فصل: تفسير الآيات (10- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (10- 13):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)}.
التفسير:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
هذه الآية والآيات التي بعدها، تبيّن حكم ما يقع بين المسلمين والمشركين من أمور تتصل بتنفيذ صلح الحديبية الذي عقده النبي معهم.. فهذا الصلح قد قضى بأنه إذا جاء إلى المسلمين من أسلم من المشركين، ردّه المسلمون إليهم، ومن جاء إلى المشركين من عاد إلى الشرك لم يرده المشركون إليهم.. وقد قبل النبي هذا الشرط، لأن من دخل في الإسلام، إنما دخل بعد ابتلاء وتمحيص، فهو حيث كان، في حصانة من أن تغيره الأحوال والأحداث.. وأما من كان مؤمنا، ثم عاد إلى الكفر، فإن الإمساك به في مجتمع المؤمنين بعد هذا، إنما هو تمسك بعضو فاسد في جسد سليم.
وهذا الشرط خاص بالرجال دون النساء.
وقد كان من مقتضى هذا، أن تكون بين المؤمنين والمشركين شبه صلة في حدود تنفيذ أحكام هذا الصلح، بعد أن دعا الإسلام المؤمنين إلى قطع كل ولاء بينهم وبين هؤلاء المشركين.
وفى هذه الآية الكريمة، بيان لحكم من جاء من مجتمع المشركين من النساء، مؤمنات مهاجرات.. فهذا الحكم يقضى بأن يمتحن المؤمنون هؤلاء المؤمنات في إيمانهن، حتى يتبين لهم صدق إيمانهن، وأنهن إنما هاجرن فرارا بدينهن من أن يفتّن فيه، لا فرارا من زوج، ولا رغبة في زواج، ولا طمعا في مأرب من مآرب الحياة.. فإذا تبين أنهن على الإيمان.. كان على المؤمنين أن يؤو وهن إليهم، وأن يمسكوا بهن في مجتمع المؤمنين، وألّا يرجعوهن إلى الكفار.. وذلك لأمرين:
أولهما. أن النساء لم يدخلن في الشرط الذي اشترط فيه المشركون على المسلمين أن يردوا إليهم من أتاهم مؤمنا من المشركين.. فهذا شرط خاص بالرجال، دون النساء.
وثانيهما: أن النساء لا يصبرن طويلا على موقع الفتنة من المشركين، ولا يحتملن ما يحتمل الرجال من بلاء في سبيل العقيدة التي يعتقدنها، إنهن أسرع تحولا، وأقل ثباتا وصبرا من الرجال، وإن كان في بعض النساء ما لأقوى الرجال من عزيمة وثبات، إلا أن النساء في مجموعهن دون الرجال في هذا المقام.
وفى قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ} إشارة إلى أن الامتحان الذي يمتحن به المؤمنون المؤمنات المهاجرات إليهن- هو امتحان لا يكشف إلا عن ظاهر الحال منهن.. أما ما في القلوب وما تكنّ الصدور، فعلمه عند اللّه سبحانه وتعالى.. وأنه يكفى في هذا الامتحان أن تشهد ظواهر الأحوال ما يدل على إيمان هؤلاء المؤمنات، أما ما في القلوب فأمره إلى اللّه.
وقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا} أي وردّوا إلى الكفار أيها المؤمنون ما أنفقوا على هؤلاء المؤمنات من مهور.. بمعنى أن المؤمنة التي كانت متزوجة من مشرك ثم جاءت مهاجرة إلى المؤمنين، يجب على المؤمنين، بعد امتحان إيمانها أن يمسكوها عندهم، وأن يردّوا إلى زوجها المشرك، ما كان قد أمهرها إياه، فذلك المهر هو ما يمسك به زوجها المشرك منها، وقد فرق الإسلام بينها وبينه، فأصبحت بإسلامها محرمة عليه.
وهذه الفرقة بين المؤمنة وزوجها المشرك، قد جاءت من جهة المرأة، وكأنها بهذا هي التي رغبت في المفارقة، فكان عليها- والأمر كذلك- أن تردّ إليه ما أخذت منه من صداق.
روى أن جميلة امرأة ثابت بن قيس، جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللّه، لا أجد في ثابت بن قيس عيبا من خلق أو إيمان، ولكنى لا أجد في طوقى مجاراته.. فسألها الرسول الكريم: هل تعيد إليه حائطه (أي بستانه) الذي جعله صداقا لها، إذا هو طلقها؟ فقالت نعم، فأمر النبي بردّ الحائط إلى ثابت، وتطليقها فهذا أشبه بالفرقة الواقعة من المرأة، تخرج من عصمة زوجها المشرك، بدخولها في دين اللّه.
وفرق واحد هنا، وهو أنها لا تحمل بدخولها في دين اللّه غرما، فلا تردّ ما أمهرها به زوجها المشرك من مالها هى، بل يتحمل ذلك عنها المسلمون الذين هاجرت إليهم، وحلّت بينهم.
وقوله تعالى: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي أن هذه الفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها المشرك، تعتبر طلاقا بائنا، يحلّ للمسلم بعد هذا، زواجها، بعد انقضاء عدتها، وبعد إيتائها المهر المناسب لها.
وقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ} العصم: جمع عصمة، وهى ما يعتصم به، وهى كناية عن رباط الزوجية، الذي يربط كلّا من الزوجين بصاحبه، ويعتصم به.
والكوافر: جمع الكافرة. وقد جمعت جمع تكسبر، ولم نجمع جمع المؤنث السالم الكافرات استخفافا بهن، وعزلا لهن عن مجتمع العقلاء، إذ قد اغتال الكفر الذي لبسهنّ، معلم الإنسانية فيهن.. وهذا من شأنه أن يهوّن على الأزواج المؤمنين فراق مثل هؤلاء الكوافر.
ولهذا جاء النهى للمؤمنين أن يمسكوا بما في أيديهم من روابط الزوجية بينهم وبين نسائهم المشركات، بل إن عليهم أن يقطعوا حبل الزوجية معهن، كما يقول سبحانه: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [221: البقرة] قوله تعالى: {وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا} أي اطلبوا أيها المؤمنون من المشركين مهور نسائكم المشركات اللائي فرّق الإسلام بينكم وبينهن، كما يطلب منكم المشركون مهور نسائهم اللائي هاجرن إليكم مؤمنات، {ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} هذا ما قضى به اللّه سبحانه من التفرقة بين المؤمنات المهاجرات وأزواجهن المشركين، وبين المؤمنين، وزوجاتهم المشركات، ومن ردّ ما أنفق المشركون على زوجاتهم المؤمنات، وما أنفق المؤمنون على زوجاتهم المشركات- هذا كله هو حكم اللّه يحكم به بينكم {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بما يقضى به، وبما فيه الخير لكم، {الحكيم} الذي يضع الأمور بحكمة في أعدل موضع وأحكمه.
قوله تعالى: {وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي وإن فاتكم أيها المؤمنون شيء من مهور أزواجكم الماثلات إلى الكفار، المنحازات إلى جبهتهن، بمعنى أنه إذا طلقتم أزواجكم المضافات إلى المشركين، ولم يردّ المشركون عليكم ما أنفقتم من مهورهن، ثم كانت منكم معاقبة للمشركين، ومقابلتهم بالمثل، فلم تردوا عليهم ما أنفقوا على زوجاتهم المهاجرات إليكم- إذا كان ذلك، فآتوا- أيها المؤمنون- الذين ذهبت أزواجهم منكم بالطلاق من أجل شركهن- آتوهم مثل ما أنفقوا، أي مثل ما قدموا لهن من مهور.
وفى التعبير عن فرقة المشركات لأزواجهن المؤمنين بالذهاب في قوله تعالى: {ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ} إشارة إلى أن هؤلاء الزوجات إنما هن شيء قد ضلّ، وذهب في متاهات الحياة، فلا تأس عليه نفس، ولا يحزن له قلب.
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} هو تعقيب على هذه الأحكام، وأنها يحب أن تقوم عند المؤمن في ظل من تقوى اللّه، حتى لا يقع فيها جور، أو انحراف عن ميزان العدل والإحسان.
وفى قوله تعالى: {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} إلفات للمؤمنين إلى أنهم في هذا المقام، إنما يقيمون أمورهم على ميزان الإيمان، الذي فرق بينهم وبين المشركين، وهم لهذا مطالبون بأن يحضروا إيمانهم هذا كلّ تصرف يكون بينهم وبين المشركين، من أخذ أو إعطاء.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هذا بيان لما يقوم عليه إيمان المؤمنات، سواء بايعن الرسول بيعة حضور، أو غيبة، بمعنى أن هذه البيعة هي بيعة الإسلام للنساء، وما يفترض عليهن من فرائض.. وذلك:
{أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً}.
أي يخلصن إيمانهن للّه، ويخلين قلوبهن من كل معبود سواه.
{وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} خشية الفقر {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} والبهتان، هو الباطل، الفاسد من العمل، كالزور من الكلام.. والمراد به هنا، هو ولادة الأبناء منهن من غير آبائهن.
وفى تصوير المولود من غير أبيه، بأنه {بهتان} تنفير من هذا المولود، وإثارة لمشاعر الخوف منه، والكراهية له وفى وضع هذا البهتان بين يدى المرأة ورجليها إزعاج لها، وإقلاق لمشاعرها أن تسكن إلى هذه الجريمة البشعة التي تعيش معها، كما يعيش القتيل بين يدى قاتله.
وما بين يدى المرأة ورجليها، هو بطنها الذي يحمل هذا البهتان، ويعيش فيه تسعة أشهر ملتصقا بالمرأة، هاتفا بها في كل لحظة، إنى هنا! إن ذلك- إذا علمت المرأة المؤمنة أنه بهتان- لا يدع لها لحظة من الاستقرار والسكون، في يقظة أو منام، الأمر الذي يدعوها إلى التفكير الطويل قبل أن تضم في كيانها هذا البهتان! وأن تنسبه كذبا وافتراء إلى فراش الزوجية.
وقوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} المعروف ما يقوم عليه إيمان المؤمن- ذكرا، أو أنثى- فيما قدر عليه، ووسعته نفسه.. من طاعة الرسول، وامتثال أمره، واجتناب نهيه.
والعصيان يقع على الأمر والنهى معا.
فعصيان الأمر عدم امتثاله.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى على لسان موسى لأخيه هرون: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [93: طه] وعصيان النهى إتيان المنهىّ عنه.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى}.
وعصيان آدم، هو أكله من الشجرة التي نهاه اللّه تعالى عن الأكل منها في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} [19: الأعراف] وفى قوله تعالى: {فِي مَعْرُوفٍ} وفى تقييد عدم العصيان بما هو معروف- إشارة إلى أن العصيان لا يكون عصيانا إلا فيما عرف لهنّ من أمر أو نهى، وهذا يعنى أن غير المعروف لهن من أحكام الشريعة، من أوامر ونواه، هو معفوّ عنه، وهذا يعنى أن على الرسول أن يبلغ رسالة ربه كاملة إليهن.
وقوله تعالى: {فَبايِعْهُنَّ} أي اقبل إيمانهن، واعتبرهن في جماعة المؤمنين، لهن ما للمؤمنين، وعليهن ما عليهم.
وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ادع اللّه لهن بالمغفرة لما سلف منهن من ذنوب قبل الإسلام.. من شرك، أو سرقة، أو زنى، أو إتيان ببهتان افترينه بين أيديهن وأرجلهن.. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واسع الرحمة والمغفرة، فيغفر لهن ذنوبهن جميعا التي كانت منهن قبل الإسلام، مهما عظمت أو كثرت.. وبهذه المغفرة العامة الشاملة يدخلن الإسلام طاهرات من كل ذنب، مبرات من كل إثم، وبهذا العفو العام يبدأن صفحة جديدة نقية، مع الحياة الجديدة التي ولدن بها في الإسلام.. وهذا من شأنه أن يقوّى من عزائمهن على الاحتفاظ بنقاء هذه الصفحة وصفائها.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ}.
الذين غضب اللّه عليهم، هم اليهود، وإنه حيث ذكر غضب اللّه في القرآن على قوم، أو جماعة- فالمقصود به اليهود والتولي: من الولاء، والمولاة.
وبهذه الآية الكريمة تختم السورة، وبهذا الختام يلتقى ختامها مع بدئها حيث بدئت بنهي المؤمنين عن موالاة أعداء المؤمنين من الكفار والمشركين.
ثم كان ختامها دعوة من اللّه إلى مجانبة الذين غصب اللّه عليهم، وهم اليهود.
وبهذا لا يكون للمؤمنين ولاء مع جميع أهل العداوة للّه وللمؤمنين.
وفى قوله تعالى: {قوما} بالتنكير، إشارة إلى ازدراء هؤلاء القوم، وهوانهم، وأنهم- حيث كانوا- هم في صغار وذلة وهوان.
وحسبهم صغارا وذلة وهوانا، أن يصحبهم غضب اللّه في كل زمان ومكان.
ثم إن في هذا التنكير دلالة على أن وصف القوم بغضب اللّه عليهم، يكشف عن وجه هؤلاء القوم، ويقوم شاهدا عليهم، إذ ليس هناك من وقعت عليه لعنة اللّه غيرهم.. فالصفة قرينة دالة على الموصوف، إذ كانت مقصورة عليه.
قوله تعالى: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ} إشارة إلى موقف اليهود من الحياة الآخرة، وأنهم في شكّ منها وفى يأس من لقائها، فهم- مع إيمانهم باللّه- على عقيدة بأن لا بعث بعد الموت، وأن الناس إنما يوفّون جزاءهم في هذه الحياة الدنيا.. ولهذا فإنهم يستنفدون كلّ جهدهم في العمل لما يبنى حياتهم الدنيوية، دون أن تكون منهم لفتة إلى ماوراء هذه الحياة.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (32: الجاثية).. هذا هو المعتقد الغالب على اليهود، فيما يتصل بالبعث، وبالحياة الآخرة، وإن كانت شريعتهم التي جاءهم بها موسى، تدعو إلى الإيمان بالحياة الآخرة، وإلى العمل لها، ولكن القوم يتأولون نصوص الشريعة، ويلوونها مع أهوائهم، حتى كانت الحياة الآخرة عندهم أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة.
وقوله تعالى: {يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} بدلا من أن يقال كفروا بالآخرة، أو كذبوا بها، للإشارة إلى ما عندهم من علم بالآخرة، وبما يكون فيها من حساب وجزاء، وأنه علم نظرىّ، ميئوس من وقوع المعلوم منه، وتحققه.. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن، في تصوير هذا المفهوم الذي يقوم عند اليهود للبعث وللحياة الآخرة.. إنه انتظار لغائب لا يرجى له إياب، فوقع اليأس من لقائه.
وفى قوله تعالى: {كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ} أي أن يأس اليهود من لقاء الآخرة، هو أشبه بيأس الكفار من أن يلتقوا يوما بموتاهم الذين أودعوهم القبور.
فاليهود ينظرون إلى الآخرة، نظرة الكفار إلى الأموات في القبور.
إن كلّا منهم ينظر إلى شيء.. ولكن هذا الشيء- في زعمهم- لن يلتقوا به أبدا.. الآخرة في زعم اليهود، والأموات في زعم الكفار.. وكلا الزعمين باطل، فاليهود سيلتقون بالآخرة، وإن كرهوا، والكفار سيلتقون بموتاهم وإن يئسوا.