فصل: تفسير الآيات (7- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (7- 11):

{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)}.
التفسير:
قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ}.
الضمير {هم} يعود إلى هؤلاء المنافقين، الذي تحدثت عنهم الآيات السابقة، من أول السورة، والذين سميت هذه السورة باسمهم.. فهى كلها حديث متصل عنهم، يفضح مخازيهم، ويكشف سوءاتهم على أعين الناس.
وإذا كانت الآيات السابقة، قد تحدثت عن المنافقين في عمومهم، وعن الصفات النفسية والجسدية التي يستدل بها عليهم، دون أن تشير إلى معيّن منهم بالذات، أو الاسم- فقد جاءت هذه الآية والآية التي بعدها لتواجه وجها منكرا من وجوه المنافقين، ولتقرع رأسا عفنا من رءوسهم، هو عبد اللّه بن أبىّ بن سلول.
فلقد نزلت هاتان الآيتان في أعقاب حادثة استعلن فيها نفاق هذا المنافق على الملأ، ولم يبق إلا أن تجيء آيات اللّه لتسجل عليه هذا النفاق، وتدمغه به إلى يوم الدين.
قالوا إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قد بلغه أن بنى المصطلق (من اليهود) كانوا يجمعون لحرب المسلمين، فخرج إليهم رسول اللّه في أصحابه، ولقيهم على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى ساحل البحر، وهزم اللّه أعداء اللّه، ونفل أبناءهم، ونساءهم وأموالهم.. قالوا: وبينما الناس على الماء، وقع شجار بين غلام لعمر بن الخطاب يقال له الجهجاه بن سعيد، ورجل من الأنصار يقال له سنان الجهني، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار، وهتف الجهجاه: يا معشر المهاجرين.. وكادت تكون فتنة، وجعل عبد اللّه بن أبى يقول لمن يلقاه من الأنصار: قد نافرونا وكائرونا في بلادنا.. واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.. هذا يا معشر الأنصار ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما واللّه لو أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم، ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم..!!.
فلما علم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما يحدّث به عبد اللّه بن أبىّ في الناس، أمر الناس بالرحيل، وسار بالناس يومهم حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يكن إلا أن وجدوا مسّ الأرض حتى وقعوا نياما.. وإنما فعل الرسول ذلك، ليشغل الناس عن الحديث، الذي كان يحدّث به عبد اللّه بن أبىّ! قالوا: وتحدث كثير من المسلمين إلى رسول اللّه يستأذنون في قتل عبد اللّه بن أبىّ.، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يردهم قائلا: «فكيف إذا تحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا، لا تقتلوه!».
وجاء عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبى إلى رسول اللّه، فقال يا رسول اللّه: قد بلغني أنك تريد قتل أبى، فإن كنت لابد فاعلا فمرنى به، فأنا أحمل إليك رأسه، وإنى أخشى أن تأمر بهذا غيرى فيقتله، فلا تدعنى نفسى أن أنظر إلى قاتل أبى يمشى في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار..!!
فقال صلى اللّه عليه وسلم: بل ترفق به، وتحسن صحبة، ما بقي معنا.
وهكذا، إطفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الفتنة، بحكمته ورفقه، وبعد نظره.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
هو لقاء لآيات اللّه مع المؤمنين، بعد أن استمعوا إلى ما تنزّل في المنافقين من آيات.
وكان من حكمة الحكيم العليم، أن يلفت المؤمنين إلى أنفسهم، بعد أن أراهم الصورة المنكرة للإنسان الضال المنحرف، ليكون لهم فيه عبرة وعظة.. وحتى لا يشغل المؤمن كثيرا بأمر هؤلاء المنافقين، وحتى لا يقف كثير من المؤمنين عند حد النظر إلى هذه الصور المتحركة بين عينيه، التلهي والتسلية.. جاءت هذه اللفتة السماوية إليهم، ليخرجوا بمشاعرهم وتصوراتهم عن هذا الموقف، ولينظروا في أنفسهم هم، وليراجعوا حسابهم مع ذواتهم، فقد يكون فيهم من هو على صورة هؤلاء المنافقين، أو على شبه قريب منها، وهذا يقتضيه أن يصحح وضعه، إن أراد أن يكون في المؤمنين.
أما كيف يقيم ميزانه السليم على طريق الإيمان، فهو أن يكون كما دعا اللّه المؤمنين إليه في هاتين الآيتين: وهو ألا يشغل عن ذكر اللّه بالأموال والأولاد، وألا يكون ذلك همه في الحياة الدنيا، فيستغرقه متاع هذه الحياة، ويقطعه عن ذكر اللّه، وعن النظر إلى الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء.. فإن من يفعل ذلك فقد خسر نفسه، وأوردها موارد الهلاك في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.
فإذا انخلع الإنسان عن سلطان الاشتغال بالأهل والولد، وعن الغفلة عن ذكر اللّه- كان طلب البذل منه للإنفاق في وجوه الخير، أمرا مقبولا، يمكن أن يمتثله ويستجيب له، حيث خرج من هذا السلطان المتحكم فيه، الآخذ على يده، وهذا هو السر- واللّه أعلم- في تقديم النهى على الأمر.. فإن الانتهاء عن المنكر والقبيح، مدخل إلى إتيان المعروف والحسن من الأمور.
إن الانتهاء عن القبيح أشبه بالشفاء من داء يغتال عافية الجسد، فإذا عوفى الجسد من هذا الداء، كان من الطبيعي بعد ذلك، أن تقوم ملكات الإنسان وحواسه بوظائفها كاملة.. فكما لا يدعى إلى حمل التكاليف والأعباء مريض، كذلك لا يدعى إلى القربات والحسنات من هو مقيم على المعاصي، ملازم للمنكرات.
وإن التربية الحكيمة لمثل هذا، هو أن يطبّ له من هذا الداء المتمكن منه، فإن هو أقلع عنه، كان من الممكن الانتقال به من جانب المعاصي إلى حيث البر والإحسان.. ولهذا كان من مقررات الشريعة: أن دفع المضار مقدّم على جلب المصالح!! وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} هو حثّ على المبادرة بطاعة اللّه، والإعداد اليوم الآخر، قبل فوات الأوان، حين يهجم الموت على غرة أو دون إنذار سابق، فيجد المرء نفسه وقد حضره الموت، وفاته ما كان يراود به نفسه من طاعة اللّه، ومن فعل الخير، وعندئذ يود أن لو استأنى به الموت قليلا، وترك له فرصة من الوقت، يتدارك فيه ما فات، ويصلح ما أفسد.. ولكن هيهات، هيهات! {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [34: الأعراف] وقوله تعالى: {فأصدق} منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية، الواقعة بعد الطلب، وهو الرجاء المفهوم من قوله تعالى: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} فلولا هنا بمعنى هلا.
وأصدق: أصله أتصدق، قلبت التاء صادا، وأدغمت في الصاد.
وأما قوله تعالى: {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} فهو مجزوم، لأنه واقع في حيّز جواب الشرط، المفهوم كذلك من قوله تعالى {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} فهو بمعنى {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}!..
وهذا الأسلوب من النظم لا يكون في غير القرآن، ونظمه المعجز، الذي يملك بسلطانه التصريف في الكلمات، كما يملك سبحانه وتعالى بقدرته التصريف في كل شيء.. فلقد تسلط أسلوب الطلب: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} تسلط على الفعلين: أصدق، وأكون.. جاعلا الفعل الأول مسببا عنه، وجاعلا الفعل الثاني جوابا له.
والسؤال هنا: ما الحكمة من مجيء النظم في الآية على هذا الأسلوب؟
ولما ذا لم يجيء الفعلان الواقعان في حيز الطلب، منصوبين معا، أو مجزومين معا؟
وما سر هذه التفرقة بين الفعلين، فيكون أحدهما مسبّبا، على حين يكون الآخر جوابا؟
نقول- واللّه أعلم-: إن هذا الاختلاف بين الفعلين، هو اختلاف في أحوال النفس، وتنقلها من حال إلى حال، في هذا الموقف المشحون بالانفعالات والأزمات.
فالموت حين يحضر هذا الإنسان الذي يدافع الأيام بالتسويف والمماطلة في الرجوع إلى اللّه، وعمل الصالحات- هذا الموت المطل على هذا الإنسان، يردّه إلى صوابه، ويوقظه من غفلته، ولكن ذلك يكون بعد فوات الأوان، وقد بلغت الروح الحلقوم، فلا يجد هذا الإنسان بين يديه إلا الأمانىّ، وإلا الرجاء فيقول: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ}.
إن ذلك هو أقصى أمانيه، وهو غاية مطلوبه.. ثم يخيل إليه من لهفته، وشدة حرصه على هذا المطلوب، أنه- وقد تمناه- أصبح دانيا قريبا، وأنه قد استجيب له فعلا، وأن يد الموت قد تراخت عنه قليلا إلى أجل.. وهنا ينطلق مع هذا الأمل فرحا مستبشرا.
إنه الآن يستطيع أن يتصدق.. وإنه إن يتصدق يكن من الصالحين، الذين يفوزون برضا اللّه ورضوانه.. ولهذا يخرج من باب الأمانىّ، ليدخل في باب العرض والطلب.. إن تؤخرني إلى أجل قريب أكن من الصالحين.. ولكن هذه الفرحة سرعان ما تختفى، وتغرب شمسها من نفسه، إذ يجيء قوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها} فيردّه هذا إلى مواجهة الموت، الذي خيّل إليه أنه فرّ من بين يديه! إنه حلم لحظة، في صحوة الموت أو غيبوبته، سرعان ما يذهب كما تذهب الأحلام.
وتحرير معنى الآية- على هذا المفهوم الذي فهمناها عليه، هو: هلّا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق.. وإن أصدق أكن من الصالحين، الناجين، من هذا الهول العظيم. الذي يطلّ بوجهه من قريب.

.سورة التغابن:

نزولها: مدنية عدد آياتها: ثمانى عشرة آية.
عدد كلماتها: مائتان وإحدى وأربعون كلمة.
عدد حروفها: ألف وسبعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
كانت سورة المنافقين حديثا متصلا عن النفاق وأهله، وأن هذا الفريق من الناس لن يقبل خيرا، ولن يهتدى من ضلال، أو يستقيم على هدى.
هكذا المنافقون، هم على هذه الطبيعة النكدة، التي لا يصلح من اعوجاجها شيء أبدا.
وقد كان من بد، سورة التغابن هذه، قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} ليقرر هذه الحقيقة العاملة في الناس، والمفرقة بينهم في مقام الكفر والإيمان، والضلال والهدى. فهكذا خلقهم اللّه.. كافرين، ومؤمنين.
فاللّه سبحانه يخلق ما يشاء، كما يشاء.. {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [54: الأعراف] فكما فرق سبحانه بين عوالم المخلوقات، من حيوان، ونبات، وجماد- فرّق سبحانه كذلك في صور هذه العوالم، فجعل من كل عالم أنواعا، وأشكالا لا حصر لها.
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [45: النور].. {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [4: الرعد].. {وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ} [27، 28: فاطر] فهذا الاختلاف والتنوع بين المخلوقات، هو من دلائل قدرة اللّه، وإنه ليس لمخلوق أن يعترض على الخلق الذي أقامه اللّه سبحانه وتعالى فيه: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ}: (23: الأنبياء) فهذا البدء الذي بدئت به سورة التغابن هو إلفات للمؤمنين الذين رأوا في صور المنافقين ما يكره وبذمّ.. إلفات لهم إلى فضل اللّه عليهم، وأنه سبحانه.. خلقهم للإيمان، وهداهم إليه، ولو شاء سبحانه لجعلهم في هؤلاء المنافقين، وألبسهم ثوب النفاق وهم في عالم الخلق والتكوين.
وإنه لمطلوب من المؤمنين إزاء هذا الإحسان، أن يستجيبوا لما دعاهم اللّه سبحانه وتعالى إليه، من الإنفاق مما رزقهم اللّه، بعد أن يتخففوا من سلطان الأثرة والشح الذي يمسك الأيدى عن الإنفاق، وهو الحب الشديد للمال والولد ذلك الحب الذي يلهى عن ذكر اللّه، ويشغل عن طاعته.
وإنه لمطلوب منهم كذلك أن يسبّحوا بحمد اللّه، وأن ينتظموا في موكب الوجود كله في هذه الصلوات الخاشعة الضارعة للّه سبحانه، وفى هذا الولاء لجلاله وعظمته.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 4):

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
هذا هو دأب الوجود كلّه في السموات والأرض، إنه في صلاة دائمة مستغرقة، وعلى وجه واحد، قائم بين يدى اللّه في ولاء وخشوع.
وتسبيح هذه العوالم التي يضمها الوجود، هو في خضوعها السلطان للّه سبحانه، وفى جريانها على ما أقامها عليه خالقها، دون أن يكون من أىّ ذرّة منها خروج على الحدود التي ألزمها اللّه إياها وأجراها فيها: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}:
(40: يس).
وفى قوله تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ} إشارة إلى هذا السلطان القائم على الوجود من قدرة اللّه.. فهو المالك لكلّ شيء، لا شريك له.. وإذ كان هذا شأنه فهو- سبحانه- الذي يصرف مخلوقاته كيف يشاء، ويقيمها حيث أراد.
وفى قوله تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ} إشارة أخرى، إلى أنه سبحانه وحده، هو المستحق الحمد من كلّ مخلوق، في أية صورة كان خلقه، وعلى أي حال كان وضعه.. فالخلق إيجاد، ووجود الكائن المخلوق، والوجود نعمة، بالإضافة إلى العدم، الذي هو ضلال في عالم التيه والضياع.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
وهذا هو تدبير اللّه في خلقه، وحكمه في عباده.. وهكذا خلقهم.. منهم الكافر ومنهم المؤمن.. كما أن منهم الذكر والأنثى، والذكىّ والغبىّ، والغنىّ، والفقير.. إلى غير ذلك من أنماط الناس، وأشكالهم.
ثم هو سبحانه {بصير} أي عالم علما متمكنا، من كل ما يعمل العاملون، من مؤمنين، وكافرين.
وقدّم الكافرون هنا على المؤمنين، لأن الكافرين كثرة في العدد، حتى لكأنهم يشبهون الجسد الإنسانىّ، على حين يمثل المؤمنون الرأس في هذا الجسد.
وقيل إن المعنى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} كلام تام، ثم كان بعد هذا الخلق أن ظهر في الناس ما هم عليه من كفر وإيمان، كما يقول سبحانه بعد هذا:
{فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}.
وهذا مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ} [45: النور].
وهذا المعنى، لا ينفى أن اللّه سبحانه خلق المؤمن مهيأ للإيمان مستعدّا له، وخلق الكافر مهيأ للكفر ومتقبّلا له، كما خلق الدواب، فكان لكل نوع، الخلق الذي هو عليه بين المخلوقات، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، {أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}.
أي أعطى كل مخلوق ما قدّر له، ثم هداه إلى هذا الذي قدّره له.
وليس ببعيد عن هذا ما يقول به جمهور علماء السنة من أن اللّه خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن اللّه خالق الكفر، وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن اللّه خالق الإيمان.
قوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.
أي أنه سبحانه خلق هذا الوجود- في أرضه وسمائه- بالحقّ، الذي عدل بين المخلوقات، وأقام كل مخلوق بالمكان المناسب له في هذا الوجود.
{وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ}.
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ} [115: المؤمنون].
{لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ} [17: الأنبياء].
وقوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} هو خطاب للناس جميعا، حيث كان وضعهم بين المخلوقات أحسن وضع، وكانت صورتهم أحسن صورة.. {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ}.
.. (6- 8: الانفطار).. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [4: التين].
فهذا الخلق السوىّ الذي أقام اللّه عليه الإنسان، هو نعمة جليلة تستحق من كل إنسان أن يقوم فيها بحمد اللّه، والشكر له.
والسؤال هنا: أيحسب الكافرون، والمشركون، وأهل الضلال، ممن هم من أصحاب النار- أيحسبون من هذا الخلق الذي صوره اللّه فأحسن صوره؟.
والجواب- بلا تردد- نعم!! فكل مخلوق خلقه اللّه، هو مخلوق في أحسن صورة وأعدلها، إذا هو أخذ مكانه في الوجود العام، ولم يخرج على وضعه الذي هو فيه.
فأىّ مخلوق أيّا كان قدره من الضالة، والضمور، هو بعض من الصورة العامة للوجود، وحيث كان من هذه الصورة، هو ذو شأن فيها، لا تكمل إلا به.. إنه أشبه بالنغم في اللحن الموسيقى الكبير، أو ما يعرف بالسمفونية.
والصوت الذي يخرج عن هذا اللحن، ولا يتّسق معه، هو صوت ضائع، لا حساب له، ومن الخير للحن ألا يكون فيه لهذا الصوت وجود أصلا.
والكافرون، والمشركون، وأهل الضلال، هم أصوات ضالة في هذا اللحن الكبير، الذي يسبّح به الوجود للّه، وينشد على أنعامه نشيد الولاء للّه رب العالمين.
ومع هذا، فإن هؤلاء الضالين، كانوا قبل أن يفسدوا ويضلوا- كانوا على فطرة سليمة، وخلق سوىّ.. ولكنهم أفسدوا هذه الفطرة، وغيّروا هذا الخلق، إذ أسلموا أمرهم للشيطان، الذي قادهم إلى الضلال فانقادوا، ودعاهم إلى الخروج عن أمر اللّه فأجابوا.. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} [4- 6 التين].
وفى قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} إنذار باليوم الآخر، وتحذير منه، حيث يصير الناس جميعا إلى اللّه يوم القيامة، ويحاسبون على ما قدموا من خير، أو سوء.
قوله تعالى: {يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
هو تعقيب على قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.
أي أن مصيركم أيها الناس، إلى من يعلم ما في السموات والأرض، ويعلم سركم وجهركم، بل إنه يعلم ما يدور في الصدر من خلجات ومشاعر، قبل أن تتخلق هذه الخلجات وتلك المشاعر في صورة كلمات لها مدلول ومفهوم عندكم.. فعلم اللّه علم شامل، قديم، يعلم ما كان قبل أن يكون، ويعلم ما سيكون على ما يكون.