فصل: تفسير الآيات (27- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (27- 29):

{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}.
هو ردّ من اللّه سبحانه وتعالى على ما وقع في نفوس بعض المسلمين من مشاعر القلق، والضيق، والاتهام، لما فاتهم من دخول المسجد الحرام يوم الحديبية، وقد جاءوا إليه وهم على يقين بأنهم داخلوه، تصديقا للرؤيا التي رآها النبيّ وأخبرهم بها.
فقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} تصديق لرؤيا الرسول الكريم، وأنها رؤيا من اللّه، وأنها الصدق المطلق، والواقع المحقق، وإن كان تأويلها لم يجيء بعد.
وقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} هو جواب لقسم محذوف، وهذا القسم هو لتأكيد هذا الخبر الذي يخبر اللّه سبحانه وتعالى به المؤمنين، وأنهم داخلون المسجد الحرام إن شاء اللّه آمنين، لا تعترضهم قريش، ولا يقع منها ما يسوؤهم، وأنهم سيقضون عمرتهم، ويحلّقون ويقصرون، إيذانا بالحلّ من العمرة وإحرامها.
والتحليق، هو أن يحلق بعضهم لبعض شعورهم.
والتقصير، هو قصّ الشعر.. ولو بضع شعرات منه.
وقوله تعالى: {فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} أي أن اللّه سبحانه وتعالى لم يقدّر للنبى والمسلمين دخول المسجد الحرام هذا العام، لأمر أراده، وحكمة لا يعلمها إلا هو، فصرف المسلمين عن دخول مكة هذا العام، وجعل بين صرفهم عنها، ودخولهم إياها الذي وعدوا به- جعل بين هذا الوقت وذلك، فتحا قريبا، هو فتح خيبر.
فكان للمسلمين من ذلك فتحان: فتح قريب، هو فتح خيبر، وفتح يأتى بعده، هو فتح مكة.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً} أي الذي جعل من دون ذلك فتحا قريبا، هو اللّه سبحانه، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليكون على يديه تبليغ هذا الدين، الذي سيجعله اللّه فوق كلّ دين.. وهذا وعد من اللّه سبحانه، وكفى باللّه شهيدا على هذا الوعد الذي لن يخلف أبدا.
قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
بهذه الآية الكريمة تختم سورة الفتح.
وبهذا الفتح الذي وعد اللّه المؤمنين تقوم دولة المسلمين، ويأخذ مجتمعهم مكانه في الحياة، ويرى الناس وجه الإسلام في هذا المجتمع.
والصفة التي تغلب على هذا المجتمع، ويعرف بها في الناس، أنه مجتمع شديد الغلظة على الكفار، الذين يحادّون اللّه ورسوله، فلا يكون بينه وبين الكافرين ولاء أو مودة يجار فيها على دين اللّه، أو ينتقص بها حق من حقوق المسلمين.
هذا حالهم مع أعداء اللّه.. أما هم فيما بينهم فهم رحماء، تفيض قلوبهم حفانا ورحمة ومودة، تجمعهم أخوة بارّة في اللّه، وفى دين اللّه.
هذا ما تنطوى عليه صدورهم، وتفيض به مشاعرهم، نحو أعداء اللّه، وأوليائه.
أما ما يراه الناس من ظاهر أمرهم، فهو اجتماعهم في الصلاة، وتولية وجوههم جميعا للّه.. يركعون معا، ويسجدون معا.. يريدون بذلك مرضاة اللّه، ويبتغون فضله وإحسانه.
فإذا لم يرهم الرائي في مقام الصلاة، رأى منهم أثر هذه الصلاة، وما يترك السجود على جباههم من آثار، هي سمة المسلم المصلّى، وهى الشارة التي تشير إليه، وإلى الدين الذي يدين به.
وهذا يعنى أن الصلاة هي شعار المسلم، وأن من لا يؤديها لا نظهر عليه سمة الإسلام، ومن هنا كانت الصلاة الركن الأول الذي يقوم عليه الإسلام بعد الإيمان باللّه.. وفى الحديث: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة».
وفى الحديث أيضا: «العهد بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر» يريد تركها عامدا منكرا.
وقوله تعالى: {ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ} أي هذه الصفة هي صفة المسلمين التي وصفهم اللّه بها في التوراة.
والإشارة: إما أن تكون إلى جميع هذه الأوصاف، وإما أن تكون إشارة إلى قوله تعالى: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}.
وقوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
الشطء: أول ما يبدو من النبات على ظاهر الأرض، وشاطئ الشيء، حافته.. أي ومثل المؤمنين الذين مثّلهم اللّه سبحانه وتعالى به، في الإنجيل، هو الزرع، يبدأ بذرة هامدة في الثرى، فإذا أصابها الماء، اهتز كيانها، ودبّ دبيب الحياة فيها، وأخذت بهذا الرصيد القليل من الحياة التي سرت فيها- أخذت تحاول جاهدة أن تصافح النور، وأن تلتمس لها طريقا إليه، من بين هذا الظلام المطبق عليها، ثم سرعان ما يطلع لها لسان تتحسس به الطريق إلى النور، وتتذوق به نسمة الحياة، وإذ شيء أخضر صغير، لا يكاد يرى، يطل على الحياة في استحياء ثم لا يلبث أن يؤازره آخر مثله، ثم ثالث ورابع.
وهذا هو الشط، وجمعه شطآن.
وشيئا فشيئا تنمو هذه الشطآن، وتعلو، وبتخلّق لها ساق تقوم عليه، وأوراق تكسو هذا الساق، وفروع وأغصان، وأزهار وثمار، حتى يكون من ذلك نخلة باسقة، أو دوحة عظيمة!.
وهكذا المسلمون، بدءوا بذورا كهذه البذور التي طال حبسها عن الأرض، حتى إذا امتدت إليها يد الزارع فغرسها في الأرض، وساق إليها الماء، وتعهدها بالرعاية والري، طالت، وانداحت، وأزهرت، وأثمرت، وملأت وجه الأرض المغبرّة، حسنا، وجمالا، وخيرا.
وشبه المسلمون بالزرع لأنهم كثير، ولأن كل واحد منهم له ذاتيته إلى جانب هذه الشجيرات الكبيرة التي يضمها الحقل.
وقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} هو إشارة إلى هذا الزرع الطيب، الذي يملأ العين سرورا ورضا، وهو في الوقت نفسه يملأ قلوب الكافرين حسرة وحسدا.
وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} إشارة إلى أن وصف المؤمنين لا يتم إلا بالعمل الصالح وأن الذين لهم المغفرة والأجر العظيم من اللّه، هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا المؤمنون على إطلاقهم.. وهذا هو السر في قوله تعالى: {مِنْهُمْ} الذي يعزل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، عن الذين آمنوا ولم يعملوا الصالحات.. فهؤلاء غير أولئك.
{هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ}.

.سورة الحجرات:

نزولها: مدينة عدد آياتها: ثمانى عشرة آية.
عدد كلماتها: ثلاثمائة وأربعون كلمة.
عدد حروفها: ألف وأربعمائة وأربع وسبعون حرفا.
مناسبتها للسورة قبلها:
كان صدّ المسلمين عن البيت الحرام، وقد جاء بهم النبي صلوات اللّه وسلامه عليه إلى مكة معتمرا، واعدا إياهم أن يدخلوا المسجد الحرام، وأن يحلقوا ويقصروا، وقد كان النبي رأى في منامه رؤيا تأوّلها هذا التأويل وأخبر أصحابه بها- كان هذا الصد داعية إلى إثارة هياج في نفوس المسلمين، وإلى جريان كثير من اللغط على ألسنتهم- فجاءت سورة الحجرات، بعد أن رأوا من آيات اللّه مارأوا، وبعد أن صدقت رؤيا الرسول الكريم، ودخلوا المسجد الحرام آمنين ومحلقين- جاءت تحمل إليهم هذا الأدب الإلهى الذي يؤدبهم اللّه سبحانه وتعالى به، ويقيمهم على طريقه، مع النبي الكريم، وفى الإيمان به إيمان يقين، لا يخالطه شيء من ريبة أو شك، كما سنرى ذلك فيما جاء في مطلع السورة.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 5):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}:
التقديم بين يدى اللّه ورسوله، هو السبق بقطع الأمر دونهما، وبعيدا عن الحكم الذي يقرّره اللّه سبحانه وتعالى لهم في كتابه، وسنة رسوله.
وفى الآية الكريمة عتاب للمؤمنين، الذي لغطوا بما لغطوا به في صلح الحديبية، وهو في الوقت نفسه تأديب عام لهم، وإقامتهم بالمكان الذي ينبغى أن يكونوا فيه من أمر اللّه ورسوله.. فإذا قضى اللّه ورسوله أمرا، لم يكن لمؤمن باللّه ورسوله خيار في هذا الأمر.. فإما المتابعة في ولاء ورضا وغبطة، وإما حلّ لعقد الإيمان الذي عقدوه مع اللّه ورسوله.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً}.
فقوله تعالى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي لا يكن لكم أمر تنفردون به دون أمر اللّه ورسوله، فلا تقطعوا أيها المؤمنون أمرا يقوم على خلاف ما أمر به اللّه ورسوله.
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي استقيموا على تقوى اللّه، بطاعته وطاعة رسوله، وامتثال أمره، ومتابعة رسوله.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يسمع ما تقولون، ويعلم ما لا تقولون مما تخفونه في صدوركم.. فيجازيكم بما كان منكم من حسن أو سوء.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}.
هو من تمام أدب المؤمنين مع رسول اللّه، الذي ينبغى أن يكون صوته أعلى الأصوات، وكلمته رائدة الكلمات وهاديتها.. ورفع الصوت بين يدى النبي، فيه استخفاف، وفيه تجرد من مشاعر الهيبة والإكبار، وجفاف من عواطف الحب والولاء.. فالكلمات التي تصدر في مقام الجلال والإكبار، كلمات ضامرة ضاوية، أمام ما يروعها من هيبة وجلال.. والكلمات التي تخرج من أفواه المحبين كلمات مستحيية ضارعة بين يدى من يحبّون.
والمسلمون في حضرة النبي الكريم، يشهدون أروع آيات العظمة والجلال، وحديثهم إليه، إنما هو حديث يفيض من قلوب ملكها الحب، وخالط شغافها.
وإنه لا يجتمع مع هذا أن يرتفع صوت من مؤمن في حضرة الرسول، فإن ارتفع فلن يكون إلا دون صوت النبي.
وقوله تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}.
المراد بالقول هنا، ما يكون بين الأصدقاء والإخوان من معاتبات تنحلّ فيها عقد ألسنتهم، ويجهرون فيها بما يتحرجون من الجهر به في غير خلواتهم مع من يكونون على شاكلتهم، وفى مستوى مكانتهم بين الناس.
فالجهر بمثل هذا القول، وإن لم يرتفع به الصوت فوق صوت النبي، فيه دلالة على عدم الاحتشام والحياء في حضرة رسول اللّه، الأمر الذي لا يليق أن يكون من مؤمن باللّه ورسوله، ولا يلتقى مع التوقير لرسول اللّه، الذي دعا اللّه سبحانه المؤمنين إليه في قوله سبحانه: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}.
وقوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}.
حبط الأعمال: إبطالها، وحرمان أصحابها الثمرة المرجوة منها.
والسؤال هنا: كيف تحبط أعمالهم بعمل يعملونه ولا يشعرون بالآثار المترتبة عليه؟ وهل يؤاخذ الإنسان على ما يعمله عن غفلة وجهل؟.
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن هذا تحذير من أن يكون من المؤمنين شيء من هذا المنهىّ عنه، مستقبلا، بعد أن نهاهم اللّه سبحانه وتعالى عنه.. فالمؤاخذة على ما نهوا عنه، إنما تبدأ من بعد تلقّيهم هذا النهى.
ولأن مثل رفع الصوت، والجهر بالقول، مما قد يكون من بعض الناس طبيعة لازمة، أو عادة متحكمة، فقد جاء هذا التحذير ليتنبه المؤمنون وهم بين يدى النبي، وليحرسوا أنفسهم من أن ينزلقوا، تحت حكم الطبيعة أو العادة، إلى هذا المنزلق الذي تضيع فيه أعمالهم الطيبة من غير أن يشعروا أنهم يأتون منكرا، أو يقصدون إساءة أدب في حضرة الرسول!.
وهذا، وإن كان من غير قصد، هو مزلق إلى ما يكون عن قصد، ووعى، بعد أن يصبح ذلك عادة مألوفة.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}.
هو بيان لما لهذا الأدب الذي يأخذ به المسلمون أنفسهم بين يدى رسول اللّه، من ثواب عظيم، وأجر كبير عند اللّه.
وقوله تعالى: {يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} أي يخفضونها حياء وإجلالا.. وفى التعبير عن خفض الصوت بالغض الذي هو من شأن النظر، إذ يقال غضّ فلان بصره ولا يقال غض صوته- في هذا التعبير إعجاز من إعجاز النظم القرآنى، الذي تحمله كلمات اللّه متحدية الجنّ والإنس جميعا.
ذلك أن خفض الصوت إنما يكون عن مشاعر الحياء، التي من شأنها أن تنكسر معها حدة البصر، فلا يستطيع المرء أن يملأ عينيه ممن يهابه، ويجلّه، ويوقره.. فهو إذا نظر غضّ بصره، وإن هذا الغض من البصر يستولى على مخارج الصوت أيضا، فيحبس الصوت عن أن ينطلق إلى غاياته، بل يكسر حدته، كما كسرّ حدة النظر.
ففى قوله تعالى: {يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ} إشارة ضمنية إلى غض البصر حياء، وأن سلطان الحياء هو المتحكم في هذا المقام. وهكذا يتسلط الغضّ على الأبصار، والأفواه جميعا.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى} إشارة إلى أن قلوب هؤلاء المؤمنين الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللّه قد أعدها اللّه سبحانه وتعالى وأرادها لتكون مستقرا ومستودعا للتقوى، وهذا هو السر في تعدية الفعل {امتحن} باللام، في قوله تعالى {لِلتَّقْوى} مع أن الأصل في فعل الامتحان أن يتعدى بالباء، فيقال: امتحنه بكذا، لا لكذا.
وفى هذا ما يشير إلى أن تلك القلوب التي يغضّ أصحابها أبصارهم عند رسول اللّه، قد امتحنت فعلا بالتقوى، وقد نجحت في هذا الامتحان، فأصبحت قابلة للتقوى، متجاوبة معها.. فقد يمتحن الإنسان بالشيء، ولا يقبله، ولا يتجاوب معه.. أما إذا امتحن للشيء، واختير له، فإن ذلك يعنى أنه أهل لهذا الامتحان، وخاصة إذا كان المتخيّر له، هو الحكيم العليم، رب العالمين.
ولهذا، فإن قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى} هو خبر لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} بمعنى أن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللّه هم من أهل التقوى.. فهذا هو حكمهم عند اللّه.
وقوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} خبر ثان لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} بمعنى أنهم أهل التقوى، وأنهم مجزيّون من اللّه سبحانه وتعالى بالمغفرة والأجر العظيم.
وفى الآيات الكريمة ما يكشف عن جانب عظيم من أخلاقيات الإسلام، وآدابه العالية، فيما يعرف اليوم بالدبلوماسية السياسية، التي تفرض على الناس مراسم من الأدب في حضرة الملوك، والرؤساء، والقادة، والزعماء، وأصحاب السيادة والسلطان.
ولكن شتان بين أدب الإسلام، الذي ينبع من مشاعر صادقة، ويفيض من قلوب عامرة بالحب، خفّاقة بالولاء، وبين هذا الأدب التمثيلى المصطنع، الذي لا يتجاوز الكلمات التي ترددها الألسنة، والحركات التي تصطنعها الأجسام!! إنه أدب أشبه بأدب القرود بين يدى مؤدبها!.
وألا فلتخضع الرقاب، وتنخفض الجباه أمام هذا الأدب الإسلامى، ولتخرس الألسنة التي ترمى بالتهم في وجه هذا الدين الذي جمع الفضائل كلها، والذي يقود ركب الحضارة في أعلى مستوياتها، وأروع مظاهرها.
إنه ليس دين بداوة جافية غليظة، كما يتخرص المتخرصون، بل إنه دين المدنية الخالصة من شوائب الزيف، وطلاء الخداع!!.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} هو التفات إلى النبي الكريم بهذا العذر الذي يقدمه اللّه سبحانه وتعالى إلى الرسول العظيم، عن هذا الجفاء، وتلك الغلظة، مما يغلب على أهل البادية، الذين يجيئون إلى النبي، فينادونه من وراء الحجرات التي كان يتخذها النبيّ سكنا له مع أهله.. فهؤلاء الأعراب لم يتأدبوا بأدب الإسلام، بعد، ولم تظهر عليهم آثاره، وإنهم لجديرون بأن يقابلوا من النبي بالتسامح، وأن يعذروا لهذا الجفاء البادي منهم.
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو إلفات إلى هؤلاء الأعراب، وتوجيه حكيم رفيق بهم، إلى هذا الأدب الذي لم يألفوه بينهم.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تطمين لهؤلاء الأعراب الذين قد يقع منهم هذا الفعل، وأنهم في سعة من رحمة اللّه ومغفرته، إذا هم أخذوا بأدب القرآن، ونزعوا عما غلبتهم عليه طبيعتهم.. كما أنه دعوة إلى النبي الكريم، أن يغفر ويرحم، فقد غفر اللّه ورحم!.