فصل: تفسير الآيات (12- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (12- 15):

{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)}.
التفسير:
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآية السابقة عليها، أشارت إلى القرآن الكريم، ونبهت إلى أنه الهدى لكل من طلب الهدى.. ثم تهددت الآية أولئك الذين يكفرون بربّهم، ولا يقبلون على هذا الهدى الذي أنزله اللّه سبحانه وتعالى إليهم.
وهذه الآية، تجيء بعد هذا، لتحثّ أولئك الذين استمعوا للآية السابقة، ووقفوا موقف التدبّر والتبصر- على أن يسرعوا الخطا إلى اللّه، وان يستجيبوا لما يدعوهم إليه الرسول، من خير وهدى.. وإنهم إذ يتجهون إلى اللّه ليجدون هذه الدعوة المجدّدة إليهم، والكاشفة لهم عن جلال ربهم وعظمته وقدرته، وماله من فضل وإحسان إليهم.. فهو سبحانه، الذي سخر البحر، ومكّن الناس من أن يجعلوه طريقا ذلولا تجرى الفلك عليه، كما تجرى الدواب على اليابسة.. كل هذا بأمر اللّه وحكمته.. فهو سبحانه الذي قدّر بحكمته أن تطفو بعض الأجسام على الماء، حسب قانون محكم لا يتخلف أبدا.. ومن عجب أنه بحكم هذا القانون، أن يلقى بالحصاة الصغيرة في الماء فتغوص فيه، على حين أنه يلقى فوق ظهره بالسفينة محملة بالدواب، والناس، والأمتعة، فتظلّ سابحة فوقه! قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
وهذا الإله الذي يدعى إليه العباد، هو الذي سخر لهم ما في السموات وما في الأرض، وأتاح لهم الانتفاع به في كل وجه من وجوه الانتفاع، حسب استعدادهم وقدرتهم على التصرف فيه.
ففى السماء، النجوم، والكواكب.. وهى مسخرة بأمر اللّه سبحانه وتعالى، في دورانها في أفلاكها، على ما يرى الناس منها، في جميع الأوقات.
وهى قائمة على ما أقامها اللّه عليه، من إرسال أضوائها، وأنوارها على الأرض، دون أن يكون للناس شأن، أو حول، في تحويل مداراتها، أو تغيير نظامها.
ثم إن للناس مع هذا أن ينتفعوا بكل ما أمكنهم الانتفاع به منها.. فإذا كشف لهم العلم عن إمكان اختزان الطاقة الحرارية للشمس، واستخدام هذه الطاقة في إدارة المحركات، وتسيير البواخر، والقاطرات، والسيارات، وغيرها- فذلك مما سخر اللّه للناس، ويسر لهم الانتفاع به.. وقل مثل هذا في كل ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان من عالم السماء.
وفى الأرض.. ما لا يحصى من قوى الطبيعة المختزنة فيها، والتي جعل اللّه مفاتحها في يد الإنسان، بما يكشف له العلم من أسرار.
فهذا البناء الشامخ للمدنية، وما تزخر به الحياة في هذا العصر من ألوان لا حصر لها- هو مما أودعه اللّه سبحانه وتعالى في هذه الأرض، وهو ما استطاعت يد الإنسان أن تطوله.. وهناك ذخائر كثيرة لا تزال مطوّية في صدر الطبيعة، تنتظر يد الإنسان القادر على الوصول إليها، وكشف الستر عنها.
وقوله تعالى: {جَمِيعاً مِنْهُ} حالان من لفظ {ما} في قوله تعالى: {ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} أي سحر كل هذا مجتمعا، في حال أنه من اللّه سبحانه وتعالى.. أي من فضله وإحسانه.
هذا وقد رأى بعض أصحاب الجدل والمراء، من طوائف المعتزلة والمتصوفة وغيرهم، أن في قوله تعالى: {مِنْهُ} يشير إلى أن هذا الوجود في أرضه وسمائه، هو من ذات اللّه، وأن هذه العوالم هي ظل اللّه، وتجلّياته، أو هي اللّه ذاته.. إلى غير ذلك من المقولات، التي تنتهى إلى القول بوحدة الوجود، وأنه ليس ثمة خالق ومخلوق.
ولا شك أن هذا تعسف في التأويل، فضلا عن فساد المعنى المستنبط من هذا التأويل.. فإن الجار والمجرور {منه} متعلق بمحذوف، هو مضاف إلى اللّه سبحانه وتعالى، أي ذلك كله، من فضل اللّه، ورحمته.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} دعوة إلى إعمال الفكر، في مواجهة هذه القوى المسخرة، حتى ينسج الإنسان من هذه الخيوط المتنائرة هنا وهناك، ثوبا قشيبا، يتزين به، ويكون سمة له، وشارة تفرق بينه وبين عالم الحيوان، الذي يعيش على ما تعطيه الطبيعة، دون أن يكون له أثر يذكر في تحوير شيء أو تبديله.
قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة قد كشفت عن بعض الوجوه المنكرة من المشركين الذين إذا علموا من آيات اللّه شيئا اتخذوها هزوا، ومع هذا فإن اللّه سبحانه وتعالى لم يمسك رحمته عنهم، بل ساق إليهم آياته، تحمل إليهم الهدى، وتدعوهم إليه، وتغريهم بالإيمان باللّه، بما تعرض عليهم من دلائل قدرته، وسوابغ نعمه.
ثم إنه لكى يكون من المشركين الضالين إصاخة إلى هذه الدعوة الكريمة من اللّه سبحانه وتعالى لهم، ثم يكون منهم نظر فيما يدعون إليه من النظر في آيات اللّه، وفيما سخر للناس في السموات وفى الأرض من نعم- لكى يكون من المشركين هذا، كان على المؤمنين ألا يدخلوا معهم في مجال الخصومة الحادة، والجدل العنيف، فإن ذلك من شأنه أن يثير في القوم دوافع الكبر والاستعلاء، وأن يشغلوا بالمؤمنين، وبالانتصار عليهم في المقاولة والمصاولة- عن النظر في أنفسهم والإفادة من آيات اللّه التي تتلى عليهم.
ومن أجل هذا جاء قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} جاء داعيا المؤمنين إلى أن يتجاوزوا عن سفاهة هؤلاء المشركين، وألا يلقوا سفههم بسفه مثله، حتى تتاح الفرصة لهؤلاء المشركين أن يستمعوا إلى آيات اللّه، في جوّ لا تنعقد فيه سحب الجدل والخصام، التي تحجب عنهم الرؤية الصحيحة لآيات اللّه.. وبهذا تقام الحجة عليهم، بعد هذا البلاغ المبين لدعوة اللّه.. فإذا لم يستجيبوا بعد هذا، لم يكن لهم عذر يعتذرون به، ووقعوا تحت طائلة العقاب الذي هم أهل له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
فلقد أزيلت الحواجز التي تحجز القوم عن الاستماع إلى آيات اللّه، حتى لقد احتمل المسلمون ما احتملوا من سفههم وتطاولهم عليهم، كى يهيئوا لهم الجوّ الصالح للاستماع، والنظر، والتأمل، فإذا كان بعد هذا ثمة حاجز يحجزهم عن الإيمان باللّه، فهو من عند أنفسهم، وكان كفرهم وضلالهم من صنع أيديهم، التي حجبوا بها نور الحق عنهم.
وفى قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
.. وفى تنكير {قوم} إشارة إلى قوم بأعيانهم، وأن أمرهم مع تنكيرهم، أظهر من أن يدلّ عليه، وأن يعرّف به.. وهؤلاء القوم، هم أولئك المشركون، الذين دعى المؤمنون إلى أن يغفروا لهم، وأن يتجاوزوا عن سيئاتهم وسفاهاتهم.
فهؤلاء القوم قد امتنّ اللّه سبحانه وتعالى عليهم بهذه المنة العظيمة، بفضل مقام رسول اللّه فيهم، فلم يعجّل اللّه سبحانه وتعالى لهم العذاب، بل أمهلهم إلى آخر لحظة من حياتهم، حتى تكون أمامهم فسحة من الوقت، يصلحون فيها أنفسهم، ويصححون عقيدتهم.. ثم إنه- سبحانه- بعد أن أفسح لهم المقام في هذه الحياة الدنيا، صرف عنهم الدواعي التي تشغلهم عن الاستماع إلى آيات اللّه التي تتلى عليهم، أو تحول بينهم وبين النظر فيها، فدعا اللّه سبحانه وتعالى الذين آمنوا، أن يغفروا لهم، وألا يدخلوا معهم في جدل.
وهذا كله دليل على مزيد من الفضل والإحسان إلى هؤلاء القوم.. فإذا لم يستقبلوا هذا الفضل وذلك الإحسان بالإقبال على اللّه، والاستجابة لما يدعوهم سبحانه وتعالى إليه، من هدى- لم يكن لهم بعد هذا إلا العقاب الأليم.
وأيام اللّه، التي لا يرجوها هؤلاء المشركون ولا يتوقعونها، هي الأيام الواقعة في الحياة الآخرة، والمراد بها الحياة الآخرة، ذاتها، وإنما عبّر عنها بالأيام، لأن الأيام دلالة على وحدة من وحدات الزمن في الحياة الدنيا، وهناك في الحياة الآخرة أيام ذات دلالة على الزمن، وإن اختلفت تلك الأيام عن أيام الدنيا في مقدارها.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في قوله عن أهل الجنة: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [62: مريم].. وفى إضافة أيام الآخرة إلى اللّه سبحانه وتعالى، مع أن الأيام كلها هي أيام اللّه- إشارة إلى شرف هذه الأيام، وإلى عظم قدرها، وأن أيام الحياة الدنيا إذا ووزنت بها لا تساوى شيئا، كما يقول اللّه سبحانه: {وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ} [64: العنكبوت].. وكما يقول سبحانه: {وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ} [26: الرعد].
فللأيام أقدار وأوزان عند اللّه، كأقدار الناس وأوزانهم، فالناس كلّهم عباد اللّه، ولكن اللّه سبحانه يضيف إلى ذاته أهل ودّه، ومحبته، تكريما لهم وتشريفا.. فيقول سبحانه: {فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [17- 18: الزمر].
قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}.
هو تعقيب على الآيات السابقة، وما حملت إلى المشركين من دعوة إلى الإيمان، وما دعت إليه المؤمنين من الرفق بالمشركين والتجاوز عن جهلهم وسفاهتهم.. فمن استجاب لأمر اللّه، وعمل صالحا، فله جزاء عمله، ومن أعرض عن اللّه سبحانه وتعالى، وركب طرق الباطل والضلال، فسيلقى جزاء كفره وضلاله.. فهناك يوم يرجع فيه الناس جميعا إلى اللّه، ويحاسبون على كل ما عملوا، ويجزون عن الإحسان إحسانا ورضوانا، وعن السوء عذابا ونكالا.

.تفسير الآيات (16- 22):

{وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ}.
مناسبة هذه الآية وما بعدها مما فيه ذكر لبنى إسرائيل، هي أن الآيات السابقة عليها قد وضعت بين يدى المشركين من قريش هذا الهدى الذي أرسله اللّه إليهم، وتلك الرحمة التي ساقها لهم على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهم يقفون من هذا الهدى وتلك الرحمة، موقف الشك، والاتهام، والتردد، وإن ذلك يوشك أن يعرّضهم لعقاب اللّه، وينزلهم منازل سخطه وغضبه- فناسب ذلك أن يلفتوا إلى بنى إسرائيل الذين يجاورونهم، ويعيشون بينهم، وإلى ما آتاهم اللّه من الحكم والنبوة، وما رزقهم من طيبات، حيث أنزل عليهم المنّ والسلوى، وكانوا بهذا مثلا فريدا في الناس بكثرة الأنبياء الذين بعثوا فيهم، وبالملوك الذين جمعوا بين الملك والنبوة، فحكموهم بسياسة الملك، وحكمة النبوة.. ثم يتلك المعجزات الكثيرة التي جاءتهم من اللّه سبحانه على يد الأنبياء والرسل.. فهذه الألطاف والنعم لم تجتمع لمجتمع كهؤلاء القوم، ومع هذا فقد تحولت تلك النعم في أيدى القوم إلى بلاء ونقم، حيث مكروا بآيات اللّه وكفروا بها، فرماهم اللّه سبحانه وتعالى، باللعنة، وأمطرهم برجوم من سخطه وغضبه، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وأقامهم في هذه الدنيا مقاما مضطربا قلقا، لا يجدون فيه إلى الأمن والسلام سبيلا، إذ قطّعهم في الأرض أمما، وسلّط عليهم الناس في كل مجتمع يعيشون فيه، كما يقول سبحانه:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ} [167: الأعراف].
فهذا التفضيل الذي فضّل اللّه به بنى إسرائيل، هو ابتلاء لهم، كشف عن نفوسهم الخبيثة، وطباعهم الشرسة، كما يكشف الغيث المنزّل من السماء عن معدن الأرض السبخة التي يصيبها الماء الغدق، فإذا هي بعد قليل قد أصبحت مستنقعا آسنا متعفنا، يؤذى كل من يلم به.
ففى هذا المثل، يرى المشركون عاقبة من يكفر بنعم اللّه، ويمكر بآياته.
وها هم أولاء بين يدى نعم اللّه وآياته.. فماذا هم فاعلون؟ أيكفرون ويمكرون، فيلقوا جزاء الكافرين.. الماكرين.. أم يشكرون ويؤمنون، فيكون لهم جزاء الشاكرين المؤمنين؟ ذلك ما تكشف عنه التجربة التي لم يخرجوا منها بعد.
قوله تعالى: {وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} أي وآتيناهم كذلك بينات من الأمر.
والبينات: هي المعجزات التي تكشف لهم الطريق إلى الأمر الذي يدعون إليه، ويؤمرون باتباعه، وهو دين اللّه وشريعته.
وقوله تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي أن هذه الآيات البينات، وهذا العلم الذي تحمله تلك الآيات البينات، قد كان سببا في اختلافهم، فآمن فريق منهم، وكفر فريق، وشكّ فريق، وقد كانوا من قبل هذا العلم على طريق واحد، هو طريق الغواية والضلال.
وفى قوله تعالى: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} إشارة إلى أن هذا الاختلاف والتفرق الذي حدث بينهم حين جاءهم العلم، إنما هو عن بغى وعدوان منهم، وإلا فقد كان من شأن هذا العلم أن يجمعهم على الهدى، وأن يقيمهم على طريق الحق، لو سلمت نفوسهم من داء البغي والعدوان.
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي أن هذا الخلاف الذي وقع بينهم لن يذهب من غير حساب وجزاء، بل إن اللّه سبحانه وتعالى سيحكم بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه، فيجزى أهل الضلال بضلالهم، وأهل الإحسان بإحسانهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ}.
أي ثم بعد أن آتينا بنى إسرائيل ما آتيناهم من بينات من دين اللّه وشريعته، جعلناك أيها النبي على شريعة من الأمر، فاتبعها.
وفى العطف بثم، إشارة إلى تراخى الزمن، بين ما أنزل اللّه سبحانه على بنى إسرائيل من آيات ومعجزات، وبين بعثه الرسول، وما أنزل اللّه اللّه سبحانه وتعالى عليه من آياته وكلماته.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} إشارة إلى أن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يؤت مجرد آيات، وبينات من الدين، وإنما أوتى الدّين كلّه، وأنه قد جعل القائم على شريعة هذا الدين، حيث يرد الواردون إليه، فيجدون الرّى من هذا المورد، ويحمل كل وارد ما استطاع حمله منه.
والشريعة: مورد الماء.. وفى تشبيه الشريعة الإسلامية بمورد الماء، إشارة إلى أمور:
أولها: أن القرآن الكريم، الذي هو مصدر هذه الشريعة، هو شيء واحد، أشبه بالماء... طبيعة واحدة، لا يختلف بعض عن بعض من حيث هو ماء يرده الواردون للسقيا منه.. وكذلك آيات اللّه وكلماته، كلها على سواء في جلالها وإعجازها وما فيها للأرواح من حياة.
وثانيها: أن إعجاز القرآن، يبدو في كل آية من آياته، كما يبدو في القرآن كله.. كالماء تكشف القطرة منه عن جوهره كله.
وثالثها: أن ما أوتيه الرسل من المعجزات، هو بينات من الدين الذي يدعون إليه، وليس بيّنة واحدة، إذ كانت كل معجزة تختلف عن أختها في صورتها، وفى آثارها في الناس.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن الآيات التي جاء بها موسى إلى فرعون وملائه..: {وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها} [48: الزخرف].
أما ما أوتيه الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- فهو بيّنة واحدة، وآية واحدة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [1- 3: البينة] كما يشير إليه الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- في قوله: {ما من نبى من الأنبياء إلا أوتى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحى إلىّ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة}.
وفى قوله تعالى: {فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} إشارة إلى أن هذه الشريعة، لا يتجه إليها، ولا يرد مواردها إلا من كانت معهم عقولهم التي ينظرون بها إلى هذه الشريعة، ثم يؤديهم هذا النظر إلى العلم الذي يكشف لهم الطريق إليها.. أما من زهد في عقله، وصحب هواه، فلن يتعرف إلى هذه الشريعة، ولن يرد مواردها.
قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}.
الضمير في {إِنَّهُمْ} يعود إلى المذكورين في قوله تعالى في الآية السابقة {وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.
وهم المشركون الذين استولى عليهم الجهل، واستبدّ بهم العمى، فانقادوا لأهوائهم، ولم يلتفتوا إلى هذا الهدى الذي يدعون إليه.
فهؤلاء الضالون، ينبغى على النبي أن يدعهم وما اختاروا لأنفسهم، بعد أن أنذرهم، ومدّ إليهم حبل النجاة، فأعرضوا عنه، وأن يستقيم هو على طريقه، وألا يشغل نفسه بهم.. فإنه مسئول عن نفسه أولا، وأن هؤلاء الضالين لن يغنوا عن النبي شيئا، إذا هو شغل بهم، وقصّر- وحاشاه-
فى حق ربه.. وأنه إنما يتولى المؤمنين، الذين استجابوا للّه وللرسول، ويعمل على ما يعينهم على البر والتقوى.. أما الظالمون فإنما يتولى بعضهم بعضا.. لا ولاية لهم من اللّه، ولا من رسوله، ولا من المؤمنين.. أما المؤمنون فإن بعضهم أولياء بعض، واللّه ورسوله أولياء لهم، كما يقول سبحانه:
{إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [55: المائدة].
قوله تعالى: {هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
الإشارة هنا إلى القرآن الكريم، وهو الشريعة التي جعل اللّه- سبحانه وتعالى- النبيّ قائما عليها.
فهذا القرآن هو {بَصائِرُ لِلنَّاسِ} أي مراد ومسرح للعقول، حيث يقيم لها من النظر فيه، بصائر، تتهدى إلى الحق، وتتعرف إلى مواقع الهدى.
والبصائر: جمع بصيرة، والبصيرة، قوة من قوى الإدراك المستنير المشرق.. يرى بها الإنسان من عالم الحق، ما يرى البصر من عالم الحسّ.
وفى تسمية القرآن بأنه {بَصائِرُ} إشارة إلى أنه هو ذاته عيون مبصرة، وأنه بقدر ما يفتح اللّه للناس منه، بقدر ما يكون لهم من نور تستبصر به عقولهم، وبقدر ما يحصلون من {هُدىً} وما ينالون من {رَحْمَةٌ}.
وقوله تعالى: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} إشارة إلى أن هذا القرآن، وما فيه من بصائر للناس جميعا وهدى ورحمة لهم- لا يرد مورده، ولا يرتوى من هذا المورد إلا من جاء إليه بقلب سليم، مهيأ لاستقبال الخير وتقبله.
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ}.
هو تهديد لهؤلاء الذين دعوا إلى الحق، فلم يستجيبوا، ورفعت لهم معالم الاستبصار، فلم يبصروا- فهؤلاء لهم عذاب شديد، على حين أن الذين آمنوا واهتدوا سيلقون من اللّه سبحانه ورحمة ورضوانا.. فهذا هو ميزان الناس عند اللّه إنه ميزان عدل، لا يسوى فيه بين من {اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ}.
أي اقترفوا الآثام والمنكرات، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. فهؤلاء غير أولئك، في الدنيا وفى الآخرة جميعا.. إنهم ليسوا سوآء عند اللّه في الدنيا أو في الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في موضع آخر: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [28: ص].
فالمؤمنون على هدى من ربهم في الدنيا، وفى الآخرة، يؤنسهم الإيمان في الدنيا، ويملأ قلوبهم أمنا وطمأنينة، وهم بهذا الإيمان يلقون ربهم في الآخرة، فينزلهم منازل رحمته ورضوانه.
أما الكافرون وأهل الضلال، فهم من كفرهم وضلالهم، لا يجدون برد الطمأنينة في الدنيا، ولا ريح الرحمة في الآخرة.. وذلك هو الخسران المبين.
وفى قوله تعالى: {اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ}.
إشارة إلى أن اقتراف السيئات، لا يكون إلا بجرح فضيلة من الفضائل، وبعدوان على حق من الحقوق.
فالاجتراح من الجرح، الذي يجيء عن طريق العدوان، والذي يوقع صاحبه تحت حكم القصاص منه، كما يقول سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ} [45: المائدة].
قوله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} يمكن أن يكون معطوفا على قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} وتكون الآيات الواقعة بين المتعاطفين، اعتراضا يراد به الإلفات إلى موقف الناس من آيات اللّه الكونية أو الكلامية، وأنهم ليسوا سواء في موقفهم من تلك الآيات، فبعضهم مؤمن مهتد، وكثير منهم فاسقون.
ولكلّ من الفريقين حسابه عند اللّه، حيث لا يسوّى بين المؤمنين، وبين الكافرين الظالمين.
ثم يجيء بعد هذا قوله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} استكمالا لعرض آيات اللّه الدالة على قدرته، وعلمه، وحكمته.
ويجوز أن تكون الواو هنا للحال، لا للعطف، ويكون الحال من الفاعل، وهو اللّه سبحانه، في قوله تعالى: {أَنْ نَجْعَلَهُمْ}.
.. أي أيظن الذين كفروا باللّه، واقترفوا ما اقترفوا من آثام- أن يجعلهم اللّه كالذين آمنوا وعملوا الصالحات على سواء في الحياة، وفى الممات، وفيما بعد الممات؟. أيظنون هذا وقد خلق اللّه السموات والأرض بالحق؟ إن هذا ظنّ فاسد، وما يبنى عليه من تصورات وأحكام لا يكون إلا فاسدا.. فإن هذا الوجود الذي خلقه اللّه من مادة الحق، وأقامه على الحق، لا يمكن أن يدخل عليه ما يغيّر صورة الحق.
وإن مما يغير صورة الحق أن يسّوى بين المحسنين والمسيئين.. وهذا ما لا يكون أبدا واقعا في ملك اللّه.
وقوله تعالى: {وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ} معطوف على محذوف دلّ عليه السياق، أي وخلق اللّه السموات والأرض بالحقّ، وأرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، ولتقوم عليهم الحجة، {وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ}.
وقوله تعالى: {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} جملة حالية من فاعل الفعل {كَسَبَتْ} المراد به الناس جميعا.. أي أن الجزاء الذي يجزى به الناس، لا يدخل عليه جور، ولا يتلبس به ظلم.. فالمحسن ينال جزاء إحسانه، من غير أن ينقص منه شيء.
بل سيضاعف له الجزاء.. والمسيء سينال جزاء إساءته وما كسبت يداه، دون أن يؤخذ بجريرة أحد.. {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [164: الأنعام].