فصل: تفسير الآيات (14- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (14- 18):

{قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
الأعراب، هم سكان البادية، الذين يعيشون في مضارب الخيام ويشتغلون بالرعي، ويتتبعون مواقع الماء والكلأ.. وقد طبعتهم هذه الحياة المتبدّية، على الجفاء والغلظة، ومن هنا لم يجد الإسلام طريقه إليهم إلا وسط هذه الأحراش النابتة في صدورهم، من النّفار والوحشة.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ} [97: التوبة].. وفى المأثور: «من بدا جفا».
وقوله تعالى: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ}.
هو تصحيح لما يفهمه الأعراب من الإيمان، ومن حقائقه التي ضمّ عليها، فهو ليس كلمة تقال، وإنما هو عقيدة، وعمل يقوم في ظل هذه العقيدة وهدبها.. فقول الأعراب {آمنا} بمجرد تلفظهم بشهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه هو قول غير صحيح.. إن هذا إسلام، لا إيمان.
وهم بالتلفظ بالشهادة، وإقرارهم بالإسلام، إنما يدخلون في المسلمين، وتجرى عليهم أحكامهم، وتعصم بهذا دماؤهم، وأموالهم، كما في الحديث الشريف: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، فإن قالوها عصموا منّى دماءهم وأموالهم، وحسابهم على اللّه».
فقوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} هو ردّ على قول الأعراب آمنا.
وقوله تعالى: {وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا} هو بيان للقول الحق الذي يقال في هذا المقام.. فهم مسلمون، غير مؤمنين.
وقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ} هو بيان للعلة التي من أجلها لم يكن الأعراب مؤمنين، بل كانوا مجرد مسلمين.. لأن الإيمان لم يدخل في قلوبهم بعد، وأنه ما زال مجرد كلمة تجرى على ألسنتهم.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً} لا يلتكم: أي لا ينقصكم، ولا يبخسكم حقكم.
وفى هذا دعوة إلى الأعراب أن ينتقلوا من الإسلام إلى الإيمان، وأن يجعلوا هذه الكلمات التي دخلوا بها في الإسلام غرسا طيبا يغرسونه في قلوبهم، ومشعلا هاديا يقودهم إلى طريق الخير والإحسان، آخذين بما يأمرهم به اللّه ورسوله، فإن هم فعلوا كانوا في المؤمنين حقا، وكان لهم كل ما للمؤمنين عند اللّه من رحمة ورضوان.. وإن صفة الأعراب التي وصفوا بها، لا أثر لها في أعمالهم، وإن كان لها أثرها في تأبّيهم على الإيمان، وفتور خطوهم إليه، وتأخرهم عن اللحاق بركب المؤمنين.. ومع هذا فإنهم في أي وقت يدخلون فيه إلى الإيمان دخولا صحيحا، ويستقيمون على أوامر اللّه ونواهيه- يلحقون فورا بالمؤمنين، ويجزون بأعمالهم جزاء من سبقوهم إلى الإيمان.. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يتجاوز لهم عن هذا الجفاء الذي كان بينهم وبين الإيمان.
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.
هذا هو الإيمان الذي فات الأعراب أن يحصّلوه، وتلك حقيقة المؤمنين التي لم يحققها الأعراب بعد بإسلامهم.
فالمؤمنون، هم الذين آمنوا باللّه ورسوله فنزل هذا الإيمان في قلوبهم منزلة اليقين، لا يزحزحهم عنه أي عارض من عوارض الحياة، ولا يغيّر وجهه في قلوبهم ما يلقاهم على طريق الحياة من بأساء وضرّاء، ثقة منهم باللّه، وركونا إليه، ورضاء بقضائه، وصبرا لحكمه.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا}.
هذا هو الإيمان في صميمه.. أمّا الإيمان الذي يهتزّ كيانه في قلب الإنسان لأى عارض، ويتضاءل شخصه عند أي بلاء، فهو إيمان غير خالص، بل هو مشوب بآفات كثيرة من الشك، وسوء الفهم، فإذا وضع على محك التجربة والامتحان، ظهر ما فيه من ضعف، فلم يحتمل صدمة التجربة، ولم يصمد أمام تيار الامتحان.
وقوله تعالى: {وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
وهذا هو مجال الامتحان لإيمان المؤمنين.. فمن آمن باللّه ورسوله، ووقع منه هذا الإيمان موقع القبول واليقين، لم ينكل عن دعوة الجهاد في سبيل اللّه بماله ونفسه، بل يقدم ماله ونفسه قربانا للّه، في رضا وغبطة.
وفى الآية الكريمة إشارة إلى أن الجهاد بالمال والنفس، هو الميدان الذي يمتحن به إيمان المؤمنين، والذي به تظهر حقيقة ما في قلوبهم من إيمان.
فالمؤمن، قد يصلىّ، ويصوم، ويحجّ، ويزكى، ولكنه حين يمتحن في ماله أو نفسه بالجهاد في سبيل اللّه، يضنّ بماله، ويحرص على سلامة نفسه، وعندئذ يعلم حقيقة إيمانه، وأنه لم يستوف حقيقة الإيمان بعد.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ}.
ويقول سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} [2، 3: العنكبوت].
وقوله تعالى: {أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.
هو الوصف الذي يستحقّه الذين آمنوا باللّه ورسوله ولم يرتابوا، وجاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم، وهو أنهم مؤمنون حقا.. قد صدّق فعلهم قولهم.
قوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
هو إنكار على هؤلاء الأعراب، الذين ادّعوا تلك الدعوى، بأنهم مؤمنون، وهم في حقيقة أمرهم غير مؤمنين، إذ أنهم أسلموا، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم بعد.
فلمن يقولون هذا القول؟
أيقولونه للّه؟ وكيف يتفق قولهم هذا مع الإيمان باللّه؟ إن الإيمان باللّه حقا، يقضى على المؤمن ألا يقول غير الحق.. لأن اللّه سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وإنه لن يكذب على اللّه إلا من استخفّ بجلال اللّه وعظمة اللّه، وعلم اللّه، جهلا منه بما للّه سبحانه من كمال مطلق. {ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [7: المجادلة] قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
المنّ: الإدلال بالإحسان على من أحسن إليه.. وهو مما يذهب بثواب الإحسان، ويفسد مغارسه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً} [262، 263 البقرة].
وهذا من جفاء الأعراب، ومن بعدهم عن الإيمان، وفساد تصورهم له.
إنهم يمنّون على النبي والمؤمنين، أنهم آمنوا باللّه، واستجابوا لما يدعوهم إليه الرسول، وإنهم ليعدّون هذا مأثرة لهم عند الرسول، ويدا يحسبونها لهم عليه.. وهذا وضع مقلوب للقضية.. إنهم إن كانوا مؤمنين حقا، فإن عائدة هذا الإيمان وثمراته راجعة إليهم، لأنهم خرجوا بهذا الإيمان من الضلال إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، ومن البلاء والهلاك والعذاب الأليم في الآخرة، إلى العافية، والسلام، والخلود في جنات النعيم.. وتلك نعمة أو نعم لا يقدر أن يقوم بشكرها إنسان.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [103: آل عمران].
فعجيب أن يمنّ الآخذ على المعطى، ويطلب المريض الجزاء من الطبيب الذي طبّ لمرضه، وشفاه من علته!! ولكن هكذا يفعل الجهل بأهله.
وفى قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} بدلا من أن يقال:
يمنون عليك أن آمنوا، أخذا برأيهم في أنفسهم، وبما نطقت به ألسنتهم- في هذا تكذيب ضمنى لقولهم: {آمنا} بعد أن كذبهم اللّه تكذيبا صريحا في قوله تعالى: {لَمْ تُؤْمِنُوا}.
فهو تقرير للأمر الواقع منهم، وهو الإسلام، لا الإيمان.
وقوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
هو دعوة لهؤلاء الأعراب أن يحقّقوا حقيقة الإيمان الذي يدّعونه، وأنهم إذا كانوا مؤمنين حقّا، فليحمدوا اللّه، وليشكروا له، لأنه سبحانه صاحب المنّة عليهم، أن هداهم للإيمان.. فهم مسلمون، وهم بهذا الإسلام يستطيعون أن يخطوا الخطوة التالية إلى الإيمان، وأن ينقلوا كلمة الإسلام من ألسنتهم إلى قلوبهم، وبهذا يكونون مسلمين مؤمنين.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} هو تعقيب على قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}، وجواب على ما قد يتردد في أنفسهم من تساؤلات، مثل أن يقولوا: ومن يعلم إن كنا صادقين أو كاذبين، إذا كان مرجع الإيمان إلى ما استقر منه في القلوب؟ ومن يكشف ما في قلوبنا من هذا الإيمان؟.. فكان الجواب. إن اللّه يعلم غيب السموات والأرض، لا غيب القلوب وحدها، وهو البصير الذي يرى ما يعمل العاملون، مما هو مستقيم على طريق الإيمان، أو مائل عنه، فيجزى كلّا بما عمل.

.سورة ق:

نزولها: مكية عدد آياتها: خمس وأربعون آية.
عدد كلماتها: ثلاثمائة وخمس وسبعون كلمة عدد حروفها: ألف وأربعمائة وأربع وسبعون حرفا (مثل الحجرات)!!
مناسبتها لما قبلها:
هذه السورة مكية، وسورة الحجرات قبلها مدنية، ومع هذا، فإن المناسبة بينهما قريبة، والجامعة بينهما وثيقة.
فأولا: كانت سورة الفتح- وهى مدنية أيضا- أول بشائر النصر، الذي تعلو به راية الإسلام، ويتم به دين اللّه، ويرى به النبي والمهاجرون والأنصار ثمرة الجهاد في سبيل اللّه، وما احتمل النبي وأصحابه من بلاء عظيم.
ثم تلا هذه السورة، سورة الحجرات، التي كانت أشبه بتعليق وتعقيب على سورة الفتح، وعلى ما وقع فيها من أحداث وخاصة في صلح الحديبية.
فجاءت سورة ق تذكر النبي وأصحابه بما كان في بدء الدعوة الإسلامية، من عناد المشركين وضلالهم وسفههم، وأن هؤلاء المشركين الضالين السفهاء قد تحولت بهم الأحوال، وأوشكوا أن يدخلوا في دين اللّه، بعد أن كسرت شوكتهم، وبدأت غشاوة الضلال والسفه تنجلى عن أبصارهم، بما رأوا من إعزاز اللّه لدينه، ونصره لأوليائه.
وثانيا: جاء في ختام سورة الحجرات ما كان من موقف الأعراب من دين اللّه، وأنهم كانوا من الإسلام في موقف أشد ضلالا، وأكثر بعدا من موقف إخوانهم المشركين أهل مكة.. إذ أن المشركين كانوا يعلمون صدق النبي، ويدركون حقيقة ما يدعو إليه من إيمان باللّه. أما هؤلاء الأعراب، فإن جفاء طباعهم، وغلظة أكبادهم، حالت بينهم وبين أن يدركوا حقيقة هذا الدين، ولم تتسع عقولهم لاستيعاب مراميه، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: {الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ} [97: التوبة]- فجاءت سورة ق تحدثهم عن إخوانهم المشركين، وما كان لهم من تعلّات على دين اللّه.. ثم ها هم أولاء، وقد دخل كثير منهم في الإسلام، ثم الإيمان، هاهم أولاء قد أصبحوا في جند اللّه المجاهدين في سبيل اللّه.. وإذن فليكن لهؤلاء الأعراب أسوة في إخوانهم هؤلاء، الذين كانوا على الشرك والضلال، ثم أصبحوا وقد لبسوا الإسلام دثارا، والإيمان شعارا.
وهكذا تبدو سورة ق وكأنها تعقيب على سورة الفتح واستعادة للماضى وأحداثه، بين يدى هذا الحاضر المسعد، والمستقبل المشرق، فتعظم تلك النعمة التي يعيش المسلمون فيها مع هذا الفتح العظيم، الذي لم يكن يراود أحلامهم، في يوم من الأيام.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 11):

{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}.
ما يقال عن ق هو ما قيل فيما مضى عن الحروف المقطعة.
ومطلع السورة هنا شبيه بمطلع سورة ص.
حيث بدئت السورة بالحرف ص ثم بالقسم بالقرآن ذى الذكر، ثم مواجهة المشركين بمقولاتهم المنكرة في القرآن الكريم، وفى الرسول الذي يتلو آيات اللّه عليهم.
والواو في قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} للقسم، والقرآن المجيد، مقسم به، ووصف القرآن الكريم بأنه مجيد، إشارة إلى صفاء جوهره، ومجادة ذاته، والمجيد صفة من صفات اللّه سبحانه وتعالى، كما يقول سبحانه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [14، 15: البروج] وقد جعل اللّه سبحانه هذه الصفة لكلامه، لأن كلام اللّه سبحانه، صفة من صفاته، والصفة عين الموصوف.
قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ}.
هو إضراب عن تساؤلات تتردّد في الوجود كله، حين يستمع إلى هذا القسم من رب العالمين، بكلامه المجيد.. حيث يتلفت الوجود كله إلى مواقع هذا القرآن، وإلى المتجه الذي يتجه إليه، وهل عرف الناس قدره؟ وهل اهتدوا بالنور الذي يطلع عليهم منه؟.. فكان الجواب: كلّا.. {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ}.
أي أن الذين جاء إليهم هذا القرآن لم يلتفتوا إليه، ولم يأخذوا بشيء منه، لا لشيء في هذا القرآن،- لأنهم لم ينظروا فيه أصلا- وإنما لأن الذي جاءهم بهذا القرآن هو رجل منهم، فكان ذلك حجازا بينهم وبين أن ينظروا في شيء من هذا القرآن، وأن يستمعوا إلى ما يتلى عليهم منه، لأن الذي يتلوه عليهم رجل منهم!! وكيف لرجل منهم أن يأخذ هذا المكان منهم، ويقوم بالسفارة بينهم وبين اللّه، ويصبح صاحب كلمة اللّه إليهم؟ وأين هم إذن؟ وأين أغنياؤهم وأصحاب السيادة فيهم؟.
فلتتخطفهم العقبان، ولتحرقهم الرجوم.. فذلك أهون عليهم من أن يسودهم سيد، أو يقوم عليهم قيّم!! هكذا فكروا وقدروا: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}! وأخذوا يرددون مقولات الدهش والتعجب والإنكار: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [25: القمر] {لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [31: الزخرف].. {ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [7: الفرقان].
وقوله تعالى: {فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} الإشارة هنا إلى ما أثار عجب الكافرين من هذا القرآن المجيد، وهو أن يجيئهم هذا القرآن على لسان رجل منهم.. فهذا- عندهم- مما يثير العجب والدهش، ثم الإنكار.
قوله تعالى: {أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}.
هو مما تسلط عليه اسم الإشارة، هذا، في الآية السابقة.. فقولهم {هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} مشار به إلى ما سبقه من قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}.
ثم هو مشاربه إلى ما بعده من قوله تعالى: {أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً} أي أإذا متنا وكنا ترابا تعود إلينا الحياة مرة أخرى؟ {ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}! تفكره الحياة، ولا تصدقه العقول!! فما أبعد ما بين الحياة وهذا التراب الهامد الذي غربت فيه الحياة! هكذا يقولون، ساخرين، مستهزئين.
قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ}.
هو ردّ على استبعاد الكافرين لعودة الحياة إليهم مرة أخرى، بعد أن يذوبوا في التراب، ويصيروا بعضا منه.
فاللّه سبحانه وتعالى يعلم ما أخذت الأرض منهم، وما أكلت من ذرّات أجسامهم، ذرة ذرة.. فإذا أراد اللّه سبحانه عودة الحياة إليهم دعا هذه الذرات المتنائرة في الأرض، ونظم منها عقد الحياة من جديد، كما تنظم حبّات العقد في خيط جديد بعد أن ينقطع خيطها الذي بلى فانقطع! فهذه الذرات التي تنائرت في الأرض، هي محفوظة في كتاب حفيظ، لا يضيع منه شيء.
قوله تعالى {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}.
هو إضراب آخر لبيان موقف الكافرين من آيات اللّه، بعد أن بين الإضراب السابق موقفهم من الرسول الذي حمل إليهم هذه الآيات.. إن جنايتهم جناية غليظة مزدوجة.. فهم يتهمون الرسول الذي حمل إليهم رسالة اللّه، وكلماته.. ثم دفع بهم هذا الاتهام إلى أن يخرجوا عن عقولهم، وأن يكذّبوا هذا الحق الواضح الذي يملأ عليهم الوجود من آيات اللّه.. فإذا كان اتهامهم للرسول مما يجدون له عذرا عند أنفسهم، متعللين لذلك بما يجدون في صدورهم من حرج في أن يستجيبوا لرجل منهم، وأن يمتثلوا الدعوة التي يدعوهم إليها- فإن اتهامهم لهذا القرآن الذي يتلى عليهم، والذي ينطق بالحق المبين الواضح، لا يقوم له عذر، حتى عند أنفسهم، فهم يكذبون عن عمد، ويذهبون مذهب الضلال على علم.. وهذا ما يجعل جرمهم أشنع الجرم وأغلظه.
وقوله تعالى: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}.
الأمر المريج: المختلط، الذي يموج بعضه في بعض، ومنه قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ} أي خلط بعضهما ببعض، وجمع بين الملح والعذب، في هذه الأمواج التي تتضارب عند التقائهما.. ومنه قوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ}.
حيث يضطرب اللهب ويتماوج بيد الهواء الذي يسبب عملية الاحتراق.
والأمر المريج الذي فيه هؤلاء الكافرون، هو اضطراب مقولاتهم في الرسول الكريم، وفى القرآن المجيد.. شأنهم في هذا شأن كل من يركب متاهات الطرق، وطوامسها، فلا يدرى أىّ اتجاه يتجه.. إنه يتجه تارة يمينا وتارة شمالا، ومرة وراء، ومرة خلفا.. إنه لا يأخذ في اتجاه حتى تساوره الشكوك. والظنون، فيعدل عنه إلى غيره، الذي يحسب أنه الطريق القاصد، ثم لا يلبث أن يتهم نفسه فيما حسب، فيعدل.. وهكذا.
هذا شأن الإنسان وحده مع نفسه.. فإذا كانوا جماعة على ضلال، كان لكل منهم وجهة، ولكل سبيل، ومع الوجهة وجهات، ومع السبيل سبل.. أما من كان على الحق، سواء أكان وحده أو في جماعة، فإن الطريق واحد، له ولهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [153: الأنعام].. وقد شرح الرسول الكريم، هذه الآية الكريمة في الحديث الشريف الذي يروى عن ابن مسعود، قال: خطّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطّا بيده ثم قال: «هذا سبيل اللّه مستقيما وخط عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» ثم تلا الآية: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً}.
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ}.
فى هذه الآية لقاء مع الكافرين، بعيدا عن الرسول وعن القرآن الذي بين يديه.. إنه لقاء مع عقولهم، إن كانت لهم عقول- فليدعوا الرسول وما جاءهم به، ثم لينظروا نظرا مجردا، لا يرد عليهم منه هذه الشبه التي وردت عليهم من أهوائهم، حين نظروا إلى اللّه سبحانه وتعالى من خلال الرسول، الذي يدعوهم إلى اللّه، وما أثار هذا من الحسد ودخان الغيرة أن يكون لرجل منهم هذه النعمة التي أنعم اللّه بها عليه.
فليدعوا الرسول، وليدعوا ما يتلوه عليهم من آيات اللّه، وليكونوا هم رسل أنفسهم، في دعوتها إلى اللّه، والتعرف عليه.
فلينظروا إلى السماء فوقهم.. إنها ليست بعيدة عنهم، بل هي قائمة فوق رءوسهم، لا تحتاج رؤيتها إلى أكثر من أن يفتحوا عيونهم عليها.. فإنهم إن فعلوا، كان عليهم- إن كانوا يريدون الحقّ والهدى- أن يجيبوا على هذه الأسئلة التي تطلع عليهم من وراء النظر إلى السماء: كيف قامت هذه السماء؟
ومن أقامها؟ ومن زينها بالكواكب؟ ومن أحكم نظامها، ونظام الجاريات فيها، فلم تتصادم كواكبها، ولم تنطفئ أضوؤها وأنوارها المنبعثة منها على آماد السنين وتطاول الأزمان؟ فهل نظروا إلى السماء فوقهم؟ وهل أثار هذا النظر عقولهم، فسألوا أنفسهم تلك الأسئلة؟ وهل بحثوا عن جواب لها؟ إنهم لم ينظروا، ولو نظروا ما رأوا شيئا من هذا كله، لأنهم ينظرون بعيون كليلة، وعقول سقيمة، وقلوب مريضة! وقوله تعالى {ما لَها مِنْ فُرُوجٍ} الفروج، الصدوع، والتشققات التي تكون بين الشيء والشيء.. والمراد بنفي هذا العارض من الفروج عن السماء أنها على امتدادها، واتساعها الذي لا حدود له، قد قامت بناء راسخا، متلاحم النسج، لا تفاوت فيه: {ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ} [3: الملك] قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
وإذا كان هؤلاء الكافرون المشركون قد كلّت أبصارهم عن أن ترى السماء وما فيها من دلائل القدرة، والحكمة، والعلم، فلينظروا إلى مواطئ أقدامهم.. إلى هذه الأرض التي يمشون عليها.. إنهم لو نظروا نظرا باحثا متفحصا لرأوا الأرض غير الأرض، ولرأوا فيها من آيات اللّه، ودلائل قدرته وحكمته وعلمه، ما لم يروه، وهم يمشون فيها بعيون مقفلة، وقلوب فارغة، وعقول لاهية.. إنها كون فسيح ممدود إلى غايات بعيدة، تتجاوز هذا القدر المحدود الذي لا يتعدّى مواطئ أقدامهم، ولا يخرج عن محيط مغداهم ومراحهم.. وإن هذه الجبال التي تطاول السماء بين أيديهم، ليست مجرّد أكوام من الأحجار، بل هي أوتاد تمسك هذه الأرض أن تميد، وتضطرب بما عليها من موجودات.. وإن هذه الزروع والحدائق، والمروج التي تغطّى وجه الأرض، ليست إفرازا من إفرازاتها، وإنما هي حلل من الجمال، والبهجة والحسن، كساها اللّه سبحانه وتعالى بها، حتى تطيب للناس الحياة فيها، وحتى تفيض عليهم بهجة وحبورا، مما تنتعش به النفوس، وتسعد به القلوب، فلا يكون حظّ الإنسان من هذه الزروع مقصورا على الغذاء الذي يملأ البطون، كما هو حظ الحيوان، الذي لا يعنيه من أمر هذه الخيرات إلا أن يملأ بطنه منها.
قوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}.
هو بيان للعلة التي من أجلها قامت السموات والأرض على هذا النظام البديع المتقن، المحلّى بحلي الجمال والبهجة.. إن في هذا كله ما يفتح البصائر إلى مطالع الحق، ويمدّ العقول بكمالات المعارف الموصلة إلى اللّه، وذلك حين تصادف الإنسان الذي لم تفسد فطرته، ولم تنطمس بصيرته، ولم تستول على عقله الضلالات والسفاهات.
والعبد المنيب، هو العبد المستعدّ لقبول الخير حين يدعى إليه، ولاتباع سبيل الحق حين يستبين له وجهه!
قوله تعالى: {وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}.
وهذا معرض ثالث من معارض النظر، ومراد من مرادات التدبر والتفكّر.
وأنه إذا كان هؤلاء الكافرون الضالون، قد كلّت أبصارهم عن أن تصافح السماء، وتقع على موقع العبرة والعظة منها، وأن يعموا أو يتعلموا عن الأرض وما بين أيديهم من آيات اللّه منها- إذا كان هذا شأنهم فيما في السموات والأرض، فهذا معرض جديد من معارض النظر، ليس في السماء، ولا في الأرض، وإنما هو بين السماء والأرض، وفى مستوى النظر، لكل ذى نظر لا يتكلف له مدّ بصره إلى السماء، ولا إلقاء نظره على الأرض، بل حسبه أن يفتح بصره مجرد فتح، فيرى هذا المطر المتدفق من السماء إلى الأرض.
أفلا يرى هذا الماء أيضا؟ إنه إن لم يكن يراه، فإن الماء برجمه بهذه القطرات التي تتساقط عليه، حتى يستيقظ ويصحو من ذهوله وغفلته.
وهذا الماء.. ما شأنه؟ ومن أين جاء؟ ولم جاء؟
إنه لم يكن عن مصادفة، ولم يقع حيث وقع إلا ليبعث الحياة في الأرض الهامدة ويخرج من بطنها هذه الجنات والزروع التي يحيا عليها، ويعيش من ثمرها وحبّها الإنسان والحيوان.
وفى وصف الماء بأنه مبارك، إشارة إلى ما يحمل هذا الماء الذي كثيرا ما تستخف به العيون، ولا تتملّاه الأبصار، من خيرات ونعم، ولا يحصيها المحصون، ولا يدرك أسرارها إلا أولو الأبصار من عباد اللّه.
إن قطرات هذا الماء المنزل من السماء، هي أرواح تلبس الأرض كما تلبس الأرواح عالم الأجساد، فيكون منها هذا الإنسان الذي يبلغ به الغرور إلى أن يكون إلها في الأرض، بأبى أن يعطى ولاءه للّه رب العالمين..!!
قوله تعالى: {وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} أي وأنبتنا بهذا الماء المبارك جنات، وزروعا، ونخلا باسقات.
وفى تعريف النخل، مع اختصاصها بالذكر من بين ما في الجنات من أشجار- في هذا إشارة إلى تكريم هذه الشجرة المباركة، لما فيها من منافع كثيرة تجتنى من كل شيء فيها.. من جذرها إلى جذعها، إلى ليفها، إلى جريدها، إلى سعفها، إلى تمرها، إلى نوى هذا التمر.. فهى شجرة كلها خير ونفع، ليس فيها شيء يلفظ، مع عظم جسمها، وامتداد طولها.. ولهذا كانت وصاة النبي الكريم بها في قوله- صلوات اللّه وسلامه عليه: أكرموا عماتكم النخل، فإنهن خلقن من طينة آدم.
هذا، وتحتل النخلة مكان القمة في المملكة النباتية، كما يأخذ الإنسان مكان القمة في المملكة الحيوانية.. ولهذا كثر ذكرها في القرآن، وخاصة في معرض التذكير بنعم اللّه، وبما بين يدى الناس من هذه النعم، التي تتجلى في الجنات والزروع.. فلا تكاد تذكر الجنات وما فيها من ثمر، حتى تأخذ النخل مكان الصدارة، أو تنفرد وحدها بالذكر، اكتفاء بها عن كل شجر غيرها، وحتى لكأنّ الجنة لا تكون جنة إلا إذا كانت النخل آخذة مكانها فيها.. يقول تبارك وتعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [26: البقرة] ويقول سبحانه:
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً} [32: الكهف] ويقول جل شأنه على لسان صالح عليه السلام، وهو يحاج قومه بنعم اللّه عليهم: {أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ} [146- 148: الشعراء].
ويقول سبحانه: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ} [11: النحل].. ويقول جل شأنه لمريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [25- 26 مريم].
فقد كانت النخلة قائمة بمشهد من هذه المعجزة التي ستطل على الوجود بميلاد المسيح عليه السلام، روح اللّه وكلمته إلى مريم.. فكانت متكأ لمريم، وصدرا حانيا تستند إليه في شدتها التي كانت تعانى منها، كما كان ثمرها مائدة اللّه التي دعا مريم إلى أن تطعم منها.. إنها خير ثمر وأطيب ما تخرج الأرض من ثمر! وقوله تعالى: {باسِقاتٍ} أي عاليات، تطاول أعناقها السماء، فلا تكاد شجرة في الأرض تبلغ المدى الذي تصل إليه، وكأنها بهذا تتربع على عرش للملكة النباتية، وتشرف عليها من هذا العلو.
وقوله تعالى: {لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ} الطلع أول ما يبدو من ثمر النخل، حين يتفتح الجراب الذي يضم في كيانه زهر هذا الثمر.. والنضيد: المنضود، وهو المرصوص في نظام تجتمع فيه الحبات، كما تجتمع حبات العقد النظيم.
وفى هذا الوصف للنخلة في سموقها وطولها، وللثمر في تنضيده، وانتظام حباته- في هذا إلفات إلى هذا الحسن الرائع، والجلال المهيب، مما يراه الذين يرون مواقع الحسن والروعة والجمال والجلال في آيات اللّه، وما أبدعت قدرته في هذا الوجود!
قوله تعالى: {رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ}.
هو بيان لبعض ما لهذه الجنّات والزروع والنخيل من أثر في حياة الناس، وأنها مما يرزقه اللّه عباده من رزق كريم.
وقوله تعالى: {وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} معطوف على قوله تعالى: {فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}.
أي وأحيينا بهذا الماء بلدة ميتا، فلولا هذا الماء ما قامت حياة على هذه الأرض، وما قامت هذه البلاد العامرة، والتي كانت قبل الماء ترابا هامدا.
وقوله تعالى: {كَذلِكَ الْخُرُوجُ} هو تعقيب على قوله تعالى: {وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً}.
أي أنه كما أقام الماء هذه الحياة من الأرض الميتة، فإنه غير منكور أن يبعث الموتى من القبور، ويلبسوا الحياة من جديد، كما لبست الأرض الميتة الهامدة هذه الحياة حين أصابها الماء، وسرى في أوصالها.