فصل: تفسير الآيات (31- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (31- 38):

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ}.
الواو: واو القسم.. والابتلاء: الاختبار.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هي الآيات السابقة أشارت إلى أن هناك في المجتمع الإسلامى منافقين، وأصحاب قلوب مرضى، وأن اللّه سبحانه لو شاء أن يكشف عنهم، ويفضح مستورهم لفعل، إذ لا شيء يصادم إرادته، أو يعطّل مشيئه- ولو شاء سبحانه- لأهلك هؤلاء المنافقين، أو لهداهم إلى الإيمان وقتل هذه الآفات الخبيثة التي ترعى كل نبتة خير فيهم.. ولكنه سبحانه لم يقدّر هذا ولم يشأه، بل كان مما قضت به حكمته أن يجعل إلى الناس أنفسهم مشيئة عاملة، وإرادة نافذة، وأن يكون لهم بتلك الإرادة، وهذه المشيئة رسالة يؤدونها في هذه الحياة، وهى إصلاح الفاسد، وإقامة المعوج، ولا يكون ذلك إلا إذا كان في الناس الفاسدون، والمعوجون.. وهنا يكون الابتلاء والامتحان، وحين يتصادم المصلحون والمفسدون، ويتلاقى المستقيمون والمعوجّون.
فقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} هو خبر مؤكد من اللّه سبحانه وتعالى إلى المؤمنين بأنهم لم يتركوا هكذا، يتحلون بحلية الإيمان، وينزلون منازل المؤمنين دون أن يوضعوا موضع الامتحان والابتلاء.. فهذا الامتحان هو الذي يكشف عن حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين، وهل هو إيمان صادق، انشرح به الصدر، واطمأن به القلب، أم هو مجرد صورة من الشارات والمراسم..؟
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [2: العنكبوت] وقوله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ}.
حتى غاية لهذا الامتحان أو الابتلاء.. بمعنى أنكم أيها المؤمنون واقعون- لا محالة- في مواقع ابتلاء، وأنكم لن تتركوا حتى تدخلوا في هذا الابتلاء، وتتجرعوا كؤوسه المرّة، فإن صمدتم في هذا الابتلاء، وصبرتم على ما تلقون من بأساء وضراء، فقد أثبتم أنكم مؤمنون.. وهذا حسبكم من إيمانكم.
وقدم الجهاد على الصبر، لأنه أعم منه.. فقد يكون في المجاهدين من لا صبر له على الجهاد، فلا يثبت للأعداء إذا رأى الخطر محدقا به، ولا يقدم على القتال والهجوم إذا رأى الموت دانيا منه.. إنه مجاهد في حواشى المجاهدين، وفى مؤخرتهم.. ومع هذا فلا يحرم أن يدخل تحت هذه الكلمة، التي تخلع على صاحبها خلعا سنية، من الرضا والرضوان.. وفى هذا دليل على شرف الجهاد، وعلى علوّ منزلة المجاهدين، وأن أقلهم في الجهاد منزلة، وأبخسهم في المجاهدين حظا- هو من المجاهدين، الذين لا يحرمون شرف الجند، وثواب المجاهدين.
أما الجهاد الذي يكون معه الصبر، فهو الجهاد الكامل، الذي تم عقده وتوثيقه، بين اللّه سبحانه، وبين المجاهدين، وفى هذا العقد يقول اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [111: التوبة].
وفى قوله تعالى: {وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} إشارة إلى أن الأفعال هي التي عليها المعوّل في الكشف عن إيمان المؤمنين وصبر الصابرين.. فابتلاء اللّه سبحانه لأخبار المؤمنين، إنما هو ابتلاء لهم، وتعرف على أحوالهم، من أخبارهم، التي هي حكاية لأعمالهم، وتصوير لها.. وهذا يشير أيضا إلى أن للأعمال آثارها في الحياة، وفى الناس، وأنها تقع تحت حكم الناس عليها والإخبار عنها بما يرضيهم أو يسخطهم منها.. وهذا يشير مرة أخرى إلى أن المجتمع الإنسانى له وزنه وله قدره، في الحكم على أعمال الناس، وأن حكمهم على عمل بأنه حسن غير حكمهم عليه بأنه سيء.. فلهذا وزنه، ولذلك وزنه عندهم، وعند اللّه كذلك.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ}.
هو حديث إلى أولئك المنافقين، مرة أخرى، بعد أن تهددتهم الآيات السابقة بفضح نفاقهم.
فهذا وعيد للمنافقين، الذين يمسكون بما معهم من نفاق.. إنهم كفروا بعد أن آمنوا، وصدّوا أنفسهم عن سبيل اللّه بعد أن وردوا عليه، وشاقّوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى.. هكذا المنافق، لا تستقيم له على سبيل الإيمان طريق، ولا تثبت له فيه قدم! وقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} هو خبر عن هؤلاء المنافقين، الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، أي أنهم بفعلهم هذا، وخروجهم من الإيمان إلى الكفر والنفاق- لن يضر اللّه شيئا من الضر، كما أن إيمان المؤمنين لن ينفعه شيئا من النفع.
وقوله تعالى: {وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ} أي يفسد تدبيرهم، ولا يقبل لهم أي عمل، ولو كان من الأعمال الحسنة في ذاتها.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ}.
هو دعوة كريمة، والتفاتة رحيمة، من رب كريم رحيم، إلى عباده المؤمنين، وقد طال وقوفهم مع حديث اللّه سبحانه وتعالى إلى المنافقين، فشاقهم أن أن يسمعوا حديثا من اللّه سبحانه عنهم.. فناداهم الحق جل وعلا، واستدناهم منه، ثم أسمعهم ما فيه رشدهم، وصلاحهم، وفوزهم.. في الدنيا والآخرة.. فقال سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...} الآية.
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}.
{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ}.
فطاعة اللّه وطاعة الرسول، شرط أول من شروط المؤمن، فإنه لا إيمان بغير طاعة، وتسليم، وانقياد.
وإن عصيان اللّه وعصيان رسوله، لا يبقى على إيمان، إذ لا يجتمع إيمان وعصيان.
وإذا أخلى الإيمان مكانه من القلوب، لم يبق غير الكفر، وغير بطلان العمل، لمن تبدل الكفر بالإيمان.
فالآية دعوة للمؤمنين أن يحفظوا إيمانهم، ويوثقوه، بالطاعة للّه ورسوله.
وفى الآية تهديد للمؤمنين الذي لا يلتفتون إلى أنفسهم ولا يحرسونها من النفاق، أن يدخل عليهم فيطرد الإيمان من قلوبهم، ثم لا يكون لهم بعد هذا عمل إلا بطل وفسد!.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}.
هو دعوة إلى هؤلاء المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم- أن يتوبوا إلى اللّه من قريب، وأن يؤمنوا باللّه، حتى تنالهم مغفرته.. فإن هم أبوا إلا أن يمضوا على كفرهم إلى أن يموتوا، فإنهم يموتون على الكفر، ومن مات منهم على الكفر فلن يغفر اللّه له.
قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ}.
فلا تهنوا، أي لا تضعفوا، وتتخاذلوا.. وهو من الوهن، أي الضعف.
ولن يتركم أعمالكم: لا يبطلها كما أبطل أعمال المنافقين والكافرين.
وأصله من الوتر، وهو الفرد.. ومعنى هذا أنه لا يقطع أعمالكم عنكم، بل هي في صحبتكم، تجدونها حاضرة يوم الجزاء.
والآية تعود إلى أولئك المؤمنين الذي أسمعهم اللّه سبحانه وتعالى. قوله:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ}.
ثم تركهم في هذا الموقف. حتى يتدبروا هذا القول ويأخذ كل منهم موقفه منه.. إنهم مدعوون إلى أن يسمعوا ويطيعوا.. أما ما يدعون إلى أن يسمعوه ويطيعوه، فهو آت، ولكن بعد أن يأخذ هذا القول مكانه من العقول والقلوب.
وفى فترة الانتظار هذه، يسمع المؤمنون هذا الوعيد الذي يتهدد اللّه سبحانه وتعالى به أهل الكفر والنفاق.. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ}.
إنها صورة كريهة للإنسان، ونهاية محزنة، تلك التي ينتهى إليها من يكفر باللّه، ويموت على الكفر.. ومن هذا الوعيد يتدسس إلى مشاعر المؤمنين التي دخلت عليهم من قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ} يتدسس إلى هذه المشاعر ما يدفع بها بعيدا عن مزالق الكفر.. ولن يكون ذلك إلا بالسمع والطاعة للّه ورسوله.
وهنا يلقاهم قول اللّه تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ}.
وكأن هذا الخطاب وارد على سؤال سأله اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين، بعد أن أمرهم بطاعته وطاعة رسوله، وبعد أن تركهم وقتا يتدبرون فيه ما أمرهم به.. وتقدير السؤال هو:
هل سمعتم ما أمرتم به؟ وهل أنتم على السمع والطاعة؟ وهل اختبرتم ما في قلوبكم من إيمان؟.
إذن: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ}.
فهذا أمر من اللّه إليكم، وهو ألا تهنوا، أو تتخاذلوا في موقفكم من العدو، وألا تطلبوا السلم.. فإن طلب السلم لا يحمله أعداؤكم إلّا أنه ضعف منكم وشعور بالهزيمة، وهذا من شأنه أن يغرى العدو بكم، ويشدد وطأته عليكم، ولا يجيبكم إلى السلم الذي تدعون إليه، لأنه يراكم غنيمة ليده.
هذا ويلاحظ أن ما طلبه اللّه سبحانه وتعالى من المؤمنين في قوله سبحانه:
{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} لم يلقهم سبحانه به لقاء مباشرا، بل جاء هذا الطلب إلى المؤمنين، بعد وقفة طويلة معهم على مجتمع الكافرين والمنافقين، حيث يرمو من اللّه بنذر من رجوم البلاء والهلاك، ثم بعد دعوتهم إلى أن يجعلوا إيمانهم باللّه قائما على الطاعة والولاء للّه ورسوله، وكان هذا كله تمهيدا لأن يتلقى المسلمون قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ}، وأن يستجيبوا له.
فلا يقع منهم في ميدان القتال فتور أو تخاذل، وبهذا يحاربون، وقلوبهم على إيمان بالنصر الذي وعد اللّه المؤمنين، فلا يمدون أيديهم مستسلمين للعدو أبدا.
وهذا الأسلوب الذي جاء عليه الطلب في قوله: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} يدل على مزيد من العناية بهذا الطلب، وإلفات المخاطبين به إلى ما لهذا المطلوب من قدر وخطر.
والحق أن قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} هو دعوة إلى ما لا يقوم الإيمان إلّا به، ولا تقوم للمؤمنين دولة إلا عليه، وهو الجهاد في سبيل اللّه ومواجهة أعداء اللّه وأعداء المؤمنين- مواجهتهم بالقوة التي تردّ بأسهم، وتبطل كيدهم، حتى يسلم المؤمنون منهم، ومن أن يكونوا تحت يدهم، فيفتنوهم في دينهم.
وإنه ليس هناك عدو يستطيع أن يقف في وجه المسلمين المجاهدين في سبيل اللّه، إذا هم أعطوا الجهاد حقه.. مهما كان قليلا عددهم وعدتهم، بالنسبة إلى عدد عدوهم وعدّته.
وحق الجهاد، هو أن يقوم على نية القتال والقتل في سبيل اللّه.. ومن كان من المجاهدين على تلك النية، فإنه لا ينظر إلى كثرة العدو، ولا يقيم موازنة بين جيش المسلمين وجيش العدوّ، على أساس العدد والعتاد، فإن ذلك إن وقع في شعور المجاهد، حارب بنفس متخاذلة، وبقلب يخفق خفقات الهزيمة.. فذلك كله يجب ألا يكون في حساب المجاهد شيء منه.. فهو يجاهد، ويقاتل في سبيل اللّه، ولن تبرأ ذمته من أداء هذه الأمانة- أمانة الجهاد- إلا إذا رجع من جهاده بإحدى الحسنيين، إما النصر على العدوّ، والفوز بالغنائم، وإما الموت والفوز بالشهادة.. فالمؤمنون بهذه المشاعر هم الأعلون دائما.
إن المجاهد- حقّ المجاهد- هو الذي يقاتل العدوّ بكل ما لديه من قوة، وأن يكون وجهه للعدو، ولأسلحة العدو، يضرب ويضرب، وينفذ ضرباته في العدو، ويتقى ضربات العدو له، غير مبال إن وقع على الموت أو وقع الموت عليه..!
الجهاد.. والحرب النفسية:
والحرب النفسية أداة من أدوات الحرب، وسلاح ماض من أسلحة القتال.
وكم تركت هذه الأداة من آثار سجلها التاريخ لها، فهزمت الأبطال، ومزقت الجيوش، ومكنت الفئة القليلة من أن تغلب الفئة الكثيرة.
وهل كان ميزان المؤمنين ثقيلا في ميدان القتال، حتى ليعد الواحد منهم بعشرة من عدوهم- هل كان هذا الميزان ثقيلا إلّا لما امتلأت به مشاعر المؤمنين من إيمان باللّه، وثقة في ثوابه، وتصديق بوعده الذي وعد المجاهدين؟ وهل استخف المؤمنون بالموت، إلا لما امتلأت به قلوبهم من إيمان بالحياة الآخرة، وأن حياتهم الدنيا هذه، ليست إلا مرحلة على طريق الحياة الأبدية الخالدة؟.
النفس إذن، وما تحمل من مشاعر، هي التي تحدد موقف المحارب في جبهة القتال، وهى التي تزين له الموت في الميدان، أو تغريه بالنجاة والفرار.
فحبّ الجبان النفس أورده التقى وحبّ الشجاع النفس أورده الحربا!!
فكلا الجبان والشجاع محبّ لنفسه، ولكن شتان بين حبّ وحب.
فالجبان يحب نفسه لا بسة جسده، ولو كانت مهينة ذليلة، ترعى المهانة، وتسام الخسف! والشجاع يجب نفسه عزيزة كريمة، فإنه إن رأى أنها لن تسكن إليه إلا على مركب الذل والهوان، ضنّ بها على أن تلقى الإهانة والإذلال في هذا المقام، مقام الجسد، فأوردها مورد القتل، لتخلص من هذا البلاء، وتأخذ طريقها إلى العالم الآخر.
وليست الحرب النفسية سلاحا يتحصن به المحاربون، ضد عوامل الوهن والضعف، التي تدخل عليهم في ميدان القتال، وإنما هي سلاح أيضا يستخدمه المحاربون في التدسس إلى عدوّهم، وإشاعة الرعب في نفوسهم، وإشعال نار الفتن بينهم.. وذلك مجال فسيح للعمل والتدبير، يحتاج إلى العقل الذكي، والبصيرة النافذة، والنظر المتفحص، وإلا ارتد هذا السلاح إلى اليد التي تضرب به.. ذلك أن المعركة هنا معركة هنا معركة داخل النفس البشرية، التي لا ساحل لها، ولا نهاية لأعماقها، والتي هي دائما في معرض التقلب والتحول، وفى معاناة المدّ والجزر.. فمن جاءها على حال غير مواتية لها، غير جارية مع الريح التي تجرى فيها، لم يبلغ منها شيئا، بل ربما انقلبت حربا عليه.
وقد اهتدى الإنسان بطبيعته، إلى أن تكون النفس ميدانا من ميادين الحرب التي يشتبك فيها مع غيره من بنى جنسه، وأن يتخذ منها درعا واقية له.
حيث يدخل المعركة، وقد صفىّ حسابه بينه وبين نفسه، وأجلى عنها كل نوازع الخوف من الموت، أو الإشفاق على ما يخلّف وراءه من ولد، وأهل، وصديق.
يقول قطرىّ بن الفجاءة: وقد راودته نفسه على أن يطلب السلامة، ويدع مواطن الحرب، وما يتعرض له المحاربون من قتل.. يقول:
أقول لها وقد طارت شعاعا ** من الأبطال ويحك لن تراعى

فإنك لو سألت بقاء يوم ** على الأجل الذي لك لم تطاع

فصبرا في مجال الموت صبرا ** فما نيل الخلود بمستطاع

وفى الوقت الذي يتخذ فيه المحارب، من الحرب النفسية درعا حصينة، يتحصن بها، من عوارض الخوف والخور، التي تعرض له- في الوقت الذي يفعل فيه هذا- يعمد إلى الهجوم على نفس عدوّه، فيريه من بأسه وقوته قبل أن يلقاه، ما ينخلع به قلبه، وما تطير منه نفسه شعاعا.
سئل عنترة بن شداد- الفارس العربي الجاهلى المعروف- سئل عن هذا الرعب الذي يملأ قلوب الأبطال منه، وكيف يبلغ رعبهم منه إلى هذا الحدّ الذي يبطل عمل الأبطال، ويشل حركتهم؟ فقال عنترة: أبدأ القتال بأن أعمد إلى أي فارس من عامة الفرسان، فأضربه ضربة ينخلع لها قلب الشجاع!.
ولهذا كان من سياسة الحرب أن تكون الضربة الأولى ضربة يرمى فيها كلّ من المتحاربين بثقله كله، حتى تقع الضربة موقعا قائما وراء تقدير العدو، الذي ما كان يحسب حسابا لها من هذا الوجه.. وهنا تكثر دواعى البلبلة والاضطراب، ثم التفكك والانحلال، ثم الهزيمة والاستسلام، إذا لم يكن الضارب قد تلقى ضربة كهذه الضربة.. وعندئذ تتعادل الكفتان، ثم يكون الغلب لمن أمسك بالثقة والطمأنينة في قلبه، واحتمل في صبر وجلد نار الحرب، وأهوالها.. إنها الحرب، وإنها ابتلاء في الأموال والأنفس والثمرات! إنها قتال وقتل..!
يروى أن سائلا سأل عنترة: كيف كان منك أنك لم تفرّ في معركة قط، على كثرة ما دخلت في معارك، وما التقيت بأبطال؟ فقال عنترة لسائله: أعطنى يدك، وخذ يدى، وعضّ إبهامى وسأعض إبهامك!! ففعل الرجل، وفعل عنترة.. ولكن سرعان ما صرخ الرجل! فبادره عنترة قائلا: إنك لو لم تصرخ أنت لصرخت أنا!! وبهذا تلقى الرجل الجواب الوافي الشافي على سؤاله.
إن عنترة إنسان قبل أن يكون بطلا، فهو يخاف، ويتألم، ويكره أن يقتل، أو يجرح.. شأنه في هذا شأن الناس، أبطالا، وغير أبطال.. ولكنه لبس ثوب البطولة بصبره على المكاره، أكثر من خصمه.. فلو أن خصم عنترة صبر صبره على المكروه، الذي يسقيه كل منهما لصاحبه- لو أنه صبر هذا الصبر، لما استسلم لعنترة، بل وربما كان عنترة هو الذي يستسلم له.
وكثير من الحيوانات، في مختلف أجناسها، تستخدم هذا السلاح في لقاء عدوها.. فتستعرض كل ما عندها من قوّى جسدية، ظاهرة، أو خفية، حتى تبدو في صورة مخيفة مفزعة للعدو.. وقد تكون هذه الحركات قاضية على العدو من غير قتال، فيجمد في مكانه ويستسلم لعدوه!.
وإذا كان الجهاد والقتال فريضة واجبة الأداء على كل قادر من المسلمين، متى دعت دواعى الجهاد، ولزم القتال- لأنه لا يقوم أمر الجماعة الإسلامية، في المجتمع الإنسانى إلا إذا كانت ذا قدرة على حماية وجودها، ودفع الأيدى الباغية عليها- نقول إذ كان شأن الجهاد على تلك الصفة في الإسلام، فقد كان من تدبير الإسلام أن التفت التفاتا قويّا إلى هذا الجانب من الحرب الذي يعرف في عصرنا هذا، بالحرب النفسية، فوضع بين يدى جند اللّه، المجاهدين في سبيله منهجا متكاملا للتدريب على هذه الحرب، واستخدام أسلحتها، والضرب بهذه الأسلحة حيث تقع الضربة، فتصيب الصميم مما وقعت عليه.
ومن تدبير الإسلام في هذا:
أولا: أنه هوّن على المؤمنين خطب الموت، وذلك بإيمانهم بالحياة الآخرة إيمانا يشعرون معه أن الموت ليس إلا انتقالا من عالم إلى عالم أرحب، وأفسح،. ومن هنا فلا ينظرون إلى الموت على أنه فناء أبدى للميت، وضياع لا نهائى لمن بموت، كما ينظر إلى ذلك الذين لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر.. إنه ليس معهم إلا هذه الحياة الدنيا، وأنهم إذا فارقوها، فارقوها إلى غير رجعة أبدا.. فهم لهذا أحرص ما يكونون على حياتهم هذه، وأشد ما يكون جزعا إذا ذكروا الموت، أو أحسوا قرب الأجل.
وثانيا: أنه وعد المؤمنين المجاهدين في سبيل اللّه، درجات عالية عند اللّه، سبحانه، حيث ينزلون منازل الأنبياء والصديقين، كما يقول سبحانه:
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً} [69: النساء].
وإنما تتجلى طاعة اللّه ورسوله على أتم وجه وأكمله في ميدان الجهاد في سبيل اللّه.. يقول سبحانه: {وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [74: النساء].. فالأجر العظيم الذي يناله المجاهد من ربه مشروط بأحد شرطين: أن يقتل في ميدان القتال، أو ينتصر على عدوه.. فلا يعود المجاهد إلى أهله إلا منتصرا على العدو.. فإن لم يشهد نهاية المعركة، ومات قبل أن يحقق المسلمون النصر، فإنه يكون قد شارك بدمه المراق على أرض المعركة، في كتابة كلمة النصر، التي يؤذن بها مؤذن الحق في نهاية المعركة.
وثالثا: أنه توعد الذين ينتظمون في صفوف المجاهدين، ثم إذا التحم القتال، وتساقطت الرءوس، وتناثرت الأشلاء، وسالت الدماء- ركبهم الفزع، واستبد بهم الجزع، والتمسوا وجوه النجاة في الفرار من الميدان، أو النكوص على الأعقاب، أو الدعوة إلى السلم، والاستسلام- توعد الإسلام من كان في المجاهدين، المقاتلين، ثم أخذ هذا الموقف المتخاذل- توعده بغضب من اللّه، وبعذاب أليم في نار جهنم، كما يقول سبحانه:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [15، 16: الأنفال].
والجانب النفسي هو المنظور إليه هنا، في هذا الوعيد الذي يأخذ به اللّه سبحانه من لبس ثوب الجهاد وانتظم في صفوف المجاهدين المقاتلين، من بلاء ونكال، الأمر الذي يحبط إيمان المؤمن، ويبطل عمله، ويسلكه مع المنافقين والكافرين.. ذلك أن فرار المجاهدين من بين صفوف المجاهدين يحدث فتنة، ويثير خلخلة واضطرابا في نفوس المجاهدين وفى صفوفهم، وسرعان ما تسرى عدوى هذا المقاتل الفارّ إلى كثير غيره، ممن لم يكن في حسابهم أن يفروا.
إن هذا الفارّ إنما يمثل- من غير قصد- صرخة الانهزام في صفوف المجاهدين، وإنه لخير له وللمسلمين المجاهدين، ألا يشهد مثل هذا الإنسان مواقف القتال، وألا يكون في صفوف المقاتلين.. وأما وقد خرج، ودخل المعركة، فإن فراره من القتال، خيانة للّه، ولرسوله، وللمؤمنين.
ومن أجل هذا، عزل اللّه سبحانه وتعالى المنافقين عن مواقف الجهاد، ونقىّ جيش المجاهدين من هذه الأجسام الغريبة التي تدخل على الجسد السليم بأعراض الحمى. من صداع، وعرق، وأرق! فقال سبحانه لنبيه الكريم.
{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ} [83: التوبة].
ومن التطبيق العملي لهذا الذي تسميه الحرب النفسية- أن الرسول- صلوات اللّه وسلامه ورحمته وبركاته عليه- حين رجع من غزوة أحد، وعلم أن قريشا تريد الكرة على المدينة، وتنتهز فرصة الهزيمة التي حلت بالمسلمين في أحد، فتضرب ضربتها القاضية، والحديد ساخن، كما يقولون- تقول حين علم الرسول الكريم بهذا دعا أصحابه، إلى أن يخرجوا إلى ظاهر المدينة، للقاء عدوهم، إن هو سولت له نفسه أن يهجم على المدينة.. وكان مما اشترطه الرسول فيمن يشهدون هذا الموقف معه، أن يكونوا ممن شهدوا القتال في أحد، أما من كان في المتخلفين ولم يشهد الحرب، فلا مكان له بينهم.. هذا والمسلمون الذين شهدوا أحدا كانوا مثخنين بالجراح، منهوكى القوى، يعانون من آلام نفسية وجسدية ما تنهدّ به عرائم الرجال.. ومع هذا، فقد رأى النبي في هؤلاء المجاهدين- على ما بهم من آلام وجراح- خيرا كثيرا، وأن أيّا منهم- على ما به من ضعف- خير من مئات ممن في قلوبهم مرض، من الذين يكثر بهم سواد المجاهدين بالقدر الذي يقلّ به غناؤهم..!
وقد كان لهذا أثره النفسي عند المشركين، فإنهم ما إن علموا بأن محمدا قد خرج بأصحابه وراء القوم حتى توقفوا عن المسيرة نحو المدينة، وقد وقع في أنفسهم أن محمدا يطلبهم ليثأر من هزيمة أمس في أحد- وطالب الثأر هيهات أن يغلب، وحسبهم ما ظفروا به من المسلمين في معركة الأمس، فقد تدور الدائرة عليهم في الكرة التالية.
ورابعا: من أساليب الحرب النفسية- تخويف العدو وإرهابه، بما يرى في جيش المجاهدين من أمارات القوة، ووسائل الغلب.. وشبيه بهذا ما تقوم به الأمم من عرض قوتها في تلك العروض العسكرية، التي تكشف بها عن بعض عدتها وعتادها، على حين أنها إذ تكشف عن بعض قوتها، فإنها تشير إلى أن وراء هذا الذي أعلنته قوى كثيرة خفية، أشد أثرا، وأقوى فتكا، من هذا الذي عرف الناس أمره، وأن ذلك سرّ من أسرارها الحربية، التي لا تظهر إلا عند الحرب!!.
ولهذا الجانب من الحرب النفسية أثر كبير في كسر شوكة العدو، وفى قتل مطامعه في النّيل من عدوه، فلا يقدم على العدوان وهو يرى هذه القوى المهيأة للحرب، الراصدة لكل عدو.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [60: الأنفال].
كل هذا الذي يراه العدو في جيش المسلمين، من استخفاف بالموت، وإيثار للموت في سبيل اللّه على الحياة، والثبات في ميدان المعركة حتى النصر أو الموت، والإعداد الدائم لعدد الحرب ورجالها- كل هذا يبعث الرعب في قلوب الأعداء الذين يواجهون مثل هذا الجيش، الذي لا يرجع من المعركة إلا منتصرا، أو مستشهدا.. وإلى هذا يشير الرسول في قوله في مقام تعداد فضل اللّه سبحانه وتعالى عليه، إذ يقول: «ونصرت بالرعب مسيرة عام» أي أن أعداءه المحيطين به، يجدون في أنفسهم رهبة له، ولجيش المسلمين، وذلك على امتداد مسيرة عام بينه وبينهم، لما يتناقل الناس من أخبار المجاهدين المسلمين، واسترخاصهم لنفوسهم في ميدان القتال، حتى ليكون ذلك حديث الدنيا كلها.
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ}.
هو تعقيب على قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}.
وفى هذا التعقيب دعوة للمؤمنين إلى أن ينظروا إلى الحياة الدنيا نظرا جادّا متفهّما، فإنهم لو نظروا إليها هذا النظر، لعرفوا أنها لعب ولهو، وأنها متاع قليل وظل زائل، وأنها إذ كانت هكذا هزيلة باهتة، فإن الحرص عليها، والتشبث بالحياة فيها على أية صورة من صور الحياة، وإن كان في ثوب الذل والمهانة- إن هذا غبن للإنسان، وجور على إنسانيته.
وإذن، فإنه إذا كان هناك قتال بين المسلمين وبين عدوّ لهم، فلا ينبغى أبدا أن يقع في نفوسهم وهن أو ضعف، أو أن يعطوا أيديهم لعدوهم، ويستسلوا له، فإن هذا لا يكون إلا من نفوس تحرص على الحياة، وتتشبث بالبقاء فيها، على أي وضع، ولو سيمت الخسف، ورعت المهانة والذلة.
قوله تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ}.
هو بيان لما هو مطلوب من الإنسان في هذه الدنيا، حتى ينال الجزاء الطيب من اللّه سبحانه وتعالى، وينزل في الآخرة منازل رضوانه.
وهذا المطلوب من الإنسان هو الإيمان، ثم العمل الصالح الذي يبلغ بالإنسان مبلغ التقوى.. فمن آمن واتّقى أخذ أجره كاملا في الدنيا والآخرة.
وإتيان الأجر، هو الجزاء الحسن الطيب، للأعمال الحسنة الطيبة، كما في قوله تعالى: {وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [27:
العنكبوت]. وقوله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [30: فاطر] فالأجر هو جزاء عن عمل طيب، يؤجر عليه صاحبه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان ابنة شعيب عليه السلام: {يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [26: القصص] وقوله تعالى: {وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ} هو واقع في جواب الشرط، معطوف على قوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أي أنه إذا حقق المؤمن الإيمان والتقوى فإنه لا يسأل شيئا من ماله، الذي بين يديه، غير ما هو مفروض عليه فيه من زكاة.
وهذا يعنى:
أولا: أن أداء الفرائض على وجهها كاملة، هو غاية المطلوب من الإنسان.
وأنه يأخذ أجره كاملا، دون أن يقدم نظير هذا الأجر عوضا له من ماله.
وثانيا: أنه مهما حرص الإنسان على أداء الفرائض كاملة مستوفاة شرائطها، وأركانها- فإنه لا يمكن أن يتحقق له ذلك على كماله وتمامه، لما يعرض للإنسان من معوقات نفسية، ومادية، تحول بينه وبين الوصول إلى درجة الكمال.. ومن هنا كانت النوافل، التي تقوم إلى جانب الفرائض، ليجبر بها الإنسان ما يقع منه من تقصير فيها.. كما في النوافل التي تصحب الصلاة والصوم، والزكاة، والحج.. فكل فريضة من هذه الفرائض تصحبها نوافل، هي في حقيقة أمرها- تعويض وجبر لما قد يقع- ولابدّ- في أداء الفريضة من تقصير.
وثالثا: ما تجبر به الفرائض من نوافل قد يخفّ أمره على النفوس، إلا ما كان منها متصلا بالمال، الذي هو رغيبة النفوس، ومتعلق الآمال.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في الآية الكريمة بعد هذا.
{إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ}.
يسألكموها: أي إن يسألكم إياها، أي يطلب إليكم مزيدا من الإنفاق من أموالكم، غير ما هو مفروض عليكم من زكاة فيها.
{فَيُحْفِكُمْ}: أي يشتدّ عليكم في الطلب، ويطلب الكثير مما في أيديكم.
وأصله من الحفا والحفاء، وهو ما يصيب الراحلة من الإبل، من طول السفر، حتى تحفى أخفافها، ويتآكل جلدها ولحمها.. يقول الأعشى عن ناقته التي كان يتجه بها إلى الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليعلن إسلامه يقول:
فآليت لا أرنى لها من كلالة ** ولا من حفى حتى تلاقى محمدا

ويخرج أضغانكم: الأضغان: جمع ضغن، وهو ما تنطوى عليه الصدور من كراهية وحقد.
ومعنى الآية الكريمة أنه لما يعلم اللّه سبحانه وتعالى من طبيعة النفوس، وحرصها على المال، وتعلقها به، فقد كان من رحمته سبحانه وتعالى بالناس أن رفق بهم، ورضى بالقليل من أموالهم ينفقونها في سبيل اللّه.. ولو أنه سبحانه وتعالى ألزم المؤمنين أن يقدموا المال في مقابل الأجر الذي ينالونه من عند اللّه، لأتى ذلك على كل ما معهم من مال، ولما استوفت كلّ أموالهم بعض ما أخذوا من أجر، ولوقع المؤمنون في حرج شديد، ولأخذوا مأخذ المخالفين المقصّرين.. فكان من حكمة الحكيم العليم، ورحمة الرحمن الرحيم، أن أعطى النفوس حظها من هذا المال، واكتفى بأخذ القليل منه، الأمر الذي لا تضيق به النفوس، ولا تحرج به الصدور، وذلك مع إعطائهم أجرهم كاملا، بما في قلوبهم من إيمان وتقوى.
وفى الآية الكريمة، إشارة إلى أن هذا المال، هو مال اللّه سبحانه وتعالى، وأن للّه سبحانه وتعالى أن يسأل هذا المال كلّه، وأن يأخذه جميعه، دون أن يكون في هذا ظلم لأحد، لأنه سبحانه لم يأخذ شيئا ليس له!! ومع هذا، فإنه سبحانه، أعطى الكثير متفضّلا منعما، وأخذ القليل، رحيما مترفقا.. فسبحانه، سبحانه، يهب فضله وإحسانه لعباده، ثم يتقبل منهم بعض ما وهب، ليكون رصيدا لهم من الفضل والإحسان، يطهرون به نفوسهم، ويغسلون به أدرانهم.
قوله تعالى: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ}.
بهذه الآية الكريمة تختم السورة، فتلتقى بالمؤمنين، بعد أن وضعتهم في مواجهة أعدائهم من الكافرين والمشركين، الذين يحادون اللّه ورسوله، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، وأنه مطلوب من المؤمنين أن يعملوا على حماية أنفسهم من هذا العدو المتربص بهم، وذلك بالجهاد في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم.
ولمّا كان للمال سلطانه على النفوس، فقد جاءت الآيات السابقة تكشف عن هذه المشاعر، التي يجدها المؤمنون حين يمتحنون في أموالهم، وأن اللّه سبحانه وتعالى قد شملهم برحمته، فلم يدعهم إلى الخروج عن أموالهم جملة، على سبيل الإلزام والفرض، بل جعل ذلك دعوة مطلقة، يأخذ منها الناس ما تتسع له نفوسهم، كلّ على حسب ما تسخو به نفسه، ويرضاه قلبه.
دون حرج أو إعنات.
وفى قوله تعالى: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} امتحان للمؤمنين، واستدعاء لما في نفوسهم من إيمان، في مقام البذل في سبيل اللّه.
وقوله تعالى: {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} هو بيان لما كشف عنه هذا الامتحان من شحّ في بعض النفوس، وضنّ بالبذل والإنفاق في سبيل اللّه.. وهذا البخل إنما هو عائد على من بخل، إذ حرم نفسه هذا الخير الكثير الذي كان ينتظره لو أنه أنفق من هذا المال الذي حبسه، وضنّ به.. إنه هو المحروم، وهو الخاسر في هذا الموقف، حيث آثر ما يفنى على ما يبقى.
وفى تعدية الفعل {يبخل} بحرف الجر {عن} بدلا من الحرف على الذي يستدعيه ظاهر النظم- في هذا إشارة إلى أن هذا البخل هو حجز للخير عن النفس، التي كان من حقها على صاحبها أن يسوقه إليها من هذا المال الذي بخل به، وهو يظن أنه إنما فعل ذلك ابتغاء لخيرها وإسعادها.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ} هو تعقيب على موقف أولئك الذين بخلوا بالإنفاق في سبيل اللّه، ولم يستجيبوا الدعوة اللّه، الذي آتاهم من فضله، ووسّع لهم من رزقه- فاللّه- سبحانه- غنىّ عنهم، وهم الفقراء إليه.
ولو شاء سبحانه أن يعفيهم من هذا الامتحان، لفعل، ولحرمهم الثواب الذي ينالونه بما ينفقون من مال اللّه الذي بين أيديهم.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ}.
هو تهديد ووعيد لهؤلاء الباخلين بأموالهم عن الإنفاق منها في سبيل اللّه وأنهم إذا أصروا على موقفهم هذا، ولم ينفقوا في سبيل اللّه، كان في المؤمنين من يقوم مقامهم، ويسدّ هذا النقص الذي كان منهم.. ثم إن هؤلاء الذين يلبسون الإيمان ظاهرا وباطنا، لا يكون منهم تردد، أو نكوص عن تقبل البذل والإنفاق، كما كان من هؤلاء المترددين المنقلبين على أعقابهم، بل ستثبت أقدامهم على طريق الإيمان إلى النهاية.