فصل: تفسير الآيات (14- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (14- 22):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} هو استفهام إنكارى، يفضح أولئك المنافقين من الذين دخلوا في الإسلام.
فهؤلاء المنافقون قد تولوا، أي صاروا أولياء ومناصرين {قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وهم اليهود.. فاليهود، هم المغضوب عليهم من اللّه، فحيث وقع غضب اللّه في القرآن الكريم، كان اليهود هم الواقع عليهم هذا الغضب.. نعوذ اللّه من غضب اللّه.
وقوله تعالى: {ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} أي أن هؤلاء المنافقين ليسوا منكم أيها المؤمنون، ولا من اليهود أهل الكتاب.. أما أنهم ليسوا من المؤمنين فقد بعد بهم نفاقهم عن دائرة المؤمنين، وأما أنهم ليسوا من اليهود، فلأنهم من مشركى العرب الذين دخلوا في الإسلام بألسنتهم، كعبد اللّه بن أبىّ وغيره، ممن انحاز إلى جانب اليهود في كيدهم لرسول اللّه وللمؤمنين.
وقوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي أن هؤلاء المنافقين لا دين لهم، ولا مروءة عندهم حتى إنهم ليحلفون على الكذب، وهم يعلمون أنه الكذب.. وهذا الحلف هو الحلف الفاجر، واليمين الغموس.
وقوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي أن اللّه سبحانه قد أعد لهؤلاء المنافقين عذابا شديدا، جزاء بما اقترفت أيديهم وألسنتهم من سيئات ومنكرات وفى قوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً} إشارة إلى سوء هذا العذاب الذي ينتظر هؤلاء المنافقين، وأنهم قد أعد لهم العذاب، قبل أن يلتقوا به، فهو عذاب خاص بهم، يتناسب مع مكانتهم في أهل الضلال.
قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} الجنة: الوقاية، ومنه المجن، وهو الترس، والدرع، مما تتقى به الضربات في الحرب.. فهؤلاء المنافقون، قد اتخذوا من الأيمان الفاجرة الكاذبة جنة، يتقون بها النظرات التي ينظر بها المؤمنون إليهم، فيرون خزى النفاق ظاهرا على وجوههم، فلا يجد المنافقون سبيلا لستر نفاقهم إلا الحلف الكاذب، الذي يبرّرون بهم مواقفهم المنحرفة الضالة.. وإنهم تحت ستار هذه الأيمان الكاذبة استطاعوا أن يداروا نفاقهم، وأن يمضوا في طريقهم الضال المنحرف عن سبيل اللّه: {فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} هو جزاء من يضل عن سبيل اللّه، ويتبع غير سبيل المؤمنين.
قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
أي أنهم لن يجدوا مفرّا من العذاب المهين المعدّ لهم، وأن ما جمعوا من أموال، وما استكثروا من أولاد، لن يغنى عنهم أي غناء في هذا المقام، ولن يدفع عنهم عذاب اللّه الواقع بهم، والذي هم خالدون فيه أبدا.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ}.
أي أنهم لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا يوم يبعثهم اللّه جميعا، ويعرضون بين يديه للحساب، فيحلفون له كذبا، كما كانوا يحلفون في الدنيا للمؤمنين كذبا.. فلقد صحبهم نفاقهم الذي عاشوا به في الدنيا، إلى الآخرة، وكأنه طبيعة ملازمة لهم، متمكنة فيهم. إنهم ليكذبون حتى على أنفسهم ويخادعونها بهذا الضلال الذي يزينونه لها.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} [23- 24: الأنعام].
وقوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ} أي أنه بخيل إليهم من كثرة إلفهم لهذا الكذب، أنه حق، وأن ما يقولونه من مفتريات هو من الحق الذي ينفعهم في هذا اليوم، كما كانوا يجدون لكذبهم في الدنيا مدخلا إلى الناس، بالأيمان الفاجرة التي يدارونه بها.. ولكن كذبهم هذا الذي يحلفون له بين يدى اللّه، سيرونه بأعينهم بلاء ووبالا عليهم، حيث ينكشف زبفه. ويتعرّى وجهه الكئيب، فيرون على صفحته المخازي والضلالات التي تدفع بهم إلى عذاب الجحيم.
قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ}.
الاستحواذ على الشيء.
الغلبة عليه، والتملك له، والاستبداد به وما زالت الآيات تتحدث عن هؤلاء المنافقين، وتفضح أساليب نفاقهم، والدوافع التي تدفع بهم إليه.. وأنهم قد أصبحوا ليد الشيطان الذي استحوذ عليهم، وملك أمرهم، وضمهم إلى حوزته، فأنساهم ذكر اللّه، وصرفهم عن النظر إلى ما وراء هذه الحياة الدنيا من حساب وجزاء. فهم أولياء الشيطان، وحزبه، وحيث كان الشيطان فهم معه.. وليس للشيطان إلا الخزي والخسران.. فهم آخذون نصيبهم كاملا من هذا الخزي، وذلك الخسران.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ}.
المحادّة للّه ورسوله: التحدي لأمر اللّه ورسوله، والخروج عن طاعتهما.
والمنافقون، يقودهم الشيطان إلى محادة اللّه ورسوله، والخروج عن طاعتهما، وإنه لن يكون لمن يحاد اللّه ورسوله إلا الذلة والهوان، وإلّا أن يدخل في زمرة الذين أذلهم اللّه، وأنزلهم منازل الهون.
قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
كتب اللّه: أي قضى، وحكم.. وفى التعبير عن القضاء والحكم، بالكتابة، إشارة إلى أن ذلك قضاء نافذ، وحكم قاطع.. أو أن ما قضى اللّه سبحانه وتعالى به، مكتوب في أم الكتاب.. وهو اللوح المحفوظ.
أي ومما قضى اللّه به أن الغلبة له سبحانه، ولرسله على أهل الباطل، والضلال، وأن الخزي والهوان على الذين يحادّون اللّه ورسوله.. وهذا وعد من اللّه سبحانه وتعالى بنصرة الحق، والانتصار لأهله الذين يدافعون عنه.. فإن العاقبة دائما للحق، والمدافعين عن الحق، وإن ضاقت بالحق وأهله المسالك، وتراكمت الغيوم، فذلك الضيق إلى سعة، وهذه الغيوم إلى صحو وإشراق.
قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
بهذه الآية الكريمة تختم سورة المجادلة فتضع الميزان الذي يوزن به الناس، في مقام الإيمان والكفر.. فحيث كان الإنسان بولائه، وبمودته، كان الوجه الذي يعرف به، ويحاسب بين الناس عليه.. فمن والى قوما، ووادّهم، عدّ منهم، وحسب فيهم.
وإذن فلا يكون مؤمنا باللّه واليوم الآخر من كان على مودة لمن حاد اللّه ورسوله.. إذ لا يتفق أن يجمع المرء في قلبه بين ولائه للّه، وولائه لأعداء اللّه.
وإذن فلا تجد قوما يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادون من حاد اللّه ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.. ففى سبيل الولاء للّه ولرسوله، ينقطع كل ولاء مع من حاد اللّه ورسوله، ولو كان ذلك بين الأب وابنه، أو الابن وأبيه، والأخ وأخيه، والعشير وعشيره.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ} أي أولئك الذين يخلصون ولاءهم للّه من المؤمنين باللّه ورسوله، ويقطعون في سبيل ذلك كل ولاء لهم مع أعداء اللّه من أهل وعشير- {أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ} أي ثبته اللّه ومكنه في قلوبهم، فلا تعصف به عواصف الفتن، ولا تغلبهم عليه الأهواء.
{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أي أعانهم اللّه سبحانه وتعالى بروح منه، تقيهم عوادى الفتن، وتعصمهم من نزعات الشيطان.. {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} فهذا هو جزاؤهم عند اللّه.. فقد {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} وتقبّل منهم أعمالهم، فكان جزاؤهم عنده هذا الرضوان، وذلك النعيم المقيم، وقد أرضاهم هذا النعيم، فحمدوا ربهم وشكروا له.
وفى قوله تعالى: {وَرَضُوا عَنْهُ} ما يكشف عن بعض لطف اللّه بعباده وإكرامه لأهل ودّه، وإغداق الإحسان عليهم، حتى تطيب نفوسهم وتمتلئ غبطة ورضى.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في خطابه لنبيه الكريم:
{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى}.
وماذا يملك العبد حتى يكون لرضاه عن ربه أو سخطه، وزن أو قدر؟.
إنه لا شيء.
ولكن هكذا فضل اللّه على عباده، وإحسانه على أوليائه.. إنهم أرضوا اللّه بإيمانهم، وإحسانهم، فكان جزاؤهم عند اللّه أن يعطيهم حتى يرضوا عنه.
إنه رضى متبادل بين اللّه وأوليائه. حيث يطلب العبد رضى سيده ومولاه، فإن رضى عنه سيده، فعل به ما يرضيه عنه.. وكما يكون الرضا المتبادل بين اللّه وأوليائه، يكون الحب المتبادل بين اللّه وأحبابه.. {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [54: المائدة].
{أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ}.
أولئك الذين جعلوا ولاءهم للّه ولرسول اللّه، هم حزب اللّه وأنصاره، وجنده، {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ومن كان في حزب اللّه، ومع اللّه، فهو من الفائزين المفلحين.

.سورة الحشر:

نزولها: مدنية باتفاق.
عدد آياتها: أربع وعشرون آية.
عدد كلماتها: أربعمائة وخمس وأربعون كلمة.
عدد حروفها: ألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
كان مما تحدثت عنه سورة المجادلة فضح وجوه المنافقين، الذين يتناجون مع اليهود الذين يكيدون للإسلام، ويدبرون معهم ما يكيدون به للمؤمنين.. وقد توعد اللّه هؤلاء المنافقين بالخزي في الدنيا، والمذلة والخسران والعذاب الأليم في الآخرة.
وهنا في سورة الحشر، يعرض على المنافقين بعض ما لقى أحلافهم وأولياؤهم من اليهود، من خزى، وذلة، ونكال، في هذه الدنيا.. وإن هذا الخزي والذلة والنكال، ليتربص بهؤلاء المنافقين، إن هم ظلوا على نفاقهم، وسيلحقهم بإخوانهم الذين رأوا بأعينهم ما حلّ بهم.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 5):

{سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)}.
التفسير:
قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
تبدأ السورة بهذا النشيد القدسي الذي ينتظم الوجود كله، في سمواته وأرضه، مسبّحا بحمد اللّه، في ولاء لعزته، وانقياد لسلطانه.
وهذا النشيد، هو تقدمة حمد وشكر للّه على ما أخذ به أهل الضلال والفساد من عقاب، فأنزلهم منازل الهون، وضرب على أيديهم الآثمة، التي طالما تطاولت على أولياء اللّه، وتصافحت على الكيد لهم، وإلحاق الضرر بهم.
فهذه نعمة عظمى تستحق من المؤمنين التسبيح بحمد اللّه، والشكر له.
وليس المؤمنون وحدهم هم الذين يحمدون اللّه ويسبحونه، ويذكرون آلاءه على ما أنزل بالمنافقين والكافرين من خزى، وهوان، وعلى ما كتب للمؤمنين من إعزاز وتأييد ونصر- بل إن كل ما في السموات والأرض يسبح بحمد اللّه، أن أحق الحق وأزهق الباطل، وأزاح هذه العلة، التي كانت قذّى في عين الوجود، وسحابة سوداء في سمائه الصافية.
هذا، وقد ورد التسبيح للّه في القرآن الكريم بالصيغ الثلاث، الدالة على أزمنة الحدث، ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا.
فجاء بصيغة الماضي في قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحشر).
وجاء بصيغة المضارع في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (1: الجمعة) وجاء بصيغة الأمر في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1: الأعلى).
وفى هذا ما يشير إلى أن جميع آنات الزمن ولحظاته مملوءة بذكر اللّه، والتسبيح بحمده.. من عوالم الوجود في السموات والأرض جميعا.
فمن لم يسبح اختيارا، سبّح اضطرارا.. {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ}.
أي أن اللّه سبحانه بعزته وحكمته، هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، ومكّن للمسلمين منهم، ومن ديارهم.
والذين كفروا من أهل الكتاب هنا، هم جماعة من جماعات اليهود، التي كانت تسكن المدينة، وهم بنو النضير: الذين كان النبي- صلى اللّه عليه وسلم- حين قدم المدينة، عقد معهم عقدا، على أن يقفوا موقفا حياديّا منه ومن أصحابه، فلا يقاتلوه، ولا يقاتلوا معه.. وقد كانوا من هذا العقد على دخل وخيانة.
وكانوا يتربصون بالنبي والمسلمين الدوائر.. حتى إذا كانت وقعة أحد، ورأوا فيها هزيمة المسلمين، تحركت نوازع الغدر في صدورهم، فسعى كبيرهم كعب بن الأشرف إلى عقد حلف مع قريش، ضد النبي وأصحابه، وجاء إلى مكة ومعه أشراف قومه، يعرض على قريش أن يدخل معها هو وقومه بنو النضير في حلف لحرب النبي، وأنه إذا جاءت قريش إلى المدينة، وخرج النبي وأصحابه لحربهم، كان بنو النضير جيشا محاربا مع قريش، يضرب في ظهور المسلمين، على حين تضرب قريش في وجوههم.
وقد علم النبي بهذا الذي أحدثه بنو النضير، من نقض العهد، فأمر النبي بقتل كعب بن الأشرف بأمر من اللّه سبحانه، جاءه به جبريل، عملا بقوله تعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ} (33: المائدة).
وكما كان جزاء كعب بن الأشرف- رأس الفتنة- القتل، كان جزاء قومه النفي من الأرض.
والذي تولّى قتل كعب بن الأشرف، بأمر من رسول اللّه، هو محمد بن مسلمة الأنصاري.
وقوله تعالى: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} إشارة إلى أن هذا أول إخراج لليهود من ديارهم، وأنه سيكون بعده إخراج لجماعات أخرى منهم.. وقد حدث هذا فعلا، فأخرج بنو قريظة بعد غزوة الأحزاب، وقتل كل من بلغ الحلم منهم، وسبى النساء، والأطفال والشيوخ، ثم أخرج اليهود جميعا من الجزيرة العربية في عهد عمر بن الخطاب، حيث أجلى البقية الباقية منهم، والتي كانت تعيش في خيبر.
وسمّى هذا الإجلاء حشرا، لأنه أشبه بالحشر الموعود يوم القيامة، حيث وقع عن قهر، ولم يقع عن رغبة منهم.. ثم إنه كان إجلاء عامّا، لم يدع أحدا منهم، كما لم يدع حشر القيامة أحدا ممن في القبور.. ثم إنه من جهة ثالثة كان جماعيّا فوريّا، وليس جماعة جماعة، وزمنا بعد زمن.
فالحشر: يشير إلى القوة الضاغطة الحاشرة، التي تسوق المحشورين سوقا عنيفا، وتجمع أشتاتهم في دائرة واحدة، وتقيمهم على وجه واحد.. فهو والحشد بمعنى، ومنه قوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ} [53: الشعراء] وقوله تعالى: {فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}.
أي فطلع عليهم قدر اللّه فيهم من حيث لم يقدّروا، فقد كانوا يحسبون أنهم من حصونهم في أمن من كل يد تنالهم، وخاصة يد النبي والمسلمين الذين كانوا يرون أنهم لن ينالوا منهم منالا أبدا، وهم في داخل هذه الحصون التي لا تنال.. فكان من تقدير الحكيم العليم أن يبطل حساب هؤلاء الأشقياء، ويفسد تدبيرهم، ويختل تقديرهم، فيكون النبي وأصحابه هم الذين تتداعى بين أيديهم هذه الحصون، ويخرج منها القوم كما تخرج الفئران من أجحارها، وقد أغرقها السيل الجارف!! وقوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} إشارة إلى ما كان من تدبير اللّه سبحانه وتعالى، لإبطال عمل هذه الحصون، فقد قذف اللّه سبحانه الرعب والفزع الشديد في قلوب المتحصنين بها، فبدت لهم هذه الحصون الحصينة وكأنها بيوت من زجاج أو ورق، فلم يكن منهم حين رأوا المؤمنين يحاصرونهم إلّا أن يستسلموا من غير قتال، أو اعتداد بتلك الحصون.
وقوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} أي أن هذه الحصون التي كانت بمكان الإعزاز والإعجاب من نفوسهم، قد هانت عليهم، وخفت موازينها في أعينهم، بعد أن رأوا- بما امتلأت به قلوبهم من رعب- أنها لا تردّ عنهم عدوا، ولا تدفع مغيرا، فأخذوا يخربونها بأيديهم، ويفتحون معاقلها للمسلمين، كما تركوا للمسلمين أن يدخلوها عليهم، وأن يفتحوا مغالقها، ويطلعوا على مسالكها.. وهذا هو معنى خرابها، الذي يبدو في تعطيلها، وتعطيل وظيفتها التي أعدت لها.. ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها} [114: البقرة] وقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} هو إلفات إلى هذا الحدث، وما فيه من دلالات على قدرة اللّه سبحانه، وعلى تدبيره المحكم الذي لا يغالب، وهذا ما لا يراه إلا أصحاب الأبصار النافذة إلى حقائق الأمور، وإلى مواقع العبرة والعظة منها.
وهذا يعنى أن اليهود في الجزيرة العربية كانوا يومئذ بين أمرين من أمر اللّه: إما الجلاء، وإما القتل والسبي.. وأن أحسنهم حظّا من كتب عليهم الجلاء.. وفى هذا إرهاص بالبقية الباقية من اليهود في المدينة، وأنهم إذا لم يجلوا عنها، عذّبوا في الدنيا بالقتل وبالسبي.. أما في الآخرة فلهم جميعا عذاب النار.
وهذا العذاب الأخروى ليهود الجزيرة العربية، إنما هو لكفرهم برسول اللّه، بعد علمهم بدعوته، والوقوف على معطيات رسالته، وشهودهم شواهد الإعجاز منها.. ولهذا، كان أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- الذين بلغتهم الرسالة النبوية- كانوا يخاطبون في القرآن الكريم على أنهم كافرون، كما يقول سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [1: 3 البينة] ومن هذا قوله تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [70: آل عمران] قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}.
هو بيان للسبب الذي من أجله أنزل اللّه سبحانه ما أنزل من بلاء في الدنيا، وما أعد من عذاب في الآخرة- لهؤلاء القوم من بنى النضير، ومن على شاكلتهم.. إنهم شاقّوا اللّه ورسوله، أي كانوا على شقاق وخلاف للّه ولرسوله.. وإنه ليس لمن يشاقّ اللّه، ويحيد عن صراطه المستقيم إلا أن يلقى العذاب الشديد من اللّه.
{فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} لمن يشاقه، ويشاق رسوله.
هذا، وقد جاء التعليل للعذاب جامعا بين مشاقة اللّه ومشاقة رسوله في قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
ثم جاء الشرط الموجب للعذاب، بمشاقة اللّه وحده، دون رسوله في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}.
وذلك للإشارة إلى أن مشاقة الرسول، هي مشاقة للّه، سواء بسواء، إذ كان الرسول هو رسول اللّه، وكلماته التي يتلوها على الناس، هي كلمات اللّه.. فذكر الرسول مع اللّه، أولا، ثم الاكتفاء بذكر اللّه وحده ثانيا- هو تأكيد لهذا المعنى، وإقامته على التسوية بين مخالفة اللّه ومخالفة رسوله.. وكما يكون هذا في المعصية والخلاف، يكون في الطاعة والولاء.. كما يقول سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ} [80: النساء].
قوله تعالى: {ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ}.
اللينة: النخلة، وهى من اللّين، الذي يدل على الرخاء والنعمة، ولين العيش، إذ كانت النخلة نعمة طيبة، ورزقا كريما لأهل البادية، فأطلقوا عليها هذا الاسم، احتفاء بها، وإشارة بفضلها، كما سموا الخيل خيرا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى على لسان سليمان عليه السلام. {فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [32: ص].. يريد الخيل.
والخطاب هنا للمسلمين الذين حاصروا بنى النضير، الذين تحصنوا بحصونهم وأبوا أن يستسلموا، فاتجه المسلمون إلى قطع نخيلهم التي كانت تحيط بديارهم.
فلما استسلموا للمسلمين بعد هذا، وقع في نفوس بعض المسلمين ندم على أنهم قطعوا هذا النخل الذي صار إلى أيديهم، فجاء قوله تعالى هنا، مسرّيا عن المسلمين ومعزيا لهم في هذا الخير الذي فاتهم.. فما قطع من النخيل، أو بقي منه، فهو بما قضى به اللّه سبحانه وتعالى وإذن فلا يأس المسلمون على مافاتهم.. إذ كان ذلك عن إرادة اللّه سبحانه، وعن إذن منه.
ثم إنه لكى يرضى المسلمون بهذا القضاء، وليروا وجه الحكمة منه، فليعلموا أن ذلك إنما كان ليخزى اللّه به هؤلاء الفاسقين، وليذلّهم، وليريهم أن ما غرسوه بأيديهم، وبذلوا له جهدهم وأموالهم، قد استبدّت به يد المسلمين، وحصدته يد المنايا كما يحصد الموت أبناءهم بين أيديهم، دون أن يملكوا لذلك دفعا.
وفى هذا ما فيه من إذلال لهم، ومضاعفة للحسرة في قلوبهم.. فإذا كان المسلمون قد خسروا شيئا من هذا الرزق الطيب، فهو إنما هو الثمن الذي أدّوه لخزى أعدائهم وكتبهم، تماما كما يؤدّون مثل هذا الثمن بمن يقتل منهم في ميدان القتال، لقاء النصر على العدو!.