولا جزاء.. وأنه إذا كان بعث وحساب وجزاء- فأين هي أعمالهم التي يحاسبون عليها؟ ومن رآها منهم وأحصاها عليهم؟ وإذا كان هناك من يرى أعمالهم الظاهرة التي يعملونها على مشهد من الناس، فأين من يعلم ما يعملونه في الخفاء، وما يضمرونه في الصدور؟.
فجاء قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ} ليكشف عن هذا الوسواس، الذي توسوس به لهم ظنونهم الكاذبة، عن علم اللّه سبحانه وتعالى، وليقرر لهم الحقيقة التي غابت عنهم، وهى أن كل شيء عملوه في السرّ أو في الجهر، يعلمه اللّه الذي لا تخفى عليه خافية.. بل وليس هذا فحسب، بل إن أعمالهم كلها- سرها وجهرها- مسجلة في كتب يكتبها رسل من عند اللّه موكّلون بهم.. {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [18: ق].
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ}.
هو بيان للموقف الذي يتخذه النبي من دعوى المشركين بأن للّه ولدا، وهم الملائكة الذين نسبوهم إلى اللّه، ثم عبدوهم من دونه.
فلو أنه سلّم بهذا الأمر جدلا، وكان للرحمن ولد كما يزعمون- فهذا لا يجعل للولد مكانا متقدما على الوالد، حتى يؤثر بالعبادة من دونه.. فالوالد مقدّم على الولد رتبة وزمانا.. فهو بهذا معبود قبل أن يوجد الولد.. فإذا وجد الولد بعد هذا، فليس له أن يزيل الوالد عن مكانه! وعلى هذا، فإنه لو سلّم للمشركين بما يقولونه من أن للّه ولدا، فإن هذا لا يعطيهم حجّة على عبادة الولد دون الوالد.. ولهذا كان أن واجههم النبي بما ينبغى أن يكون عليه الأمر- على فرض التسليم بدعواهم الباطلة- وهو أن النبيّ أول العابدين للّه، دون التفات إلى هذا الولد على فرض التسليم به..!
وهذا الأسلوب في محاجّة الخصم، هو أبلغ الأساليب في إفجامه، وقطع حجته، وذلك بإقامة الحجة عليه من واقع إقراره واعترافه، عملا بالمثل القائل: من فمك أدينك.
قوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
هو تنزيه للّه سبحانه وتعالى عن هذا القول الذي يقوله المشركون باللّه، من نسبة الولد إليه، والذي سلم به جدلا، لإظهار فساد منطقهم حتى مع هذا المدعى الباطل الذي يدّعونه على اللّه.. أما اللّه سبحانه وتعالى فهو منزه عن أن يكون له ولد.. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}.
هو استصغار لأحلام هؤلاء المشركين، وأنهم أشبه بالأطفال، يخوضون ويلعبون، فلا معتبر لما يقولون.. لأنهم يرمون بالكلام على عواهنه، دون أن يكون لعقولهم نظر فيه، أو تقدير له، ولهذا فإن الأولى بالنبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن ينصرف عنهم، وأن يدعهم لما هم فيه من لهو ولعب، حتى تقع بهم الواقعة، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون.