فصل: تفسير الآيات (47- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (47- 51):

{قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}.
التفسير:
عجبت مريم لهذا الأمر العجيب، الذي تحدثها الملائكة به من عند ربها.. أن تلدا مولودا من غير أن تتصل بزوج! وكيف؟ وما ذا تقول للناس؟ ومن يسمع لها أو يصدق قولها؟ وأنّى لها القوة التي نحتمل بها لذعات الألسنة، وغمزات العيون، وهمسات الشفاه؟ إنها تجربة فريدة في عالمها، لم تكن لامرأة قبلها، فكيف لها باحتمالها، واحتمال تبعاتها؟
وفى وداعة العابدة المتبتلة، ولطف العذراء وحيائها.. تسأل ربها: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ويجيبها رسول ربها: {كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ}.
لا حدود لقدرته، ولا ضوابط من نواميس الطبيعة التي نعلمها، بالتي تحول بين قدرة اللّه وبين أن تأتى بما لا نحسب ولا نقدر! وفى قوله تعالى هنا {اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ} وقوله في إجابة زكريا: {اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ} مراعاة تامة للمقام هنا وهناك.
ففى أمر مريم عملية خلق كاملة. فناسبها قوله تعالى: {اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ}.
أما في قصة زكريا فهى على خلاف هذا.. مولود من رجل وامرأة، وإن كان كلّ من الرجل والمرأة غير أهل لأن يولد له فناسبه أن يعبر عنه بالفعل {اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ} والخلق والفعل وإن كانا من باب واحد، فإن هناك فرقا دقيقا بينهما، وهذا الفرق الدقيق له وزنه وله اعتباره في بناء الأسلوب البلاغي الرفيع، الذي لا يوجد على كماله وتمامه إلا في القرآن الكريم.
فى قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} ما يسأل عنه وهو: الكتاب والحكمة.. ما هما؟ لقد منّ اللّه على عيسى بأن علمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.. والتوراة والإنجيل معروف أمرهما، إذ كانت التوراة كتاب موسى وشريعته، وبالكتاب وبالشريعة دان عيسى، ثم كان له كتابه وهو الإنجيل.. يبشر به وبكتاب موسى وشريعته.. فما الكتاب والحكمة اللذان تعلمها من اللّه قبل أن يتعلم التوراة والإنجيل؟
فى القرآن الكريم جاء ذكر الكتاب مقترنا بالحكمة في كثير من المواضع، مثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ} [164: آل عمران] وقوله سبحانه: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [129: البقرة] وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ} [81: آل عمران] وقوله سبحانه: {فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} [54: النساء] وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [112: النساء].
وقد جاءت كلمة الحكمة مفردة في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [269: البقرة] وفى قوله سبحانه عن داود عليه السّلام: {وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ} [20: ص] والحكمة هي إصابة مواقع الحق في القول والعمل، فهى بهذا ضرب من الهداية والتوفيق، يرزقهما اللّه من يشاء من عباده.
والكتاب المقترنة به الحكمة هنا يسبق الحكمة، أي أن الحكمة ثمرة من ثمراته، إذ كان طريق الوصول إلى الكتاب هو معرفة القراءة والكتابة، حتى يمكن الإفادة مما كتب الكاتبون ودرس الدارسون.. وقد تعلّم المسيح القراءة والكتابة، وقرأ ما كتب من كتب، وفتح اللّه بصيرته وأنار قلبه بالعلم والحكمة، قبل أن يقيمه قيّما على شريعة التوراة والإنجيل.
قوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ} أي ويجعله رسولا إلى بنى إسرائيل.. فالمسيح أحد الرسل الذين أرسلهم اللّه إلى بنى إسرائيل، ورسالته خاصة بهم، مكملة لرسالة موسى عليه السّلام فيهم، كما جاء ذلك على لسان المسيح، فيما روت الأناجيل عنه.
ففى إنجيل متى: ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحى صور وصيدا، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدا، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين، اصرفها، لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: لم أرسل إلّا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (متى: الإصحاح الخامس عشر).
وفى متى أيضا يوصى المسيح تلاميذه، وقد بعث بهم ليبشروا، قائلا: إلى طريق أمم لا تمضوا، ولا مدينة للسّامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحرىّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالّة (متى: الإصحاح العاشر).
قوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي يتحدث إلى بنى إسرائيل ويخبرهم بما أرسله اللّه به إليهم ويقول لهم: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، تشهد لى بأنى رسول من عنده، وتلك الآية هي ميلاده على الصورة الفريدة، إذ ولد من عذراء لم يمسسها بشر. وإذ كان ميلاده وظهوره في بنى إسرائيل آية، فإن تلك الآية تتولد منها آيات ومعجزات. ومن تلك الآيات ما ذكره القرآن على لسانه: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ} فمادة الطين التي منها تخلّقت الكائنات الحية من إنسان وحيوان- هي التي ينشئ منها نماذج لكائنات حية من الطير، ثم ينفخ فيها فإذا هي في عالم الطير ترفّ بأجنحتها، وتسبح في السماء، شأنها في ذلك شأن بنات جنسها من هذا العالم.
ونسأل: لم لم تكن معجزته أن يصوّر من الطين إنسانا، فينفخ فيه فيكون إنسانا من الناس، فإن الذي يبعث الحياة في الطين بنفخة منه، لا يعجزه أن يكون الإنسان أحد مخلوقاته، كما يفعل ذلك في عالم الطير؟ وإنه لو فعل ذلك لكان أظهر لآيته، وأبلغ في معجزته وإعجازه؟
ولكن لو وقع هذا لكان فتنة للناس.. إذ كيف يعيش مثل هذا الإنسان في الناس؟ وكيف تطيب له الحياة بينهم؟ وبأية صلة يتصل بهم ولا نسب له فيهم؟ ثم ما شأنه بعد أن تتحقق المعجزة فيه؟ أيظل هكذا معجزة متحركة بين الناس يدورون معه حيث دار، ويتحركون معه حيث يتحرك؟ إنها الفتنة الممسكة بالناس إذن؟
إن شأن المعجزات المادية أن تكون بنت ساعتها، ثم تختفى فلا يرى الناس لها وجها بعد هذا.. إنها أشبه بإشارة ضوئية، تلمع ثم تختفى ليكون للناس نظر فيها، وتقدير لها، وليخلف عليها نظرهم وتقديرهم، وبهذا يكون البلاء والامتحان.. ولو أن تلك المعجزات المحسوسة ظلت هكذا قائمة تحت بصر الناس لما كان هناك مكان للابتلاء، ولما كان لأحد فضل على أحد في الإيمان بها، أو الشك فيها، أو الإنكار لها، ولاستقام أمرهم فيها على طريق واحد.. هو طريق الإيمان والتسليم، وعندها لا يكون للإنسان اختيار، ولا يكون إيمانه محسوبا له، إذ كان عن قهر، تحت ضغط هذه المعجزة القاهرة، التي تأخذ عليه كل سبيل إلى الفرار والزيغ! وانظر في هذا الطائر، الذي كان تحت أعين الناس صورة من الطين، ثم أصبح بتلك النفخة طائرا ينطلق في سبحات الجوّ.. ثم لا يلبث حتى يتوارى عن الأنظار، كما يلمع البرق ثم يختفى!.. هنا معجزة، ولكنها تحمل في ثناياها امتحانا وابتلاء، فيؤمن بها من يؤمن، ويشك فيها من يشك، وينكرها ويكفر بها من ينكر ويكفر.
{وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [89: يونس] فهكذا تكون المعجزات، لمحة خاطفة، وإشارة عابرة.. فيها نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.
ومن معجزات المسيح التي يلقى بها بنى إسرائيل، ما عرضه عليهم في قول اللّه سبحانه على لسانه: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ}.
والأكمه من ولد أعمى، وهذا النوع من العمى ليس للطب قديما وحديثا بصر به، ولا عمل فيه، بل هو العجز المطلق حياله.. ومن هنا كان شفاؤه لا يتم إلا بمعجزة متحدية! والبرص مرض خبيث يصيب الجلد، فيذهب بلونه، ويأكل أديمه، كما تأكل الأرضة لحاء الشجر.. وشأنه شأن الكمه، لا علاج له، ولا شفاء منه.
إلا بمعجزة متحدية! فكان من معجزات السيد المسيح إبراء الكمه والبرص، وإحياء الموتى! وتلك معجزات قاهرة متحدّية، تقف أمامها قوى البشر عاجزة مستخزية.
ومن معجزاته التي أجراها اللّه على يديه أنه يخبر عما غاب من شئون الناس، فيخبرهم بما أكلوا في يومهم أو أمسهم، وما ادخروا في بيوتهم من مال ومتاع.
ولكنها مع ذلك معجزات، يمكن أن يكون فيها للسفهاء قول، وللمتمارين والمجادلين مما حكات وتعليلات.
ولما جاء المسيح إلى بنى إسرائيل بتلك المعجزات، ليفتح قلوبهم إلى اللّه، وإلى ما يدعوهم إليه من هدى وإيمان، جاءهم مصدقا بالتوراة، وداعيا بما فيها.
وهذا أدعى إلى أن يستجيبوا له، ويؤمنوا به، إذ لم يأتهم بجديد، وإنما الجديد في رسالته، أن يقيمهم على التوراة التي خرجوا عنها، وتأولوا أحكامها تأويلا فاسدا: {وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ}.
وأكثر من هذا، فإن المسيح جاء رحمة من رحمات اللّه بهم. جاء ليرفع عنهم بعض تلك الأحكام التأديبية التي أخذهم اللّه بها، عقابا لهم ونكالا، بما حرم عليهم من طيبات كانت أحلت لهم، كما يقول تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [160: النساء].
فكان من رسالة المسيح إليهم أن يخفف عنهم بعض هذه الأحكام: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} وقوله تعالى {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية هنا هي المعجزة التي ولد بها عيسى، وجاء إلى هذا العالم بها.. فميلاده على الأسلوب الذي ولد به هو آية من آيات اللّه، يراها أهل زمانه قائمة بينهم، فيضلّ بها كثيرون، ويهتدى بها كثيرون.. فهو إنما جاء إلى بنى إسرائيل وولد فيهم بآية من آيات اللّه.
وقد ضلّ بها بنو إسرائيل إلا قليلا منهم.. فشنعوا على المسيح وأمّه، ونسبوا البتول إلى الفاحشة، ونسبوا المسيح إلى غير أمه، وجعلوه ابنا غير شرعى ليوسف النجار! قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي اخشوا اللّه فيما تقولون من بهتان في وفى والدتي، وأطيعون فيما أدعوكم إليه من أمر اللّه.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} هو التعقيب الجامع على ما جرى على يد المسيح من معجزات.. إنى لست إلا عبدا من عباد اللّه، فأقرّوا للّه بالعبودية، كما أقررت له بالعبودية، واعبدوه كما أعبده.. {هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} من لم يستقم عليه فقد ضل وهلك، ومن استقام عليه اهتدى ونجا.. من كذب بتلك الآيات فهو في الهالكين، ومن صدّق بها ثم بالغ فيها، فجعل من المسيح إلها فهو من الهالكين!

.تفسير الآيات (52- 53):

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ}.
أي فلمّا استبان له من عنادهم ولجاجهم، ومكرهم بآيات اللّه ومعجزاته، أنهم لن ينتفعوا بتلك الآيات، ولن يجدوا فيها طريقا يهديهم إلى الحق- لمّا تبين له ذلك من بنى إسرائيل ولمسه لمسا واقعيا، نقض يده منهم، واعتزلهم بمن آمن به، وأخلص الإيمان في سره وعلنه.. فنادى في القوم {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ} في الانجاء إليه، بنيّة صادقة وقلب سليم؟ فأجابه الحواريون، وهم تلاميذ المسيح وخلصاؤه الأولون، الذين سكنوا إليه، وتركوا كل ما في أيديهم من أهل ومال: {قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وكانت عدتهم اثنى عشر حواريّا، بعدد أسباط بنى إسرائيل الاثني عشر.
قوله تعالى: {رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ} هذا القول يمكن أن يكون لكل من يستمع آيات اللّه، وما أنزل على رسوله من كلماته، فيرى فيها نور الحق، ويستروح منها روح اليقين، فيؤمن باللّه وبرسوله بالغيب، من غير أن يرى الرسول، أو يستمع إليه، ويقول مع المؤمنين: {رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي اجعلنا في عداد الذين شهدوا الرسول وآمنوا به، وهذا هو الوجه الأقرب إلى منطق الآية الكريمة.. كما يمكن أن يكون تتمة لمقول القول الذي نطق به الحواريون، إجابة لعيسى عليه السّلام.

.تفسير الآيات (54- 55):

{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} المكر الذي مكره اليهود هو ما بينوه من أمر المسيح، وتدبيرهم التّهم لمحاكمته، وصلبه، وإقامة شهود الزور عليه، بأنه مشعوذ، ومفتر على اللّه، ومدّع أنه المبعوث ملكا على اليهود.. وقد انتهى أمره معهم إلى أن قدموه للمحاكمة، وشهدوا عليه زورا أمام الحاكم الرومانى بيلاطس الذي كان حاكما عليهم، فحكم عليه- حسب شريعتهم- بالصّلب.
والصلب لا يحكم به في شريعة اليهود إلا على من جدّف على اللّه، وكفر به، وبهذا يستحق اللعنة والطرد من رحمة اللّه، ومن الدخول في ملكوته! والصلب هو العقاب الدنيوي المعجّل- عند اليهود- لمن كفر باللّه، وهو رمز على تلك اللعنة التي حلّت بهذا الكافر باللّه.. وفى التوراة: ملعون من علّق على خشبة (تثنية: 21) أي صلب.
فالصلب في حقيقته تجريم دينىّ لمن يحكم عليه به، ولعنة تصحب المصلوب إلى العالم الأخروى، وتأخذ عليه السبيل إلى ملكوت اللّه! ذلك هو مكر اليهود بالمسيح.
كانوا في شك من أمره.. إذ يرون معجزاته القاهرة تملأ عليهم الزمان والمكان اللذين يحتويانهما.. ولكنهما كانوا- من جهة أخرى- ينتظرون مسيحا مخلصا لهم- حسب تأويلهم لشريعتهم- وكان مسيحهم الذي ينتظرونه على صورة- في وجدانهم- غير صورة المسيح عيسى، الذي جاءهم.. فمسيحهم الذي ينتظرونه هو ملك يخلصهم من الحكم الأجنبى، ويعيد إليهم مملكة سليمان ومجده.. والمسيح عيسى بن مريم لم يجئهم إلّا بمملكة سماوية، وهذه المملكة لا يدخلونها إلا إذا خرجوا مما في أيديهم من هذه الدنيا، من مال وأهل وولد! فما أبعد البون بين مسيحهم الذي يؤملون، وهذا المسيح الذي يكذّبون!! من أجل هذا كانت صدمتهم قاسية حين التقوا بالمسيح، وغلبت عليهم شقوتهم فأنكروه، وأنكروا ما جاء به، ورأوا في المعجزات التي حملها بين يديه شعوذة وسحرا.
وأرادوا أن يقطعوا الشك باليقين في موقفهم المتردد من المسيح.
فليدخلوا إذن في تجربة مع المسيح.
فليصلبوه إذن، وليكن هذا الصلب هو فيصل الحكم فيما بينهم وبينه.
إنه يدّعى أنه المسيح، والمسيح الحقيقي لا يصلب ولا يقع تحت اللعنة! وتمضى الأيام بهم، فيزداد عنادهم وإصرارهم كلما زاد شكهم وقوى حدسهم في أنهم لم يصلبوا المسيح، وإنما صلبوا شخصا يشبهه.
ويظل هذا الخاطر يزعج اليهود، ويبيتهم في هم وقلق.. حتى يجيء القرآن الكريم، واليهود أعرف الناس به وبصدقه، فيكشف لهم عن وجه الحق سافرا ويقطع الشك باليقين.. فيقول الحق جلّ وعلا: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [157، 158: النساء].
وهنا يتجلّى لليهود سوء ما مكروا: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ}.
لقد دبّروا هذا التدبير السيء، فأبطل اللّه تدبيرهم، وردّ كيدهم في نحورهم، وإذا هم وقد أرادوا أن يخرجوا المسيح من ملكوت اللّه، قد أخرجهم اللّه من ملكوته، وصبّ عليهم لعنته، وحمّلهم دم نبىّ لم يقتلوه، وقد خيل إليهم أنهم قتلوه! وفى قوله تعالى: {إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يتعلق الظرف {إذ} بقوله تعالى في الآية قبلها: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} أي مكر اللّه وتدبيره هو خير من مكرهم وتدبيرهم ثم علل لذلك وبينه بقوله: {إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى} الآية.
فقد أوحى اللّه سبحانه إلى عيسى عليه السّلام بما بيّت اللّه القوم، ووعده سبحانه بأنهم لن ينالوا منه الذي أرادوا فيه، إذ أنه سبحانه سيوفّيه أجله المقدور له، غير منقوص منه شيء، وأن موته بيد اللّه لا بأيديهم، وسيرفع اللّه منزلته عنده، ويجعله من عباده المقربين إليه، ويطهره من اليهود فلا يصلب، ولا تمسه اللعنة، التي أرادوا أن يلبسوه إياها بصلبه! وقوله تعالى: {وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ}.
أي أن المؤمنين من أتباع المسيح هم فوق الكافرين إلى يوم القيامة.
وهذا حكم عام فيما بين المؤمنين والكافرين.. فحيث كان مؤمنون وكافرون، فالمؤمنون فوق الكافرين أبدا.. فلا يتساوى المؤمن والكافر في المركز الاجتماعى في الدنيا، حيث لا يأكل المؤمن طعام الكافر، ولا يتزوج منه، ولا يزوّجه.
فالكافرون في منزلة دون منزلة المؤمنين أبدا، وإن تساووا في الآدمية والإنسانية، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [141: النساء].
وقوله سبحانه: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
بيان لحكم اللّه في الآخرة بين المؤمنين والكافرين، بعد أن بين اللّه هؤلاء وهؤلاء فيما اختلفوا فيه من الحق.. فالمؤمنون هم أهل الحق، ولهم يحكم اللّه، والكافرون أصحاب الباطل وعليهم يحكم اللّه.
وفى الآية وعيد للكافرين ونذير بالعذاب الذي ينتظرهم، وقد حملته الآية الكريمة تلميحا لا تصريحا، ولكنه تلميح يشير بأكثر من إشارة إلى الآيات الكثيرة التي حملت إلى الكافرين أهوال العذاب الذي توعدهم اللّه به.