فصل: تفسير الآيات (84- 89):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (84- 89):

{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}.
هو بيان لقدرة اللّه، وجلاله، وعظمة ملكه، واقتدار سلطانه.
فهو سبحانه، المتفرد بالألوهة في السماء.. لا شريك له فيها.. وبهذا يدين له أهل السماء بالعبودية.
وهو سبحانه، المتفرد بالألوهة في الأرض.. لا شريك له فيها.. وبهذا يدين له أهل الأرض بالولاء ويخصّونه بالعبادة.. وأنه إذا كان في الناس من ضلّ وغوى، فانحرف عن هذا الوضع الذي يتخذه أهل السماء والأرض، فإنهم- مع هذا- مقهورون للّه، واقعون تحت سلطانه.. طوعا أو كرها، كما يقول سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} [93: مريم] وكما يقول جل شأنه، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [15: الرعد].
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} إشارة إلى الصفتين الكريمتين اللتين يتجلّى اللّه سبحانه وتعالى بهما على ملكه في السموات والأرض.. وهما:
الحكمة والعلم فكل ما خلق اللّه سبحانه، موزون بميزان الحكمة، مقدر بقدرها.. وكل ما في السموات والأرض، واقع في علم اللّه {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [3: سبأ] وهكذا كل أمر- صغر أو كبر- إنما ملاكه الحكمة والعلم.. فبالحكمة يقوم الأمر، وبالعلم تضبط مصادره وموارده، ولهذا كان مما طلب به يوسف القيام على تدبير خزائن الأرض- أنه حفيظ عليم، فقال للملك: {اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [55: يوسف] والحفظ شعبة من شعب الحكمة!.
قوله تعالى: {وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
هو تسبيح بحمد اللّه وتقديس لجلاله، بلسان كل مخلوق في السموات والأرض.. فهو سبحانه- المتفرد بالألوهة في السماء، والأرض.. ومن ثمّ كان كل من في السموات والأرض لسان حمد للّه، وتسبيح للّه، وولاء لجلاله.
وفى قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تذكير للناس- وهم يشهدون جلال اللّه، وعظمته في هذا الملك العظيم الذي له وحده- تذكير لهم بيوم الحساب والجزاء، الذي لا يعلمه إلا هو.. وذلك يوم يرجعون إلى اللّه، ويجزى كل امرئ بما عمل.
قوله تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} المراد بالمدعوّين من دون اللّه هنا، هم الملائكة، الذين يعبدهم المشركون في هذه الأصنام التي سموها بأسماء أطلقوها على بعض الملائكة، مثل اللات، والعزى، ومناة، وغيرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى} [27: النجم] وهؤلاء الملائكة الذين يعبدهم المشركون في تلك الأصنام التي يتمثلونها فيهم- وبتلك الأسماء التي يسمونهم بها- هؤلاء الملائكة، لا يملكون الشفاعة لأحد، كما يتوهم هؤلاء المشركون إذ يقولون عنهم: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [3: الزمر] ويقولون فيهم: {هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} [18: يونس].
وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} هو استثناء من عموم النفي الواقع على شفاعة الملائكة.. أي أن الملائكة لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق، فآمن باللّه، ويرسل اللّه، وباليوم الآخر.. كما يقول اللّه تعالى: {لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ} [78: الزخرف].. فهؤلاء الذين كرهوا الحق وأنكروه ليس للملائكة شفاعة فيهم.. وهم أكثر المشركين.. أما من شهد بالحق من هؤلاء المشركين- وهم أقلية- وآمنوا باللّه، وأخلصوا دينهم للّه له، فإن للملائكة شفاعة فيهم، تنال العاصين منهم.. وتلك الشفاعة، هي الاستغفار لهم كما يقول اللّه تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ} [7: غافر]. فهذا من شفاعة الملائكة للعصاة من المؤمنين.. وهى شفاعة مقبوله عند اللّه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يمكن أن يكون حالا من الاسم الموصول {الذين} أي أن الملائكة لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق.. وهم يعلمون هذا.. أي يعلمون أنهم لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق.
ويمكن أن يكون حالا من الاسم الموصول {مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} أي لا تشفع للملائكة إلا لمن شهد بالحق، أي شهادة قائمة على علم، يملأ القلب إيمانا واطمئنانا، لا مجرد شهادة ينطق بها اللسان دون أن تقع من القلب موقعا.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
أي أن هؤلاء المشركين إذا سئلوا عمن خلقهم، لما وجدوا بين أيديهم إلا جوابا واحدا، وهو أن اللّه هو الذي خلقهم.. إنهم لا يستطيعون أن يقولوا إن الملائكة الذين يعبدونهم، هم الذين خلقوهم، وخلقوا من في السموات والأرض.
بل إنهم ليعلمون أن الملائكة من خلق اللّه، وإن كانوا أبناء للّه عندهم.
ومع هذا الإقرار منهم بخلق اللّه لهم، فإنهم لا يعبدون رب السموات والأرض، الذي خلقهم ويعبدون خلقا من خلقه.. وهذا منطق معكوس، لا يلتقى أوله مع آخره.. ولذا جاء قوله تعالى: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} منكرا على هؤلاء المشركين هذا الإفك والافتراء الذي جعلوا منه دينا يدينون به، ولا مستند له من منطق، حتى منطقهم هم الذي ينتزع قضاياه من الوهم والضلال.
قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}.
القيل: معناه القول.. والضمير المضاف إليه هذا القول، هو للنبى صلوات للّه وسلامه عليه.. ومقول القول هوقوله تعالى: {يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}.
وهو مثل قوله تعالى: {وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [30: الفرقان] وقد اختلف المفسرون اختلافا كبيرا في الربط بين هذه الآية وما قبلها.. كما اختلف القرّاء في قراءة {وَقِيلِهِ} فقرئ بفتح اللام، وقرئ بكسرها، وقرئ بضمها.. ولكل قراءة تأويل تؤول عليه.
ولا نريد أن نعرض لهذه المقولات، فهى مبسوطة في كتب التفاسير، يرجع إليها من شاء مزيدا من العلم، أو الرياضة الذهنية.
والذي نراه في تأويل هذه الآية، ونرجو أن يكون بتوفيق اللّه صوابا، هو- واللّه اعلم- أن الواو في قوله تعالى: {وَقِيلِهِ}.
هى بمعنى {مع}.
وعلى هذا تكون الآية مرتبطة بقوله تعالى: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
فهذا الاستفهام ينكر عليهم أن يعبدوا غير اللّه، وأن ينصرفوا إلى غير خالفهم وخالق السموات والأرض، الذي شهدت له بذلك ألسنتهم.. ومع هذا فهم يعبدون غير اللّه، بشهادة الواقع الذي هم فيه، وبشهادة الرسول الذي خبر حالهم، وعرف الداء المتمكن منهم، فقال شاكيا إلى ربه: {يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}.
وتحرير المعنى، هو: إلى أين ينصرف هؤلاء المشركون، مع شركهم الذي هم فيه، ومع ما يرى الرسول من حالهم في المستقبل، وأنهم ممن لا يرجى صلاحهم، أو يتوقّع شفاؤهم من هذا الداء الذي معهم؟.
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك:
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
جاء رداّ على قول النبي: {يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} وداعيا له إلى الرفق بهم، ومقابلة جهلهم بالحلم، وسفاهتهم بالمغفرة والصفح.. وأنهم كلما قالوا فحشا وهجرا قال لهم سلاما ومغفرة، كما يقول سبحانه في وصف عباد الرحمن: {وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً} [63: الفرقان] وكما يقول جل شأنه لنبيه الكريم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [199:
الأعراف].
وفى هذا ما يشير إلى أن هؤلاء المشركين ينتظر منهم خير كثير، وسيكون منهم بناة الإسلام، ومادة دولته التي ستظهر عما قريب.. وقد كان، فدخل كثير من هؤلاء المشركين في دين اللّه، حتى أنه إذا جاء يوم الفتح لم يبق مشرك من قريش- خاصة- لم يدخل في الإسلام.
وفى قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي أنهم هم الآن على جهل يزيّن لهم هذا الباطل الذي هم فيه، ويغذيهم بهذا السفه الذي ترمى به أفواههم.
ولكنهم مع الزمن، ومع ما يأخذهم به الرسول الكريم من حلم، وصفح ومغفرة، سيعلمون بعد جهل، ويؤمنون بعد كفر.. ويصبحون جندا من جنود اللّه، ورايات من رايات الإسلام التي تخفق في آفاق الأرض.. وليس هذا من الوعيد، كما يذهب إلى ذلك جمهور المفسرين.. فإن السورة قد ختمت بهذا الختام الذي يدعو النبي إلى الصفح والمغفرة والمسالمة.. ولا يتفق مع هذا أن يلقى النبيّ المشركين بالصفح والمسالمة، ثم يلقاهم اللّه سبحانه بعد ذلك بالوعيد.
هذا، واللّه اعلم.
ونود هنا، بعد ختام هذه السورة أن نشير إلى أمر كان ملفتا للنظر.
فقد كثر في هذه السورة ذكر الاسم الكريم {الرَّحْمنِ} الذي تكرر في سبعة مواضع من السورة هى:
{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا...} الآية: (17) {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً...} الآية: (19) {وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ...} الآية: (20) {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ...} الآية (33) {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ...} الآية: (36) {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [45].
{قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ...} الآية: (81) ولذكر {الرَّحْمنِ} موقعه في الآية التي ذكر فيها، كما له حكمته التي تلتمس من هذا الذكر في هذا الموضع.. فحيث ذكر {الرحمن} جلّ وعلا، كانت تجليات الرحمة، ورحمات الرحمن، مبسوطة لكل طالب، طالبة لكل معرض فمن فاته حظه من رحمة اللّه في هذا المقام فهو الشقي المحروم من كل خير.
ولكن الذي نريد أن نقف بين يديه موقف النظر والاعتبار، هو هذا الإكثار من ذكر هذا الاسم الكريم في تلك السورة.
وبادئ ذي بدء، فإن تكرار هذا الذكر للاسم الكريم {الرَّحْمنِ} هو تأكيد لتلك الدعوة التي يدعو إليها الرحمن عباده، ويبسط بها يده تبارك وتعالى إليهم بالرحمة، يلقاهم بها على كل طريق من طرق الغواية والضلال التي يركبونها.. فهذا الذكر نداءات متتابعة، إلى موارد هذه الرحمة الواسعة.
وهذا التكرار في ذاته، هو رحمة من رحمة اللّه.
ثم إنه- من جهة أخرى- كانت السورة كلها معرضا لمواجهة المشركين بعبادتهم الملائكة، على أنهم أبناء اللّه، وأنهم كانوا يعرفون اللّه تعالى، ويعترفون بأنه خالق السموات والأرض- كما أنه كان من أكثر أسماء اللّه عندهم هو اسم {الرَّحْمنِ} ولهذا كان الحديث إليهم عن اللّه باسم الرحمن إشارة إلى أنه هو الإله لذى يدعون إلى عبادته، وأن اسمه {الرَّحْمنِ} وأنه ليس له ولد.. ولهذا أنكروا أن يكون الرحمن الذي يعرفونه، هو الرحمن الذي يدعوهم النبي إلى عبادته، كما يقول اللّه سبحانه: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً} [60: الفرقان] إن الرحمن في تصورهم هو أب لقبيلة كبيرة، هي الملائكة!!.
ومن جهة ثالثة، فإن موقف هذه السورة من المشركين، هو موقف ملاطفة، وموادعة، على مسيرة لدعوة التي كثرت فيها القوارع التي يقرع بها القرآن عناد المشركين، ويسفّه أحلامهم، ويفضح جهلهم.. فكانت هذه السورة أشبه بالهدنة التي يراجع فيها المتحاربون موقفهم، وقد ينتهى الأمر إلى الصلح، والسلام.. ومن أجل هذا كثر في السورة ذكر الرحمن الذي يذكّر بالرحمة التي ينبغى أن تكون بين النبي وأهله.. ولهذا دعى النبي إلى أن يصفح عنهم، وأن يلقاهم بالموادعة والسلام، وقد وعد بأنهم سيعلمون بعد الجهل، ويؤمنون بعد الكفر، فكان ختام السورة قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.

.سورة الدخان:

نزولها: مكية.. باتفاق.
عدد آياتها: تسع وخمسون.. آية.
عدد كلماتها: ثلاثمائة وست وأربعون.. كلمة.
عدد حروفها: ألف وأربعمائة وواحد وثلاثون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت سورة الزخرف التي سبقت هذه السورة بقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
وقد قلنا إن هذا الختام يتّسق مع السورة التي كانت تمثّل مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية في مواجهة المشركين، وأن هذه المرحلة كانت أشبه بالهدنة بعد هذا الصراع الذي كان محتدما بين النبي والمشركين.
وقد بدئت سورة الدخان، بذكر القرآن الكريم، وأنه نزل في ليلة مباركة، يفرق فيها كل {أَمْرٍ حَكِيمٍ} وهذا البدء، هو تحريك لمسيرة الدعوة، بعد تلك الهدنة، ومن أول المسيرة يواجه المشركون بالقرآن الكريم، وما يحمل إليهم من خير وبركة، وأنه إذا كان قد أنذرهم وتوعدهم بالعذاب، فإنما ذلك لأنه حريص على هدايتهم، ضنين بهم على النار التي أعدت للكافرين.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 16):

{حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)}.
التفسير:
قوله تعالى: {حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}.
الليلة المباركة هي ليلة القدر، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}.
.. وليلة القدر ليلة من ليالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، كما يقول اللّه سبحانه: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [185: البقرة].
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنها ليلة النصف من شعبان. تلك الليلة التي اعتاد كثير من المسلمين الاحتفاء بها، وتلاوة بعض الأدعية المرتبة لها، باعتبارها الليلة التي بفرق فيها كل أمر حكيم، وتقدر فيها الأرزاق والأعمار.
وهذا بعيد عن مفهوم الآيات الكريمة التي تنطق صراحة بأن الليلة المباركة التي نزل فيها القرآن هي ليلة القدر، وأن شهر رمضان هو الذي أنزل فيه القرآن، وليس لشهر شعبان ولا ليلة النصف منه أي إشارة في القرآن الكريم.
وعلى هذا، فإن ليلة النصف من شعبان، ليست من الليالى الإسلامية ذات الشأن الخاص، وإنما هي ليلة من ليالى الزمن، غير موسومة بسمة خاصة، تمتاز بها على غيرها من الليالى.
أما ليلة القدر، وهى الليلة التي أنزل فيها القرآن، فهى ليلة باركها اللّه سبحانه وتعالى، واصطفاها من بين الليالى، كما يصطفى من يشاء من عباده للنبوة.. فهى ليلة مباركة، لأنها كانت ظرفا حاويا للرحمة المنزلة من السماء إلى الأرض، وهى القرآن الكريم.
ومعنى: {أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي ابتدأ نزوله في ليلة القدر، وابتداء النزول مؤذن بنزوله كله تباعا بعد ذلك.
وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}.
إشارة إلى أن إنذار الناس، وتنبيهم من غفلتهم، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب- هو مما اقتضته رحمة اللّه بعباده.. والمراد بالإنذار ما تحمله كلمات اللّه وآياته من تحذير من عذابه، وتخويف بعقابه، وذلك ليستقيم الناس على الطريق السوىّ، وليرجعوا إلى اللّه، بعد أن تقطعت بهم السبل إليه.
وفى الاقتصار على الإنذار، مع أن رسالات السماء تحمل بين يديها- مع النذر التي تحملها إلى المشركين، والمكذبين- بشريات برضوان اللّه، وجنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين- في هذا إشارة إلى أن رسالات السماء إنما تجيء وقد ركب الناس رءوسهم، وتنكبوا عن طريق الحق، وجرفهم تيار الضلال إلى حيث بشرف بهم على الهلاك، فكان من شأن من يخفّ للنجدة، والإنقاذ، أن ينفخ نفخة النذير، وأن يصرخ في هذا الموكب المتجه إلى حافة الهلاك: أن قفوا، وإلا فهو الهلاك وسوء المصير.. فإذا كان من هؤلاء الضالين استماع لهذا النذير، واستجابة لدعوته- كان للحديث عن الحياة الجديدة التي يحياها الناس مع الايمان باللّه والاستقامة على طريق الحق، وما وراء هذه الحياة من نعيم مقيم في جنات عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين- كان لهذا الحديث آذان تسمع، وقلوب تفقه، وصدور تنشرح، ونفوس تتهيأ للبذل والتضحية في سبيل هذا المعتقد الذي اعتقدته، واطمأنت إليه.
هذا، ومن مبادئ الشريعة: أنّ دفع المضار مقدم على جلب المصالح.
وعلى هذا فالإنذار من الخطر هو المطلوب أولا.. ثم يكون الاتجاه بعد هذا إلى جلب المنافع.
قوله تعالى: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}.
فرق الأمر: قطعه، والفصل فيه.. ومنه الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل.
والمعنى: أنه في هذه الليلة المباركة يقضى ويفصل كل أمر حكيم، أي محكم، لا ينقض، ولا يبدل.
والمراد بالأمر الحكيم هنا، هو القرآن الكريم، الذي ابتدأ نزوله في ليلة القدر، وسمّى حكيما، لأنه قائم على الحكمة الإلهية، مقدر بقدرها، ولأنه كلام اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
{لَا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ} [64: يونس].
وما يضاف إلى هذه الليلة المباركة، من البركة، ومن القضاء بكل أمر حكيم فيها، هو خاص بهذا الكوكب الأرضى، وبالإنسان الذي يقوم على خلافة اللّه فيه، حيث لكل عالم نظامه الزمنى، وأوقاته المباركة.
وقوله تعالى: {أَمْراً مِنْ عِنْدِنا} منصوب على الاختصاص، أي أخص وأعنى بهذا الأمر الحكيم- أمرا صادرا من عندنا، هو القرآن الكريم.
وهنا سؤال، وهو كيف خصّ وصف الأمر بالحكمة هنا، مع أن كل أمر يقضى به اللّه هو موصوف بالحكمة من غير وصف؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن وصف الأمر بالحكمة ليس وصفا مخصصا له، وإنما هو وصف مؤكد للوصف القائم في ذات الأمر ومبين له.
كما يقال في وصف العسل مثلا بأنه حلو، وفى وصف المسك بأنه طيّب الريح.!.
وسؤال آخر.. وهو: كيف خصصت هذه الليلة بأنها يفرق فيها كل أمر حكيم؟ وهل يعنى هذا أنها الليلة التي يقضى فيها اللّه سبحانه وتعالى بما يقضى، ثم لا يكون له سبحانه قضاء في غيرها؟ وكيف وهو سبحانه يقول: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [29: الرحمن].
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن هذه الليلة، كما قلنا، خاصة بالعالم الأرضى، وعلى هذا، فإن ما يقضى به في هذه الليلة من عند اللّه يكون خاصا بهذا العالم، وبالمخلوقات، والكائنات الموجودة فيه.. وهذا يعنى أن مقدرات ما يجرى على هذا العالم الأرضى في مدة عام مقبل يفرق، ويقضى به في هذه الليلة إلى مثلها في العام القادم.. وهذا الذي يقضى وإن كان قد قضى به أزلا، فإن القضاء به في تلك الليلة معناه نقله من اللوح المحفوظ إلى جند اللّه من الملائكة الموكلين بإنفاذ ما قضى اللّه به.
وقد كان مما قضى اللّه سبحانه وتعالى في تلك الليلة نزول القرآن، وبعثة الرسول الكريم، وذلك في عام البعثة النبوية.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}، مشيرا إلى أنه مما قضى اللّه به في عباده أن يبعث في هؤلاء الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آيات اللّه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.. وذلك ليقيم الحجة على عباده، وليأخذهم بذنوبهم إذا هم عصوا رسله وردوا الهدى الذي يحملونه من اللّه إليهم.. كما يقول سبحانه: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [15: الإسراء] وقوله تعالى: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
تعليل لبيان الحكمة التي من أجلها يرسل اللّه سبحانه وتعالى الرسل إلى عباده.. فهو سبحانه إنما يرسلهم رحمة منه، وفضلا وإحسانا.. وإلا فإن مع كل إنسان رسولا يدعوه إلى الإيمان باللّه، وهو عقله، الذي لو أحسن النظر به، ووجهه نحو الاتجاه الصحيح لعرف ربه، وآمن به.. ولكن من رحمة اللّه سبحانه وتعالى بعباده ولطفه بهم، أنه لم يدعهم لعقولهم التي قد تضل وتزيغ، فبعث إلى هذه العقول رسولا من عنده، ينبه الغافل منها، ويوقظ النائم، ويهدى الضال الحائر.. {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [165: النساء] وفى وصف اللّه سبحانه وتعالى بأنه: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} إشارة إلى إن هاتين الصفتين اللتين للّه سبحانه، قد جعل منهما للإنسان ما يقابلهما، رحمة منه وفضلا وإحسانا.
فالإنسان من شأنه أن يسمع، وأن يكون سميعا، ومن شأنه أن يعلم وأن يكون عليما.. وبهذا يرتفع إلى هذا المستوي الكريم، الذي أقامه اللّه سبحانه وتعالى فيه، خليفة له على الأرض.
وإن خير ما يسمعه الإنسان، من كلام، وخير ما يتعلم من علم، هو العلم المودع في كتاب اللّه.. فمن كانت له أذنان فليسمع، ومن كان له قلب فليعقل!.
قوله تعالى: {رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}.
هو بدل من قوله تعالى: {مِنْ رَبِّكَ}.
أي إنا أرسلناك رحمة من ربك، رب السموات والأرض وما بينهما.
وفى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} استدعاء لهؤلاء المشركين الذين سئلوا من قبل في آخر السورة السابقة: الزخرف: {مَنْ خَلَقَهُمْ} فقالوا: {اللَّهُ} (الآية 87) دعوة لهم أن يصححوا قولهم هذا الذي أنطقهم الواقع به، من غير أن يكون له رصيد من وعى، وإدراك، ونظر في ملكوت السموات والأرض.. ولهذا، فإن هذا القول لم يقع من أنفسهم موقع اليقين، أي المستيقن، المحقق، الذي تدعمه الأدلة والبراهين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}؟ (20- 21: الذاريات).
فالآية الكريمة دعوة إلى العلم الذي يقوم على النظر المتأمل، والعقل المتيقظ، والإدراك الفاقة.. فهذا العلم هو الذي يقيم في كيان الإنسان يقينا بما علم، وعن هذا اليقين تتحرك نوازع الإنسان، وتتجه إرادته، وتمضى عزيمته، وفى صحبته شعلة من هذا العلم، تضيء له الطريق، وتكشف له معالم الحق والخير.
وفى قوله تعالى: {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} هو منطق المستيقن، الذي علم عن يقين، أن اللّه رب السموات والأرض وما بينهما.. فمن علم هذا واستيقنه، أسلمه هذا العلم إلى أن يعلم ويستيقن أن رب السموات والأرض وما بينهما، ينبغى أن يكون الإله المتفرد بالألوهة: {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} وأنه سبحانه هو الذي يحيى ويميت، وأنه سبحانه رب الناس جميعا.. السابقين والحاضرين واللاحقين.
قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}.
هو إضراب عن الحديث إلى هؤلاء المشركين، الذين دعوا ليسمعوا كلام اللّه، وليكونوا من السامعين- فلم يسمعوا، ولم يعقلوا.. فكان أن صرف اللّه سبحانه، النبيّ عنهم، لأنهم ليسوا أهلا لأن يقوم فيهم هذا المقام.. فهم في شك يفسد عليهم كل أمر يتصل بالرسول، وما يتلوه عليهم.
وهم لهذا لا يستمعون إليه إلا استماع الأطفال الذي يشغلهم اللعب عن كل حديث فيه جدّ.
قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}.
اختلف المفسرون في هذا العذاب الذي يغشى الناس.. وأكثر المفسرين على أنه كان ضربا من العذاب أخذ اللّه به المشركين، استجابة لدعوة يقال إن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا بها على مضر، فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» وقد اشتد القحط وعم الجدب، حتى أكلوا الجيف والعلهز.
قالوا وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدّث الرجل صاحبه ولا يراه لكثرة الدخان.. ثم إنهم جاءوا إلى الرسول مستشفعين، فشفع لهم، وكشف اللّه الضر عنهم.. فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا.
وقيل- وهو رأى قلة من المفسرين- إن هذا الدخان الذي يغشى الناس هو ما يطلع على الناس يوم القيامة من أهوالها ومرجفاتها.
والرأى الأول هو الذي نقول به، وذلك لأمرين:
أولهما: ما جاء بعد ذلك من قوله تعالى: {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ}.
وعذاب الآخرة لا يكشف عن أهل النار ليختبر بهذا الكشف ما عندهم من وفاء أو نكث بما عاهدوا اللّه عليه، إن كشف الضر عنهم.. فالآخرة دار جزاء، وليست دار ابتلاء واختبار.. وهذا يعنى أن الكشف المراد هنا، هو كشف عذاب وقع بالقوم في الحياة الدنيا.
وثانيهما: ما جاء بعد ذلك أيضا في قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}.
فهو وعيد من اللّه سبحانه وتعالى لهؤلاء المشركين الذين نقضوا ما عاهدوا اللّه عليه، بأن يؤمنوا إذا كشف الضرّ عنهم.. فلما كشف عنهم الضرّ عادوا إلى ما نهوا عنه.
وهذا يعنى أن الفعل الذي وقع الوعيد عليه كان في الدنيا، لأنه لا وعيد على ما يقع من الناس في الآخرة.
وقد يسأل سائل فيقول: كيف يقع عذاب على هؤلاء المشركين، وقد وعد اللّه سبحانه وتعالى النبي الكريم ألا يعذّب قومه وهو فيهم، كما يقول اللّه تعالى. {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [33: الأنفال] فكيف هذا؟.
والجواب- واللّه اعلم- أن هذا العذاب الذي لقيه المشركون من قحط أو قتل، ليس هو العذاب الذي كان يؤخذ به أقوام الرسل من قبل، والذي كان بلاء شاملا يستأصل القوم، ويأتى على كل شيء، فلا تبقى منهم باقية.
كما حلّ بقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب مدين، وقوم لوط.. وإنما هذا العذاب الذي نزل بالمشركين، لم يكن إلا وجها من وجوه الحياة التي كانوا يتقلبون فيها.. فإذا نزل بهم قحط، فقد عرفوا هذا القحط من قبل وذاقوا العذاب منه.. وإن أصيبوا في أنفسهم في معركة، من المعارك كيوم بدر فما أكثر المعارك التي أريقت فيها دماؤهم وأزهقت أرواحهم.. ولكن الذي يجعل لهذا العذاب الذي ينزل بالمشركين طعما جديدا، هو أنه يأتى على يد النبيّ، بدعائه عليهم، وذلك فيما أصابهم من قحط، أو على يد أصحابه يوم بدر.
فهذا هو الذي يجعل لهذا العذاب حسابا خاصا عندهم، وأثرا مضاعفا في نفوسهم.
هذا ما يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [52: التوبة].. فالنبىّ والمسلمون معه، إنما يتربص بهم، وينتظر أن يحلّ بهم عذاب من عند اللّه، وهو هذا القحط الذي حلّ بهم، أو أن يحلّ بهم عذاب بأيدى المؤمنين، وهو ما أصابهم على أيدى المسلمين من خزى وهو ان في ميادين القتال، حتى لقد انتهى الأمر بدخول المسلمين عليهم، مكة، واستسلامهم للنبىّ، وإسلامهم للّه رب العالمين.
ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء المشركين قد دخلوا جميعا في الإسلام، ولم يمت منهم على الكفر إلا أعداد قليلة بالنسبة لمجموعهم، سواء من مات منهم في ميدان القتال بأيدى المسلمين، أو من مات حتف أنفه.. وهذا من شأنه ألّا يوقع حكما عاما على هؤلاء المشركين بالعذاب الأليم يوم القيامة، وذلك لأنهم سيصبحون عما قليل في عداد المؤمنين باللّه.. وعلى هذا فإن ما يتهددهم به القرآن من عذاب، هو العذاب الدنيوي، الذي يرونه رأى العين، والذي يكون فيه عبرة وعظة، تفتح لهم الطريق إلى الإيمان باللّه، كما يقول اللّه سبحانه عن غزوة بدر: {قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} [13: آل عمران].
وقوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}.
هو استبعاد لأن يقع في نفوس المشركين شيء من العبرة والتذكر من هذا الابتلاء الذي ابتلوا به من القحط، الذي كان آية على صدق النبيّ، وعلى صلته بربّه، إذ كان هذا القحط دعوة مستجابة له من اللّه، كما كان رفع هذا البلاء عنهم استجابة أخرى للنبىّ من اللّه سبحانه وتعالى.. فهو معجزة من معجزات النبيّ، المادية، بعد أن ملأ النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- الدنيا عليهم، بالمعجزة الكبرى، التي تطلع عليهم من آيات اللّه وكلماته.
فما ذا تفعل هذه الآية في نفوس تحدّت الرسول وما بين يديه من كتاب مبين، تنطق آياته وكلماته بالمعجزات التي لا تنتهى؟ لقد تولوا عنه، وأعرضوا عن الاستماع إليه، والنظر فيما بين يديه، واتهموه بالكذب والافتراء والجنون، وقالوا {مُعَلَّمٌ} أي علمه غيره، و{مَجْنُونٌ} يهذى بهذا الذي اختطفه من علم العلماء!! وفى وصف الرسول الكريم بأنه {مُبِينٌ}، إشارة إلى القرآن الكريم الذي بين يديه، والذي فيه البيان المبين إلى الهدى ودين الحق، وأنه بهذا القرآن يقدم الحجة الدامغة، والسلطان المبين، كما يقول سبحانه: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [44: النحل].
وقوله تعالى: {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ}.
هو حكم كاشف عن حال هؤلاء المشركين مع تلك التجربة، وأنهم سينكثون هذا العهد الذي عاهدوا اللّه عليه، لو أنه كشف عنهم العذاب.
وفى قوله تعالى: {إِنَّكُمْ عائِدُونَ}.
هو إشارة إلى أنهم كانوا أثناء تلك المحنة قد اتجهوا إلى اللّه، وأخذوا طريقهم إلى الإيمان به، فلما كشف الضرّ عنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، وانسحبوا من هذا الطريق الذي وضعوا أقدامهم عليه.. وهكذا شأن أهل الضلال، إذا مسّهم الضر دعوا اللّه مخلصين له الدين، فإذا كشف الضرّ عنهم تولوا عنه معرضين.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [22- 23: يونس].
وقوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} أي إننا منتقمون منكم أيها الضالون الناكثون للعهد، وذلك يوم نبطش بكم البطشة الكبرى، وهذه البطشة الكبرى هي يوم بدر، حيث قتل من رءوس المشركين وسادتهم سبعون قتيلا، وأسر منهم سبعون مقاتلا..!