فصل: تفسير الآيات (8- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (8- 14):

{إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً}.
هو استئناف لتقرير خبر آخر عن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- وما له عند ربه- سبحانه وتعالى- من العطايا الجليلة، والمواهب العظيمة.
فقد فتح اللّه سبحانه وتعالى عليه هذا الفتح المبين، ووعده بهذا النصر العزيز، وأتمّ عليه نعمته بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وذلك كله واقع من وراء إحسان سبق، وفضل تقدم من اللّه سبحانه وتعالى، وهو اصطفاؤه سبحانه عبده محمدا للنبوة، والرسالة، والتي استحق بقيامه بحق الرسالة، وحمل أعبائها، أن يعطى هذا العطاء الجزيل، وأن يفتح له هذا الفتح المبين.
فاصطفاء النبي الكريم للرسالة، منحة خالصة من اللّه سبحانه وتعالى، وإحسان مبتدأ، ليس لسعى النبي دخل فيه، ولا لجهاده ولا اجتهاده سبيل إليه.
فذلك أمر لا يناله أحد بعمل، ومطلب لا يبلغه إنسان باجتهاد.. إنه رحمة من رحمة اللّه، وفضل من فضله، يؤتيه من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم.
أما ما فتح اللّه به للنبىّ، وما مكّن له من نصر، وما غفر له من ذنب-
فهو- وإن كان من فضل اللّه ورحمته- فإن للنبى سببا متصلا به، بما كان منه من جهاد وبلاء، في القيام بأمر ربه، والوفاء بأداء الأمانة التي حملها.
وقدم المسبّب على السبب، أي قدّم الفتح، والنصر، ومغفرة الذنب، على اصطفاء الرسول للرسالة، وعلى الجهاد الذي جاهده من أجل الوفاء بها- وذلك للإشارة إلى أن هذه الأسباب هي مجرد أمور ظاهرية، وأن ما يقضى به اللّه سبحانه وتعالى في خلقه لا يتوقف على سبب، وأن ما قضى به سبحانه للنبىّ الكريم، من فتح ونصر ومغفرة لما تأخر من ذنبه وما تأخر، هو فضل خالص من فضل اللّه، وإحسان مطلق من إحسانه إلى رسوله الكريم، وأن الرسالة نعمة أخرى، وأن حمل أعبائها، هو شكر لتلك النعمة العظيمة، التي أقامت النبي مقام الإمام للناس جميعا.
قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}.
عزّروه: أي نصروه، وعزّزوه، وأيدوه.
واللام في قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا} لام التعليل.
وقد قرئ بضمير الغيبة: ليؤمنوا، ويعزّروه، ويوقروه، ويسبحوه.
واختلف في مرجع ضمير النصب في الأفعال.. والرأى على أنها جميعا عائدة إلى اللّه سبحانه وتعالى.. فالتعزير، والتوقير، والتسبيح، كلها عائدة إلى اللّه سبحانه على هذا الرأى.
على أننا نخالف هذا الرأى، ونرى- واللّه أعلم- أن الضمائر، بعضها عائد إلى اللّه سبحانه وتعالى، وبعضها عائد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
فالتعزير، للرسول، وهو في الوقت نفسه تعزير للّه، ونصر لرسول اللّه، وتأييد لدينه.. ولكن إضافة هذا التعزير للرسول تكريم له، لأنه القائم على دين اللّه، وحامل راية الجهاد في سبيل اللّه.. ويشهد لهذا قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157: الأعراف) فالضمائر هنا كلها عائدة إلى الرسول الكريم من غير شك، والقرآن الكريم يفسّر بعضه بعضا.
وأما التوقير فهو للّه، وللرسول.. وأما التسبيح بكرة وأصيلا، فهو خالص للّه وحده.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}.
المفسرون على رأى واحد، بأن المراد بالمبايعة في الآية الكريمة، هو بيعة الشجرة، وتسمى بيعة الرضوان، وهى التي تشير إليها الآية الكريمة بعد هذا، حسب هذا الرأى.. والآية هي قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}.
والرأى عندى- واللّه أعلم- أن المبايعة هنا عامة، تدخل فيها البيعة على الإسلام، كما تدخل فيها بيعة الرضوان على القتال، وكلّ بيعة بين النبي والمؤمنين.. فقد كان الذين يستجيبون لرسول اللّه، ويدخلون في دين اللّه،- كانوا يبايعون النبيّ، على الإيمان يا للّه ورسوله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجهاد في سبيله، كما بايع الأنصار النبي- صلى اللّه عليه وسلم- بيعتى العقبة الأولى، والثانية، على هذا الإيمان، وعلى أن يمنعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم.
والذي رجّح عندنا هذا الرأى، أمور منها:
أولا: أن بيعة الرضوان كانت لأمر عارض، وهو قتال المشركين، إذا ثبت أنهم اعتدوا على عثمان مبعوث رسول اللّه إليهم.. فلما ظهر أن المشركين لم ينالوا عثمان بأذى، بل إنهم عرضوا عليه أن يطوف بالبيت إن أراد، ولكنه أبى أن يطوف إلا أن يطوف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- لما ظهر هذا، انحلّ عقد هذه البيعة، وبقي المبايعون على عقدهم الأول الذي دخلوا به في الإسلام.. فلم يقع في هذه البيعة نكث، لأن المسلمين لم يدخلوا في حرب مع المشركين تحت حكم هذه البيعة، ومن ثمّ لم يكن متّجه لهذا التهديد الذي جاء في قوله تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} وإنما متجهه هو إلى عموم النكث، وفى جميع المواقف والأحوال.
وثانيا: أن بيعة الرضوان، قد ذكرت ذكرا خاصا في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} وفى الآية الكريمة أن اللّه سبحانه قد رضى عن جميع المؤمنين الذين بايعوا رسول اللّه تحت الشجرة، وأن اللّه سبحانه، قد علم ما في قلوبهم من إذعان لدعوة رسول اللّه، وولاء وتسليم له، مع ما كانوا يجدون في صدورهم من حرج، في التوفيق بين ما جاءوا له، وهو دخول المسجد الحرام، وبين هذا الصلح الذي تمّ بينهم وبين قريش، ولهذا أنزل اللّه السكينة عليهم، وجزاهم جزاء طيبا، بهذا الفتح القريب، وهو فتح خيبر.
فالمؤمنون الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة، دخلوا جميعا في هذا الحكم، وهو رضا اللّه عنهم، وإنزال السكينة على قلوبهم.. وهذا يقطع بأن أحدا منهم لم ينكث أبدا.
وفى قوله تعالى: {إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ} إشارة إلى أن مبايعة المؤمنين لرسول اللّه، ليست لحساب الرسول، ولا لشأن من شئونه الخاصة، وإنما هي بيعة خالصة للّه، وللجهاد في سبيل اللّه، وما الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، إلّا قائم بأمر اللّه، قائد للمجاهدين في سبيله.
وقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} هو توكيد لهذه الحقيقة، وهى أن البيعة للّه، وأن الذين أعطوا أيديهم مبايعين لرسول اللّه، إنما أعطوا أيديهم للّه، ويد الرسول التي صافحت هذه الأيدى المبايعة، هى- من غير تشبيه- نيابة عن يد اللّه.
وهذا كله من قبيل التمثيل، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ}.
فالأمر في ظاهره ليس بيعا ولا شراء، ولكنه في واقعه بيع ربيح.
قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً}.
هو إخبار من اللّه سبحانه وتعالى للنبىّ الكريم، بما سيلقاه به الذين تخلفوا من الأعراب عن دعوة الرسول لهم، في السير معه إلى مكة، لزيارة البيت الحرام، وليكثر بهم أعداد المسلمين، ليكون في ذلك ما يرهب قريشا، فلا تعترض سبيل النبيّ والمسلمين لزيارة بيت اللّه.. ولقد تقاعس هؤلاء الأعراب الذين كانوا يعيشون قريبا من المدينة، وتعللوا بأعذار شتى، وفى تقديرهم أن الذين يصحبون النبيّ في هذا المسير، لن يسلموا من القتل، ولن يرجعوا إلى أهليهم أبدا، وإنه لهو الهلاك المحقق لهذه الجماعة التي استجابت للرسول، وسارت معه.. إذ كيف يعقل- وهذا تقديرهم- أن يواجه النبيّ والمسلمون قريشا بهذا العدد من المسلمين، الذين لا يتجاوز عددهم ألفا، وأن يدخلوا عليهم ديارهم، ويطئوا بلدهم، وقد كانت قريش في الأمس القريب، في موقعة أحد، تهدد المسلمين، وتكاد تدخل عليهم المدينة، وتستولى على ديارهم؟
فلما سار النبيّ الكريم مسيرته بأصحابه الذين استجابوا له، وتم صلح الحديبية بينه وبين قريش، وأخذ النبيّ بأصحابه طريقه إلى المدينة، وفتح اللّه له خيبر من غير قتال،- لما كان هذا أخذ هؤلاء المخلّفون من الأعراب يدبرون أمرهم، ويعدّون المقولات التي يلقون بها النبيّ، والمعاذير التي يعتذرون بها إليه، عند رجوعه إلى المدينة.
ومن تلك المقولات ما ذكره اللّه سبحانه وتعالى عنهم في قوله تعالى: {شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا}.
وقد فضح اللّه سبحانه وتعالى كذب هذا القول، وردّه على قائليه، فقال سبحانه:
{يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} أي أنه ليست الأموال والأهلون هي التي شغلت هؤلاء الأعراب عن الاستجابة لدعوة رسول اللّه، ولكن الذي أمسك بهم عن تلبية هذه الدعوة، هو ما وقع في نفوسهم من شبح الخطر الذي يترصد كلّ من يسير هذه المسيرة، ويدخل على قريش ديارها.
وقوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً} هو رد على هؤلاء المخلّفين، وعلى سوء ظنهم باللّه سبحانه وتعالى، وجهلهم بما له جل شأنه من سلطان مطلق في هذا الوجود، وأنه سبحانه هو الذي بيده مقاليد السموات والأرض، وأن أحدا لا يملك معه ضرّا أو نفعا.
وقوله تعالى: {بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً}، هو تقرير لتلك الحقيقة التي خفيت على هؤلاء المخلفين، وأن اللّه سبحانه وتعالى يعلم ما يخفون وما يعلنون، علم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، في الأرض ولا في السماء.
قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً}.
هذا هو ما انطوت عليه صدور المخلفين من أوهام وظنون، تسلطت عليهم، فأخذوا هذا الموقف الخاسر، الذي عزلهم عن مواقع الخير، وحرمهم ما ناله المؤمنون الذين ساروا في مسيرة رسول اللّه، من رضا اللّه عنهم، ومن هذا الخير الذي امتلأت به أيديهم من غنائم خيبر.
والبور: الهلاك.. والقوم البور، هم الهالكون، الذين خسروا الدنيا والآخرة جميعا، وذلك هو الخسران المبين.
قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً}.
هو بيان للجهة التي جاء منها هذا الهلاك والبوار لأولئك المخلّفين، وهو أنهم لم يكونوا مؤمنين باللّه ورسوله، إذ لو كانوا مؤمنين حقّا لما كان منهم هذا التخلف عن دعوة الرسول لهم.. إذ الإيمان- في حقيقته- ولاء مطلق، ومتابعة يلا تردد، ولا مراجعة.
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
هو إلفات إلى الإيمان الصحيح باللّه سبحانه وتعالى، وهو الإيمان القائم على اليقين بأن اللّه سبحانه، له ملك السموات والأرض، وأنه وحده سبحانه، يملك الضر والنفع، فمن آمن باللّه على هذا المفهوم واستيقنه، فإنه- في سبيل الاحتفاظ بهذا الإيمان، والدفاع عنه- يتحدّى الناس جميعا، لا يخاف سلطانا، ولا يرهب قوة.
وقوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} هو دعوة إلى الذين ساء ظنهم باللّه، أن يقيموا إيمانهم باللّه على هذا المفهوم، فإن هم فعلوا، غفر اللّه سبحانه وتعالى لهم ما كان من تقصير في حق اللّه، وسوء ظنّ به.

.تفسير الآيات (15- 17):

{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)}

التفسير:
قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا}.
هو إخبار من اللّه سبحانه وتعالى، لما سيكون من هؤلاء المخلّفين، بعد أن يلتقوا بالنبي، وقد رجع من مسيرته منتصرا غانما، من حيث قدّروا الهزيمة، والهلاك.. إنهم سيعرضون على النبي أن يقبلهم في المجاهدين إذا هو سار مسيرة كتلك المسيرة، التي يكون منها الغنم والظفر.. وهذا ما يكشف عما في قلوبهم من إيمان زائف.. فهم إنما يكونون في المؤمنين المجاهدين، إذا كان من وراء هذا الإيمان والجهاد، سلامة ومغنم.. والإيمان- في حقيقته- هو بذل، وتضحية، غير منظور فيه إلى تحصيل كسب، أو ظفر بمغنم.
وقوله تعالى: {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ}
بيان للغاية التي يتغيّاها هؤلاء المخلفون من الأعراب، من هذا العرض الذي يعرضونه على النبي بالسير معه إلى الجهاد، وأنهم إنما يسيرون حيث تكون هناك مغانم يملئون أيديهم منها.
وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}.
كلام اللّه: هو حكمه وقضاؤه، وهو أن تكون المغانم من حظّ المجاهدين، لا أولئك الذين يتصيدون الفرص لتقع إلى أيديهم الغنائم من غير قتال.. وهؤلاء المخلفون لا يخرجون مع المجاهدين إلا إذا كان الخروج إلى مغانم من غير قتال، وهذا من شأنه- لو حدث ولن يحدث- أن يبدل حكم اللّه الذي جعل الغنائم المجاهدين.
وفى هذا النظم الذي جاء عليه الخبر، تيئيس للمخلفين أن يكون لهم في هذه المغانم نصيب، لأن أخذهم شيئا منها، فيه تبديل لكلمات اللّه، وإنه لا مبدّل لكلمات اللّه.
وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا} هو تعقيب على قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} وتصريح بالحكم الذي تضمنه، فإن من مضمون قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} أنهم لن يخرجوا مع المؤمنين، لأن في خروجهم تبديلا لكلمات اللّه، ولا مبدل لكلمات اللّه.
وقوله تعالى: {كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ}.
الإشارة هنا هي إلى الحكم الذي جاء في قوله تعالى: {لَنْ تَتَّبِعُونا}.
أي مثل هذا الحكم الذي قضينا به عليكم، وهو ألا تتبعونا، كان قضاء اللّه فيكم وحكمه عليكم من قبل هذا الحكم الصريح الذي واجهناكم به، أيها المخلفون، فقد قال اللّه من قبل فيكم: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ومضمون هذا أنكم لن تخرجوا معنا.
هذا، وقد اضطربت آراء المفسرين في هذا، وكثرت مقولاتهم، ولم نر فيما رأينا من آراء ومقولات، ما نطمئن إليه.. فكان هذا رأينا الذي نرجو أن يكون صوابا.. واللّه أعلم.
قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا} هو من مقولات المخلفين التي يمكن أن يقولوها، ردّا على قول النبي والمؤمنين لهم:
{لن تتبعونا} وهو ردّ أحمق جهول، فيه مغالطة فاضحة.. إذ كيف يحسدهم المؤمنون، وقد دعوا من قبل إلى الجهاد، فأبوا وتخلفوا؟
وكيف وطريق الجهاد مفتوح على مصراعيه للمجاهدين حقّا، الذين يريدون بجهادهم وجه اللّه، وإعلاء دين اللّه؟.
وقوله تعالى: {بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} أي أن هؤلاء الأعراب المخلفين، إنما هم على عمى وجهل، ولو أنهم كانوا على شيء من العلم بدين اللّه، وبحقائق هذا الدين، لما وقفوا هذا الموقف من الجهاد، ثم لما كان منهم هذا الاعتراض في طريق المجاهدين بهذا المنطق الجهول.. أما مالهم من فقه قليل، فهو ما كان من أمر الدنيا وشئونها، ومع هذا فهو قشور من الفقه، لا يصل إلى شيء من لباب المعرفة، وهذا مثل قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} [7: الروم].
قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً}.
هذه دعوة إلى هؤلاء المخلفين، تقطع عليهم مقولتهم للمؤمنين: {بل تحسدوننا}.
وهم في هذه الدعوة مدعوون إلى قتال قوم أولى بأس شديد، وأنهم مطالبون كذلك في هذا القتال أن يقفوا موقف المجاهدين حقّا، وهو ألا يتحولوا عن القتال إلّا إذا استسلم لهم العدوّ، ودخل في دين اللّه.
وقد اختلف المفسّرون في هؤلاء القوم ذوى البأس الشديد، الذين سيدعى هؤلاء المخلفون إلى قتالهم، حين يندب المؤمنون إلى قتالهم.
ويذهب كثير من المفسرين، إلى أن هؤلاء القوم هم فارس، والروم.
وهذا غير صحيح من وجهين:
أولهما: أن قتال فارس والروم لا يكون فيه قتالهم إلى أن يدخلوا في الإسلام، بل إنه يكتفى منهم بقبول الجزية في حال هزيمتهم، وإبائهم أن يدخلوا في الإسلام، وإنما حكم القتل أو الإسلام هو في حقّ العرب وحدهم، لأنهم هم الذين تقوم عليهم الحجة كاملة، بتلك المعجزة التي في كتاب اللّه المعجز، الذي جاء بلسانهم.
والوجه الآخر، هو أن هؤلاء المخاطبين المخلفين، ينبغى أن تكون دعوتهم إلى قتال هؤلاء القوم بعد زمن قليل من وقت نزول هذه الآية.
حتى لا يذهب الموت بكثير منهم، إذ طال الزمن بهم، وقتال الفرس والروم جاء بعد نزول هذه الآيات، بنحو عشر سنين.
والذي يصحّ عندنا من هذه المقولات، هو القول بأن القوم ذوى البأس الشديد، هم بنو حنيفة، قوم مسيلمة الكذاب، الذين ارتدوا عن الإسلام، بعد وفاة النبي، صلوات اللّه وسلامه عليه، وكان ذلك بعد أربع سنين من نزول هذه الآية.
وبنو حنيفة، قد ارتدّوا عن الإسلام، بعد وفاة الرسول، فندب أبو بكر- رضى اللّه عنه- المسلمين إلى جهادهم، وقد حاربوا جيوش المسلمين حربا قاسية، حتى لقد استشهد من المسلمين أعداد كثيرة، كان من بينهم سبعون شهيدا من القرّاء وحدهم، كما يقول ذلك أصحاب المغازي.
وهذا كله حديث عن مستقبل لم يجيء بعد، وإنما هي أحداث ومواقف سوف تقع تباعا، ابتداء من نزول هذه الآيات.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً}.
رفع الحرج هنا عن هؤلاء الذين ذكرت الآية الكريمة صفاتهم، إنما هو في مقام الجهاد في سبيل اللّه.. فهؤلاء معفون من الجهاد، بحكم الأعذار التي معهم.. وقد رتّبوا ترتيبا تنازليا.. فالعمى عذر قاطع، لا شبهة فيه في الحرب، والعرج عذر غير ظاهر، قد يكون معه عجز عن القتال أو قدرة عليه، وأمر ذلك موكول إلى تقدير ولىّ الأمر، وإلى ضمير صاحب الآفة ودينه.
أما المرض، فهو عذر يغلب عليه الخلفاء، وأمره متروك تقديره للمريض نفسه، وإلى ما يمليه عليه دينه.