فصل: تفسير الآيات (36- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (36- 37):

{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)}.
التفسير:
بهاتين الآيتين الكريمتين تختم السورة، فيلتقى ختامها مع بدئها، ويكون أشبه بالتعقيب عليه.. فقد بدأت السورة بالإشارة إلى القرآن الكريم، وبأنه منزل من اللّه العزيز الحكيم. ثم تلا ذلك الإشارة إلى السموات والأرض وما فيهما من آيات المؤمنين.. وكان مؤدّى هذا، أن كثيرا من الناس، نظروا في آيات اللّه القرآنية، والكونية، فرأوا فيها آيات من جلال اللّه، وعظمته، وقدرته، فآمنوا باللّه، وانشرحت صدورهم، واطمأنت قلوبهم بهذا الإيمان، ومن أجل هذا فهم يحمدون اللّه، ويشكرون له، أن هداهم للإيمان.
فالحمد للّه وحده، لا شريك له، هو سبحانه المستحق للحمد، لأنه رب السموات والأرض. وهو المتفرد بالحكم والسلطان فيهما، بعزته، وحكمته.
فالعزة، سلطان غالب قاهر، والحكمة، ميزان حق وعدل في يد العزة الغالبة القاهرة، فلا ظلم ولا جور من سلطان العزة الغالبة القاهرة.

.سورة الأحقاف:

نزولها: مكية بإجماع عدد آياتها: خمس وثلاثون آية عدد كلماتها: ثلاثمائة وأربع وأربعون كلمة عدد حروفها: ألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت سورة الجاثية بحمد اللّه، من عباده المؤمنين، الذين نظروا في آيات اللّه القرآنية والكونية، وفرأوا فيها دلائل قدرة اللّه، وعلمه، وحكمته.. ومن ثمّ كان إيمانهم باللّه، وحمدهم له، أن هداهم إلى الإيمان.
وهنا تبدأ سورة الأحقاف، فتكشف عن الوجه الآخر من وجوه الناس، وموقفهم من آيات اللّه.. وهؤلاء هم المشركون، الكافرون، الذين عرضت عليهم آيات اللّه، فأعرضوا عنها، وتليت عليهم آياته، فصمّووا آذانهم عنها.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 6):

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)}.
التفسير:
قوله تعالى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.
مضى تفسير هاتين الآيتين في أول السورة السابقة: (الجاثية).
قوله تعالى: {ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}.
أي أن خلق السموات والأرض وما بينهما، كان خلقا قائما على الحق، متلبسا به، فما خلق شيء في هذا الوجود إلا بحكمة وتقد. وما خلق شيء عبثا أو لهوا، كما يقول سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ}.
فكل ذرة في هذا الوجود، لها مكانها فيه، ولها وظيفتها التي تؤديها لانتظام نظامه، واتساق حركته: {ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ} [3: الملك].
وقوله تعالى: {وَأَجَلٍ مُسَمًّى} معطوف على قوله تعالى: {بِالْحَقِّ} أي ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وبتقدير أجل مسمّى لكل مخلوق خلق.. فكل مخلوق خلق لغاية، وحكمة.. وكل مخلوق له أجل ينتهى به دوره، كما يقول سبحانه وتعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [49: يونس] وكما يقول سبحانه: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ} [38: الرعد].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}.
جملة حالية، تكشف عن موقف بعض مخلوقات اللّه التي خرجت عن سنن الحق الذي قام عليه الوجود كله.. فهؤلاء الذين كفروا، لم يقفوا عند حدّ كفرهم، وانحرافهم عن جادة الطريق، بل إنهم- مع كفرهم وضلالهم- لم يقبلوا دعوة الهدى، ولم يستمعوا إلى هذا النذير، الذي جاء ينذرهم ويحذرهم عاقبة كفرهم وضلالهم.
وفى الجمع بين كتاب اللّه المنزّل من اللّه العزيز الحكيم، وبين السموات والأرض والحق الذي خلقا به- في هذا الجمع، إشارة إلى أن آيات اللّه القرآنية، وآياته الكونية، على سواء، في أنها جميعا من الحق، وأن ما يتلوه أصحاب الألباب من صحف الكون، هو شبيه بما يتلونه من كتاب اللّه، وآياته.. فمن لم تنفذ العبرة والعظة إلى قلبه عن طريق السمع، بما يتلى عليه من آيات اللّه وكلماته كان له من نظره في آيات اللّه الكونية، ما يفتح له الطريق إلى اللّه.. أما من أغمض عينيه عن آيات اللّه الكونية، وأصم أذنيه، عن آيات اللّه القرآنية فهيهات أن تنفذ إلى قلبه شعاعة من هدى، أو قبسة من نور.
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
المراد بالاستفهام في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} هو إلفات المشركين إلى هؤلاء المعبودين الذين يعبدونهم من دون اللّه، وإعادة النظر إليهم، نظرا فاحصا محقّقا، وذلك ليجيبوا على ما يسألون عنه في شأن هؤلاء المعبودين.. وفى هذا إشارة إلى أن هؤلاء المشركين، كانوا في غفلة عن معبوداتهم تلك، وأنهم إنما يعبدونها عن تقليد، بلا وعى أو تفكير.. ولهذا طلب إليهم أن يعيدوا النظر في معبوداتهم تلك، وأن يتحققوا من صفاتها، وما تملك بين أيديها من قوّى.
وقوله تعالى: {أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ}.
هو السؤال الذي يطلب إلى المشركين الإجابة عليه، بعد أن استعدوا لهذا الامتحان، بالنظر إلى معبوداتهم، والكشف عن حقيقتها.
والسؤال هو: {ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}؟ أي ماذا لهؤلاء المعبودين من مخلوقات في الأرض؟ وأىّ شيء خلقوه منها؟ {أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} إنه لا شيء لهم فيما على هذه الأرض من مخلوقات، كبر شأنها أم صغر.. إنهم لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له.. كما يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (73: الحج).
وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ} هو إضراب عن السؤال السابق، بعد أن عرف الجواب عنه، وهو الصمت والوجوم.. وإنشاء لسؤال آخر، فربما وجد المشركون جوابا له، بعد أن عجزوا عن الإجابة عن السؤال الأول.
{أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ} أي إذا لم يكن لهؤلاء المعبودين شيء مما خلق اللّه سبحانه وتعالى في الأرض من مخلوقات.. فهل لهم شركة مع اللّه فيما خلق في السموات؟ وإنه لا جواب على هذا إلا العجز الصامت، والوجوم المطبق!.
فإن كان هناك من يكابر، ويأبى إلا أن يجعل لهذه المعبودات سلطانا في السموات أو في الأرض، فليأت بكتاب من عند اللّه من الكتب التي سبقت القرآن الكريم، وتقدمت نزوله.. فإن لم يكن كتاب فليكن {أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أي أثر ولو قليل من علم، مصدره أهل الذكر والعلم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ} [8: الحج].
وفى السؤال عما للمعبودين في الأرض بلفظ الخلق وعما لهم في السموات بلفظ الشرك في هذا مراعاة لمقتضى الحال التي عليها المشركون مع آلهتهم.. حيث يبدو لهم من معبوداتهم أن لها تدبيرا وتصريفا مستقلا في شئون الحياة.. كما كان فرعون يدّعى أنه بألوهيته، هو الذي يمد قومه بأسباب الحياة، وما ينزل عليهم من مطر، أو ينبت من نبات.. وكما كان يدهى النمرود أنه يحيى ويميت، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [258: البقرة].
أما العالم العلوي، فإن دعوى خلق شيء من عوالمه، أكبر من أن يتسع لها ادعاء، على حين يمكن أن تدّعى الشركة، وأن ينسج لها ثوب ملفق من الوهم والخيال.. حيث لا يطالب الشريك بالتصريف في شيء، منفردا عن شريكه.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ}.
هو تعقيب على هذا الموقف الذي وقف منه المشركون مع معبوداتهم، موقف امتحان وابتلاء.. وقد تكشف لهم من هذا الامتحان أن معبوداتهم تلك، لا تملك شيئا من هذا الوجود في أرضه أو سمواته.. وإذن فما أضل من يعبدها، ويرجو العون منها.. إنها لا تستجيب لمن يدعوها، ولو امتد دعاؤه، وطال وقوفه بين يديها إلى يوم القيامة.. إنها لا تملك شيئا، ولن تملكه، حالا أو مستقبلا.. وطلب شيء ممن لا يملك شيئا، هو السفه الجهول، والضلال المبين.
وقوله تعالى: {وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ} جملة حالية، تكشف عن غفلة هذه المعبودات، عن دعاء من يدعونها.. إنها لا تسمع، ولو سمعت ما استجابت، لأنها في قيد العجز المطلق، الذي لا تملك معه من أمر اللّه في عباده شيئا.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} [56: الإسراء] ويقول سبحانه:
{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ} [14: فاطر].
وفى التعبير عن عدم الاستجابة بالغفلة، إشارة إلى استخفاف هذه المعبودات بعابديها، وأنها لا تلتفت إليهم، ولا تأبه لدعائهم، حتى ولو كان من شأنها أن تسمع وتعقل.
قوله تعالى: {وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ}.
أي وليس هذا الذي تلقى به هذه المعبودات عابديها، من استخفاف بهم، وشغل عنهم- ليس هذا كل ما هنالك.. بل إن لهذا الحساب بقية في الآخرة، حيث تنتظر هذه المعبودات من عبدوها في موقف الحساب والجزاء، وهناك تقف منهم موقف العداوة والخصومة، حيث تشهد عليهم بأنهم كانوا كافرين باللّه، مفترين عليها بتأليهها، وعبادتها، وجعلها أندادا للّه سبحانه.. وهذه جريمة شنيعة، ألصقها هؤلاء المشركون بتلك المعبودات، وإن من حق هذه المعبودات أن تطلب القصاص من عابديها، الذين عرضوها في معرض البهتان والضلال.

.تفسير الآيات (7- 14):

{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
أي أن هؤلاء المشركين الذين انكشف لهم ما عليه آلهتهم التي يعبدونها من دون اللّه، من ضعف وعجز عن أن تملك لهم ضرا أو نفعا- لم يكن لهم من العقل والرأى ما يحولهم عن موقفهم هذا الذي جمدوا عليه مع آلهتهم، وحتى إنهم إذا تليت عليهم آيات اللّه بينة بيان الصبح، مشرقة إشراق الضّحى، خدعوا أنفسهم عنها، وقالوا هذا سحر مبين.. إذ لم يستطيعوا أن ينكروا سلطان هذه الآيات، أو يدفعوا حجتها القائمة عليهم، إذ كان سلطانها أكبر من أن يدفع، وكانت حجتها أقوى من أن ترد- فكان هروبهم منها وفرارهم من بين يديها، مستندا إلى هذا الادعاء الباطل، بأن هذه الآيات من السحر المبين، الذي يملك محمد من أعاجيبه وحيله، مالا يملكون.
وفى إظهار الضمير في {عليهم} {وآياتنا} كشف للحقيقة المنطوية فيهما.. فضمير المشركين، يطوى تحت كيانه وجها منكرا من وجوه الناس، هم {الَّذِينَ كَفَرُوا}.
وضمير الآيات البينات، يضم تحت جناحيه، الحق المبين.
وفى قوله تعالى: {قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ} إشارة إلى أن هذا الحق الذي طلع على المشركين من تلك الآيات البينات التي تليت عليهم- كان من الظهور والبيان بحيث يرونه رأى العين، حتى إنه ليتمثل لهم منه كائن شخصى، عاقل، يجيء إليهم، ويخاطبونه، ويشيرون إليه قائلين {هذا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
هو إضراب عن مقولتهم عن القرآن، هذا سحر مبين وعدول عن هذا القول إلى قول آخر، إذ لم يطمئنوا إلى هذا القول في القرآن.. فهو آيات بينة المعنى، واضحة القصد، وكلمات محددة الدلالة، صريحة المعنى، فمن أين يكون بينها وبين السحر جامعة تجمعها به، والعهد بالسحر، أنه خفايا وأسرار، تطلع من وراء ستر محجبة، لا يعرف الطريق إليها إلا أصحابها، الذين يخيّلون للناس منها ما يخيلون.
فالقول بأن هذا القرآن مفترى على اللّه أقرب إلى القبول في باب الجدل والمراء من القول بأنه سحر.. ولكن هذا القول لا يلبث أن ينكشف زيفه وبطلانه إذا وضع موضع الاختيار، إذا قيل لقائليه: ما لكم لا تأتون بعشر سور مثله مفتريات، أو بسورة واحدة مفتراة؟ وماذا يحول بينكم وبين الافتراء، والمجال فيه متسع فسيح لمن يشاء أن يرد موارده؟.
وقد ردّ اللّه سبحانه وتعالى على مقولتهم تلك، في غير هذا الموضع من القرآن الكريم، فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ} [13: هود].
وهنا، في هذا الموقف يلقاهم، رد آخر في قوله تعالى: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً}.
وهذا الرد يتجه إلى الافتراء من حيث هو كذب على اللّه، وعدوان عليه سبحانه وتعالى، وأن من افترى على اللّه فقد تعرض لسخطه ونقمته، وأنه لا أحد يدفع عن المفترى على اللّه سخط اللّه، وعذاب اللّه! فلم يفترى النبي على اللّه، ولم يعرض نفسه لهذا البلاء؟
وما الثمن الذي أخذه من وراء هذه المجازفة؟.
وقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ} هو تهديد للمشركين بقولهم هذا الذي يقولونه في كلمات اللّه وآياته.
وأفاض في الحديث: توسع فيه، وأكثر منه.. حتى يجاوز الحدود، ويخرج عنها، كما يفيض السائل من الإناء، ويسيل في كل مسيل.
وإفاضة القوم في القرآن، هو مقولاتهم الكثيرة فيه، وهى مقولات باطلة لا حدود لها، وهذا يعنى أن مقولاتهم في القرآن مقولات باطلة، تتسع لكل قول.. ولو أنهم قالوا قولا حقا، لما كان لهم إلا قولة واحدة، هي أن هذا القرآن من عند اللّه، وأنه الحق من ربهم.
وقوله تعالى: {كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}.
تهديد ووعيد آخر للمشركين، وأنهم في موضع الحساب والمسألة من اللّه تعالى، وأنهم مأخوذون بما يقولون من مفتريات على آيات اللّه، وعلى رسول اللّه.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} دعوة إلى هؤلاء المشركين أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يطلبوا النجاة من هذا الموقف المهلك الذي هم فيه، وأن يفرّوا إلى اللّه، وأن يطلبوا المغفرة والرحمة من رب غفور رحيم.
وفى هذه الدعوة- إشارة إلى أن الرسول الكريم، إنما جاء رحمة للناس من ربه، وأنّ ربه غفور رحيم، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.. وأن هؤلاء المشركين في معرض المغفرة والرحمة، إذا هم طلبوا مغفرة اللّه ورحمته.
قوله تعالى: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
هو دعوة أخرى إلى هؤلاء المشركين، أن يعيدوا النظر في هذا النبيّ، وفيما يدعوهم إليه.. إنه بشر مثلهم، شأنه في هذا شأن المرسلين من قبله إلى أقوامهم.. وهو إنما يبلغ ما يتلقاه من ربه، شأنه في هذا أيضا شأن كل رسول قبله.. فهو ليس بدعا من الرسل، أي ليس على صورة غريبة، خارجة عما جاء عليه الرسل من قبله، سواء في شخصه، أو في مضمون ما أرسل به.. فماذا ينكر القوم منه؟
وفى قوله تعالى: {وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ}.
هو تقرير لبشرية الرسول، وأنه ليس إلا عبدا من عباد اللّه، لا يعلم الغيب، ولا يملك لنفسه، ولا لأحد ضرّا ولا نفعا، إلا ما شاء اللّه.
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [188: الأعراف].
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
هو تحريض للمشركين من قريش على أن يسبقوا إلى هذا الخير الذي يدعوهم النبيّ إليه، وأن يسارعوا إلى أخذ حظهم منه، قبل أن يسبقهم إليه غيرهم من أهل الكتاب الذين يعرفون أنه الحقّ من ربهم، وأن بعضا منهم- ممن لا يستبد به الحسد، ولا تغلبه شقوته- سيؤمن بهذا القرآن، ويهتدى بهديه.
وتحرير معنى الآية.. ماذا يكون موقفكم أيها المشركون، إذا كان هذا القرآن من عند اللّه، وقد كفرتم به، على حين أن بعضا من اليهود قد عرف وجه الحق فيه، ورأى من آيات الحقّ منه، مثل ما رأى في الكتاب الذي معه، فآمن باللّه، وصدق بهذا القرآن واستكبرتم أنتم حين عرفتم الحقّ ولم تؤمنوا- ماذا يكون موقفكم، وقد فاتكم هذا الخير الذي أعطيتموه ظهركم؟
ألا يكون منكم إلّا الانطلاق في هذا الضلال الذي أنتم فيه إلى غاياته؟ إن ذلك عدوان منكم على الحق، وظلم مبين منكم لأنفسكم، واللّه لا يهدى القوم الظالمين، الذين يرون الحقّ، ويأبون أن يأخذوا طريقهم معه! هذا، وقد كاد يكون إجماع من المفسرين على أن هذه الآية قد نزلت في عبد اللّه ابن سلام، وهو من اليهود الذين دخلوا في الإسلام، ويأتون على هذا بأخبار ومرويات من الأحاديث في كتب الصحاح كالبخارى ومسلم، وغيرهما.
والسورة مكية، وليس هناك شاهد قوىّ يشهد بأن هذه الآية مدنية- كما يقول بذلك الذين يذكرون سبب نزولها- بل إن هناك أكثر من شاهد بأنها مكية.
فأولا: أن السياق متصل، بحيث يجعل الآية في مواجهة هؤلاء المشركين الذين يخاجون النبيّ ويرمونه بالكذب والافتراء وفى هذه المواجهة يرى المشركون أن موقفهم من الرسول، ومن القرآن، سينتهى بهم إلى أن يسبقهم أهل الكتاب إلى هذا الرسول الذي كانوا يتمنون على للّه أن يكون لهم كتاب مثل أهل الكتاب.. وكانوا يقولون ما حكاه القرآن عنهم: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ} [157: الأنعام] وها هم أولاء قد جاءهم الكتاب، ويوشك أن يفلت من أيديهم وثانيا: أن في هذه لآية المكية، دعوة غير مباشرة إلى أهل الكتاب أن يؤمنوا بهذا الرسول، وبالكتاب الذي أنزل إليه من ربه وفى هذه الدعوة إرهاص بالمواجهة التي سيواجه فيها الرسول والقرآن أهل الكتاب، فيما بعد، وهذا أسلوب من أساليب القرآن في دعوة أهل الكتاب إليه، وهو في الطريق إليهم، قبل أن يلقاهم لقاء مباشرا وإذن فليس هناك داعية إلى القول بأن هذه الآية مدنية، وبالتالى أنها نزلت في عبد اللّه بن سلام أو غيره.. وإن الذي ينظر في الأحاديث والمرويات، التي ذكرت في هذا المقام، يرى فيها اختلافا، وتضاربا، بحيث ينقض بعضها بعضها، ويهدم بعضها بعضا مما يجعل مجاوزتها والعدول عنها، أولى من الوقوف عندها، وأخذ شيء منها.
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ}.
أي ومن الشّبه والضلالات التي أضلت المشركين عن الإيمان باللّه والاستجابة للرسول- أن كثيرا من الذين سبقوهم إلى الإيمان باللّه، والاستجابة للرسول، كانوا من الفقراء، والمستضعفين، كبلال، وعمار، وصهيب، وغيرهم ممن سبقوا إلى الإسلام.. وهذا عند المشركين من الأدلة الناطقة بأن هذا الذي يدعو إليه محمد، ليس مما تهفو إليه نفوس أصحاب الجاه، والمنزلة.. في الناس، وأنه لو كان كذلك لما سبق إليه الأرقاء والمستضعفون فيهم وكيف.. وهم السابقون إلى عايات السيادة والمجد، يسبقهم عبيدهم وإماؤهم إلى أمر، ثم يكونون هم وراءهم، يأخذون مكانهم في الصفوف المتأخرة فيه؟ وإذن فهذا الذي يدعو إليه محمد ليس إلا إفكا مفترى، ولهذا كان المنخدعون به، هم أولئك الأرقاء والأدلاء من بينهم وهكذا تأمرهم أحلامهم، وتسوّل لهم أنفسهم!! قوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ}.
هو رد على مقولة المشركين في القرآن بأنه إفك قديم. أي أن هذا القرآن ليس إفكا قديما كما يدعون.. فلقد سبقه كتاب موسى، الذي هو إمام أي هدى يهتدى به الناس، ورحمة من اللّه إليهم.. وهذا القرآن هو مصدق لما في كتاب موسى، لينذر هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم بالإعراض عنه، ويبشر المحسنين، الذين أحسنوا إلى أنفسهم بهذا الخير الذي ساقوه إليها من هذا الكتاب.
وفى قوله تعالى: {لِساناً عَرَبِيًّا} مقابلة لقوله تعالى عن كتاب موسى {إِماماً وَرَحْمَةً}.
أي أنه إذا كان كتاب موسى إماما ورحمة، فإن هذا للكتاب لسان عربى، ومن هذا اللسان العربي يتفجر ينابيع الهدى والرحمة.
وفى هذا تنويه باللسان العربي، من حيث هو لغة، فكيف إذا كان هذا اللسان يحمل آيات اللّه البينة، وكلمات اللّه المعجزة؟
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
هو بيان للمحسنين، ولما يحمل إليهم القرآن الكريم من بشريات.
وقد جاء هذا البيان على تلك الصورة التقديرية المؤكدة، إظهارا لمزيد الاعتناء بهم والتنويه بشأنهم، وبشأن الجزاء الكريم الذي أعده اللّه سبحانه وتعالى لهم.. فالمحسنون، هم الذين قالوا ربنا اللّه، أي آمنوا به، ثم استقاموا على شريعة اللّه، فامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه.. فهؤلاء هم المحسنون، وهم الذين لا خوف عليهم مما يخيف أهل الشرك والضلال يوم القيامة، وهم الذين لا يحزنون يوم تمتلئ قلوب أهل الشرك والضلال حزنا وكمدا على ما فرطوا في جنب اللّه.. إنهم أصحاب الجنة لهم فيها دار الخلد، فلا يتحولون عنها أبدا، جزاء ما عملوا في دنياهم من طيبات.