فصل: تفسير الآيات (45- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (45- 46):

{إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)}.
التفسير:
متعلق الظرف {إذ} هوقوله تعالى: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.
أي لم تكن يا محمد شاهدا لأمر مريم، وما وقع فيه من خصام في الولد الذي جاءت به من غير أب، إذ جاء هذا الولد بنفخة من روح اللّه، وبكلمة منه.
وقوله تعالى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} هو الاسم الذي اختاره اللّه لهذا المولود {الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}! فالمسيح صفة هذا المولود، وقد ورد كلمة مسيح في كثير من المواضع في التوراة، وترجمها اليهود الذين كتبوا الترجمة اليونانية السبعينية للتوراة حوالى (38 ق. م) باللفظ اليوناني الذي معناه الشخص الذي مسح بالزيت المقدس، وهو زيت الزيتون.. وكلمة مسيح في العبرية تنطق هكذا: مسيح و{عيسى} هو اسمه.
و{ابن مريم} هو صفة تكشف عن نسبه إلى من ولده، وهى أمّه، على حين ينسب الأبناء إلى آبائهم، وإذا كان ولا أب له، فإن نسبته إلى أمّه أمر لازم، لابد منه.
وقوله تعالى: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} الوجاهة هنا الرفعة وعلوّ الشأن.. أما في الدنيا، فيكاد المسيح- عليه السّلام- يكون واحدا من أفراد يعدّون على أصابع اليد، ملأ الدنيا ذكرهم، وعمرت قلوب الناس بحبّهم والولاء لهم.
وأما الآخرة فعند اللّه وفاء هذا الوعد الكريم الذي وعده به. {وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.
قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}.
كلام المسيح في المهد:
ذكر القرآن الكريم، في أكثر من موضع، أن المسيح- عليه السلام- تكلم في المهد، وذلك، ليكون آية على طهر أمه وعفافها، وبراءة عرضها من أن يعلق به شيء مما تلوكه الألسنة، وتوسوس به الظنون، في حال كحال مولود يولد من غير زواج معترف به شرعا، أو عرفا! ففى البشارة الأولى التي تلقتها مريم من السماء، يكشف لها الوحى، عن وجه هذا الغلام، الذي ستلده العذراء هذا الميلاد العجيب، الذي لم تعهده في الناس، ولم تعلمه في واحدة من بنات جنسها، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [45- 46: آل عمران].
والصفة البارزة التي لهذا الوليد هنا، هي نطقه وهو في المهد، وحديثه إلى الناس حديثا واضحا مفهوما.. أما وجاهته في الدنيا والآخرة، فهو أمر معنوى، لا ينكشف للناس انكشاف الكلام في المهد، ولا يقع منهم موقع هذا الكلام الذي يثير العجب والدهش، ولا يدع لأحد سبيلا إلى الإنكار أو المكابرة ولكن هنا سؤال هو: ما وجه الإخبار عن كلام المسيح كهلا، إلى جانب الإخبار عن كلامه في المهد.. مع أن كلامه كهلا أمر مفروغ منه، والإخبار به نافلة غير مطلوبة في ظاهر الأمر؟
أكثر أقوال المفسرين لتعليل هذا، أنه إخبار عن رجعة المسيح- في آخر الزمان- وذلك أنه مات في سنّ الكهولة، وأنه سيعود إلى الدنيا مرة أخرى في سنّ الكهولة.. وهذا تعليل- إن صح- فإنه يقوم على اعتبار أن رجعة المسيح أمر سيقع، وأنه لا وجه لهذا التعليل إذا كانت تلك الرجعة مشكوكه فيها، أو مقطوعا بعدم وقوعها.
وإذا كان من رأينا أن رجعة السيد المسيح من الأمور غير المحققة، وأن الشك في وقوعها- في رأينا- يغلب أي احتمال ينبنى على روايات وآثار تقول بها- إذا كان هذا هو رأينا، فإننا نرى لتعليل هذا الأمر- وهو كلام المسيح كهلا- وجها آخر.
فنقول- واللّه أعلم-: إنه لمّا كان النطق في المهد أمرا واقعا على غير المألوف، خارجا عن طبيعة البشر، فقد يقع في حساب الناس وتقديرهم أن هذا الوليد الذي تكلم في المهد، سيسلك في الحياة مسلكا غير مسلكهم، ويسير في طريق غير طريقهم، وأنه وقد بدأ حياته متكلما يوم مولده، فغير مستبعد أن يكون كلاما بعد أن يكبر ويشب واقعا على صورة أخرى مفارقة لكلامه في المهد.. فالطفل يبدأ الكلام بأصوات أشبه بأصوات الحيوان.. ثم تستبين تلك الأصوات شيئا شيئا، حتى تصبح لغة واضحة، ذات دلالة محدودة مفهومة.. وقياسا على هذا.. قد يقع في التقدير أن كلام المسيح سيتدرج كما يتدرج كلام الطفل.. وأنه وقد بدأ بالكلام واضحا فصيحا من أول يوم، فإنه في تدرجه بعد هذا سينتهى إلى صورة أخرى من الكلام، يكون الفرق بين أولها وآخرها، كالفرق بين أصوات الطفل، وبين كلامه في الكهولة والشباب! هذه بعض المفاهيم التي يمكن أن تقع في الأفهام وتدور في الخواطر، عن هذا الحدث العظيم.. وهذا ما يدفعه قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}.
حيث تقرّر الآية أن كلام عيسى في المهد وكلامه في الكهولة على سواء، لا اختلاف بينهما، وأن صلة التفاهم لا تنقطع بينه وبين الناس في مراحل حياته، وأنه إذا كلّمهم في مولده بلغة سليمة مفهومة، فإنه سيكلمهم بهذه اللغة أيضا في أدوار حياته.. وبهذا تعلم مريم من أول الأمر أن وليدها الذي سيتكلم في المهد، لا يخرج به ذلك عن طبيعة البشر، ولا يجعل منه مولودا شاذا، تشقى به أمه، وتعانى من شذوذه هذا، ما تعانى الأمهات من مواليدهن الذين يجيئون على غير مألوف الحياة.
وقد يكون لمعترض أن يلقانا بهذا السؤال: لم نصّ القرآن على دور الكهولة وحده، دون أدوار الحياة الأخرى.. من صبا وشباب وشيخوخة؟.
والجواب على هذا، هو: أن دور الكهولة هو الدور الذي يبلغ فيه الإنسان تمام نضجه الجسدى والعقلي.. فإذا كان كلام المسيح في المهد وفى الكهولة على حال واحدة، كان ذلك هو المعيار الذي تنضبط عليه لغته، وطريقة حديثه إلى الناس، في جميع أدوار حياته.
وندع هذا، لنصل ما انقطع من حديثنا عن كلام المسيح في المهد- فنقول:
إن مريم- عليها السلام- إذ تلقت هذه البشرى من رسول ربها، قد لفتها منها أمران: أن يكون لها ولد من غير أن يمسسها بشر.. ثم أن يكون هذا المولود على صفات خاصة.. أهمها أنه يتكلم في المهد، كلاما سليما واضحا، كما يتكلم الراشدون من الناس.
ولعلّ مريم لم تلتفت كثيرا إلى ما لهذا الوليد من صفات، إذ كان شغلها الشاغل إذاك، هو أن تلد مولودا من غير زوج يتصل بها.
ولهذا كان عجبها ودهشها، في هذا الاستفهام الإنكارى الذي ذكره القرآن على لسانها: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}؟.. فهذه هي مشكلتها، وهذا هو موضع عجبها، ودهشها في تلك الحال.
ثم إنه حين تم لها ما أراد اللّه، وجاءها المخاض، ووجدت نفسها أمام الأمر الواقع، وأنها في وجه فضيحة لا دفع لها- كان عزاؤها الوحيد في تلك الحال هو ما كان قد أبلغها إياه رسول ربّها، بأن وليدها سيتكلم في المهد، وسينطق بالشهادة التي تدفع قالة السوء عنها.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [27- 33: مريم] ففى هذا الموقف المتأزّم جاءت المعجزة، لتواجه القوم، ولتخرس تلك الألسنة المتطاولة، ولتأخذ على المتقوّلين فيه وفى أمّه كل سبيل.. فهذا الوليد الذي ولد لغير أب، قد نطق في المهد وتكلّم في حال لا يتكلم فيها طفل غيره.. فمولده من غير أب، وكلامه في المهد، على حدّ سواء، في الغرابة والاستنكار.. وأنه إذا كان لأحد أن ينكر هذه المعجزة القاهرة، وهى معجزة كلام الوليد في المهد، فلينكر ميلاد هذا الوليد غير أب!!.
وكلام السيد المسيح هنا صريح واضح، على شاكلة ما يتكلم به قومه، وباللغة التي يتعاملون بها، وقد فهموا عنه ما قال، ولم يكن ما نطق به محتاجا إلى تأويل أو تخمين.
وقد ذكر القرآن الكريم مرة ثالثة كلام المسيح في المهد، في معرض الامتنان على المسيح نفسه، بما كان من نعم اللّه عليه، وألطافه به.. حيث يقول سبحانه وتعالى: {إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} [110: المائدة] ويلاحظ هنا أيضا كلام المسيح في المهد وكلامه كهلا، وذلك ليذكر المسيح- وهو المخاطب بهذا من ربّ العالمين- أن كلامه في المهد كان على صورة هذا الكلام الذي يتكلم به في كهولته.. فيه العقل والمنطق والحكمة، وليس أصواتا كأصوات الأطفال، ولا لغوا كلغو الصبيان!.
والسؤال هنا.. هو: هل كان كلام المسيح في المهد حدثا وقع في موقف الدفاع عن التهمة التي رميت بها أمه من قومها.. ثم أمسك المسيح بعدها عن الكلام، ليأخذ الحياة على مألوف المواليد من الناس، وليدرج في مدارج الطفولة خطوة خطوة.. أم أنه استمر متكلّما مبينا إلى آخر أيامه؟.
ونقول: إن كلام المسيح في المهد هو معجزة متحدّية، مثل معجزاته في إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص.
والشأن في تلك المعجزات المادية أن تظهر في الحال الداعية لها، ثم تختفى، فلا يرى الناس لها وجها إلى آخر الأبد.
ومن الحكمة في هذا ألا تعيش المعجزة المادية طويلا في حياة الناس، حتى لا يألفوها، هذا الإلف الذي يذهب ببهائها وجلالها.
ثم إن المعجزة المادية القاهرة امتحان وابتلاء، وما كان هذا شأنه فإن من الحكمة أن يلمّ بالناس إلماما، وألا يقيم إقامة دائمة، تلحّ على الناس فيه الآيات المنطلقة منه، إلحاحا ملازما، وبهذا يتمايز الناس ويتفاضلون في الإفادة من الفرصة العابرة، المتاحة لهم.
والقرآن الكريم- وإن قطع بأن المسيح تكلم في المهد، فإنه لم يذكر شيئا عن صمته أو كلامه، بعد هذه الواقعة التي دافع فيها عن شرف مولده، وطهر أمه وعفافها.. لأن ذلك لا يقدّم ولا يؤخر في هذا الموقف.
ولكنا- مع ذلك، ومع احترامنا لصمت القرآن في هذا الأمر- نستطيع أن نقول: إن المسيح لم يكن كلامه في المهد، إلا تلك الكلمات التي نطق بها، في مواجهة الاتهام المصوّب إلى أمه من قومها، وأنه بهذه الكلمات الواضحة المحدودة، قد أرى القوم معجزة منه، تناظر المعجزة التي ولد بها، والتي ينكرونها على أمه! ثم عاد بعد هذه الكلمات إلى الطفولة في صمتها، وفى نطقها.. كما سيتضح ذلك في حديثنا عن الأناجيل وإغفالها لذكر هذا الحدث العظيم، من حياة المسيح! الأناجيل وحديث المسيح في مهده:
والذي يدعو إلى العجب حقّا، هو أن الأناجيل الأربعة التي يدين بها المسيحيون اليوم، لم تشر أية إشارة من بعيد أو قريب إلى كلام المسيح في المهد، ولم تذكر دفاعه المفحم عن أمّه، في وجه تلك التهمة التي انعقد دخانها عليها، يوم جاءت به تحمله إلى قومها.
ونسأل أولا:
لما ذا ذكر القرآن هذا الحدث الذي لم يكن عند أهل الكتاب- من أتباع المسيح- المعاصرين للنبىّ علم به، أو كان لهم به علم ولكن لم يجرءوا على ذكره؟ لما ذا يذكر القرآن هذا عن المسيح، ويعطى أتباع المسيح معجزة المسيح، هم ينكرونها؟
ونقول: إن القرآن الكريم إذ يقف هذا الموقف، وإذ يجبه إجماع أتباع المسيح على إنكار هذه الواقعة- ليعلم عن يقين أنه يواجه بهذه الحقيقة عالما متربّصا به، متلهفا إلى اصطياد المعاثر والمزالق له، فكان من المتوقع- والأمر كذلك- أنه إذا جاء يحدّث أهل الكتاب عن أمر هو في أيديهم، ومن خاصة أمورهم- كان حديثه معهم جاريا مع ما يعرفون منه، وما يروون عنه، فإن كان اختلاف في شيء، ففى ترتيب الأحداث وتلوينها، فإن زاد الخلاف شيئا، ففى الأحداث العارضة، التي لا تدخل في الصميم من ذاتية هذا الأمر.
أمّا إذا كان الحديث عن أمر له شأنه وخطره في بناء العقيدة، ثم كان مما يقيم لأصحاب تلك العقيدة حجة دامغة ودليلا قاطعا لمقولاتهم التي ينكرها عليهم- فإن ذلك هو أعجب العجب.. حيث يجيء القرآن إلى هذه الدعوى التي ينكرها على أتباع المسيح، في تأليههم له- يجيء فيضع بين يدى أصحابها حجة أقوى من حجتهم لها، ودليلا أوضح من دليلهم عليها.. إن ذلك لعجب عجيب!! ذلك أن أتباع المسيح يتخذون من معجزات المسيح الخارقة- كإحياء الموتى، وإبراء ذوى العاهات والزّمنى- يتخذون من ذلك دليلا على ألوهيته.
ولو كانوا يرون سبيلا إلى القول بأنه تكلم في المهد لحرصوا على إظهار تلك المعجزة، وإضافتها إلى ماله من معجزات، ليقوى هذا من قولتهم فيه، وتأليههم له!.. فكيف يقدّم القرآن لخصومه في تلك الدعوى التي يدّعونها، والتي ينكرها عليهم- كيف يقدّم لهم مستندا جديدا، يؤيد هذه الدعوى عندهم، ويؤكد هذا الزعم لديهم؟
ونقول: إن القرآن الكريم لا يلتفت إلى شيء من هذا، ولا يجعل له شأنا في حسابه مع ما يدعيه المدعون.. وإنما الذي يلتفت إليه، ويحسب له حسابا، هو الحق، والحق وحده.. سواء وافق هذا الحق واقع الناس، وجرى مع معارفهم ومعتقداتهم، أم جاء على طريق غير طريقهم، وبعلم غير علمهم! وهذا شاهد من شهود القرآن الكريم، بأنه ليس من عمل بشر، ولا من تدبير إنسان، وإلا كان عليه أن يتجنب هذا الصدام الصريح مع الواقع، الذي لا يعلم ما وراءه إلا علام الغيوب.. وإلا كان عليه أيضا- لو أنه من عمل بشر- أن يخفى ما بين يديه من حجج يستند إليها خصومه، ويتخذون منها سلاحا يحاربونه به، في المعركة الدائرة بينه وبينهم.
وما كان لغير الحق السماوي أن يقف هذا الموقف، إزاء أمر يشتهيه أهله وهم به جاهلون، ويتمنّونه وهم منه وجلون.. خوفا من البهت والتكذيب.
لهذا، فإن القرآن الكريم، إذ يقول ما يقول في عيسى وأمه مما تنكره اليهود، وتقول بخلافه فيهما، وإذ يقول ما يقول في عيسى، وفى كلامه في المهد مما ينكره النصارى، ولا يجدون عليه شاهدا مما في أيديهم من أناجيل- إن القرآن، إذ يقول هذا، وذاك، إنما يقول الحق الذي غمّ على الناس أمره، وعميّت عليهم سبله، ثم لا عليه إذا هم صدقوه وآمنوا به، أو كذبوه وأعرضوا عنه.. فإن الحق الذي نزل به، سيظل هكذا قائما على الدهر، يتحدى المكابرين والمعاندين، ويواجه أبصار المتشككين والمنحرفين، {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها} [204 الأنعام].
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} [29: الكهف] والعاقبة دائما للحق، فإنه وإن غامت عليه سحب الضلال، وانعقدت في سمائه ظلمات الجهل- فإنها أمور عارضة، لا تلبث أن تزول، وإن طال مقامها.
لما ذا لم تذكر الأناجيل كلام المسيح في المهد؟
وإذا تركنا جانبا، النظر فيما وقع في الأناجيل من تحريف وتبديل، وقلنا إنها والقرآن على سواء في صحتها وسلامتها- كان ظاهر الحال يشهد بأن كفّتها هي الراجحة في هذه القضية، وأن الكلمة كلمتها فيما تقول فيها، وأن عدم ذكرها لكلام المسيح في المهد يقطع بأن المسيح لم يتكلم في المهد! إذ لو كان قد تكلم في المهد لما كان هناك من سبب يدعو كتّاب الأناجيل إلى إغفال هذه الحادثة، التي تعلى من شأن المسيح، وترفع قدره، وتكاد تخرج به عن حدود البشر، وترفعه إلى مقام الملأ الأعلى- الأمر الذي يقوّى من دعوى أتباعه، بأنه هو اللّه أو ابن اللّه!.. بل وأكثر من هذا، فإن عدم ذكرها لهذا الأمر العظيم لدليل على أنها كانت تلتزم جانب الحق في كل ما تقول في المسيح، وأنها لم تقل فيه قولا لم يكن له، أو منه!! ولكن إذا أعدنا النظر في هذه المسألة على ضوء الظروف والملابسات التي كتبت فيها الأناجيل، والتي تبدو واضحة لأدنى نظرة ينظر بها إليها- إذ فعلنا ذلك، رأينا أنه ليس ببعيد أن ينخرم من الأناجيل هذا الخبر، وأن يسقطه الذين كتبوها، من حسابهم، لأمر قدروه ولحساب حسبوه! ويمكن أن يعلل لذلك يعلل كثيرة.. منها:
أولا: أن الأناجيل قد كتبت في وقت كان اليهود يشنّعون فيه على المسيح، ويلاحقون أتباعه، ويأخذونهم بالبأساء والضراء حيث وجدوهم.
ثانيا: قدّر كتاب الأناجيل أن الجوّ الذي يحيط بهم مشحون بالأكاذيب التي يطلقها اليهود في جنون، حول المسيح وأمه. ويبهتون كل ما كان له من معجزات، ويدخلونها في باب الشعوذة والدجل.. فليس معقولا والأمر كذلك.
أن يفتح كتاب الأناجيل جبهة جديدة للحرب بينهم وبين اليهود، وأن يلقوا إلى النار المشبوبة وقودا جديدا، يزيدها اشتعالا، ويزيد اليهود سفاهة وتطاولا! ثالثا: لنا أن نجعل في اعتبارنا أن كلام المسيح في المهد، لم يكن حدثا قائما يعيش في الناس، وإنما كان للحظة عابرة- كما قلنا من قبل- أريد به أن يطفئ ثورة ثائرة على أمه.. وأنه إذا كانت تلك المعجزة قد أحدثت هزّة عميقة، ودويا عاليا- فإن صمت المسيح بعدها إلى أن جاوز دور الطفولة، قد أطفأ جذوتها، وجعلها تتوه خلال تلك الأحداث المذهلة التي دارت حول المسيح، في كل خطوة كان يخطوها، وسط صخب اليهود وجلبتهم.
رابعا: الذين شهدوا كلام المسيح في المهد لم يكونوا يجاوزون بضعة من الناس، هم القرابة القريبة من أمّه، الذين استقبلوها وهى تحمل وليدها، فأنكروها وأنكروا ما تحمل!! ومثل هذا العدد، وإن وجدوا في كلام المسيح ما يمسك ألسنتهم عن قول السوء في العذراء البتول- لا يمكن أن يقف لهذه الأعداد الكثيرة التي تعيش خارج هذه الدائرة المحدودة، وتخفت صوتها، الذي إن بدأ خافتا، متهامسا، متقطعا، فإنه سيعلو ويعلو، ويصير صراخا، وعواء يملأ أرجاء اليهودية، حين يواجه المسيح اليهود بدعوته، ويواجهونه هم بالإنكار والتكذيب، ثم المطاردة، والمحاكمة!! والصورة التي تبدو لنا من هذا الموقف.. هي هكذا:
عدّة من الناس.. قد يكونون عشرة، أو ما دون العشرة أو أكثر، هم رهط مريم الأقربون، قد رأوا الوليد، وسمعوه يتكلم، ويدفع عن أمه العار الذي واجهوها به.. فلما صمتوا حين تكلّم، صمت هو إلى أن فارق طور الطفولة.
ثم هناك أعداد لا حصر لها من الناس، ترامى إلى سمعها هذا الخبر العجيب، فجاءت تطلب له الشاهد من فم هذا الطفل الذي نطق، فلم تجد إلا صمتا، ولم تشهد فيه إلا ملامح الطفولة ومخايلها.. فرجعوا بين مصدّق ومكذب، وبين متشكك ومتهم!! ثم يمضى الزمن بهؤلاء وأولئك جميعا.. ويتقلب هؤلاء وهؤلاء، بين الشك واليقين، والتكذيب والاتهام.
أما أصحاب اليقين، الذين عاينوا المعجزة- وهم قلة- فتذهب بهم الأيام واحدا واحدا، حتى إذا بلغ المسيح أشدّه، وطلع على الناس بمعجزاته، لم يكن منهم في الحياة إلا بضعة أفراد، أو مادونهم.
وأما المتشكّكون والمترددون، فقد أنساهم الزمن هذا الأمر، وما علق بنفوسهم منه.. من شك أو تردد.
فلما أن كان وقت كتابة الأناجيل، كانت تلك الحادثة- حادثة كلام المسيح في المهد، قد ضاعت في طوفان الأحداث التي اتصلت بحياة المسيح، والتي انتهت بهذا الحدث العظيم. في قضية صلبه، وقيامه من الأموات.. ثم في مطاردة تلاميذه وأتباعه، والتنكيل بهم. حيث وقعت عليهم عين، أو وقعت عليهم يد! لقد كانت حادثة كلام المسيح في المهد، عند كتابة الأناجيل، شيئا باهتا، أشبه بأضغاث الأحلام، لم يمسك الناس منها إلا بذكريات غامضة مضطربة، فكان إعلانها وإذاعتها في هذا الوقت مما يقوّى جبهة أولئك الذين يجدّفون على المسيح، ويرمونه وأمّه بالمنكرات والأباطيل والمفتريات! هذا، وليست حادثة كلام المسيح في المهد، هي وحدها التي أغفلت الأناجيل ذكرها، من متعلقات المسيح وأخباره، بل لقد أغفلت الأناجيل- عن تدبير وتقدير- كثيرا مما كان للسيد المسيح.. تقيّة وخوفا، تحت ضغط الظروف القاسية التي كتبت فيها الأناجيل.
فمثلا: ميلاد المسيح من عذراء.
هذا الحدث، لا يقلّ شأنا وإثارة، وتحديا عن كلام المسيح في المهد! ومع هذا، فإن إنجيلى مرقس ويوحنا لم يشيرا أيّة إشارة إلى هذا الميلاد.. والقديس بولس مؤسس المسيحية، وداعيتها الأول، لم يتحدث عن هذا الميلاد، ولم يشر إليه في رسائله، ولم يتخذ منه آية يغزو بها القلوب، لدعوته التي كان يدعو بها، ويجمع لها كل القوى المادية والمعنوية، لتأخذ طريقها إلى الناس! ثم إن إنجيلى متى ولوقا الذين تحدثا عن هذا الميلاد العذرى، لم يذكرا ذلك إلا ذكرا عابرا، وفى غير التفات إليه، أو احتفاء به، بل إنهما إذ يقولان بميلاد المسيح من عذراء، يعودان فيرجعان نسب المسيح إلى داود عن طريق يوسف الأب المسمّى للمسيح، وكأنما أرادا بذلك أن يسدّا هذه الفجوة، بنسبة المسيح إلى يوسف، زوج أمّه! فإذا وقع في تقديرنا أنه كان من المكن إلغاء إنجيل متى ولوقا الذين ذكرا ميلاد المسيح من عذراء. كما ألغيت عشرات الأناجيل غيرهما، ثم أصبح اعتماد المسيحية على إنجيلى مرقس ويوحنا- لو وقع هذا- وكان من الممكن أن يقع- لما كان في المسيحية أية إشارة إلى هذا الميلاد، ولذهب من تاريخ المسيح، كما ذهب كثير غيره من أقواله، وأعماله.
وحادثة مجيء المسيح إلى مصر، مع أمه، وزوج أمّه.
هذه الحادثة، لا تقلّ خطرا، عن كلام المسيح في المهد، وعن ميلاده من عذراء، إذ كانت عن إرهاصات مزلزلة، لما سيكون لهذا الوليد من شأن.
ومع هذا فإن إنجيلا واحدا من الأناجيل الأربعة المعتمدة هو الذي ذكرها، ذلك هو إنجيل متى، الذي يروى هذه الحادثة على هذا النحو: ملاك الربّ، ظهر ليوسف زوج مريم في حلم، قائلا: خذ الصبى وأمّه واهرب إلى مصر، وكن هناك، حتى أقول لك، لأن هيرودس ملك اليهوديّة مزمع أن يطلب الصبىّ ليهلكه، فقام وأخذ الصبىّ وأمه ليلا وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة هيرودس (متى: 2: 13- 15) وهذا الخبر لم تذكره الأناجيل الثلاثة، ولم تشر إليه أية إشارة! فكيف كان الحال، لو ألغى إنجيل متى كما ألغيت عشرات الأناجيل، وكتب عليها أن تختفى إلى الأبد؟
وننتهى من هذا إلى القول بأن ما ذكره القرآن من كلام المسيح في المهد هو الحق الذي لا شك فيه، وأن خلوّ الأناجيل من ذكر هذا الحدث، لا يجعل لها حجة على القرآن في هذا المقام، خاصة وقد أغفل معظمها أحداثا تتعلق بالمسيح، ولا تقل شأنا عما ذكره القرآن عن كلامه في المهد! إن القرآن قد أخبر بأن المسيح تكلم في المهد، وهذا الخبر، هو معجزة متحدّية، إذ ينكره من هم أشد الناس حرصا على وقوعه، ليكون لهم منه حجة تقوّى معتقدهم في ألوهيته المسيح، وفى خروجه عن طبيعة البشر! إن ذلك عند المؤمنين بالقرآن معجزة متحدية، وهو عند غير المؤمنين، دعوى ينقصها الدليل والبرهان، أو فرية يردّدها أصحاب الأهواء والبدع! فهذه منازل ثلاث، في القول بأن المسيح تكلم في المهد.
والناس على منازلهم تلك.. إلى أن يأتى أمر اللّه، فيكشف وجه الحق، ويومئذ تبيضّ وجوه، وتسودّ وجوه!! بقيت كلمة لابد منها.
وهى أنه قد يقع لفهم بعض الناس من قولنا إن في الأناجيل اختلافا، وتعارضا، وكتمانا لبعض الحقائق- قد يفهم من هذا أننا ننتقص من قدر الحواريين، ونسيء الظن بهم وبأمانتهم فيما نقلوا عن المسيح.. إذ أن الأناجيل الأربعة، ينسب ثلاثة منها إلى: متى، ومرقس، ويوحنا، وثلاثتهم من الحواريين.
ومعاذ اللّه أن نشكّ في أمانة الحواريين، عليهم السلام، إنهم أجلّ من أن يكذبوا، أو يخونوا الأمانة، إذ كان اللّه سبحانه هو الذي اختارهم للمسيح أعوانا وأنصارا، كما يصرح بذلك القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ} [111: المائدة] والذي يمكن أن يقال فيما وقع في الأناجيل من اختلاف، وما جاء فيها من مقولات يقف العقل إزاءها موقف الشك أو الإنكار- هو أن الأناجيل إما أن تكون قد كتبت بأيدى هؤلاء الحواريين المعروفين، ثم دخل عليها ما ليس منها، مما هو موضع خلاف، أو شك، أو إنكار، وذلك عن طريق الناقلين والمترجمين.
وإما أن تكون قد كتبت بغير أيدى أصحابها، ثم أضيفت إليهم، وحسبت عليهم، لتكتسب ثقة وذيوعا.. وهنا يتسع المجال لوقوع ذلك الاختلاف بين الأناجيل، وما تحمل في ثناياها من تلك المقولات المختلفة المتضاربة!