فصل: تفسير الآيات (6- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (6- 9):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}.
مناسبة هذه الاية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة، قد عرضت لهذا الحدث الذي وقع في بيت النبيّ، حيث هناك أطهر النفوس وأكرمها، ومع هذا فإن النفس البشرية، لم تسلم من العوارض التي تظهر في سمائها الصافية حينا بعد حين، فتحتاج إلى محاسبة ومراجعة، حتى تنقشع هذه السحب عن سمائها، ويعود إليها صفاؤها، وإشراقها.
فإذا كان هذا في بيت النبوة، فما ظنك بما يقع في آفاق النفوس خارج هذا البيت الكريم، من زلات، وهزات، تتصدع لها النفوس، وتضلّ معها العقول؟
وإذن، فالأمر يحتاج إلى مراقبة دائمة من الإنسان لنفسه، وحراسة واعية من الآفات التي تتهدد إيمانه، وترعى مواطن الخير فيه.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ}.
هو تنبيه للإنسان من غفلته عن الأعداء المتربصة به، وبأهله، والتي إن لم يأخذ حذره منها أوردته موارد الهلاك، هو وأهله.
ووقاية الإنسان نفسه، من النار، هي في أن يستقيم على شريعة اللّه، ويقف عند حدود أوامرها ونواهيها.. ففى ذلك سلامته من عذاب السعير.
أما وقاية أهله، فتكون بنصحه لهم، وإرشادهم إذا ضلّوا، وتنبيههم إذا غفلوا.. ثم قبل هذا كله، يجب أن يكون هو القدوة الحسنة لهم، في طاعة اللّه، وفى اتقاء حرماته.. لأن الخطاب هنا إنما هو لرأس الجماعة، في الأسرة، ونحوها، كالأب، والأخ الأكبر، والعالم، وذوى الوجاهة والمكانة في هذا المجتمع الصغير.. فهو هنا مسئول مسئولية الراعي عن رعيته، كما يقول الرسول الكريم: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته».
وفى قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ} إشارة إلى قوة الطاقة الحرارية لهذه النّار، التي تجعل الحجارة وقودا لها، كما توقد نار الدنيا بالحطب.
وقوله تعالى: {عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} هو عرض لخزنة جهنم وحرّاسها، وما هم عليه من غلظة وشدّة.. فهم بهذه الغلظة وتلك الشدة يتعاملون مع أعنى المجرمين، وأضل الضالين.. وهم بما يطلع على أهل النار من غلظتهم وشدتهم- هم عذاب إلى عذاب! قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
هو خطاب للكافرين الذين سيردون هذه النار، وسيكونون حطبا ووقودا لها- خطاب لهم بألا يعتذروا في هذا اليوم، يوم القيامة، فإنه لا يقبل منهم عذر، فهذا وقت الجزاء بما عمل العاملون، وقد عملوا هم السوء، فكان جزاؤهم هذا العذاب الذي هم فيه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [57: الروم].
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
هو دعوة إلى المؤمنين عامة، أن يتوبوا إلى اللّه، وأن يرجعوا إليه كلّما بعدوا قليلا أو كثيرا عنه، بما اقترفوا من آثام، وما اجترحوا من سيئات.
فإن التوبة تغسل الحوبة، وهى الأسلوب الذي يصالح به العبد ربّه، ويفتح به أبواب رحمته ورضوانه.
والتوبة النصوح، هي التوبة الصادرة عن قلب مفعم بالندم، وعن ضمير مثقل بما خالطه من إثم، ومن وراء ذلك عزيمة صادقة، ونيّة منعقدة على عدم العودة لما كان منه التوبة.
وقوله تعالى: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ}.
عسى، وإن كانت أسلوبا يفيد الرجاء، فإن هذا الأسلوب إذا تعلق باللّه سبحانه وتعالى، كان معناه الوجوب، والوقوع.. لأن الرجاء إنما يكون في حقّ من لا يقدر، واللّه سبحانه قادر على كل شيء.. أما استعمال أسلوب الترجّى في جانب اللّه سبحانه وتعالى، فهو منظور فيه إلينا، وإلى أنه ينبغى أن نقيم أمرنا مع اللّه على رجاء، فلا يأس من رحمته، ولا قطع بالنجاة من عذابه، وبهذا يكون العبد المؤمن على صلة دائمة باللّه، يرجو رحمته، ويخشى عذابه.
كما يقول سبحانه: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً} [57: الإسراء].
وقوله تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} ظرف متعلق بقوله تعالى {وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} أي يدخلكم الجنات يوم لا يخزى اللّه النبيّ والذين آمنوا معه.
ونفى الخزي عن النبيّ والذين آمنوا معه، هو إدخالهم الجنة، وعرضهم يوم القيامة في معرض التشريف والتكريم، حيث يعرض الكافرون معرض الخزي والهوان.
ولقد كان من دعاء المؤمنين ما أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: {رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ} [194: آل عمران] وهو الدعاء الذي دعا به إبراهيم ربّه.. في قوله تعالى على لسانه: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [87- 89: الشعراء].
وقوله تعالى: {نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هو حال من أحوال المؤمنين في هذا اليوم، وذلك أنهم وهم سائرون إلى الجنة، يتقدمهم نور يسعى بين أيديهم، ونور يشع في أيمانهم، وهو الكتاب الذي سجلت فيه أعمالهم، فكانت تلك الأعمال- لحسنها- نورا يسعى بين أيديهم.. ثم إنهم وهم في طريقهم إلى الجنة، مع هذا النور الذي يسعى بين أيديهم كما يسعى الخدم بين يدى الضيوف القادمين على مضيف كريم- إنهم وهم في الطريق إلى الجنة، يكونون على إشفاق من أن ينقطع عنهم النور الهادي، فيسألون ربهم قائلين: ربنا أتمم لنا نورنا، واغفر لنا ما نجد في صحف أعمالنا من سيئات، فإنك على كل شيء قدير، وإن من شأن القادر العفو والصح، والمغفرة وقد غفر اللّه لهم، وأتم لهم نورهم، فمضى معهم نورهم إلى أن دخلوا جنات النعيم جعلنا اللّه منهم، وألحقنا بهم.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة قد توعدت الكافرين بالنار التي وقودها الناس والحجارة، وأنهم إذا اعتذروا وهم على طريق النار فلن يقبل منهم عذر، لأن اللّه إنما أخذهم بهذا العذاب الغليظ لما ارتكبوا من منكر غليظ هو الكفر.
وإذ كان الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو دعوة الحق إلى الإيمان باللّه، وإذ كان الكافرون هم الذين يقفون في وجه هذه الدعوة، ويصدون الناس عن سبيل اللّه، فقد ناسب أن يقوم النبي في هذه الحياة الدنيا بما يملك من وسائل الردع والكبت، للكافرين.. فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه.. سلطان اللّه، وبهذا السلطان يودّب العصاة، ويأخذ المجرمين.
ولهذا ناسب أن تأخذ الآية الكريمة مكانها هنا.

.تفسير الآيات (10- 12):

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}.
مناسبة هذه الآية وما بعدها، لما سبقها من آيات، هي أن السورة قد عرضت لمواقف كانت من أزواج النبي، عليه الصلاة والسلام، وقد كادت هذه المواقف تخرجهن من بيت النبوة، وتحرمهن هذا المكان الكريم اللائي هن فيه، محفوفات برحمة اللّه ورضوانه- فناسب ذلك أن تجيء هنا تلك الآيات التي تعرض أحوالا مختلفة لبعض النساء.. حيث كان بعضهن في بيت النبوة، فلما لم يستقمن على طريق الحق والخير، أخذهن اللّه ببأسه، وألقى بهن خارج بيت النبوة، يتخبطن في ظلمات الضلال والكفر، وكانت عاقبتهن الخسران، والوبال، والعذاب في نار جهنم، ولم يغن عنهن حرم النبوة اللائي تحصنّ فيه ظاهرا، وهتكن ستره باطنا.
والمثل البارز هنا، ما كان من امرأة النبيين الكريمين: نوح ولوط، {كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما} أي أخذتا طريقا غير طريقهما، ووقفتا منهما موقف العدوّ المحادّ لهما.. {فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي لم يكن لهما من النبيين الكريمين شافع يردّ عنهما بأس اللّه، فأهلكهما للّه في الدنيا مع القوم الظالمين، إحداهن بالغرق، والأخرى برجوم السماء.. أما في الآخرة، فالنار مثواهما مع أهل الكفر والضلال:
{وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}.
وعلى عكس هذا، ما كان من امرأة فرعون.. حيث ضمّها إليه رجل كان من أشد عباد اللّه كفرا، وأبعدهم في الضلال مذهبا.. ومع هذا فقد استنارت بصيرتها بنور الهدى، فآمنت باللّه، وأبصرت طريقها إليه وسط هذا الظلام الكثيف المتراكم.. وبهذا نجت بنفسها من هذا المصير الذي صار إليه فرعون والملأ الذين معه.. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وقد استجاب اللّه سبحانه وتعالى لها، وأدخلها في عباده المؤمنين، وأبقى لها ذكرا خالدا في المكرمين من عباده.
وهذه مريم ابنة عمران، التي نذرتها أمها للخدمة في بيت اللّه، والعمل في طاعته.. إنها نبتة طيبة، في منبت طيب.. قد قام أمرها على الطريق المستقيم، وهى في بطن أمها، فلما استقبلت الحياة احتواها بيت اللّه، وضمها إليه نبى من أنبياء اللّه، هو زكريا عليه السلام.. وهكذا كانت عناية اللّه تحفّ بها، وألطافه تتوالى عليها.. حتى كانت الصلاح، والتقوى، والطهر، وبهذا كانت الأنثى التي استخلصتها الإنسانية كلها، لتلقّى كلمة اللّه، ولتلد بنفخة من روح القدس، مولودا يتخلق في كيانها من غير أن يشاركها فيه رجل.. وفى هذا يقول سبحانه: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} [12: التحريم].
فهذه ثلاثة أمثال، تحتوى النساء جميعا، في ثلاث مجموعات.
المجموعة الأولى: المرأة التي فسدت طبيعتها.. تكون في بيئة طيبة، صالحة، فيغلب فسادها، وخبث ريحها، هذا الطيب الذي يهب عليها من بيئتها، فلا تتأثر به، ولا تتقبله طبيعتها التي ألفت هذا العفن الذي ينضح منها.
والمجموعة الثانية، هي المرأة التي طابت طبيعتها، وسلمت فطرتها.. تكون في بيئة فاسدة عفنة، فلا تتقبل هذا الفساد، ولا تتأثر به، بل تظل محتفظة بفطرتها السليمة، وبينابيع الخير التي تجرى في كيانها، فترتوى منها، وتعيش عليها.
والمجموعة الثالثة: المرأة التي طابت طبيعتها، وسلمت فطرتها.. تنشأ في بيئة طيبة صالحة، فيزداد طيبها طيبا، وصلاحها صلاحا.
وبقي من هذا التفصيل وجه رابع، لم يذكره القرآن، وهو المرأة الفاسدة طبيعة.. تنشأ في البيئة الفاسدة.. والسبب في عدم ذكر هذا الوجه ظاهر، لأن النتيجة اللازمة له، لا تخرج عن حكم واحد، هو ازدياد الفساد فسادا، حين يجتمع الفساد إلى الفساد.. تماما، كما يزداد الصلاح صلاحا باجتماع الصلاح إلى الصلاح.
وهذا يعنى أمورا:
أولا: أن الذاتىّ من الأمور، يغلب العرضىّ، ويقهره.. بمعنى أن ما في كيان الإنسان من استعداد فطرى، هو القوة العاملة في الإنسان، وأن ظروف البيئة- مع تأثيرها القوى في الكائن الحي، وفى الإنسان بالذات، خلقيّا، وعقليّا، ووحيّا- هذه الظروف مهما تكن، فإنها لا تقوى على طمس معالم الاستعداد الفطري المهيأ له الإنسان، سواء أكان ذلك الاستعداد طيبا أو خبيثا.. وهذا ما فهمنا عليه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن] أي خلقكم فمنكم من كانت خلقته مهيأة للإيمان مستعدة له، ومنكم من كانت خلقته لا تقبل الإيمان أبدا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ} [125: الأنعام] وثانيا: أن احتكاك الشر بالخير، كثيرا ما تتولد عنه دوافع قوية، تغرى الخير بالتشبث بموقفه، وإطلاق جميع القوى الكامنة فيه، لدفع هذا الخطر الذي يتهدده.. وإنه لولا هذا الاحتكاك، بين الشر والخير، لظلّت كثير من قوى الخير كامنة، ساكنة أشبه بالطيب في العود، لا يفوح طيبه إلا عند حكه أو عرضه على النار.. كما يبدو ذلك في امرأة فرعون.
وهذا يعنى أن ما يبتلى به المؤمنون، الذين صدق إيمانهم، هو تثبيت لهذا الإيمان، وإظهار لكرم جوهره، وصفاء عنصره.
وثالثا: أن الخير وإن كان قليلا في كمّه، فإنه كثير في كيفه وأن قوى الشر كلها مجتمعة، لا تستطيع أن تطفئ شعلة الإيمان التي احتواها قلب مؤمن، وإن استطاعت أن تخمد أنفاس هذا المؤمن، وتزهق روحه.. وهذه امرأة فرعون، تقهر بإيمانها جبروت هذا الجبار، وتذلّ كبرياءه، وتلفظه زوجا، وتلفظ سلطانها، ملكة غير آسفة عليه، أو على سلطانها، أو حياتها، في سبيل الاحتفاظ بهذه الشعلة المقدسة من نور الإيمان، مضيئة في قلبها.

.سورة الملك:

نزولها: مكية، نزلت بعد سورة الطور.
عدد آياتها: ثلاثون آية.
عدد كلماتها: ثلاثمائة وثلاثون كلمة.
عدد حروفها: ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
كانت الآيات التي ختمت بها سورة التحريم السابقة على هذه السورة، معرضا للصراع بين الخير والشر، والحرب بين الإيمان، والكفر- فيما كان من امرأة نوح وامرأة لوط، وخروجهما من المعركة خاسرتين كافرتين.. ثم ما كان من امرأة فرعون، وصراعها مع قوى الشر المحدقة بها من كل جهة، ثم انتصارها، وخروجها من وسط هذا الظلام المطبق، إلى حيث النور والهدى.
ثم كان مما بدئت به سورة الملك قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ليقرر أن نتيجة هذا الصراع بين المحقّين والمبطلين، والمحسنين والمسيئين- إنما تظهر على حقيقتها كاملة يوم القيامة، ولهذا كان مما قضت به حكمة اللّه سبحانه وتعالى أن يكون موت، ثم تكون حياة بعد هذا الموت، ليحاسب الناس على ما عملوا في الدنيا، من خير أو شر.
فكان من المناسب أن تلتقى هذه الحقيقة التي قررتها سورة الملك مع تلك الحقيقة التي ختمت بها سورة التحريم.
وبذلك يتأكد المراد منهما معا.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.