فصل: تفسير الآيات (56- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (56- 57):

{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)}.
التفسير:
فى هاتين الآيتين بيان لما تضمنه قوله تعالى في الآية السابقة عليهما: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} وفى هذا الفصل ينكشف الكافرون، ويعرف المؤمنون، ويفرّق بينهما في الموقف.. كل جماعة في جهة.. ثم يكون الجزاء لكل من الفريقين حسب عمله.. فأما الذين كفروا فلهم عذاب شديد، ليس له من اللّه دافع، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفون أجرهم كاملا، وتتلقاهم الملائكة تزفّهم إلى جنات النعيم.
وفى قوله تعالى: {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} ما يسأل عنه، وهو: كيف يعذبون عذابا شديدا في الدنيا، وهم الآن في الآخرة وفى موقف الحساب؟
والجواب عن هذا، هو أن هذا الوعيد من اللّه سبحانه وتعالى وعيد قديم، ولكنه يتجدد بتجدد الأزمان والأحداث، فيقع العلم به للمنذرين في الوقت الذي ينذرون به، لا يوم القيامة والحساب.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ما يسأل عنه أيضا.. إذ كيف يتناسب هذا، بعد قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ}؟
والجواب عن هذا، هو أن المؤمنين قد بشّروا به في قوله تعالى: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} وأنهم قد اطمأنوا إلى هذا الوعد الكريم، ونعموا به، وإن نعيمهم ليتضاعف حين ينظرون إلى أصحاب النّار وما يلاقون فيها من عذاب الهون، فيسبّحون بحمد اللّه إذ نجاهم من هذا البلاء، وغمرهم بفضله ونعمه- إن المؤمنين وهم في تلك الحال ليسألون عن عذاب أهل العذاب، وما الذي أوردهم هذا المورد الوبيل، فيقال لهم: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي أن هؤلاء الذين يتقلبون في النار، إنما هم من الذين ظلموا أنفسهم، بأن حجبوها عن الإيمان، وسبحوا بها في ظلمات الكفر والضلال، فهم إذن ظالمون. {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.
ولن ينال رضا اللّه، وينعم بنعيم جناته إلّا من رضى عنه وأحبّه! ومما يسأل عنه في هاتين الآيتين: كيف جاء الوعيد للذين كفروا في صيغة المتكلم في قوله تعالى: {فَأُعَذِّبُهُمْ} على حين جاء الوعد للذين آمنوا في صيغة الغائب في قوله سبحانه: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ}.
والجواب، هو أن الذين كفروا لم يؤمنوا باللّه، بل ولم يعترفوا بوجوده، ومن هنا فإنهم لا يعرفونه، ولا يتصورون له وجودا.. فكان من المناسب لتلك الحال أن يسمعهم اللّه صوته، وأن يواجههم بالجريمة التي اقترفتها أيديهم، ويلقاهم بالعذاب الذي هم أهل له.. وهذا أبلغ في إلفات الكافرين إلى ما هم فيه من غفلة وضلال، إذ يرون عذاب اللّه عيانا، في هذا النذير الذي ينذرهم اللّه مواجهة به، {وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [47: الزمر] أما المؤمنون فشأنهم مع اللّه على غير هذا.. إن اللّه معهم دائما يملأ قلوبهم، ويعمر حياتهم، ويرون قدرته وحكمته في كل ما تتصل به حواسهم، أو يتصوره خيالهم.. ومن ثم فإن ما بينهم وبين اللّه من معرفة لا يحتاج إلى إعلان.. إنهم آمنوا باللّه عن غيب، وصدّقوا ما جاءهم به الرّسل من عند اللّه، فكان من المناسب لحالهم تلك أن يخاطبوا من اللّه بصيغة الغيبة.. تلك الغيبة التي هي حضور جلىّ في قلوبهم، وظهور باد في كل ما أبدع اللّه وصوّر!

.تفسير الآية رقم (58):

{ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ذلِكَ} إشارة إلى ما تقدم مما ذكر اللّه سبحانه من أخبار المسيح، وموقف اليهود منه، ومكرهم، ومكر اللّه بهم.. وما يلقى الكافرون باللّه وبرسله من عذاب ونكال، وما يجزى به المؤمنون باللّه من رضى ورضوان.
وقوله تعالى: {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} أي ذلك الذي ذكرناه لك هو متلوّ عليك من آيات اللّه ومن الذكر الحكيم، أي القرآن الذي هو مجمع آيات اللّه المتلوّة عليك.
والمعنى أن ما يتلى عليك هو آيات من آيات اللّه المسطورة في القرآن الكريم، الذي ينزل عليك آية آية، أو آيات آيات، فيها عظة وذكرى، وعبرة وحكمة.

.تفسير الآية رقم (59):

{إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)}.
التفسير:
كثر الخلاف في المسيح عليه السلام، لأن ميلاده كان على صورة فريدة، لم يولد بها أحد من قبله.. وكان الناس في هذا الميلاد شيعا وفرقا، كل شيعه تقول فيه قولا، وكل فرقة تذهب فيه مذهبا!
أما اليهود، فقد ارتضوا الجريمة مركبا، فقتلوا أنفسهم، وقتلوا الحق معهم.. وقالوا في المسيح إنه ولد كما يولد الناس، من ذكر وأنثى.. وإن كان ميلاده على فراش الإثم والفاحشة.. لأنه ابن زنا! وأما أتباع المسيح، فقد قصرت مداركهم عن إدراك قدرة اللّه، فلم تحتمل عقولهم تلك الحقيقة، وهى أن اللّه قادر على كل شيء، يخلق ما يشاء، مما يشاء، وكيف يشاء! فقالوا: إن المسيح هو اللّه تجسد بشرا في جسد عذراء.. وإذن فهو ميلاد صورىّ، لأنه لم يولد إلا اللّه نفسه، الذي كان موجودا بكماله الإلهى قبل هذا الميلاد! وإذن فلا مسيح، وإنما هو اللّه تسمّى باسم بشرى، كما لبس صورة بشرية.. وإذن فهى عملية أشبه بعملية الحلول التي آمن بها كثير من قدماء المصريين، والبراهمة، وغيرهم من الأمم.. فكما كان يحلّ اللّه في ثور، أو تمساح، أو شجرة، أو رجل.. حلّ في جسد طفل، وخرج وليدا من بطن امرأة.
وأما المسلمون، فقد جاءهم القرآن بالخبر اليقين عن المسيح.. إنه خلق من خلق اللّه، وإنه إنسان من الناس، ولد بنفخة من روح اللّه، كما ولد هذا الوجود كله بفيض من فيض اللّه! وأقرب مثل لهذا. آدم- عليه السّلام- إنه خلق من غير أب أو أم.
خلق من تراب هامد، لا أثر للحياة فيه.. وعيسى- عليه السّلام- خلق مولودا من كائن حىّ، هي أمّه، فأيهما أشدّ غرابة في الخلق؟ الذي خلق من تراب هامد، أم الذي تخلّق من جسد حىّ؟
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ما يسأل عنه.. وهو:
كيف يقول اللّه للشيء كن، ثم لا يكون واقعا في الحال، كما يدل على ذلك قوله تعالى: {فَيَكُونُ} التي تدل على المستقبل المتراخى، ولو كان ما أمر اللّه به واقعا في الحال، لكانت صياغة الآية على غير هذا، ولكانت تلك الصياغة مثلا: {ثم قال له كن فكان}.
فكيف يكون هذا؟ وهل أمام قدرة القادر العظيم حواجز وحوائل، تحول بين القدرة وبين إمضاء ما قدرت، على الفور، وفى الحال؟
والجواب على هذا.. هو أنّ قول اللّه للشيء {كن} لا يقتضى وقوع هذا الشيء في الحال، إذ قد يكون الأمر موقوتا بوقت، أو متعلقا بأسباب، لابد أن يقترن حدوثه بها، وهذه الأسباب لا متعلّق لها بقدرة اللّه، وإنما متعلّقها بالشيء ذاته، الذي دعته القدرة إلى الظهور، والذي قضت حكمة اللّه ألا يظهر إلا بعد أن يستكمل أسبابه المقترنة به.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [82: يس].
فمثلا مما سبق علم اللّه به، واقتضته إرادته إيجاد، شيء ما، وليكن هذا الإنسان أو ذاك.
إن أمر اللّه قد صدر من قديم لهذا الإنسان أن يكون، على صورة كذا، وهيئة كذا، وأن تحمل به أمه في يوم كذا، وأن يولد في يوم كذا.
وهكذا.
بل وأكثر من هذا.. فإنه قبل ذلك بآلاف السنين، بل وآلاف الآلاف منها.. تنقّل هذا الإنسان في أصلاب الآباء وترائب الأمهات إلى أن التقى أبوه بأمه، في الزمن المحدد واليوم الموعود!.. وهكذا الشأن في كل موجود.. إنه تنقل في موجودات سبقته، وتقلّب في أحوال وأطوار حتى صار إلى ما صار إليه.
وفى خلق آدم، وفى قول اللّه سبحانه وتعالى فيه: {خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
ما يكشف عن وجه واضح من وجوه الإعجاز القرآنى، وذلك الإعجاز الذي يطالع الناس في كل آية من آياته، الراصدة لأحداث الحياة، وتطور العقل البشرى، المتحدية للإنسانية في كل جيل من أجيالها، وفى كل وجه من وجوهها.
وانظر في وجه هذه المعجزة، على ضوء ما كشف العلم الحديث، من علم الأحياء، ونظرية النشوء والارتقاء- فإنك ترى عجبا من العجب. في نظم القرآن الكريم، وما يحمل هذا النظم من أسرار وغيوب.
إن آدم- ونعنى به الإنسان- لم يخلق من تراب خلقا مباشرا، بمعنى أن اللّه سبحانه قبض قبضة من تراب، فقال لها كونى آدم- أي إنسانا- فكانت.. ولو شاء اللّه سبحانه هذا لكان كما شاء وأراد.. ولكنه- سبحانه- خلق آدم خلقا متطورا، كما يخلق الشجرة العظيمة- مثلا- من بذرة، وكما يخلق الرجل المكتمل من نطفة! لقد تنقّل آدم- ونقول الإنسان- في أطوار كثيرة لا حصر لها، كما يقول سبحانه: {ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً} [14: نوح] وكما يقول سبحانه في هذه السورة: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً} [17: نوح].
فآدم الذي هو أول إنسان ظهر على هذه الأرض- قد كان ترابا.
ثم تخلّق من هذا التراب أول جرثومة للحياة، هي أدنى مراتب النبات، في عالم الطحالب.. ثم تدرجت الأحياء في هذا العالم النباتي إلى مداها، فكان منها النخل الذي هو قمة هذا العالم النباتي، ثم بدأت جرثومة العالم الحيواني في الإميبيا والمحّار، والإسفنج.. وذلك في أدنى مراتب هذا العالم الذي نما صعدا حتى بلغ مداه في فضائل القردة، التي بدأت تطل من وجهها صورة باهتة للإنسان آدم ثم أخذت هذه الصورة تتضح قليلا قليلا، وتنضج في بوتقة الزمن على مهل.. حتى كان اليوم الذي أطل منه وجه آدم، ممثلا في إنسان الغاب. وكان هذا الآدم هو باكورة ثمار هذه الشجرة التي امتدت جذورها في أعماق الأرض! واقرأ الآية الكريمة مرة أخرى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
وقس أبعاد الزمن في ذبذبات تلك الكلمة المعجزة.. {فيكون}.
فإنه لو انكشف لك من العلم هذا المقياس الذي تقاس به ذبذبات الكلمات- لاهتديت إلى ذلك الزمن الذي تم فيه خلق آدم، وتنقله من طور إلى طور.
من التراب.. إلى النبات.. إلى الحيوان.. إلى الإنسان، ولوضعت يدك على العدد الصحيح من ملايين السنين التي قطعها آدم في رحلته الطويلة عبر الزمن، حتى كان هذا الآدم!! إن آدم ليس غريبا عن هذا العالم الأرضىّ الذي يعيش فيه، والذي استولى عليه بسلطان العقل.. فهو ثمرة من ثمراته.. إنه من تراب هذه الأرض.
واقرأ مع هذا قول اللّه تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ} [4: البلد] قوله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [45: النور] وقف عند قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ... وَمِنْهُمْ... وَمِنْهُمْ} إنهم هم آدم، وأبناء آدم، ينتقلون في أصلاب هذه الكائنات وأرحامها، في ملايين السنين.

.تفسير الآية رقم (60):

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)}.
التفسير:
قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي هو الحقّ من ربّك، ذلك الذي حدّثك به من أمر عيسى- عليه السّلام- وأنه خلق من خلق اللّه، وعبد من عباده، إنه كلمة اللّه ألقاها إلى مريم وروح منه.. فليس هو ابن زنا- كما يتخرص اليهود- وليس هو الإله ولا ابن الإله- كما يزعم النّصارى، وإنما هو من حدّثك اللّه به، في كلماته التي أنزلها عليك.. وهى الحق، نزل من عالم الحق.. فلا مرية فيه، ولا جدال معه.
والامتراء: هو الشك:
وفى هذه الآية تثبيت للنبيّ في أمر المسيح، وفى حقيقته.. حيث لا التفات إلى أية مقولة أخرى تقال فيه، بعد قول الحق الذي قاله اللّه رب العالمين.

.تفسير الآية رقم (61):

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61)}.
التفسير:
لقد عاشت أجيال النصارى نحو سبعة قرون قبل مبعث النبي الكريم، وهم على هذا المعتقد في المسيح- عليه السّلام- وأنه هو اللّه، تجسد في بطن عذراء!
وإنه لمن العسير أن يتخلّصوا من هذا المعتقد الذي دانوا به، وأقاموا له بناء ضخما من المنطق العاطفى، الذي امتزج بتفكيرهم، واختلط بمشاعرهم.
وهيهات- والأمر كذلك- أن يستمعوا إلى قول يخالف ما قالوا، وأن يتصوّروا المسيح على غير الصورة التي انطبعت في كيانهم.
وإذن، فالحديث إليهم بمنطق العقل لا يجدى شيئا، وإقامة البراهين والحجج بين أيديهم لتفنيد ما زعموا، سيلقونها ببراهين وحجج، وإنه لا محصّل لهذا إلّا المماحكة والجدل، واتساع شقة الخلاف والخصام.
وإذ كان الأمر كذلك، فلا جدال مع أتباع المسيح فيما يقولون فيه.
فإن جاءوا إلى النبيّ الكريم يجادلونه ويحاجّونه، فلا يلقاهم النبي بجدال وحجاج، إذ خرج الأمر فيه عن العقل ومنطقه، عند أتباعه، وصار إلى الوجدان والعاطفة.. فليكن مقطع الحق في هذا الموقف، أن يصار فيه إلى الأسلوب العملىّ الملموس الذي يجابه الحواس، ويؤثّر آثاره فيها، بحيث يعلق الأثر بمن وقع عليه، ويجد مذاقه.. الحلو أو المرّ، في نفسه.
وجاء وفد من نصارى نجران، بعد أن أداروا الأمر فيما بينهم، وأعدوا له العدة- جاءوا يحاجّون النبيّ في المسيح بما عندهم من مقولات فيه، وهم يريدون أن يسقطوا ما تلقّى النبيّ من كلمات اللّه في المسيح وفى أمّه، وبذلك تسقط دعوى النبيّ كلها بأنه رسول من عند اللّه، وأن ما بين يديه من قرآن هو من عند اللّه.
وأخذ النبيّ- كما أمره اللّه- الطريق عليهم، فدعاهم إلى أن يدخلوا معه في تجربة عملية، هي أبلغ من كل قول، وأقوى من كل حجة.
{تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ} ولقد خرج النبي الكريم بنفسه، وبابنته فاطمة، وولديها الحسن والحسين، وبنسائه جميعا.. وطلب إلى هذا الوفد أن يلقوه بأنفسهم، وبأبنائهم وبنسائهم، وأن يبتهلوا جميعا- هو ومن معه، وهم ومن معهم- إلى اللّه: أن يجعل لعنته على الكاذب من الفريقين، فيما يقول عن عيسى من مقولات! وتدبّر الوفد الأمر فيما بينهم، وأداروه على جميع وجوهه، ونظروا إلى أنفسهم، وإلى أبنائهم ونسائهم، فرأوا أن الأمر قد صار إلى الجدّ، وأنهم مبتلون في أنفسهم وأهليهم، وهنا أعادوا النظر فيما بين أيديهم من أمر المسيح، فرأوا أن حجتهم واهية، وأن يقينهم الذي استيقنوه منه، مشوب بشك يكاد يغلب هذا اليقين، وبدا لهم أن مصرعهم وشيك هم وأهليهم إن هم باهلوا النبي، وأن دعوتهم على أنفسهم باللعنة إن أخطأتهم، فلن تخطئهم دعوة النبي، التي لا ترد.. فتركوا ما جاءوا له، وعادوا من حيث أتوا، وفى قلب كلّ منهم وسواس، وفى كيانه صراع عاصف، بين الحق الذي رآه، والباطل الذي يعيش فيه.