فصل: تفسير الآيات (57- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (57- 74):

{نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}.
التفسير:
قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْناكُمْ}.
فى هذه الآيات عرض كاشف لقدرة اللّه سبحانه وتعالى، قيّومة سلطانه على كل شيء في هذا الوجود.. وغاية هذا العرض، هو إقامة الأدلة، ونصب البراهين بين يدى هؤلاء المنكرين للبعث، على أن هذا البعث الذي ينكره المنكرون، ويستبعدون وقوعه، هو أمر داخل في دائرة الأحداث التي تقع في محيطهم.. فليست الحياة بعد الموت إلّا إعادة لبناء هذا الكيان الذي تهدم، وإقامته من جديد على الصورة التي كان عليها، وإنه إذا كان مما يمكن أن ينكر أو يستبعد هو الإيجاد ابتداء، فإن إنكار إعادة الموجود لا يكون إلا من مكابرة وعناد، أو جهل وضلال.
وقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} هو إعلان بهذا الخبر، وتقرير له، وإرساله هكذا قضية مسلمة، من غير مقدمات: {نَحْنُ خَلَقْناكُمْ}.
فهذه قضية لا تحتاج إلى برهان، وحكم لا يقبل جدلا.. فليس هناك من مخلوق ينكر هذه الحقيقة أو يجادل فيها.. إنه لم يحلق نفسه.. وإذن فلابد له من خالق خلقه.. وهذا الخالق يناديه، ويلقى إلى سمعه: أنه هو الذي خلقه.. فإن أنكر هذا الخالق، فليبحث عن الخالق الذي خلقه، إذ كان لابد من خالق.. وهذا الخالق لابد أن يكون واحدا يبسط سلطانه على هذا الوجود كله، وعلى الموجودات جميعها.. وذلك هو اللّه رب العالمين.
وقوله تعالى: {فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ}.
هو تعقيب على هذا الخبر، أو الحكم.. {نَحْنُ خَلَقْناكُمْ}.
أفلا تصدقون هذا الخبر؟ أو لا تقبلون هذا الحكم؟ إنه خير لكم أن تصدقوا هذا الخبر، وتقيموا وجودكم على الإيمان به!.
فإذا صدّقتم هذا، أفلا تصدقون أننا قادرون على إعادتكم بعد موتكم؟
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [81: يس].
ولو، هنا، بمعنى هلّا للحثّ، والحضّ على التصديق.
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ}؟
هو حيثيّات تقام لهذا الحكم، وبراهين تقدم لهذا الخبر.. وقدّم الحكم في هذه القضية- قضية إضافة الخلق إلى اللّه سبحانه وتعالى- قدم على حيثياته، وأدلته، لأنه- كما قلنا- أمر ظاهر، مستغن عن كل برهان يقوم بين يديه، ولأن كثيرا من العقول تتقبله هكذا من غير برهان، لأنه أمر بدهىّ، ومن الإزراء بالعقل تقديم البديهيات له، في صورة المعضلات التي تحتاج إلى أدلة وبراهين.
أما هذه البراهين التي تقدم بعد النطق بهذا الحكم، فهى منصوبة لمن أعماهم الضلال، فلم يروا ما بين أيديهم في وجه الصبح المشرق، فكانت هذه البراهين أشبه بأيد تمتد إلى هؤلاء العمى لتقودهم إلى مرفأ الأمن والسلامة.. ومع هذا فإن كثيرا من هؤلاء العمى، يمنعهم العناد والكبر عن أن يمدوا أيديهم إلى تلك الأيدى الممدودة لهم، ويؤثرون أن يتخبطوا في مسيرتهم، وأن يتردّوا في مهاوى الهلاك، على أن يستجيبوا لهاد يهديهم، أو منقذ ينقذهم.
والمنىّ، هو النطفة التي يتخلق منها الكائن الحي، وإن هذه النطفة لا تكون بذرة صالحة ليتخلق منها الجنين، حتى تنضج في صلب الرجل، ثم تتحرك فيه إلى حيث يلقى بها في رحم المرأة.. أما قبل هذا النضج، فلا تكون صالحة لأن يتخلق منها الكائن الحي.. بمعنى أنه لو انتزعت هذه النطفة انتزاعا من صلب الرجل، ثم نقلت إلى رحم المرأة، كانت أشبه بحبة غير ناضجة ألقى بها في الأرض، فلا يكون منها أن تنبت نباتا أو تطلع زهرا أو ثمرا.
وهذا هو السرّ في التعبير القرآنى بلفظ {تُمْنُونَ} الذي يدل على تلك العملية الطبيعية التي يقذف بها المنىّ في رحم المرأة، عند التقاء الرجل والمرأة.. ومثل هذا ما جاء في قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى} [37: القيامة] فهو ليس مجرد منىّ، ولكنه منىّ يمنى، أي يقذف به في حال نضجه، من صلب الرجل، إلى رحم المرأة.
فهذا المنىّ، الذي لا يعدو أن يكون نطفة من ماء- من يخلق منه هذا الكائن الحىّ، أو من يقيم منه هذا الإنسان السميع البصير؟
قوله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي وكما خلقناكم ابتداء، من هذه النطف، وشكلنا صوركم، من هذا المنىّ- نحن الذين قدرنا بينكم الموت، وحددنا لكل منكم الأجل الذي له في هذه الدنيا.. فإلينا وحدنا تقدير أعماركم، وموتكم.. لم يسبقنا إلى ذلك سابق، ولم يشاركنا في هذا شريك.
قوله تعالى: {عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ}.
هو متعلق بمحذوف، يفهم من قوله تعالى: {وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي أننا إذا كنا لم نسبق في هذا الخلق الذي خلقناكم عليه، ولم نسبق في تقدير الموت الذي قدرنا عليكم، وجعلناه حكما واقعا على كل حىّ- إذا كان هذا شأننا فيكم، أفلسنا بقادرين {على أن نبدّل أمثالكم} ونغير صوركم، ونخلقكم على صور غير تلك الصور التي أنتم عليها؟ أو لسنا بقادرين على أن نجعلكم في صورة مخلوقات أخرى من تلك المخلوقات الكثيرة التي ترونها في عالم الجماد، أو النبات أو الحيوان، أو في صور أخرى مما لا تعلمونه من صور مخلوقاتنا في الأرض أو في السماء؟ فإن هذه النطف التي تتخلق منها الكائنات، الحية في عالم الحيوان، هي ماء يشبه بعضه بعضا، ولكن الخالق المبدع يصوّر هذه النطف كيف يشاء.. {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ} [6: آل عمران] قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} أي وإذا كنتم لا تعلمون النشأة التي كان من الممكن أن ننشئكم عليها، فقد علمتم نشأتكم هذه التي أوجدناكم فيها.. أفلا يكون لكم من هذا العلم ما يحدث لكم ذكرا، ويبعث فيكم طمأنينة إلى التسليم بالبعث بعد الموت؟
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} وهذه صورة أخرى، من صور الخلق، وأنه إذا كانت عملية خلق الإنسان مما تحتجب رؤيتها عن كثير من العقول المريضة، فهذه عملية إنبات النبات، وإخراج الحبّ من الأرض، على هذه الصور المختلفة من النبات والشجر.. إنها عملية مشهورة، ظاهرة، وتجربة تجرى من أولها إلى آخرها بين أيدى الناس، حيث يلقون الحب في الأرض، ثم يجدونه بعد ذلك نباتا زاهيا، وشجرا باسقا.
فمن يخلق هذا الزرع؟ ومن يخرج من هذا الحب هذا الجنات، وتلك الحدائق ذات البهجة؟ أأنتم أيها الناس؟ إنكم لستم إلا أدوات تلقى الحب في الأرض، كما تقذفون المنىّ في الأرحام، فيصور الخالق جل وعلا من هذا وذاك ما يصوّر من كائنات! قوله تعالى: {لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}.
أي لو نشاء، لما أطلعنا هذا الزرع، ولو نشاء لأطلعناه، ثم لجعلناه عقيما لا يطلع زهرا، ولا يثمر ثمرا، فظلتم تفكهون، أي ترقبون الفاكهة، وتبحثون عنها، ثم لا تجدون شيئا منها، بل تعودون وملء أيديكم خيبة وحسرة، تتنادون بأنكم مغرمون بما أضعتم من جهد في الحرث والزرع، ثم لم يكن لكم من هذا العناء إلا الحرمان من الثمر الذي كنتم ترجونه.
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} وهذا الماء الذي تشربون.. ألا تفكرون من أين جاء؟ ألا تنظرون فيه وفى هذا الماء الملح الذي يملأ وجه الأرض؟ من فصل بينهما؟ ومن أخرج لكم من هذا الماء الملح، هذا الماء العذب الفرات؟ أأنتم الذين صنع هذا الصنيع، وأنشأ من هذا الماء الملح سحابا يحمل الماء العذب، وينشئ منه الأنهار، ويفجر العيون؟
أأنتم أنزلتموه من المزن، أي السحب، أم نحن المنزلون؟! أجيبوا!!
ولا جواب إلا التسليم والإقرار، بأن اللّه سبحانه هو الذي صنع لكم هذا الذي صنع! ولو شاء اللّه سبحانه وتعالى، لجعل هذا الماء العذب على حاله التي كان عليها من قبل أن يخرج من رحم البحار، كما خرجتم أنتم من أرحام أمهاتكم، وكما خرج النبات من رحم الأرض.
{فلولا تشكرون} أي فهلا شكرتم اللّه على هذه النعم الجليلة التي هي ملاك حياتكم وحياة زروعكم، وحيوانكم؟
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ}.
وهذه النار التي توقدونها، وتستدفئون بها، وتنضجون عليها طعامكم.
من أنشأ لكم الشجر الذي توقدونه؟ ألا ترون هذا الحطب الذي يعلق به الشرر، فيحول إلى لهب وجمر؟ ألا ترون هذه القدرة التي تخرج النار من الشجر الأخضر الذي يجرى الماء في عروقه؟ {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [80: يس] قوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ}.
أي هذه النار التي توقدون من الشجر الأخضر، هي تذكرة وموعظة، لمن كان له عقل يتذكر، ويتعظ، فيرى قدرة اللّه.. وهى متاع وزاد {للمقوين} أي لكم أيها الناس، الذين لا يملكون شيئا.. فكل ما في أيديكم، هو فضل من فضل اللّه عليكم، ورحمة من رحمته بكم.
والمقوي، هو الخاوي، الفارغ، الذي لا شيء معه.. ومنه أقوت الدار أي خلت من أهلها، وأقوت الأرض، أي أجدبت.
قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.
هو تعقيب على هذه النعم العظيمة التي أنعم اللّه بها على عباده، والتي من شكرها، التسبيح بحمد اللّه، وتنزيهه، وتمجيده، وذكره ذكرا دائما بالحمد والثناء.
هذا، ويلاحظ أن الآيات التي عرضت هذه النعم، عرضتها كل نعمة في آية مستقلة، ثم عقّبت على كل آية بالسؤال المطلوب من كلّ من وقف بين يدى نعمة منها، أن يسأله نفسه، وأن يتولى الإجابة عليه.
{أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ}، {أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ}، {أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}، {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}.
إنها نعم ظاهرة، من شأنها إذا ذكرت أن تدير الأنظار إليها، وأن توجه العقول نحوها، من غير داع يدعو الأنظار إلى النظر، أو يلفت العقول إلى التفكير والتدبير.
هذا إذا صادفت تلك النعم أبصارا تبصر، وعقولا تعقل.. ولكن ما أكثر الأبصار التي لا تبصر، والعقول التي لا تعقل.. فكان من رحمة اللّه، أن أقام بين يدى كل نعمة داعيا يدعو إليها، ويهتف بالأبصار الزائغة أن تنظر فيها، وبالعقول الغافلة أن تنتبه لها، فكانت هذه الأسئلة الواردة عليها.. فمن كانت له أذنان فليسمع، ومن كانت له عينان فليبصر.. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [37: ق].

.تفسير الآيات (75- 96):

{فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.
الأقسام المنفية في القرآن.. ودلالاتها:
أكثر المفسرين على أن لا في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ} زائدة، وأن التقدير: أقسم بمواقع النجوم.. ولم يذكروا لهذه الزيادة وجها مقبولا، حتى لكأنها زيادة مقحمة لضرورة كضرورة الشعر.
ويرى الزمخشري- مثلا- أن زيادة لا تقتضى أن يكون النظم هكذا: فلأنا أقسم بمواقع النجوم.
وعلى هذا يكون أصل النظم جملة من مبتدأ وخبر، وأن لام الابتداء دخلت على المبتد، وهو وإن كان نادرا، إلا أن ذلك ورد، في لسان العرب، كقول الشاعر:
خالى لأنت ومن جرير خاله ** ينل العلاء ويكرم الأخوالا

وهذا تكلف بعيد، وركوب ضرورات كثيرة لا يلجأ إليها إلا عند العجز وضيق مجال الكلام.. وهذا ما ينتزه عنه كلام اللّه.
ثم إن الموجود هنا (لا) لا، لام الابتداء، التي تحولت بهذه الصناعة المتكلفة إلى لأنا ثم حذفت أنا، وبقيت منها الهمزة التي لصقت بلام الابتداء، فأعطتها هذه الصورة الزائفة!! وكلام اللّه تعالى منزه عن النقص، متعال عن الوقوع تحت حكم الضرورة، وإن كل حرف منه ليرجح الوجود كله كمالا، وجلالا.
فما هي لا هذه؟ وما مفهومها؟.
هى- واللّه أعلم- لا النافية.. وهى تجيء غالبا في معرض القسم تنزيها للمقسم به، وإجلالا لقدره، أن يقسم به على أمور واضحة بينة، لا تحتاج إلى سند يسندها من قسم أو نحوه.
فالقسم- عادة- إنما يرد لإثبات أمر من الأمور التي يستبعد المخاطب وقوعها أو لتقرير حقيقة من الحقائق، وتوكيدها، وإزالة الشبهة عنها عند المقسم له، حتى يقبلها ويطمئن إليها.
وإنه- والأمر كذلك- من الاستخفاف بقدر المقسم به، بل والامتهان له، أن يستدعى عند كل أمر وإن صغر، وأن يبرر به كل شأن وإن حقر أو ظهر، فذلك من شأنه أن يرخص هذا المقسم به، وأن يذهب بجلاله، وينزل من قدره، فلا يكون له وقعه على النفوس، إذا هو استدعى للقسم به في حال تحتاج إلى تبرير وتوكيد! وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} (224: البقرة) فتعريض اسم اللّه سبحانه وتعالى للقسم به، حتى في مقام البرّ بهذا القسم، ورعاية حقه، وحتى في مقام الصلح بين الناس- هو مما ينبغى للمؤمن أن يتحاشاه، وألا يجيء إليه إلا في قصد، عند ما تدعو الضرورة إليه! فقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} هو تعريض وتلويح بالقسم بمواقع النجوم، دون القسم بها، لأنها ذات شأن عظيم، فلا يقسم بها إلا لتقرير الحقائق المشكوك فيها، والمرتاب في أمرها.. أما جليّات الأمور وبدهياتها فلا يقسم لها، لأن القسم لها، هو تشكيك فيها، ووضعها موضع ما يكون من شأنه أن يثير المماراة، والخلاف.
وقد كثر في القرآن الكريم هذا الضرب من التلويح بالقسم عن طريق النّفى، وذلك حين يكون المقسم هو اللّه سبحانه وتعالى، والمقسم به، ذات من ذوات المخلوقات العظيمة المكرمة عند اللّه، وحين يكون المقسم عليه أمرا جليّا، بينا لا يحتاج إلى بيان.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} [16- 19 الانشقاق] وقوله سبحانه: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ} [1- 4: القيامة] وقوله جلّ شأنه: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [15- 20 التكوير] فهذه الأقسام واقعة على أمور عظيمة، محققة الوقوع على الصورة المعروضة فيها، وعلى الصفة الموصوفة بها، بحيث لا يصح أن تقع موقع الإنكار، من ذى مسكة من عقل أو فهم.. فإذا كان هناك من يشك أو يرتاب، فإنه لا معتبر لشكّه أو ارتيابه، ولا جدوى من وراء القسم له بأى مقسم به، إذ كان لا يجدى معه- في هذا الصبح المشرق بين يديه- أن تضاء له المصابيح، وتقام له الحجج والبراهين. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} [40: النور].
فالأقسام هنا- كما ترى- واقعة على أحوال الإنسان، وتنقله من حال إلى حال، ومن وجود إلى وجود، أو على قدرة اللّه سبحانه وتعالى، على بعث الموتى من القبور، وعلى إعادة هذه العظام البالية، وإلباسها لباس الحياة من جديد، أو على قول اللّه سبحانه، وما تحمل كلماته من أخبار صادقة، محققة الوقوع.
وهذه كلها أمور لا تحتاج إلى قسم، وفى القسم لها- كما قلنا- تشكيك فيها، وفتح لباب الجدل والمماراة في شأنها.
أما هذا التلويح بتلك الأقسام، فيما يبدو من نفى القسم- فهو وضع الأمر المقسم عليه في ضمانة حقيقة من الحقائق الكبرى، حيث يعتدل ميزانه مع ميزانها في مقام الإعظام والإجلال، بمعنى أنه لو احتاج هذا الأمر إلى قسم لما أقسم له إلا بهذه الحقائق العظيمة الجليلة، المناسبة لعظمته وجلاله.. فإن العظائم كفؤها العظماء، كما يقولون.
ومواقع النجوم، التي يلوّح بالقسم بها، قد تكون أفلاكها التي تدور فيها، وقد تكون منازلها التي تأخذها من النظام العام للفلك.. وعلى أي فإن النجوم حيث تكون هي كائنات عظيمة، وأن أي نجم منها- على ما يبدو من صغره- هو أكبر من شمسنا التي هي أقرب النجوم إلينا، والتي يبلغ حجمها مليونا وربع مليون من حجم الأرض! ولم يقع التلويح بالقسم على النجوم، بل على مواقعها، لأن مواقعها تشير إلى أكثر من أمر.. تشير إلى هذا البعد الشاسع الذي بيننا وبينها، والذي تبلغ المسافة فيه بيننا وبين بعضها ملايين السنين الضوئية!! وتشير هذه المواقع إلى المسافات التي بين هذه النجوم التي يبدو لنا بعضها مجاورا البعض.. فهذه المسافات التي تبدو متقاربة، هي في الواقع ملايين من السنين الضوئية كذلك.
كما تشير هذه المواقع إلى أن النجوم ليست على علو واحد كما يبدو، وإنما هي في أفلاك بعضها فوق بعض.
وعلى هذا، فإن النظر إلى مواقع النجوم يكشف عن النجوم نفسها، كما يكشف عن هذه العوالم الرحيبة التي تسبح فيها، تلك العوالم التي إن أمكن ضبطها بالأرقام العددية، وبالصور الحسابية، فإن الخيال لا يتسع لتصور أفق واحد من آفاق تلك العوالم التي تسبح فيها النجوم.
قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}.
هذا هو الأمر الذي لا يحتاج إلى قسم، وتلك هي الحقيقة التي لا تحتاج إلى تبرير وتوكيد.
فهذا الذي يتلوه النبي على الناس، هو قرآن كريم، في كتاب مكنون أي محفوظ، عند اللّه سبحانه، وإنه- لمقامه العظيم- لا يدنو منه، ولا يطوف بحماه، إلا المطهرون من عباد اللّه، من ملائكة، أو بشر. وفى وصف القرآن بالكرم، إشارة إلى ما ينال الذين يمدون أيديهم إليه من عطايا ومنن به.
ومعنى المس للقرآن الكريم هنا- واللّه أعلم- هو التلبّس به، والمباشرة له، والإفادة منه.. فمن مسّ هذا القرآن الكريم وطاف بحماه ملتمسا الهدى منه- وجب أن يكون على صفة تناسب هذا القرآن، من الطهارة، والكرم، والنقاء. فمن كان طاهرا، لم يجد معاناة في الامتزاج والتجاوب معه، سواء كان طاهرا بالقوة والفعل كالملائكة، أم كان طاهرا بالقوة، كمن كان في الناس سليم الفطرة، معافى من الآفات التي تعرض لهذه الفطرة، فتفسدها، وتحول بينها وبين تقبّل الخير، والتجاوب معه، فمن كان من الناس ذا فطرة سليمة، قرب من هذا القرآن، واتصل به، وأصاب من خيره، فطهر من دنس الشرك، والكفر.. وكان من المؤمنين الطاهرين.
فالمسّ هنا، ليس لمس المصحف باليد، كما يذهب إلى ذلك كثير من المفسرين، الذين اشتد خلافهم حول الحال التي يكون عليها من يمس المصحف، وهل ينبغى أن يكون على طهارة مطلقة من الحدثين الأصغر والأكبر، وهل ذلك على سبيل الاستحباب والندب، أم أنه على سبيلى الوجوب والحتم.!!
وإنما المسّ الذي تشير إليه الآية الكريمة- واللّه أعلم- مسّ كلمات اللّه ومخالطتها للقلوب والعقول، ذلك المس الذي يتأثر به الماسّ، فيجد من أثر هذا المسّ في كيانه، ما يجد- على بعد ما بين المشبه والمشبه به- من مسّ طيبا أو نحوه، مما تطيب به النفوس، وتستروح الأرواح.. وكما أن كثيرا من النفوس تختنق بالريح الطيب، أو تنفر منه، فكذلك كثير من النفوس ما تتأذى بكلمات اللّه، وتنفر من سماعها، فلا تسمح لها بأن تنفذ إلى مشاعرها ووجداناتها، بلى تجعل أصابعها في آذانها، كما يجعل من يتأذى بالطيب أصبعيه على أنفه!!.
ويرى ابن قيّم الجوزيّة أن المراد بالكتاب المكنون، هو الصحف التي بأيدى الملائكة.. ويعلل لذلك بوجوه:
منها: أنه وصفه- أي اللّه- بأنه مكنون، والمكنون: المستور عن العيون، وهذا إنما في الصحف التي بأيدى الملائكة.
ومنها: أنه قال: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وهم الملائكة، ولو أراد المؤمنين المتوضئين لقالى: لا يمسه إلا المتطهرون... فالملائكة مطهّرون، والمؤمنون المتوضئون متطهرون.
ومنها: أن هذا إخبار، ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه، بالجزم.
ومنها: أن هذا رد على من قال إن الشيطان جاء بهذا القرآن، فأخبر تعالى أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه، كما قال في آية الشعراء: {وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [210- 212] وإنما تناله الأرواح المطهرة، وهم الملائكة.
ومنها: أن هذا نظير قوله تعالى: {فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ} [12- 16: عبس].
ومنها: أن الآية مكية، في سورة مكية، تتضمن تقرير التوحيد، والنبوة والمعاد، وإثبات الصانع، والردّ على الكفار، وهذا المعنى أليق بالمقصود، من فرع عملىّ، وهو حكم مس المحدث المصحف.
هذا، ويتسع معنى المطهّرين التطهر عند لمس المصحف، وعند التلاوة منه، فهذا- وإن لم يمكن على سبيل الإلزام- أدب مع كتاب اللّه، وتوفير لكل ما يتصل به.
قوله تعالى: {أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}.
الإشارة هنا، إلى القرآن الكريم، وما تحدث به آياته عن قدرة اللّه سبحانه، وعن سلطانه القائم على هذا الوجود، وعن البعث والحساب والجزاء.
والاستفهام تقريرى، يراد به إقرار الكافرين بما عندهم من هذا الحديث الذي سمعوه، مما يتلى عليهم من آيات اللّه، وهل هم مصغون إليه، واقفون منه موقف الجد، وطلب العلم والفهم، أم أنهم مستمعون استماع المجامل الذي لا يعنيه شيء من مضامين هذا الحديث ومفاهيمه؟.
والمدهن، هو المداهن، الذي يصانع في الأمور، ويلقاها بغير رأيه فيها، طلبا للسلامة، وتجنبا لما قد تجره إليه المكاشفة من متاعب ومكاره.
وهذا ضرب من النفاق، ووجه من وجوهه.
وقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} هو بيان لما ينتهى إليه هذا الموقف المداهن، وهو التكذيب بما يلقى إليه من هذا الحديث، الذي لا يعطيه أذنا، ولا يفتح له قلبا ولا عقلا.
والتكذيب هو حظّ هؤلاء المداهنين المراوغين، وهو رزقهم الذي يرزقونه من هذا الخير المبسوط لهم.. فإذا عاد الناس بمغانم كثيرة وبرزق موفور من هذا الحديث حين يستمعون إليه، فإن هؤلاء المداهنين المراوغين، يعودون برزق أيضا، ولكنه رزق مشئوم، ملطّخ بالتكذيب بآيات اللّه، وبالكفر بها، وبما تحمل من حق وخير.
وفى تسمية هذا التكذيب الذي حمله المداهنون من آيات اللّه- في تسميته رزقا، إشارة إلى هذا الخسران الذي عادوا به من هذا الموقف مع آيات اللّه، وأنهم بدلا من أن يحملوا رزقا، حملوا وزرا.. لقد أرادوا أن يخدعوا فخدعوا.. {يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ} [9: البقرة].
فهذا هو رزقهم الذي رزقوه من استماعهم لآيات اللّه، وهو- كما قلنا- وزر، لارزق.
قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ}.
الحلقوم، مجرى الطعام من الفم إلى المعدة.
والضمير في بلغت، يعود إلى الروح، وهى وإن لم يجر لها ذكر، فإنها مذكورة في هذا المفهوم العام الذي تشير إليه الآيات، وهو البعث، الذي يدور حوله هذا الحديث، وما يقع للناس فيه من حساب وجزاء، ونعيم وعذاب.
فلولا، حرف تحضيض، بمعنى هلّا.
والآية وما بعدها، استدعاء لهؤلاء المنكرين للبعث، المداهنين في هذا الحديث الذي استمعوا إليه ما استمعوا من أمره- استدعاء لهم أن يمتحنوا قواهم كلها، وأن يجيئوا بكل ما يملكون من حول وحيلة، وهم بين عزيز كريم لديهم ممن قد حضره الموت، وحشرجت روحه حتى بلغت الحلقوم، وهم ينظرون إليه في حزن قاتل، وحسرة محرقة- فهل يستطيعون رد هذه الروح إلى مكانها من الجسد؟ فليجربوا هذا وليحاولوه، إن كان الأمر يتسع لتجربة، أو يقبل حيلة! إن اللّه سبحانه هو أقرب إلى هذا المحتضر منهم، ولكنهم لجهلهم وكفرهم، لا يدركون هذه الحقيقة، ولا يتصورونها.
قوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
{فلولا} هنا توكيد لما قبلها في قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}.
وقوله تعالى: {تَرْجِعُونَها} هو جواب {فلولا} الأولى.. أي فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم ترجعونها؟
و{ترجعونها} أي تردونها إلى مكانها الذي خرجت منه.
يقال رجع الشيء، يرجعه، وأرجع الشيء يرجعه، أي أعاده.
فالفعل يتعدّى بنفسه، ويتعدى بالهمزة.
ومن تعدى الفعل بنفسه قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ} [83: التوبة].. ويأتى لازما مثل قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ} [8: المنافقون].
وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} جملة اعتراضية، تكشف عن حال هؤلاء الذين شهدوا محضر هذا المحتضر، وهو يجود بنفسه، والمدين، هو العاجز المقهور، ومنه المدين: المثقل بالدين.
وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} هو تكذيب لتكذيبهم بآيات اللّه، وبالحديث الذي حدثتهم به.. فقد كان رزقهم من هذا الحديث هو التكذيب به.. فهل هم بعد هذا الامتحان متمسكون بهذا التكذيب، مصدقون به؟
قوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ}.
وهذا المحتضر، قد نفذ فيه قضاء اللّه، وأصبح في عالم الموتى.
ولكنه لا يترك كهذا ليد الفناء- كما يظنون-، بل إنه سينقل إلى العالم الآخر، وتلبسه الحياة هناك مرة أخرى، ويأخذ منزله في هذا العالم، حسب عمله في الدنيا.
فإن كان من المقربين إلى اللّه، ومن أولياء اللّه في الدنيا، فاللّه سبحانه هو وليّه في الآخرة، يلقاه لقاء الأولياء الأحباب بالروح والريحان وجنة النعيم.
والروح: ما تستروحه النفوس، وتطيب به، وتسعد فيه.. وقرئ:
{فروح} أي حياة جديدة تلبسه.
قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ} وأصحاب اليمين، هم ممن أرادهم اللّه سبحانه ليكونوا من أصحاب الجنة، فيسّر لهم العمل بعمل أهل الجنة.
وقوله تعالى: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ}، أي أنهم في سلام وأنهم يتهادون التحية والسلام فيما بينهم، ويبعثون بتحاياهم إلى إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ممن لا يزالون في هذه الدنيا.
فالضمير في {لك} يراد به كل مؤمن باللّه، طامع في أن يكون من أصحاب اليمين!.. وهى تحية من أهل اليمين في العالم الآخر، ينقلها اللّه سبحانه وتعالى، إلى المؤمنين في الدنيا، حتى يلقوا إخوانهم في العالم الآخر، ويردوا هذه التحية الطيبة بأحسن منها أو مثلها.
قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي وأما إن كان هذا الميت من هؤلاء المدهنين المكذبين، فمنزله الحميم، الذي تختنق النفوس بسمومه، وداره الجحيم التي يشوى على جمرها.
وهكذا الناس بعد الموت، حيث ينقلون إلى الدار الآخرة، فيكونون أزواجا ثلاثة.
السابقون، وهم المقربون.
وأصحاب اليمين.
وأصحاب الشمال.
ولكلّ منزله الذي ينزله في هذه الدار، وجزاؤه الذي يجزاه فيها.
قوله تعالى:
{إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.
بهذا الحكم تختم السورة الكريمة، وبهذا التنزيه للّه سبحانه، والحمد للّه، يعقّب على هذا الحكم، ويلفت إلى ما ينبغى أن يستقبل به من النبي، ومن المؤمنين.
وحق اليقين، أي الحق المطلق، الذي لا يعلق به شيء من دخان الباطل وسحبه.
فهو الحق الذي ينبغى أن ينزل من القلوب والعقول منزلة اليقين، فتطمئن به القلوب، وتسكن إليه العقول.
واليقين المشار إليه، هو اليقين الوارد من تلك الآيات، التي تحدث عن قدرة اللّه، وعن البعث، والحساب، والجزاء.. فهذا الحديث هو حديث حق مستيقن، لا شك فيه.
وفى إضافة الحق إلى اليقين، إشارة إلى أن هذا الحق، هو الحق الذي يقيم اليقين في النفوس، لأنه حق خالص من كل شائبة.. أما غيره فقد يكون حقّا، ولكنه قد يتلبس به ما يحجبه عن الأبصار، فيثير حوله سحبا من ضباب الشك والارتياب.. أما هذا الحق، فهو حق صراح، ونور مبين..
لا يحجبه شيء.
وقوله تعالى {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} هو كما قلنا- تعقيب على هذه الحكم، واستقبال لهذا الحق المشرق، الذي يملأ القلوب طمأنينة وأمنا- استقبال له، بتنزيه اللّه سبحانه والتسبيح بحمده، شكرا له على هذا الهدى الذي يهدى به من يشاء من عباده.
والمراد بالتسبيح باسم اللّه، تسبيح لذات اللّه، وحمد لذات اللّه، ولهذا إذا سبّح المؤمن ربه قال: سبحان ربى العظيم، سبحان ربى الأعلى.. ولم يقل سبحان اسم ربى العظيم، أو سبحان اسم ربى الأعلى.
يقول ابن تيمية في معنى: {فسبح باسم ربك العظيم} أي سبح ناطقا باسم ربك، متكلما به.
ويعلق ابن القيم على هذا الذي يقول به شيخه ابن تيمية: هذه فائدة تساوى {رحلة}!!.
وهذا هو قدر العلم، وتقدير العلماء له.. فرضى اللّه عن الأستاذ وعن التلميذ.
إنه من أجل هذه الكلمة التي تفيد علما، وتشع هدى، ليس بالقليل عليها أن تشد لها الرحال، وتقطع في سبيل الوصول إليها الفيافي والقفار! ولكم احتمل سلفنا الصالح، رضوان اللّه عليهم، من أعباء الجهاد في طلب العلم، فكان الواحد منهم يقطع ما بين الشرق والغرب- على قلة الزاد، وخشونة المركب، حيوانا، أو قدما- في سبيل أن يلقى رجلا من أهل العلم بلغه عنه أنه يحفظ حديثا لرسول اللّه، أو قراءة لآية من آيات اللّه.
إنهم قدروا العلم قدره، وبذلوا له المهر الذي يستحقه.
وإنه على قدر المشقة كان الثواب والجزاء من اللّه سبحانه، فوقع هذا العلم من قلوبهم موقع الغيث من الأرض الطيبة، فأزهر، وأثمر، وأخرج من كل زوج بهيج.