فصل: تفسير الآيات (81- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (81- 82):

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)}.
التفسير:
النبيّون صلوات اللّه عليهم قائمون على أمر واحد، هو الدعوة إلى اللّه، وكشف معالم الطريق للناس إليه، ودعوة الناس بدعوة الحق والخير كما أمر اللّه.
ومن ثمّ كانت الجامعة بينهم، وكان النسب والقرابة! إذ كانوا جميعا يعملون في ميدان واحد، وغاية واحدة.. ونجاح الدعوة لأىّ منهم هو نجاح ضمنى لهم جميعا، وهو انتصار في موقع من مواقع الحق الذي يجاهدون في سبيله.
وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} هو توكيد لهذه الجامعة التي تجمع بين النبيين، وتوثيق للأمر الذي شدّوا أيديهم عليه وعلى الجهاد في سبيله.
فلقد أخذ اللّه العهد على النبيين واحدا واحدا، فيما ندبهم له، وفيما دعاهم إليه، وهو أن تتوحد في مجال الجهاد رايتهم، وألا ينسخ بعضهم بعضا، أو ينعزل بعضهم عن بعض.. فإذا قام نبىّ منهم يدعو إلى اللّه، ثم جاء نبىّ آخر يدعو بتلك الدعوة، كان على كل منهما أن يصدّق الآخر، ويؤمن به، وينصره فيما يدعو إليه، لأن نصرة هذا النبيّ نصرة له، ونصرة لرسالتيهما معا.
وليس هذا شأن الأنبياء وحدهم، في إيمان بعضهم ببعض، وتصديق بعضهم بعضا، ونصرة بعضهم لبعض.. بل هو شأن أتباع الأنبياء جميعا.
إذ هم المؤمنون باللّه، وكتبه ورسله، فكل دعوة نبىّ هي دعوة جميع الأنبياء وأتباع الأنبياء، ومعاداة أي نبى وأتباع أي نبىّ هي محاربة للّه ولرسوله وللمؤمنين: {إنما المؤمنون إخوة} وأتباع الأنبياء، المؤمنون برسالات الأنبياء، هم جميعا إخوة، يجمعهم التوحيد باللّه، والعبودية للّه! وفى قوله تعالى: {لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ} اللام موطئة للقسم الذي تضمنه العهد والميثاق الذي واثق اللّه به النبيين وعاهدهم عليه، والتقدير {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ} لئن آتيتكم النبوة وما معها من كتاب وحكمة {ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}.
وقوله تعالى: {مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ} وصف للرسول الذي يجب الإيمان به ونصرته، وهو أن يكون ما معه من كتاب، وما يدعو إليه من دين، قائما على السنن الذي دعا إليه أنبياء اللّه ورسله، من الإيمان باللّه الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والولد، فمن دعا إلى غير هذه الدعوة فليس نبيا وليس رسولا، فما أكثر أدعياء النبوة، ومدّعى الرسالة.
قوله تعالى: {قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي} الإصر العهد الموثّق.. وفى استحضار النبيّين، وأخذ الإقرار من أفواههم، وإشهادهم عليه، ثم شهادة اللّه على ما شهدوا عليه.. كل هذا يدل على ما لهذا الأمر الذي عاهدهم اللّه عليه من شأن وخطر عظيمين: {قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}.
وكفى باللّه شهيدا.
وقوله تعالى {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} توكيد لهذا العهد، وتجريم لمن نقضه، ووقف من أنبياء اللّه ورسله موقف المشاق المنابذ.
وفى الآية الكريمة تعريض بأهل الكتاب، وخاصة اليهود، الذين نقضوا عهد اللّه، هذا الذي أخذه على أنبيائهم وعلى أتباع أنبيائهم، فكذّبوا بمحمد وبهتوه، وكتموا ما في أيديهم من كتاب اللّه الذي لو استقاموا على ما فيه لكانوا أول المصدقين بمحمد، والمؤمنين به، إذ كانت التوراة تشهد لمحمد ولرسالته، وتبشّر به، كما يقول اللّه تعالى في أهل الكتاب، وموقفهم من الرسول الكريم {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [146: البقرة] ويقول سبحانه أيضا: {وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ} [89: البقرة].
وقد وصف اللّه سبحانه وتعالى أهل الكتاب هؤلاء الذين يكذبون رسل اللّه ويبهتونهم، بالفسق.. والفسق- في اللغة- هو الخروج من حال إلى حال، ومن شأن إلى شأن، ثم كثر استعماله في الخروج من خير إلى شر.
وأهل الكتاب هؤلاء كانوا على الإيمان قبل أن يمتحنوا بالدعوة التي حملها إليهم رسول اللّه، فلمّا زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم، واللّه لا يهدى القوم الفاسقين.

.تفسير الآية رقم (83):

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}.
التفسير:
تكر هذه الآية على الكتاب الذين كفروا بمحمد، وجحدوا ما عندهم من حقّ فيه- تنكر عليهم هذا الموقف الذي لا ينبغى لعاقل أن يقفه، لأنه يورد بذلك الموقف، موارد الهلاك.. فأى دين غير دين اللّه يبغون؟ وماذا ينكرون من أمر محمد وقد جاءهم بالحقّ الذي كان معهم مثله من كتاب اللّه الذي في أيديهم؟ وهل جاءهم محمد بغير ما جاء به الأنبياء من قبله من دعوة إلى توحيد اللّه، والإيمان به إلها واحدا، قيّوما، له ملك السموات والأرض؟ إن ذلك هو الحق الذي قام عليه الوجود، وهو الدين الذي دان به للّه كل مخلوق، في ملكوت السموات والأرض.
فكيف يفسق أهل الكتاب هؤلاء، ويخرجون عن هذا الموكب الذي انتظم الوجود كلّه، في أرضه وسمائه، وفى أحيائه وجماداته؟
وفى قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} الإسلام هنا الانقياد والخضوع.. وكل ما في هذا الوجود منقاد للّه، خاضع له، إن لم يكن عن ولاء ورضى، فهو عن قهر وسلطان! وما ذا تملك المخلوقات من أمرها؟ وهل غير الاستسلام والخضوع؟ إنها جميعا في يد القدرة القادرة المنصرفة وحدها من غير معترض أو معقب! فمن لم ينقد اختيارا انقاد اضطرارا، واللّه سبحانه وتعالى يقول {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} [93: مريم] ويقول سبحانه: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ} [33: الرحمن].. فهل لهؤلاء المحادّين للّه، الكافرين به، ملجأ غير اللّه؟ وهل لهم أن يدفعوا عن أنفسهم ما يصبهم من ضرّ وأذى؟ {قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [168: آل عمران].

.تفسير الآيات (84- 85):

{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)}.
التفسير:
بعد أن كشفت الآيات السابقة موقف أهل الكتاب من رسل اللّه، وإيمانهم ببعض وكفرهم ببعض، ونقضهم في هذا ما عاهد اللّه عليه أنبياءهم من الإيمان بكل رسول، ونصرته- بعد أن كشفت الآيات السابقة هذا، أمر اللّه نبيّه بأن يجهر بالحقّ الذي فسق عنه أهل الكتاب، وأن يقيم إيمانه على الدين الذي ارتضاه اللّه له، وللمؤمنين جميعا.. وهو الإيمان باللّه، وما أنزل عليه من كتاب ربه، وما أنزل على الأنبياء قبله.. إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وما تلقى موسى وعيسى من آيات ربهما وكتبه، وما تلقى النبيون جميعا من ربهم، لا تفرقة في هذا بين أحد منهم، فكلهم رسل كرام من رسل اللّه، سفراء بررة، بين اللّه وبين عباد اللّه! وفى قوله تعالى هنا: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا} وفى قوله سبحانه في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا} [136] تفرقة بين النبيّ وأتباع النبيّ في التلقّى عن اللّه سبحانه وتعالى، فالنبى هو الذي تلقى الكتاب عن اللّه، وأتباعه هم الذين تلقوا الكتاب عن النبي، ولهذا كان خطاب النبي: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا} وكان خطاب أتباعه: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا}.
و{علينا} فيها الدنوّ والمباشرة، بخلاف {إلينا} وما فيها من بعد ومجاوزة.
وفى قوله تعالى: {وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ} وقوله: {وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} ما يسأل عنه.. وهو: لما ذا كان الوصف المصاحب لما تلقّاه النبيون: محمد وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، هو النزول، على حين كان الوصف المصاحب لما تلقّاه موسى وعيسى هو الإتيان هكذا: {وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى}؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو أن ما تلقاه النبيّ عليه الصلاة والسلام، وما تلقاه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط عليهم السلام- كان وحيا من اللّه، على لسان ملك من ملائكته، هو جبريل عليه السّلام، فكان وصف هذا التلقي بالنزول هو الوصف المناسب لتلك الحال، أما ما تلقاه موسى وعيسى عليهما السلام، فكان تلقيا مباشرا من اللّه سبحانه وتعالى.. وفى موسى يقول اللّه تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً} [164: النساء] أما عيسى عليه السّلام، فقد أيده للّه بروح القدس، لذى هو نفخة من روح الحق، فكان اتصاله باللّه اتصالا مباشرا بهذا الروح الذي يملأ كيانه! وفى عيسى يقول اللّه سبحانه: {وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [87: البقرة] وروح القدس، هو جبريل، أو روح من عند اللّه.. تلازمه، وتنطق بلسانه..!
قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}.
الإسلام هو دين اللّه الذي شرعه لعباده، والذي جاء به الأنبياء والمرسلون جميعا، ودعوا الناس إليه، فمن آمن منهم بما جاء به الرسل- من غير تحريف ولا تبديل- فهو مسلم من المسلمين.
فإبراهيم عليه السلام.. يسأل اللّه أن يوفقه وأهله وذريته إلى دين الإسلام، فيقول كما ذكر القرآن ذلك على لسانه: {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [128 البقرة] وفيه يقول اللّه تعالى: {إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} [131: البقرة].. وفيه يقول سبحانه: {ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [67: آل عمران] وإبراهيم هو أبو الأنبياء، وعلى دينه- وهو الإسلام- كان جميع الأنبياء من بعده! وعلى هذا، فليس المراد بالإسلام هو الشريعة الإسلامية التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام، خاصة، إذ ليست هذه الشريعة بدعا من الشرائع السماوية التي سبقتها، بل هي وما قبلها من الشرائع- من يهودية ونصرانية وغيرهما- على سواء.. فجميعها شريعة اللّه، وكلها الإسلام الذي هو الدين عند اللّه، ولا دين غيره.
والخلاف الذي بين الإسلام، وبين اليهودية والنصرانية ليس اختلافا ناشئا عن حقيقة هاتين الديانتين، وإنما جاء الخلاف نتيجة لما حدث فيهما من تبديل وتحريف، ولو أنهما سلما من هذا التحريف والتبديل لالتقيا مع الإسلام. ولكان أتباعهما من المسلمين.

.تفسير الآيات (86- 89):

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}.
التفسير:
قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ}.
الاستفهام هنا ليس على حقيقته، وإنما هو استنكار واستبعاد لمن يطمع من هؤلاء الضالين أن يلبس ثوب المهتدين، وأن يرجو العون والتوفيق من اللّه، بعد أن أعطى اللّه ظهره، وكفر به وبآياته المضيئة بين يديه! وهؤلاء الضالون هم الذين كفروا من أهل الكتاب- وخاصة اليهود- الذين كفروا بعد إيمانهم.. فقد كانوا قبل بعثة محمد يؤمنون بأن نبيا عربيا سيبعث كما قال اللّه تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ} [157: الأعراف].
ثم جاءهم النبي المنتظر، ورأوا فيه وبين يديه دلائل الحق التي تشهد له أنه رسول اللّه، ووافقت صفته عندهم ما تحدثت به كتب اللّه التي بين أيديهم عنه.. ومع هذا أبوا إلا عنادا وكفرا.. فأنكروا كلمات اللّه، وجحدوا الحق الذي تحدثهم به، وبهذا تحولوا من الإيمان إلى الكفر.. كما يقول اللّه تعالى: {كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ}.
وكما يقول سبحانه {فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ} [89: البقرة].
والواو في قوله تعالى: {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} وفى قوله: {وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ} يمكن أن تكون للعطف على قوله تعالى: {كَفَرُوا} وهذا يعنى أنهم جمعوا المتناقضات التي لا تستقيم على عقل عاقل.. إذ جمعوا الكفر مع ما شهدوا من الحق الذي يطالعهم من وجه الرسول، ومع ما بين يديه من آيات بينات.. وهذا أمر لا يكون إلا ممن سفه نفسه، وركب رأسه، وتعلق بأذيال شيطانه! كما يمكن أن تكون هذه الواو للحال، بمعنى أنهم كفروا في تلك الحال التي يشهدون فيها دلائل النبوة، ويرون آياتها.. فهم والحال كذلك في أمر مختلف.. الكفر عن علم وعمد! وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ما يكشف عن حقيقة الاستفهام الإنكارى الذي بدأت به الآية، وهو: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ}.
فهؤلاء القوم قد اتخذوا الظلم مركبا، فاعتدوا اعتداء منكرا على الحقّ الذي بين أيديهم، حتى لقد اجترءوا على إفساد الكتاب السماوي الذي يؤمنون به، ويعيشون فيه.. {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فكيف يهدى اللّه هؤلاء القوم الظالمين، الذين يشهدون الحق، ويستيقنونه، ثم يكفرون به؟ إنهم ليسوا أهلا لخير أبدا.
وكلمة {القوم} هنا تعنى أن هذا الظلم الذي ركبه هؤلاء السفهاء هو ظلم جماعى، تواطأ عليه القوم جميعا، ولم يقم فيهم رجل رشيد ينكر عليهم هذا المنكر، فكان ظلما غليظا، وداء قاتلا، لا يرجى له شفاء أبدا.. إنه أشبه بالوباء الذي ينزل بجماعة من الجماعات، فيأتى عليها بين يوم وليلة.
ولهذا كانت العقوبة الواردة على هؤلاء الظالمين عقوبة عامة قاصمة: {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.
إنهم بمعزل من رحمة اللّه.. تحيط بهم لعنة اللّه ولعنة ملائكته، ولعنة الناس أجمعين: المؤمنين منهم وغير المؤمنين.. أما المؤمنون فلأنهم من حزب اللّه، يحاربون من حارب اللّه، ويلعنون من يلعنه اللّه.. وأما غير المؤمنين فإنهم على خلاف مع هؤلاء القوم الظالمين.. لهم ظلم غير ظلمهم، ودين غير دينهم.
فهم على عداوة- ظاهرة أو خفية- معهم.. ثم إنهم هم أنفسهم يتبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا، وذلك حين تقع بهم الواقعة، ويرون سوء المصير الذي هم صائرون إليه.. هكذا شأن جماعات الضالين والمفسدين، يجمعهم الضلال والفساد إلى حين.. ثم يفرّق بينهم الضلال والفساد يوم يقوم الناس لرب العالمين.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [67: الزخرف] ويقول سبحانه: {وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ} [25: العنكبوت].
والضمير في قوله تعالى: {خالِدِينَ فِيها} يعود إلى اللعنة، أي هم خالدون في هذه اللعنة الواقعة عليهم من اللّه والملائكة والناس، لا تزايلهم أبدا.
وقوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} إشارة إلى أن هذه اللعنة واقعة عليهم في هذه الدنيا، كما هي واقعة عليهم يوم القيامة.. إنهم يلقون جزاء هذا الظلم الغليظ معجلا ومؤجلا معا.
والاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو وارد على هذا الحكم الواقع على أولئك الظلمة وما رماهم اللّه به من لعنة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة.. بمعنى أن من تاب من هؤلاء الملعونين، ورجع إلى اللّه من قريب، وأصلح ما أفسد من دينه فإن مغفرة اللّه تسعه، ورحمة اللّه تعالى تناله، وترتفع عنه تلك اللعنة التي أحاطت به، وينزل منازل المؤمنين، الذين رضى اللّه عنهم، وتقبّل عنهم أحسن ما عملوا.
وفى هذا ما يفتح لهؤلاء المذنبين باب الرجاء في رحمة اللّه، وينصب لهم معالم النجاة، إن هم أرادوا النجاة والخلاص.