فصل: تفسير الآيات (34- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (34- 50):

{إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ}.
الإشارة هنا {هؤُلاءِ} إلى مشركى قريش، الذين استمعوا إلى هذا الحديث من أمر فرعون وموسى، وما كان من استكبار فرعون وعتوّه، وما أخذه اللّه به من عذاب ونكال.. ثم ما كان من إحسان اللّه سبحانه إلى بنى إسرائيل وفضله عليهم، ثم مكرهم بآيات اللّه، وتكذيبهم لرسله.
فكان أن لعنهم اللّه، ومزّق شملهم، وفرق جماعتهم.. وقطّعهم في الأرض أمما.
وهؤلاء المشركون.. ماذا هم فاعلون مع رسول اللّه، وما يحمل إليهم من آيات ربه؟ فهذا سؤال يسأله الذين استمعوا إلى هذا الحديث الذي تحدث به القرآن عن فرعون وموسى، وعن بنى إسرائيل وآيات اللّه إليهم.
فكان الجواب:
{إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} هذا هو الداء المتمكن من القوم، وهو إنكارهم للبعث، والحساب والجزاء، وذلك لاستبعادهم أن تعود الحياة مرة أخرى إلى الموتى، بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا.. إنهم على يقين من أنهم لم يبعثوا، وإنهم ليقولون لمن يحدثهم عن البعث: {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ}.
أي ما هي إلا موتة واحدة، لا حياة بعدها.. وهم بهذا يردّون على تصور خاطئ للبعث- ففى تصورهم هذا، أن البعث بعقبه موت.. لأنه حياة بعد موت، وهذه الحياة- في تصورهم- سيعقبها موت.. ثم حياة.. ثم موت، وهكذا.. ولهذا جزموا بأنه لا موت بعد أن يموتوا، بمعنى أنه لا بعث، ولا موت بعد البعث. إن كان هناك بعث!! وفى التعبير عن الحياة بعد الموت بالنشر، تشبيه للموت بأنه طىّ لحياة الإنسان، كما تطوى الصحف على ما ضمّت عليه من كلمات.. فإذا أريد النظر في هذه الكلمات مرة أخرى، نشرت هذه الصحف، بعد طيّها.
فالموت ليس إلا طيّا لصفحة الحياة، مع بقاء الحياة كامنة في هذه الصحف المطوية، ونشر الصحف بعد طيّها أمر هين، لا يحتاج إلى عناء ومعالجة، كما أنه لا يدعو إلى استبعاده وإنكاره!!.
قوله تعالى: {فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
هو من تحدّيات المشركين المنكرين للبعث، لمن يحدثونهم عن البعث، ويدعونهم إلى الإيمان.. إنهم يؤكدون أنه لا موت إلا الموتة الأولى، التي تنهى حياتهم تلك، ثم لا حياة ولا موت بعد هذا.. ثم إن لهم على هذا شهودا من الواقع.. فهؤلاء آباؤهم الذين أودعوهم القبور، لم يعد أحد منهم. فإن كان الذين يقولون بالبعث على يقين من هذا القول، فليأتوا على هذا ببرهان، وذلك بأن يجيئوا لهم بآبائهم هؤلاء الذين ذهبوا.. فإذا لم يرجع هؤلاء الذين ذهبوا، فكيف يرجعون هم إذا ذهبوا؟ ذلك منطقهم الذي جعل البعث عندهم أبعد من أن يتصوّر.
إنهم كانوا يؤمنون بأن لهذا الوجود ربّا قائما عليه، هو الذي خلقه، وهو الذي يدبر أمره، وإن كان هذا الإيمان قد اختلط بشوائب كثيرة أو قلبلة من الأهواء الفاسدة.
ولكن الشيء الذي لا يتصورونه، ولا يصدقون به، هو البعث.
وهو الداء الذي أفسد عليهم إيمانهم باللّه، وأقامهم في هذه الدنيا مقاما قلقا مضطربا، بتهددهم فيه الفناء الأبدى المطلّ عليهم من كل وجه.
وهذا قسّ، بن ساعدة الإيادى، من حكماء العرب، وخطبائهم المعدودين وقد نسب إليه أنه كثيرا ما كان يخطب في الناس فيقول: إن في السماء لعبرا، وإن في الأرض لخبرا.. سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج،.. البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير.
ومن هذا العبارات وأمثالها يقيم قسّ الأدلة والبراهين على وجود إله قائم على هذا الكون.. فإذا جاء إلى الموت لم ير فيه إلا حكما واقعا على الأحياء، وأنه سفر بلا عودة، وذهاب ولا إياب.. وينسب إليه أنه كان يقول:
فى الذاهبين الأولين ** من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا للموت ** ليس لها مصادر

ورأيت قومى نحوها ** يمضى الأكابر والأصاغر

أيقنت أنى لا محالة ** حيث صار القوم صائر

لا يرجع الماضون لا ولا ** يبقى من الباقين ناظر

فهو- كما ينطق هذا الشعر- لا يرى عودة للموتى، وإن كان يرى أن لا بقاء لحىّ في هذه الحياة.!
قوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ}.
هو تهديد لهؤلاء المشركين المكذبين برسول اللّه، وبما يتلو عليهم من آيات اللّه،. وأنهم ليسوا أحسن حالا من قوم تبع الذين أهلكهم اللّه وبدد شملهم، فلم يغن عنهم ما كانوا فيه من عزة وقوة ومنعة.
وقوم تبع، هم الذين كانوا يسكنون اليمن، قبل أن يشملها الخراب والدمار، بانهيار سدّ مأرب.. وتبّع هو الجدّ الأعلى لقومه.
وقد ذكر القرآن الكريم في موضع آخر ما أخذ اللّه به هؤلاء القوم- قوم تبع، من نكال وبلاء، بعد أن كفروا بنعمة اللّه، وبطروا معيشتهم.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ}:
(15- 17: سبأ).
وليس قوم تبع إلا جماعة من تلك الجماعات الكثيرة التي أهلكها اللّه سبحانه وتعالى، وأخذها بعذابه الأليم في الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.
فمن قبل قوم تبّع، أهلك اللّه قوم نوح، وأهلك عادا، وثمود، وأصحاب مدين وقوم لوط.. وهؤلاء ممن ذكر القرآن أخبارهم.. وهناك كثيرون من الأفراد والجماعات لم يذكروا.. إذ ليس المقصود من الذكر إلا العبرة والعظة. وفى هذا القليل الذي ذكر، عبرة وعظة لأولى الألباب.
قوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة، ذكرت إنكار المشركين للبعث، وما لهم على هذا الإنكار من حجج باطلة.. وقد تهددهم اللّه سبحانه وتعالى وتوعّدهم بالهلاك في الدنيا، كما أهلك الظالمين المكذبين قبلهم.
وهذه الآية، والآية التي بعدها، هي تعقيب على ما هدّد له به المكذبين من بلاء.. وذلك أن اللّه سبحانه أقام هذا الوجود على الحق، كما خلقه بالحق الذي ينتظم كل ذرة في هذا الوجود.. ولهذا فقد اقتضت حكمة اللّه سبحانه وتعالى أن يجعل سلطان الحق قائما على هذا الوجود، وأن يقطع دابر الباطل إذا هو طاف بحمى الحق، واعترض سبيله.. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم في أكثر من موضع، فيقول اللّه سبحانه وتعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} [18: الأنبياء] ويقول سبحانه: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [7- 8: الأنفال] وإذن، فهذه الضربات التي تنزل بأهل الباطل، في هذه الدنيا، هي وقاية للحق من أن يغتاله الباطل.. فإذا كانت الآخرة، كان القضاء المبرم على الباطل وأهله جميعا.. وفى هذا اليوم ينطق الوجود كله بحمد اللّه، أن قضى على الباطل والشر والضلال، وكل ما من شأنه أن يخرج على طريق الحق.
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [75: الزمر] قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
الميقات: اسم زمان، والمراد به وقت الموعد الذي يكون فيه الحساب والجزاء.. وهو يوم القيامة.
ففى هذا اليوم- يوم القيامة- يصفّى حساب الناس جميعا.. فيجمع أهل الباطل على مختلف صورهم، ويلقى بهم في جهنم ليكونوا حطبا لها.. وبهذا يتخلص الحق من كل ما علق به من شوائب.. وفى هذا اليوم يتعرّى أهل الضلال من كل سلطان يدفع عنهم هذا المصير، الذي هم صائرون إليه.. إنه لا ناصر لهم من دون اللّه، يخلصهم من هذا العذاب الأليم.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} هو استثناء من الضمير في قوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}.
أي لا ناصر لأحد في هذا اليوم، ولا مخلّص له من عذابه إلا من رحمه اللّه من عباده، فهذاه إلى الإيمان، ووفقه لطاعته.
فكل من زحزح عن النار وأدخل الجنة، فذلك برحمة من اللّه وفضل وإحسان.. وفى هذا يقول النبي الكريم: «لا يدخل أحد الجنة بعمله قيل ولا أنت يا رسول اللّه قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى اللّه برحمته» وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
فهاتان الصفتان من صفات اللّه، التي يتجلى بها اللّه سبحانه وتعالى على أهل المحشر يوم القيامة.. فبعزته- سبحانه- يملك أمر هذا اليوم، ويقضى فيه بما شاء في الظالمين، وأهل البغي والعدوان، فلا يكون لهم مع سلطان اللّه سبحانه سلطان، ولا مع عزته عزة.. وبرحمته- سبحانه- يدخل من يشاء من عباده الجنة، ويصفى عليهم ما يشاء من فضله وإحسانه.. كما يقول سبحانه: {يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} [31: الإنسان].
قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}.
تحدّث هذه الآيات عن صورة من صور العذاب الذي أعد للظالمين، يوم القيامة.. وقد جاءت هذه الصورة من العذاب، مفردة، حيث تحصر في إطارها إنسانا ظالما، باغيا، من هؤلاء الظلمة الباغين.. فيبدو في هذه الصورة وكأن العذاب الجهنّمى قد احتواه وحده، وفى شخصه هذا يرى كل ظالم أثيم أنه هذا الإنسان الشقي المنكود، يتقلب وحده في هذا العذاب الذي تقشعر من هوله الجبال!.
وشجرة الزقوم، كما وصفها القرآن الكريم هي شجرة: {تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ}.
وإن شجرة تغتذى من جهنم، وتمتد أصولها وفروعها بين جمرها ولهيبها، لهى شجرة أقوى من جهنم، وأعتى من النار.. فكيف بثمرها هذا الذي تختصر وجودها كله فيه؟ إن هذا الثمر هو طعام الأثيم!!.. وإنه كالمهل، أي خثارة الزيت بعد غليانه.
وقوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ} هو تنكيل بهذا الأثيم، ومضاعفة لما يلقى من ذلة وهو ان في هذا اليوم، حيث يساق إلى جهنم بين زبانيتها سوقا عنيفا، ثم يعتل عتلا، ثم لا يلقى به حيث يقع، بل يدفع به دفعا حتى يبلغ سواء الجحيم، أي وسطها، ومركز دائرتها.
وبهذا يتلّقى من العذاب أقساه وأشده.
وقوله تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ} هو عذاب إلى هذا العذاب، الذي يأكل هذا الأثيم أكلا، ثم يلفظه، ثم يأكله.
وهكذا.. وما يصبّ فوق رأسه ليس ماء، وإنما هو عذاب.. ولكنه من حميم، أي من ذوب جهنم، ونضيج عرقها!!.
والحميم: الماء الحار الذي يغلى.. ومنه الحمّى، لاشتداد حرارة المريض بها.
وقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} هو مما يساق إلى هذا الأثيم، من ألوان العذاب.. فهو إذ يشوى بنار جهنم، يصبّ فوق رأسه ما ينضح عليه من لهيبها من عرق، ليتبرّد به. ثم يلقى في أذنه بهذه التحايا التي كان يتلقاها في دنياه من ندمائه وأتباعه.. وإنها لتحايا تملأ قلبه حسرة وكمدا.. {ذُقْ}! وأي شيء يذوق؟ مهلا يغلى في بطنه، وحميما يصبّ فوق رأسه، ونارا تقطّع له منها أثواب فوق أثواب!.
هذا هو نعيمه الذي ينعم به، وتلك هي التحايا التي يحيّا بها، والكؤوس التي يتناولها من يد السقاة والندمان!! وإنه مع هذا هو العزيز الكريم.. يحضره في هذا البلاء المشتمل عليه- ما كان له في دنياه من عزة ومنعة في قومه، وما كان له من كرامة فيهم، وإكرام منهم.. فهذان شاهدان من أهله- عزته وكرامته- يشهدان هوانه، وذلته.. وإنه ليس أشد إيلاما للنفس، ولا إزعاجا للفؤاد، من أن يفتضح المرء في أهله، وأن يعرّى على أعينهم، مع ما كان له فيهم من عزة وكرامة.
قوله تعالى: {إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}.
عاد الخطاب إلى الجماعة، بعد أن شهدوا أنفسهم فردا فردا، في شخص هذا العتلّ الأثيم، الذي تجرع كئوس العذاب والهوان ألوانا مترعة.. فهذا العذاب، هو الذي كان يمترى فيه، أي يجادل فيه هؤلاء الضالون، الذين كانوا يجادلون من يحدثهم عن اليوم الآخر، ويحذرهم من لقاء ربهم فيه، على ما هم عليه من شرك وضلال.

.تفسير الآيات (51- 59):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}.
هذه الآيات والتي بعدها، تعرض الصورة المقابلة لأهل الضلال والمنكر، وما يلقون في جهنم من عذاب وهوان.. وفى المقابلة بين الصورتين تتضح المعالم في كلّ منهما، ويرى كلّ في الصورة المقابلة، ما يضاعف ما هو فيه من بلاء أو نعيم.
فأهل النار، إذ يرون أصحاب الجنة، وما هم فيه من نعيم ورضوان، يزداد بلاؤهم وتتضاعف محنتهم، ويشتد عذابهم وحسرتهم.. وأصحاب الجنة إذ يرون أهل النار، وما هم فيه من محن وشدائد، يعظم نعيمهم، ويتضاعف رضوانهم، فلا يجدون غير أن يسبّحوا بحمد ربهم أن عافاهم من هذا البلاء.. {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ} [34- 35: فاطر].
ولهذا كان أصحاب الجنة وأصحاب النار، على مشهد من بعضهم، حيث يرى بعضهم بعضا، ويتحدث بعضهم إلى بعض، دون أن يصل إلى أصحاب الجنة شيء من عذاب أهل النار، ودون أن يصل شيء من نعيم الجنة وريحها إلى أهل النار.. {وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ} [50: الأعراف].
قوله تعالى: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ}.
وحيث يلبس أهل النار من النار أثوابا، يلبس أصحاب الجنة حللا من سندس وإستبرق.
والسندس.. الرقيق من الديباج وهو ما كان سداه ولحمته من الحرير.
والإستبرق: الغليظ من الحرير.
وإذ يتدابر أهل النار، فلا ينظر بعضهم إلى بعض، لما وقع بينهم من عداوة، ولما يشهدون من العذاب الذي يعذب به المعذبون- فإن أصحاب الجنة، يواجه بعضهم بعضا، ويأنس بعضهم بالنظر إلى بعض، وبما يصافح أنظارهم من آيات الرضا والبهجة، التي تملأ الصدور، وتفيض على الوجوه.. {عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [23- 24: المطففين] قوله تعالى: {كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}.
أي كذلك شأنهم الذي هم فيه.. وأكثر من هذا، فقد زوجهم اللّه سبحانه وتعالى، بحور عين من حور الجنة، وعرائسها.
والحور: جمع حوراء.. وهى التي في عينها حور، وهو شدة سواد العين مع شدة بياضها، وهذا من مفاتن المرأة، يقول جرير:
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لا يحيين قتلانا والعين: جمع عيناه، وهى الواحدة من بقر الوحش، وذلك لسعة عينيها وجمالها، وبها تشبه المرأة الحسناء، ذات العيون الفاتنة.
قوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ}.
أي يرزقون فيها من كل فاكهة يطلبونها، مما تشتهيه أنفسهم.
وقد عبر عن الطلب بالدعاء، لأنه التماس ورجاء من رب كريم.. وعدّى الفعل بالباء مع أنه يتعدى بنفسه، لتضمنه معنى الهتاف بالفاكهة.. فما هي إلا أن يهتف بها أحدهم حتى تكون حاضرة بين يديه، من غير أن يحملها إليه أحد، أو يمد إليها هو يده.. بل يجدها بين يديه، وهو آمن، ساكن، لا يلتفت، ولا يتحرك.
قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ}.
هو تعليل لقوله تعالى: {آمِنِينَ}.
أي أنهم في أمان من أن يزعجهم عن هذا النعيم الذي هم فيه، أىّ خاطر يخطر لهم، من انقطاع هذا النعيم بالموت، أو بالتحول عنه إلى غيره.. فهم في أمان من الموت.. {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} أبدا، فإنها حياة خالدة، ونعيم خالد.. فلا يتحولون أبدا عن هذا النعيم إلى ما يقابله من عذاب الجحيم الذي يصلاه أهل النار، فقد وقاهم اللّه هذا العذاب وأنقذهم منه، فلا يتعرضون له أبدا.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى} إشارة إلى قول المكذبين باليوم الآخر: {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ}.
أي أن أهل الجنة قد ذاقوا هذه الموتة الأولى، التي كانوا على إيمان بالحياة والبعث بعدها، فكان هذا الإيمان سببا في خلاصهم من عذاب النار، كما كان سببا في هذا النعيم الذي هم فيه.. ومذاق هذه الموتة عندهم، غير مذاقها عند من يكذبون بالبعث.. حيث يجد المؤمنون بالبعث، أن هذا الموت سبيل إلى الحياة الآخرة، وإلى لقاء اللّه، وإلى ما أعد اللّه للمؤمنين المحسنين من جزاء كريم، على حين يجد المكذبون باليوم الآخر، أن الموت هو حكم عليهم بالفناء الأبدى، الذي يتحولون بعده إلى تراب في هذا التراب.
إنه الضياع الأبدى لهم، والفراق الذي لا لقاء بعده للأهل والولد! فهم يعذبون بالموت في الدنيا، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ} [55: التوبة] وهم كذلك يعذبون بهذا الموت في الآخرة، إذ كان هو الذي انتقل بهم إلى هذا العذاب الجهنمى الذي يتجرعون كئوسه ألوانا.
فهذا الموت، الذي ذاقه المؤمنون في الدنيا، هو سبب مسراتهم التي يسرّون بها في الجنة، إذ يذكرونه- وهم في الجنة- فيذكرون أنه هو الذي أوصلهم إلى هذا النعيم، فلولا الموت لما كان البعث.
قوله تعالى: {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
هو تعليل لقوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ} أي أن ما قضى اللّه سبحانه وتعالى به في أهل الجنة، من أنهم لا يذوقون الموت، ولا يتحولون عن هذا النعيم الذي هم فيه، إنما كان ذلك فضلا من فضل اللّه، وإحسانا من إحسانه، ورحمة من رحمته، إلى عباده المؤمنين.. وحسبهم بهذا فوزا.. فذلك هو الفوز العظيم، الذي لا يعدله فوز.
قوله تعالى: {فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
الضمير في {يَسَّرْناهُ} يراد به القرآن الكريم.. والمراد بتيسيره.
بلسان النبي، تمكين العرب من الالتقاء بهذا القرآن، والأخذ عنه، وتلقى الهدى منه، لأنه بلسانهم، الذي هو لسان النبي المبعوث فيهم.
وفى قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
تذكير لهؤلاء المشركين بنعمة اللّه عليهم، إذ أنزل عليهم كتابا من عنده، باللسان الذي يتكلمون به.
ولو جاءهم بغير هذا اللسان، لما كان لهم سبيل إلى الاتصال به، والحياة في رياضه النضرة، والاقتطاف من ثماره الطيبة المباركة.
فهذه نعمة جليلة من نعم اللّه على الأمة العربية، وإنه لجدير بها أن تلتقى بهذه النعمة، وأن تأخذ حظها منها.. فهو كتاب اللّه إليهم، ورحمته فيهم.
وقد ذكر القرآن بضميره، دون أن يكون لهذا الضمير مرجع، لأن القرآن أشهر من أن يذكر، إذ هو حجة قائمة على المؤمنين، وغير المؤمنين جميعا.
قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}.
العطف بالفاء هنا يشير إلى أن الأمر بين النبي، وقومه، لم ينته إلى نهايته بعد، وأنهم مازالوا في هذا الامتحان مع القرآن الكريم، فلينتظر النبي ما يكون منهم، وليصبر على أذاهم، ولا ييأس من استجابتهم له، وذلك لأنهم {مُرْتَقِبُونَ} لم يقطعوا برأى بعد فيما يدعوهم إليه، وإن كانوا مقيمين على كبر وعناد.. وهكذا كان شأن قريش مع النبي، إنهم لا يكذبون النبي، ولا يشكّون في أنه رسول اللّه، ولكنّ كبرهم وعنادهم هو الذي كان يقطع عليهم الطريق إليه.. وإنهم لينتظرون ما تأنى به الأيام.. ولن تأتى الأيام إلا بما يسوء المعاندين والمكابرين منهم.. ويخيب ظنونهم، حيث يبدو لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون.. إنهم سيبعثون، وقد كانوا لا يتوقعون بعثا، وإنهم ليحاسبون، وقد كانوا لا يرجون حسابا، وإنهم ليعذبون في النار، وقد كانوا في تكذيب بهذا العذاب، وفى شك منه.
وإذا كان القوم لم يرتقبوا شيئا من هذا كله، فإنهم مكرهون على هذا الارتقاب، إذ لا مفرّ لهم منه.
ولقد أدّى بهم ارتقابهم في الدنيا إلى أن رأوا كلمة اللّه تعلو، وشهدوا جند الحقّ ينتصرون، وإذا ظل الشرك ينسخ شيئا فشيئا حتى تدول دولته، ويجيء فتح اللّه والنصر، ويدخل الناس في دين اللّه أفواجا.. وهنا يرى النبيّ قومه وقد استجابوا لدعوته، وأصبحوا جميعا جندا من جنود الحق الذي يدعو إليه.
فكان ذلك يوم النصر والفتح، الذي تحقق فيه للنبى ما وعده به ربّه يوم اصطفاه لحمل الرسالة، فقال سبحانه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى}.