فصل: تفسير الآيات (11- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (11- 17):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة كانت عرضا لإيمان المؤمنين وولاء بعضهم لبعض، وإيثار بعضهم بعضا، في مشهد ومغيب، وفى حاضر، وماض، وآت.. إنهم جميعا أمة واحدة، وكيان واحد، يجمعه الإيمان، ويوحد بينه التوحيد- فجاءت هذه الآية وما بعدها لتكشف عن وجه أهل الضلال والنفاق، وعن الروابط الزائقة الواهية التي تربط بعضهم ببعض.
ففى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ}.
فضح لهذا العهد الكاذب الذي قطعه المنافقون، للذين كفروا من أهل الكتاب، وهم اليهود الذين ما زالوا في المدينة كبنى قريظة، وبنى قينقاع، وبنى النضير الذي أجلاهم النبي عن المدينة، كما أشارت إلى ذلك الآيات في أول السورة.
والمنافقون، هم جماعة عبد اللّه بن أبى بن سلول، ومن انضوى إليه من أهل الضلال.
وهؤلاء المنافقون، كانوا قد بعثوا إلى اليهود بعد جلاء بنى النضير ألّا يستسلموا أبدا للنبى، وألا يخرجوا من ديارهم، وأنهم،- أي المنافقين- يد واحدة معهم على النبي والمسلمين، وأنه إذا اضطر هؤلاء اليهود يوما إلى الخروج، خرج هؤلاء المنافقون معهم، وأبوا أن يسمعوا لقومهم إذا دعوهم إلى البقاء معهم.. وهذا يعنى أنهم معهم أينما كانوا، فإذا كان خروج من المدينة خرجوا معهم منها، وإن كان قتال قاتلوا معهم.
وقدّم الإخراج على القتال، مع أن القتال هو الذي ينبغى أن يكون أولا، حتى إذا غلبوا على أمرهم أخرجوا- وذلك ليكشف عما في عهد هؤلاء المنافقين من كذب ونفاق.. فهم لو كانوا على ولاء حقا مع إخوانهم هؤلاء، لحرضوهم على القتال، ولقالوا لهم: ها نحن أولاء معكم بأسلحتنا إذا وقع بينكم وبين محمدا قتال.
ولكنهم جاءوا إليهم أولا بالأمر الذي لا يكلفهم شيئا أكثر من مجرد الكلام، وما أكثر الكلام، وما أرخصه في سوق المنافقين!! فبذلوا لهم القول في سخاء، وبلا حساب، قائلين: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً}.
ثم رأوا أن هذا القول الذي ألقوا به إلى أسماع إخوانهم الذين كفروا، هو مجرد كلمة عزاء، إذ ماذا يغنى القوم إن أخرجوا من ديارهم وأموالهم أن يخرج معهم المنافقون أو لا يخرجوا؟ وهنا يتنبه المنافقون حين نظروا في وجه هذا الكلام الذي ألقوا به إلى القوم، وحين رأوا أن القوم لم يمسكوا بشيء منه، وأنهم قد أخرجوا من ديارهم، أو هم على طريق الإخراج من الديار.
حين رأى المنافقون ذلك ألقوا إليهم بهذه القولة الزائفة المنافقة أيضا: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ}.
ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان، وبعد أن فضح كذبهم ونفاقهم بقولهم أول الأمر: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ}.
ولهذا جاء قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} تعقيبا على هذه الوعود الكاذبة التي يبذلها المنافقون لإخوانهم من بنى النضير.
وهو معطوف على محذوف تقديره إن هذا القول يشهد بكذب المنافقين وينادى عليهم بأنهم كاذبون، واللّه يصدق هذه الشهادة، ويشهد بأنهم لكاذبون.
وفى قوله تعالى: {يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ} إشارة إلى هذه الأخوة التي يجمعهم عليها هذا النسب، من الكفر، والضلال.
وهذه جملة حالية، تمثل الحال التي عليها هؤلاء المنافقون، وقد دعى النبي إلى النظر إليهم وهم على تلك الحال التي يقولون فيها لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ما يقولون.. أي انظر إليهم وهم في تلك الحال التي يقولون فيها هذا القول الكاذب المنافق.
وقوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}.
هو بيان لما أشار إليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}.
ومن كذبهم أنهم لن يكون منهم وفاء بهذا العهد الذي عاهدوا عليه القوم.
فلو أخرج حلفاؤهم ما خرجوا معهم، ولو قوتلوا ما قاتلوا إلى جانبهم ولو قاتلوا إلى جانبهم لما صبروا على القتال، ولما ثبتوا في ميدان المعركة، لأنهم إنما يقاتلون بأجسامهم، لا بقلوبهم.. فإذا اشتد البأس ولوا الأدبار، وكانت الدائرة عليهم وعلى حلفائهم.
وقد جاء هذا الخبر مؤكدا بالقسم من اللّه سبحانه وتعالى، وما يخبر به اللّه سبحانه، لا يحتاج في الدلالة على صدقه، إلى توكيد، ولكن هذا الخبر يواجه المنافقين الذين لا يقدرون اللّه حق قدره، فكان توكيده إشارة إلى ما في قلوبهم من مرض، وأن أخبار اللّه سبحانه تقع من نفوسهم موقع الشك والارتياب.
وهذه الآيات من أنباء الغيب، التي كشفت الأيام فيما بعد عن تأويلها على الوجه الذي أخبرت به، والتي سجل بها التاريخ معجزة ناطقة بأن هذا القرآن من لدن عليم خبير.
فلقد نزلت هذه الآيات عقب إجلاء بنى النضير، ولم يكن هناك ما يشير إلى أن شيئا ما سيحدث بين النبي وبين من بقي من اليهود في المدينة، وأنه إن حدث شيء فلم يكن أحد يتصور الصورة التي سيكون عليها.
وقد قلنا إن في قوله تعالى في أول السورة: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} إرهاصا بأن هذا الحشر الذي بدئ به بإخراج بنى النضير، سيتبعه مثله من الحشر، لغيرهم من إخوانهم اليهود.
ولكن ما في هذه الآيات لم يكن مجرد إرهاص، وإنما كان عرضا لأحداث تجرى، وإخبارا مسبّقه بما ستتمخض عنه هذه الأحداث من وقائع محددة، كأنها قد وقعت فعلا.
ففى الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات، كان المنافقون- وعلى رأسهم عبد اللّه بن أبى بن سلول- قد مشوا إلى بنى قريظة وغيرهم من يهود المدينة، وأنذروهم بما يمكن أن يفعل بهم محمد، كما فعل ببني النضير، وأعطوهم هذا العهد بأنهم لن يقفوا معهم هذا الموقف الذي وقفوه من بنى النضير، والذي أخذوا فيه على غرّة، دون أن تكون هناك فسحة من الوقت، يدبرون فيها أمرهم، ويأخذون له العدة.
أما الآن، فإن في الوقت متسعا، وإن عليهم جميعا أن يأخذوا حذرهم، وأن يستعدوا لما يمكن أن تأنى به الأيام بينهم وبين محمد.
ولقد جاءت الأيام بما ينطق بصدق آيات اللّه، وبما يخزى اليهود ويذلّهم ويفضح نفاق المنافقين وكذبهم. فلقد أخرج بنو قريظة وما خرج المنافقون معهم، وما قام أحد من هؤلاء المنافقين لينصرهم، وليدفع يد النبي والمسلمين عنهم، وقد قتل رجالهم، وسبى نساءهم وأطفالهم.
قوله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}.
أي إنكم أيها المؤمنون أشد رهبة، وخشية في صدور هؤلاء المنافقين، وإخوانهم اليهود- أشد رهبة وتخويفا لهم من اللّه.. إنهم جميعا يخافونكم ويخشون بأسكم، ولا يخافون اللّه، ولا يخشون بأسه.. وذلك لأنهم قوم لا يفقهون، أي في غباء وجهل، ولو فقهوا لعلموا أن اللّه سبحانه هو أولى بأن يخاف منه، ويخشى من الاعتداء على حرماته.
إنهم لا يؤمنون باللّه، ولا يعلمون ماله سبحانه من علم وقدرة، فهم لهذا، لا يستحضرون عظمة اللّه، ولا يشهدون وجوده، وإنما الذي يشهدونه هو الذي يرونه رأى العين، والذي تتمثل لهم شخوصه.. فهم لهذا يخشون الناس، ولا يخشون اللّه!.
قوله تعالى: {لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}.
هو بيان لقوله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}.
أي أن هؤلاء اليهود لما ركبهم من جهل، قد نزلوا إلى مرتبة الحيوان الذي لا يخاف إلا اليد التي تمسك بالسوط يلهب ظهره.. فهم لهذا أجين الناس، وأحرصهم على الحياة. لا يواجهون الأخطار، ولا يقدمون على لقاء عدوهم إلا مخالسة، وقد تحصنوا في أجحارهم، واختفوا وراء الجدران، شأنهم في هذا شأن الحيات التي تتحصن في أجحارها، ترصد أعداءها من داخلها، فإذا رأت فرصة سانحة في عدو لها أطلت برأسها، ثم نفثت فيه سمومها، وعادت سريعا تدفن نفسها في جحرها.
والصورة تمثل حال اليهود في كل زمان.
إنهم لا يقاتلون أبدا في ميدان حرب، إلا إذا كانوا متحصنين في حصون يضمنون معها ألا ينال العدوّ منهم شيئا.. ولهذا قامت قراهم قديما وحديثا على نظام الحصون، بحيث إذا دهمهم عدوّ دخلوا هذه الحصون، واحتموا بها، وعاشوا فيها زمنا، بما جلبوا إليها من سلاح ومتاع.. حتى ييئس العدوّ منهم، إذا طال الحصار، أو يجدوا سبيلا إلى إيقاع الفتنة في صفوفه.. فإن لم يكن هذا أو ذاك، كانت أمامهم فرصة لشراأ أنفسهم من عدوهم، بالمال أو بأى ثمن بطلبه منهم.
هكذا اليهود قديما وحديثا.. ونحن نشهد اليوم في حربهم معنا، أنهم لم يخرجوا للقتال إلا وقد اتخذوا من عدد الحرب حصونا تحميهم من القتل، وتدخل في قلوبهم الطمأنينة إلى أنهم في مأمن من أن ينال العدوّ منهم!.
إنهم لا يحاربون، ولكن الأسلحة التي مكناهم الأمريكان منها، هي التي تحارب.
ولهذا جاء قوله تعالى: {لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً} جامعا بين اليهود جميعا، في كل زمان ومكان، على تلك الصفة التي وصفهم اللّه سبحانه بها، وأنهم لا يقاتلون إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر.. كذلك كان سلفهم، وكذلك يكون خلفهم.
قوله تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} إشارة إلى حال اليهود فيما بينهم، وأنهم أشد الناس شراسة، وأقساهم قلبا، وأقدرهم على الفتك، حيث يقاتل بعضهم بعضا، ويفتك بعضهم ببعض.. إنهم حينئذ يكونون أشبه بالحيات ينهش بعضها بعضا، ويفتك بعضها ببعض، فهى أعلم بمواطن الضعف في أبناء جنسها، وهى لهذا أشد جسارة، وأكثر إقداما من غيرها على هذا نفث السمّ الكامن فيها.
وقوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}.
أي تبدو حال هؤلاء اليهود في ظاهرها، أنهم جمع واحد، ويد واحدة.
هكذا هم فيما يضمهم من مكان.. أما قلوبهم فهى أشتات موزعة، تذهب في أودية مختلفة، كل قلب منها يذهب في واد غير الذي يذهب فيه صاحبه.
وهذا يعنى أن كل واحد منهم إنما ينظر إلى نفسه، وبهم بسلامتها قبل كل شيء.. لا يعنيه أن يسلم أصحابه أو يعطبوا.. إنهم في ساعة الخطر أشبه بالغنم يهجم عليها ذئب، فتتطاير هنا وهناك كما يتطاير الشرر.
وقوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}.
أي لا عقل لهم، ولو عقلوا لعلموا أن السلامة في اجتماعهم عند الخطر، وفى لقائهم له كيانا واحدا، وأن تفرقهم هو الذي يجعل يد الخطر مبسوطة عليهم متمكنة منهم جميعا.. فهم في هذا الفرار الذي يطلب به كل واحد منهم السلامة لنفسه، إنما يردون به موارد الهلكة جميعا.
ولهذا جاء وصفهم هنا {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} على حين جاء وصفهم في مقام خوفهم من الناس أشد من خوفهم من اللّه: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}.
إذ كان العقل- مجرد العقل- كاف في تقدير السلامة من الخطر، وأن السلامة رهن بالاجتماع لا بالتفرق، حتى إن بعض الحيوانات لتهتدى إلى هذا بغريزتها، فإذا واجهها خطر واجهته جبهة واحدة، لم يفر منها أحد.. أما في مقام الخشية للّه، فإنها لا تكون عن عقل- مجرد عقل- بل لابد من عقل، معه فقه وعلم.
قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
أي سيكون مثل هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب- وهم بنو قريظة- سيكون مثلهم مثل الذين من قبلهم قريبا، وهم بنو النضير الذين لم يمض زمن بعيد على ما وقع لهم، وأن بنى قريظة سيذوقون مثل ما ذاق بنو النضير من خزى وهوان، بل ولهم فوق هذا {عَذابٌ أَلِيمٌ} وهو القتل والسبي، اللذان نجا منهما بنو النضير الذين كان حكم اللّه فيهم هو الجلاء، كما يقول سبحانه. {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ}.
وفى قوله تعالى: {قريبا} إشارة إلى قرب الزمن بين إجلاء بنى النضير وبين ما سينزل ببني قريظة.. وذلك أن ما حل ببني قريظة من قتل وسبى كان بعد غزوة الأحزاب، حيث إنه ما كاد الحصار الذي ضربه المشركون على المدينة حول الخندق- ما كاد هذا الحصار ينتهى، وينقلب المشركون مدحورين خائبين- حتى دعا النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- أصحابه إلى حرب بنى قريظة، قائلا: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلّينّ العصر إلّا ببني قريظة»، الذين ما إن علموا بهذا حتى دخلوا في حصونهم، وأغلقوها دون المسلمين، فحاصرهم النبي وأصحابه أياما، حتى رهقهم الحصار، وبعثوا إلى النبي يطلبون إليه أن يرضوه بما شاء منهم، فلم يقبل منهم إلا أن ينزلوا على حكمه أو حكم أحد أصحابه، فرضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ الأنصاري الذي كان حكمه فيهم أن يقتل كل قادر على حمل السلاح من ذكورهم، وأن يسبى النساء والأطفال.. وأن تقسم الأموال.. فأمضى الرسول هذا الحكم فيهم.
قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ}.
أي أن مثل المنافقين مع إخوانهم هؤلاء من اليهود، كمثل الشيطان، الذي يدعو الإنسان إلى الكفر، فيستجيب له، ويتقبل دعوته، ويأخذ بنصيحته، حتى إذا كفر هذا الإنسان، ولبس الكفر ظاهرا وباطنا، وأحاطت به خطيئته، وحلّت به النقمة- تركه الشيطان لمصيره، ونفض يديه منه، وتبرأ من الجناية التي جناها عليه، وتنكر له، بل ورماه بالجهل والغفلة، ليزيد في آلامه وحسرته، وقال له: {إنى أخاف اللّه رب العالمين}.
وبهذا يريه أنه قد أضله، وخدعه، وصرفه عن اللّه، وعن الخوف منه، على حين أنه هو لم يصرف عن اللّه، وعن خشيته والخوف منه..!!
والسؤال هنا: ماذا يريد الشيطان بقوله: {إنى أخاف اللّه رب العالمين}؟
وهل هو صادق فيما يقول؟ وإذا كان صادقا فكيف يتفق هذا مع دعوة غيره إلى الكفر باللّه والمحادة للّه؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن الشيطان يعلم ما للّه سبحانه وتعالى من جلال وقدرة، وأنه على خوف من جلال اللّه وقدرته، ولكنه- وقد غلبت عليه شقوته، وأعماه حسده لأبناء آدم وعداوته لهم- ذهل عن هذا، في سبيل الانتقام لنفسه، وما يحمل للإنسان من عداوة وحسد، لما كان من تكريم اللّه لآدم، وأمر الملائكة بالسجود له، واستعلاء إبليس واستكباره عن أن يكون من الساجدين، فلعنه اللّه وطرده من عالم الملائكة.. فخرج بهذه اللعنة، وهو على عزيمة بأن ينتقم من آدم ومن ذريته، ولو كان في ذلك هلاكه!! وكم من الناس من يعلم الحق ويأخذ نفسه بخلافه، ويعرف الطريق القويم، ويسلك المعوج؟. وهل كان موقف المشركين من النبي إلا عن حسد وكبر واستعلاء؟ إنهم كانوا يعرفون صدق النبي، ومع هذا فقد بهتوه، وكذبوه، وأبوا أن يقبلوا هذا النور الذي بين يديه، وآثروا أن يعيشوا بما هم فيه من عمى وضلال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (33: الأنعام) وفى هذا التشبيه، يمثل المنافقون دور الشيطان، فهم يعرفون طريق الحق ويتجنبونه، وهم يزينون الشر لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب، ويدعونهم إلى المحادة للّه ولرسوله، ويشدون ظهرهم في كيدهم للنبى وخلافهم له.
حتى إذا وقعت الواقعة بهم، نظر إليهم هؤلاء المنافقون نظر الشيطان إلى صاحبه الذي استجاب له، وأروهم أنهم لا يستطيعون أن يخفّوا إلى نجدتهم، وأنهم يخافون النبي والمسلمين، كما يخاف الشيطان اللّه رب العالمين.. وهنا نذكر قول اللّه للمؤمنين عن المنافقين: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}.
ففى هذا التشبيه ثلاثة أطراف.. الشيطان، والإنسان الذي أضله الشيطان، واللّه، الذي يخافه الشيطان.
وفى مقابل هذه الأطراف: المنافقون، وإخوانهم اليهود، والنبي وأصحابه الذين يخافهم المنافقون.
قوله تعالى: {فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ}.
تلك هي عاقبة الشيطان وصاحبه.. لقد هلك الشيطان، وهلك معه من استجاب له.. وتلك هي عاقبة المنافقين، وإخوانهم من اليهود.. إنهم جميعا إلى النار خالدين فيها.. وذلك جزاء الظالمين.. لا جزاء لهم إلا جهنم وبئس المصير.