فصل: تفسير الآيات (73- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (73- 74):

{وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}.
التفسير:
فى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ} رد على أولئك الذين اعتقدوا أنهم على الحق، وهم الضالون المضلون. ولم يقع في تصورهم أن يكون للّه سبحانه وتعالى فضل على غيرهم، أو أن يؤتى- سبحانه- أحدا غيرهم كتابا، كما أتاهم كتابا، فمكروا به وحرّفوه.
لهذا أمر اللّه نبيّه- عليه السّلام- أن يبطل هذا التصور الفاسد الذي تصوروه، وأن يقول لهم كلمة الحق التي ألقاها اللّه إليه: {إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ} أي إن الهدى هو ملك للّه، لا ملك لأحد معه فيه، وأنه نعمة من نعمه، ورزق من أرزاقه، يضعه حيث يشاء، ويهدى به من يشاء، وأنه ليس محبوسا على اليهود وحدهم، مقصورا عليهم، لا ينال منه أحد غيرهم.
وفى قوله تعالى: {أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} ما يكشف عن ظن اليهود بأنفسهم، وأنهم فوق العالمين، وأن اللّه هو ربّهم وحدهم، وأن رحمته ونعمته لا تنزلان إلا عليهم، وهم لهذا ينكرون كل نعمة تصيب غيرهم، وكل فضل يناله سواهم. كما يقول اللّه سبحانه وتعالى عنهم {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [109 البقرة] ويقول سبحانه فيهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [54: النساء] المصدر المؤول من أن وما بعدها في قوله تعالى: {أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ} هو معمول للام التعليل المتعلق بفعل محذوف قبله، تقديره:
فلا تقتلوا أنفسكم حسدا لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ركبتم الضلال وعميتم عن الحق، وفقدتم عقولكم فأهلكتم أنفسكم؟
وقوله تعالى: {أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} معطوف على قوله تعالى {أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ}.
والمعنى: ألأن أوتى المسلمون كتابا من عند اللّه فاهتدوا، كما أوتيتم أنتم كتابا من عند اللّه فلم تنتفعوا به، وقامت الحجة به عليكم، ولأن أصبح للمسلمين الحجة عليكم بهذا الكتاب الذي في أيديهم، والذي يحدّث عنه كتابكم الذي في أيديكم- ألهذا وذاك جحدتم الحق، وتنكرتم له، وحرّفتم كتابكم ليلتقى ما فيه مع أهوائكم، وليطفئ داء الحسد المتقد في صدوركم؟
ولقد مكر اليهود بأنفسهم، وأفسدوا الكتاب الذي في أيديهم، والذي يحدّث عن محمد، ويبشر به وبكتابه الذي أنزله اللّه عليه، حتى لا يكون للمسلمين حجة عليهم يلزمونهم بها، وما تنطق به التوراة من تصديق بمحمد وبكتاب اللّه الذي معه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى عنهم: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [75- 76 البقرة] ذلك أن اليهود كانوا يعلمون ما في التوراة عن محمد وعن رسالته، وأنّهم قد استقبلوا محمدا من أول الأمر بالتكذيب، وبادءوه بالعداوة والبغضاء، فلم يكن لهم- والشأن كذلك- إلّا يمضوا في الشوط إلى نهايته، بل وأن يمعنوا في التكذيب، وأن يتطاولوا في العداوة والبغضاء.. وكان من أسلحتهم في تلك الحرب أن يطمسوا ما في التوراة من الحق الذي تتحدث به عن محمد ورسالته.
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} هو ردّ آخر على اليهود الذين أرادوا أن يحتجزوا فضل اللّه، وأن يجعلوه خالصا لهم.. شحّا وحسدا أن يصيب أحد خيرا غيرهم.. {وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} يسع فضله النّاس جميعا، دون أن ينقص من فضل اللّه شيء.. ولكن اليهود يرون اللّه وكأنه أحد أغنيائهم، وأنه بقدر ما ينفق، يكون النقص فيما بين يديه من مال، ولو استمر في الإنفاق لنفد ما بين يديه.. وفيهم يقول اللّه تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً} [100: الإسراء].
وللإنسان أن يذهب مذهب التقتير، لأنه إنسان، ملكه محدود وإن بلغ ما بلغ من كثرة واتساع، وتعالى اللّه علوا كبيرا أن ينظر إليه وإلى فضله هذا النظر الذي يجعله والناس على سواء وقد كشف اللّه سبحانه وتعالى عن هذا الخلق اللئيم المندسّ في طبيعة اليهود، وهو الحسد القاتل، الذي يأكل صدورهم، إذا نال أحد من الناس خيرا.. يقول اللّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} [51- 52- 53: النساء].. إنها كزازة نفس، وسوء خلق، وفساد ضمير، وأنانية فاتلة، وشحّ لئيم.
وقوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} رد ثالث على اليهود بأن فضل يقع حيث يشاء، وينزل حيث أراد اللّه أن ينزل: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} وفضل اللّه عظيم، ورحمته واسعة {فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [78: النساء].

.تفسير الآية رقم (75):

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}.
التفسير:
الأحكام التي جاء بها القرآن في شأن اليهود، والتي كشف بها ما في نفوسهم من ضلال، وما في قلوبهم من حسد وبغضاء للناس عامة، ولأهل الإيمان خاصة- هذه الأحكام وإن شملت غالبية اليهود، ودمغت أحبارهم وعلماءهم وأصحاب الكلمة فيهم، إلا أنها ليست على إطلاقها، فليس هناك شر محض، ولا خير خالص، فمهما استشرى الشر فإن فيه لمعا من الخير لا تكاد ترى، ومهما صفا الخير فإن فيه غشاوات من الشر لا تكاد تبين! واليهود وإن كانوا الشرّ كله، من الرأس إلى القدم- ففيهم الضالون، وفيهم المؤمنون.. كما يقول اللّه تعالى: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} [110: آل عمران].
وفى هذا المدخل الضيق إلى الإحسان والإيمان ما يسمح لأىّ من هذه الجماعة الضالة أن ينجو بنفسه، وأن يتحول إلى تلك القلة القليلة من المحسنين المؤمنين فيهم.
وفى قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} استثناء من الحكم العام الذي حكم به اللّه على اليهود.. وهذا باب رحمة لمن أراد اللّه له التوفيق والهداية منهم.
ففى تلك الجماعة الضالة المعربدة أفراد قليلون يخافون اللّه ويرعون الأمانة التي في أيديهم، سواء أكانت من اللّه أم من الناس، فلم يخونوا أمانة اللّه، ولم يكتموا ما في أيديهم من التوراة عن النبيّ محمد ورسالته، ولم يخونوا الناس في الأمانات التي اؤتمنوا عليها، وإن كانت القناطير المقنطرة من الذهب والفضة.
وهؤلاء النفر القليل هم الذين ذكرهم اللّه سبحانه وتعالى في قوله سبحانه {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [113- 114: آل عمران] أما أكثر هذه الجماعة فهى على الضلال والعمى، وفى العداوة والبغضاء والحسد للناس جميعا، ولأهل الإيمان بخاصة.. فهذه الكثرة لا ترعى أمانة اللّه، ولا تحفظ أمانة الناس.. أما حسابهم مع اللّه فقائم على أنهم أبناؤه وأحباؤه، لهم أن يفعلوا معه ما يشاءون ويشاء لهم الهوى، دون أن ينالهم بشيء من عقابه وعذابه.. وأما حسابهم مع الناس، فالناس في نظرهم وتقديرهم في درجة دون درجتهم، وبينهم وبين الناس حجاز في الفضائل وفى التكوين الجسدى والخلقي والروحي، كهذا الحجاز الذي بين الناس وفصائل القردة والحيوانات القريبة الشبه بالإنسان.
فالناس- في تقدير اليهود- قطيع من الحيوان، وإن لهم- بهذا التقدير- أن يستغلّوا هذا القطيع الآدمي، كما يستغلّون الحيوان، وألا يرتبطوا معه بروابط العقود والوثائق، وإن ارتبطوا فلهم أن يتحلّلوا منها ما وسعهم الحول والحيلة {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي لا حرج علينا، ولا حائل من خلق أو دين يحول بيننا وبين أن نستغلّ الأميين، بشتى الصور ومختلف الأساليب! والأميون هم غير اليهود، وهم العرب خاصة، إذ كانوا ولا كتاب لهم.. وقد منّ اللّه على هؤلاء الأميين- أي العرب- إذ بعث فيهم رسولا منهم، فقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [164: آل عمران].
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} تكذيب لا دعائهم بأن ليس عليهم حرج، فيما نقضوا من عهود، أو ضيّعوا من حقوق فيما بينهم وبين غيرهم، فقد أقاموا هذه الدعوى على أساس من دينهم وشريعتهم، إذ كانوا أهل دين وأصحاب شريعة، وليس في دينهم الذي أنزله اللّه على أنبيائهم ولا في الشريعة التي حملها هذا الدين- إباحة للبغى والعدوان، ولا دعوة للسلب والنهب والسرقة، ولا تفرقة بين الناس والناس في الحقوق والواجبات! وإنما بدل اليهود في التوراة وغيّروا، ودسوا فيها من الأحكام والشرائع ما يغذّى غرورهم الزائف، ويرضى شعورهم المريض، نحو الإنسانية كلها، وأهل الأديان خاصة.

.تفسير الآية رقم (76):

{بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)}.
التفسير:
قوله تعالى: {بَلى} هو لفظ يجاب به على سؤال في معرض النفي، فيجعل المنفىّ واقعا مثبتا.
وعلى هذا فإنّ قبل لفظة بلى سؤال منفى، وهذه اللفظة وما بعدها جواب عن هذا السؤال والسؤال محذوف.. وتقديره: ألم يكن هؤلاء الذين إذا ائتمنوا على قنطار أدوه.. ألم يكونوا من جماعة اليهود، تلك الجماعة الضالة التي حكم اللّه عليها باللعنة والطرد..؟
والجواب: بلى.. إنهم منهم، ولكن لكلّ حسابه وجزاؤه.. فمن أوفى بعهده فيهم، واتقى اللّه في الأمانة التي أؤتمن عليها، فلن يأخذه اللّه بجناية قومه، بل هو ممن أحبهم اللّه ورضى عنهم {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} فكيف لا يتقبل عملهم؟ وكيف يجعلهم والمجرمين على سواء؟ {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [35- 36: القلم].

.تفسير الآية رقم (77):

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)}.
التفسير:
بعد أن عزل اللّه سبحانه المتقين من أهل الكتاب، وضمّهم إلى أهل رحمته ومرضاته- كشف سبحانه وتعالى عن المصير السيّء الذي ينتظر الجماعة الباغية الضالة من اليهود، وهم الكثرة الغالبة فيهم.. فوصفهم اللّه سبحانه وصفا كاشفا، ودمغهم بجرائمهم الشنيعة، التي يحملونها على ظهورهم إلى يوم الحساب.. فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا}.
فهم قد نقضوا عهد اللّه، وما عاهدهم عليه في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ} وقد كذب أهل الكتاب هؤلاء على اللّه، وبدلوا آياته، وأنطقوا كتابه بما أملته أهواؤهم، وحلفوا على هذا البهتان، وأكّدوا هذا الزور بأيمان بالغة.
وهم بهذا الإثم الذي ارتكبوه قد باعوا آخرتهم، لقاء قليل من حطام الدنيا.
فإذا كانت الآخرة جيء بهم إليها وليس لهم نصيب من نعيمها، وإنما لهم ما ينتظرهم من نكال وعذاب.. {أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} والخلاق الحظ والنصيب {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} فهم مطرودون من رحمة اللّه، مبعدون من مواطن رضاه ومغفرته.. لا يكلمهم اللّه، حين يكلم عباده الذين رضى عنهم، لأنهم ليسوا أهلا لأن يسمعوا كلام رب العالمين، إذ أصمّوا آذانهم عن سماع كلماته التي حملها إليهم رسله الكرام.
ولا ينظر إليهم، نظر رحمة ومودة.. لأنهم أغمضوا أعينهم عن النظر في آيات اللّه وتدبر ما فيها من هدى ونور.. ولا يزكيهم- أي ولا يطهرهم من الآثام التي حملوها معهم، ولا ينالهم بمغفرته ورحمته، كما يتجاوز لأهل مودته عن سيئاتهم. {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} فتلك هي عقبى الذين كذبوا على اللّه، وبدّلوا نعمة اللّه كفرا وأحلّوا قومهم دار البوار.

.تفسير الآية رقم (78):

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}.
التفسير:
هذه الآية تكشف عن فريق آخر من أهل الكتاب، من جماعة اليهود، بعد أن كشفت الآيات السابقة عن جماعة من أهل العلم فيهم، يتّجرون بما عندهم من علم، ويبيعونه لمن يشترى.. أما هذا الفريق فهم. {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ} أي يتلون آيات الكتاب تلاوة تلوكها ألسنتهم، وتلتوى بها شفاههم، فلا تخرج الكلمات إلا متآكلة متكسرة، يختلط بعضها ببعض، لا يدرى أحد ما مدلولها، ولا يهتدى أحد إلى وجه الحقّ فيها.. فهى أقرب إلى الرمز منها إلى الكلام.. {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنه الكذب.. أي أن كذبهم هذا على علم، وهو شرّ ما عرف من الكذب، وأبغض ما ظهر للناس من وجوهه.

.تفسير الآيات (79- 80):

{ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}.
التفسير:
فى هاتين الآيتين يكشف اللّه سبحانه عن تلك المفارقات البعيدة بين دعوات الأنبياء، وبين ما يدخله أتباعهم على تلك الدعوات من افتراء وبهتان.
فالنبىّ- وإن كان بشرا من البشر، وإنسانا من الناس- هو ممن اصطفاه اللّه، وتخيره من بين الناس، ليقوم بالسفارة بين اللّه وبين وعباده.
واللّه سبحانه وتعالى، إنما يتخير سفراءه من صفوة خلقه، ثم يكملهم ويحمّلهم بما يفيض عليهم من نفحات رحمته، وغيوث بركاته، فإذا هم بعد هذا الأدب الربانىّ أكمل الناس كمالا، وأصدقهم قولا، وأبعدهم عن مواطن الشبه والريب،.. بل هم الكمال كله، والصدق جميعه، والفضيلة في تمامها وكمالها.
فإذا جاء أتباع رسول من رسل اللّه، وبأيديهم كتاب يضاف إليه هذا الرسول، وعلى ألسنتهم كلمات يحسبونها عليه، ثم كان في هذا الكتاب ما ينقص من جلاله وكماله، وكان في تلك الكلمات ما يجعل للّه ما لا ينبغى لذلك الجلال والكمال- فآفة ذلك هم الأتباع، الذين غيروا في الكتاب وبدّلوا، وتقوّلوا على الرسول، ونسبوا إليه ما نسبوا، زورا وبهتانا، ليجدوا لما تقوّلوا وزيّفوا طريقا إلى الآذان، حين ينسبونه إلى الرسول، ويضيفونه إلى ما تلقوا من كلماته التي هي كلمات اللّه.
وهذا الموقف يظهر على تمامه، فيما كان بين المسيح وأتباعه.. فقد جاء المسيح- عليه السّلام- إلى الناس مرسلا من عند اللّه، برسالة قائمة على سنن الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه، كما ينقل ذلك عنه أتباعه في كلمات صريحة واضحة إذ يقول: ما جئت لأنقض الناموس والأنبياء بل لأكّمل.
ومع هذا الذي يقوله السيد المسيح، وينقله عنه أتباعه، ويؤمنون به- فإنهم يلتقون بالسيد المسيح في آخر المطاف، فإذا هو اللّه رب العالمين، تجسد في كائن بشرى، وعاش ما عاش بين الناس، ثم قدّم نفسه قربانا ليفتدى البشرية ويخلّصها من الخطيئة التي هي ميراث الناس جميعا من أبيهم آدم.. فكان أن عمل المسيح على إثارة ثائرة اليهود عليه، ليصلبوه، وليؤدّى بهذا الصلب الفداء المطلوب لخلاص البشر.. وقد تم له ما أراد، وقدّم إلى الصلب، وصلب!! هكذا يقول أتباع المسيح عن المسيح وفيه! وهى مقولات تنقضها كلمات المسيح نفسه في الإنجيل أو الأناجيل التي في يد أتباعه، كما ينقضها تاريخ الرسل والأنبياء السابقين له، ونبى الإسلام الذي جاء من بعده، وينقضها قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله، المنطق السليم، والعقل المطلق من قيد الهوى، المتحرر من عبودية التقليد والمحاكاة.
وفى قوله تعالى: {ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}.
وفى ذكر بشر بدل نبىّ ما يشير إلى أن النبيّ بشر من البشر، وأنه إذا جاز على البشر الكذب والافتراء على اللّه وعلى الناس، فإن النبي- وهو بشر- لا يكون منه أبدا الكذب والافتراء على اللّه أو على الناس.. وإلا كان ذلك اتهاما للّه، ورميا لعلمه بالقصور، ولقدرته بالعجز، ولحكمته بالنقص، حيث اصطفى واختار من يحمل رسالته، ويودّى أمانته، ثم لم يكن من هذا المصطفى المختار إلا أن زيف الرسالة وخان الأمانة.. وبدلا من أن يكون داعيا للّه، هاديا إليه، تحول إلى داعية لنفسه، قائدا الناس إلى الهلاك والضلال.. وتعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.. وإنه لن يرضى أسوأ الحكام وأجهل الأمراء أن ينسب إليه مثل هذا العجز وسوء التقدير في اختيار أعوانه وسفرائه. فكيف بأحكم الحاكمين.. اللّه رب العالمين؟ وفى الآية حذف دل عليه سياق الكلام.. وتقديره: {ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} ليدعو الناس إلى اللّه، وإلى الإقرار بوحدانيته.. {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} وقوله تعالى: {وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} أي ولكنه يدعوكم إلى أن تكونوا ربانيين أي مؤمنين باللّه، دعاة إلى اللّه، إذ كنتم علماء، وللناس على العلماء حقّ هو أن يعلموهم ما علموا.
والالتفات هنا من الغيبة إلى الحضور، هو إمساك بمخانق علماء أهل الكتاب، وهم متلبسون بهذا الضلال الذي هم فيه، يطعمون منه ويطعمون أتباعهم من هذا الزاد الفاسد، الذي يهلك من يتناوله ويتزوّد منه.
وقوله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً} معطوف على قوله تعالى: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ}.
ويكون معنى القول هنا الأمر، أو يكون معنى الأمر في قوله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ} القول.
أي ولا يقول لكم أن اتخذوا الملائكة والنّبيّين أربابا.
وفى قوله تعالى: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ما يسأل عنه.. وهو: هل كانوا مسلمين قبل أن يجيئهم الرسول ويدعوهم إلى ما دعاهم إليه؟ وإذا كان كذلك فما داعية إرساله إليهم؟
والجواب على هذا، هو أن أتباع المسيح الذين التقوا به، وآمنوا بدعوته، كانوا على هدى وبصيرة من أمر تلك الرسالة الكريمة التي حملها عيسى عليه السلام، وهم بهذا كانوا مؤمنين، مسلمين، بل كان منهم الحواريون الذين أوحى اللّه إليهم! فهذه هي دعوة عيسى، وتلك هي رسالته، وهؤلاء هم أتباعه الذين آمنوا به وحقّ لهم الانتساب إليه، وإلى المسلمين! ومع الأيام، وانتقال الشريعة اليهودية المسيحية إلى مواطن غير موطنها دخل عليها كثير من الحذف والإضافة، والتأويل، والتخريج، حتى أصبح لها وجهان.. وجه بدأت به، ووجه آخر انتهت إليه، وبين الوجهين من الخلاف ما بين الأبيض والأسود من خلاف. وتضادّ.
بدأت المسيحية بالمسيح رسولا وانتهت به إلها يدعو إلى عبادته وعبادة أمّه.. كما يقول اللّه تعالى: {وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [116: المائدة].
بدأت المسيحية إسلاما يدين بها المسلمون، وانتهت إلحادا يدين بها من يعبدون المسيح، ويؤلهون أم المسيح! وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
أي أيدعوكم المسيح أيها الذين آمنوا به إلها، إلى الكفر باللّه، بعد أن دعا آباءكم الأولين إلى الإيمان به فكانوا من عباده المسلمين؟
أيدعوكم إلى هذا الذي تدّعون؟ ذلك محال! إن دعوة المسيح هي تلك الدعوة التي دعا إليها آباءكم الأولين، فآمنوا وأسلموا عليها، فكيف تكون تلك الدعوة نفسها هي التي بين أيديكم، والتي تدعوكم إلى الإيمان به إلها من دون اللّه؟ ما تأويل هذا وما منطقه؟
إنه لا تأويل لهذا إلا أن تحريفا دخل على دعوة المسيح فغيّر وجهها، وقلب حقيقتها، وإنه لا منطق لهذا إلا أن يكون هناك مسيحيان: مسيح عرفه المسيحيون الأولون.. المؤمنون المسلمون، ومسيح عرفتموه أنتم وعبدتموه من دون اللّه! وأما وليس إلا مسيح واحد، فالكلمة الآن لكم، لتقيموا لهذا التناقض وجها، ولتجعلوا له منطقا، إن كان للجمع بين المتناقضين وجه أو منطق!!.