فصل: تفسير الآيات (17- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (17- 33):

{إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)}.
التفسير:
بين أصحاب الجنة ومشركى قريش:
قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ}.
الضمير في {بَلَوْناهُمْ} يعود إلى مشركى قريش، الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة في قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ...} الآيات.
والبلاء، والابتلاء: الاختبار، والامتحان.. بالخير، وبالشر.
والآية تشير- كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين- إلى ما كان من ابتلاء اللّه سبحانه للمشركين من مضر، إذا أخذهم اللّه بالقحط والجدب، استجابة لدعوة الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، إذ دعا عليهم الرسول بقوله، فيما يروى عنه: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف».
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [10- 12: الدخان].. وقد مضى تفسير هذه الآيات في سورة الدخان.
والرأى عندنا- واللّه أعلم- أن هذا الابتلاء الذي ابتلى به المشركون، هو هذا القرآن الكريم، الذي جاءهم به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، يتلوه عليهم، ويدعوهم إلى الحياة في ظله، والقطف من ثماره.. فهو الجنة التي تؤتى ثمارها كل حين بإذن ربها، وأنهم لو جاءوا إلى هذه الجنة بقلوب سليمة، ونفوس مطمئنة لكان لهم منها زاد عتيد لا ينفد أبدا.. أما وقد جاءوها في تلصص ومخالسة، وفى ستار من ظلمة الليل، يريدون أن يصبح الناس فلا يرون لثمرها أثرا- فقد فوت اللّه سبحانه عليهم ما يريدون، وحال بينهم وبين ما يشتهون..!!
وسنعرض لوجه الشبه بين المشركين، وأصحاب الجنة، بعد أن نلتقى مع هذه الآيات التي عرضت لهذه الجنة وأصحابها.
أما أصحاب الجنة هؤلاء، فلم يذكر القرآن عنهم إلا أنهم جماعة من الناس.
قد يكونون إخوة أو شركاء، يملكون جنة، فيها زرع، ونخيل، وأعناب، ونحو هذا مما يطلق عليه اسم جنة.
أما مكان هذه الجنة، وزمانها، وأعيان أصحابها، فلم يلتفت القرآن إلى شيء منه، إذ لم يكن لشيء من هذا متعلّق بالحدث، ولا بموقع العبرة الماثلة منه.. ومع هذا فقد كثرت المقولات، وتعددت الروايات، التي تحدد مكان هذه الجنة وزمانها، وعدد أصحابها، الأمر الذي يخرج بالحدث عن مضمونه، ويكاد يقطع النظر عن موضع العبرة منه، بما يزدحم بين يديه من ألوان وظلال، وحركات، وصور.. للزمان، والمكان والأشخاص.
ومن جهة أخرى، فإن هذه القيود التي يشدّبها الحدث إلى زمان بذاته، أو مكان بعينه، أو أشخاص بسماتهم- هذه القيود تجمّد الحدث، وتفقده الحياة والحركة، عبر الأزمان والأماكن، على خلاف ما لو أطلق من هذه القيود، حيث يراه الناس في كل مكان، وزمان، ويشهدونه في كل مجتمع، صغير، أو كبير.
وابتلاء أصحاب الجنة هؤلاء، الذين ابتلى اللّه سبحانه مشركى قريش، كما ابتلاهم- هو فيما كان منهم من تدبير سيء، ومكر بنعم اللّه عليهم، فكان أن انتزع اللّه سبحانه هذه النعمة من بين أيديهم، وقتلهم بالسلاح الذي كانوا يحاربونه به.. كما سنرى ذلك فيما تحدث به الآيات من قصتهم.
وقوله تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ}.
أي أن الابتلاء لأصحاب الجنة كان منذ وقع منهم هذا القسم الذي أقسموه على جنى ثمر الجنة وقطعها {مُصْبِحِينَ} أي في أول مطلع الصباح، وعند استقبالهم له.
وصرم، الشيء: قطعه، وانصرم حبل الودّ بين فلان وفلان، أي انقطع، وانصرم معظم الليل، أي مضى، كأنه انقطع من الليل.
وقوله تعالى: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} هو حال من فاعل: {لَيَصْرِمُنَّها} أي أقسموا ليقطعنّ ثمر الجنة مستقبلين الصبح، غير مستثنين شيئا منها أو مبقين على شيء من ثمر هذه الجنة من غير حصاد أو جنى، حتى لا يبقى لأحد من الفقراء، نظر يتعلق بشيء من ثمرها.
فهذا ما أقسموا عليه، وقد جاء به القرآن على لسانهم.
ويجمع المفسرون على أن قوله تعالى: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} هو بمعنى أنهم حين أقسموا على صرم الجنة صباحا، ولم يستثنوا في هذا القسم، أي لم يقولوا: إن شاء اللّه!! وهذا المعنى غير مقبول من وجوه:
فأولا: من جهة نظم الكلام، لأن ما ذكره القرآن عنهم هو حكاية لقول قالوه في زمن مضى، ولهذا جاء به النظم القرآنى بلفظ الماضي: {إِذْ أَقْسَمُوا}.
فهم قد أقسموا في الماضي، أما ما أقسموا عليه، فهو قطع ثمار الحديقة صباح الغد، أي في زمن مستقبل، وهو: {لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ}.
أما قوله تعالى: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} فهو من منطوقهم الذي نطقوا به، وهو من جملة ما أقسموا عليه.. فلو أن هذا القسم مطلقا، دون أن يقيدوه بالمشيئة- لو كان المعنى على هذا، لكان مقتضى النظم أن يجيء هكذا: أقسموا ليصرمنّها مصبحين ولم يستثنوا!! ولكن النظم القرآنى جاء كما يقول سبحانه: {أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ} فالاستثناء هنا معنى مرتبط بقوله تعالى: {لَيَصْرِمُنَّها} كما تعلق به لفظ {مُصْبِحِينَ} وكلاهما حال من أصحاب الجنة.
بمعنى أنهم أقسموا ليصرمنّها كلها، غير تاركين شيئا من ثمرها، وذلك في مطلع الصبح.
وثانيا: من جهة المعنى.. فإن في حمل قوله تعالى: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} على أنه استثناء مشيئة، بمعنى أنهم أطلقوا القسم من غير أن يقولوا إلا أن يشاء اللّه- في هذا الحمل إفساد للمعنى، وخروج به عن الغاية المرادة من الاستثناء في هذا المقام، لو أريد.
ذلك أن قرن القسم بالمشيئة، هو ضمان لتحققه، كما أن عدم الاستثناء قد يفوّت الأمر المقسم عليه.. وهذا يعنى أن القوم حين أقسموا ولم يستثنوا، لم يتحقق لهم ما أقسموا عليه، وهو جنى ثمار جنتهم، كما يعنى أنهم لو قرنوا القسم بالمشيئة، لتحقق لهم ما أقسموا عليه، ولكن الأمر على خلاف ذلك، فهم أقسموا، ولم يقرنوا القسم بالمشيئة- كما يقول المفسرون- ولم يتحقق لهم ما أقسموا عليه.. فكيف يتفق هذا مع ما يريد المفسرون تحقيقه بالمشيئة؟ فهل كان هذا عملا مبرورا منهم يراد له أن يتحقق، وذلك بأن يعزّز بمشيئة اللّه؟ ذلك إفساد للمعنى أىّ إفساد!.
ثم أكان ربط القسم بالمشيئة يدفع عنهم ابتلاء اللّه لهم، وأخذهم بما مكروا؟.
وهل القسم على أمر منكر كهذا الأمر الذي أقسموا عليه يطلب له تزكية بالمشيئة، حتى يكون في ذلك ضمان لتحققه؟ وهل من المحمود إذا أقسم الإنسان على فعل منكر أن يقدّم مشيئة اللّه بين يديه، فيقول مثلا: واللّه لأقتلن فلانا إن شاء اللّه؟ إن تقديم المشيئة المطلوبة من المؤمن، هو أن يكون مع الأعمال المبرورة، كأن يقول مثلا: واللّه لأحجّنّ هذا العام إن شاء اللّه، أو يقول من غير قسم- سأقوم غدا بزيارة فلان المريض.. إن شاء اللّه.. وهكذا في كل أمر ليس فيه ما يكره أو ينكر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} [23- 24: الكهف].
أمّا إذا كان الأمر مكروها أو منكرا، فإن المطلوب هو عدم قرنه بالمشيئة، حتى يحرم صاحبه التوفيق في إصابة هذا الأمر، وتحقيقه.. بل إن المرء لو أقسم على مكروه، أو منكر، كان عليه أن يتحلل من يمينه، وأن يكفّر عنها، كما يقول الرسول الكريم كما رواه مسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفّر عن يمينه، ثم ليفعل الذي هو خير».
وعلى هذا، فإن قوله تعالى: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} هو من جملة ما أقسم عليه المقسمون، أي أنهم أقسموا ليصرمن جنتهم مصبحين على ألا يدعوا شيئا من ثمرها مستثنى لوقت آخر.. وهذا ما يتفق والغاية التي قصدوا إليها من تدبيرهم الذي دبروه، وهو ألا يعطوا الفرصة للفقراء والمساكين فيما كان لهم طمع فيه، وتعلق به.
وقوله تعالى: {فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} الفاء هنا للتعقيب، وهى فاء الجزاء أيضا.. أي أنهم بعد أن دبروا هذا التدبير السيّء، وأكّدوه بالقسم، أوقع اللّه بهم العقاب الذي استحقوه بتدبيرهم السيّء هذا.. فطاف على جنتهم طائف من اللّه سبحانه، وهم نائمون، أي مرّ عليها نذير من نذر اللّه، وهم نائمون، يحلمون بلقاء جنتهم مصبحين، يقطفون كل ثمارها غير مبقبن على شيء، وإذا هي وقد عريت من كل ثمر!!
وفى قوله تعالى من {فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} إشارة إلى أن هذا الطائف المرسل إليها من عند اللّه، قد وضع يده عليها شجرة شجرة، وثمرة ثمرة، فلم يبق مما مرت عليه يده من ثمارها شيئا.
والطائف: من يطوف ليلا، فلا يكاد يرى، ومنه الطيف، الذي يطرق النائم، من حبيب، أو صديق.
وقوله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي أصبحت هذه الجنة بعد أن طاف عليها الطائف المسلط عليها من عند اللّه- أصبحت كالصريم، أي كالجنة الصريم، التي قطفت ثمارها.. أي أن هذا الطائف، قد سبق القوم إلى ما كانوا يريدون، فإذا هو قد جنى كل ثمرها، وكأنه بهذا قد تولى الأمر عنهم، وأراد أن يريحهم من هذا العناء الذي يكابدونه في حصاد ثمرها، وأنه قد فعل هذا دون أن يراه فقير أو مسكين! أليس هذا هو الذي أرادوه؟ لقد تحقق لهم على أكمل وجه!! ولكن أين ذهب الثمر؟ إنهم لو وجدوه مقطوفا، حاضرا بين أيديهم، لعدّوا ذلك من فضل اللّه عليهم، وإحسانه إليهم.. فأين هو الثمر؟
ليس ببعيد أن يكون الآن بين أيدى الفقراء والمساكين، الذين أرادوا حرمانهم منه، وقد وصل إلى أيديهم على أية صورة من الصور.. فإنه ليس ببعيد- وقد بان لهم أن ما حدث لجنتهم كان عقوبة من اللّه لهم- ليس ببعيد بعد هذا أن تضاعف لهم العقوبة، فيحرموا مما أرادوا أن يحرموا منه غيرهم، ثم يساق هذا الذي حرموه إلى من أرادوا حرمانهم! ومن يدرى، فقد يكون هؤلاء المساكين قد سبقوهم إلى هذا التدبير، فدبروا لهم هذا التدبير، كما أرادوا هم بالمساكين!! وإنه غير بعيد أن تدور مثل هذه الخواطر في رموس أصحاب الجنة فتزداد حسرتهم، ويتضاعف ألمهم.. {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} [30: الأنفال].
قوله تعالى: {فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ}.
أي نادى بعضهم بعضا، في بكرة الصباح، أن أسرعوا إلى زرعكم، إن كنتم منفذين لما عقدتم العزم عليه بالأمس.
وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ} هذا من قول بعضهم لبعض، وفيه تحريض لأنفسهم على المبادرة والإسراع بتنفيذ ما اتفقوا عليه.. وكأن كلّا منهم يقول لصاحبه: هيا أسرع!! ماذا جرى؟ ألا تريد أن نمضى فيما عزمنا عليه؟
فلم هذا التباطؤ إذن؟
قوله تعالى: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ}.
أي أنهم سرعان ما اجتمع أمرهم، فانطلقوا مسرعين، يتحدث بعضهم إلى بعض، في صوت خفيض هامس، حتى لا يحسّ بهم أحد، ولا يستيقظ على خطوهم أو صوتهم من يشهد ما يفعلون، وهم يجنون ثمر جنتهم!.
وقوله تعالى: {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} هو بيان لما كانوا يتخافتون به، ويوصى به بعضهم بعضا، وهو ألا يدخل الجنة عليهم أحد في يومهم هذا.. وهذا الحديث المتخافت بينهم، هو توكيد لما كانوا قد اتفقوا عليه من قبل.. وهو مفهوم من قوله تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ}.
فهذا القسم، يخفى وراءه أمرا يريدون توكيده بهذا القسم، وعقد العزم عليه. فإن مجرد رغبتهم في جنى ثمار جنتهم لا يحتاج إلى قسم، إذ كان ذلك الأمر إليهم، يفعلونه كما يشاءون، وفى أي وقت يريدون.
أما القسم، فهو لغاية أكثر من مجرد قطف ثمار الجنة وحصاد زرعها.
ثم إن في قوله تعالى: {مُصْبِحِينَ} إشارة أخرى تشير إلى أن وراء هذا الأمر أمرا آخر، إذ نظر إليه على ضوء القسم الذي سبقه.. فإن التبكير بقطع الثمار وحصاد الزرع، وإن كان أمرا مألوفا، فإنه في صحبة القسم، يصبح ذا دلالة خاصة، غير تلك الدلالة العامة، وهو أنهم يريدون بهذا التبكير، المبادرة إلى إنجاز الأمر قبل أن يفضحهم النهار، وتأخذهم أعين الفقراء والمساكين.
قوله تعالى: {وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ}.
أي أنهم أحكموا أمرهم، وأخذوا طريقهم إلى تنفيذه، واجتمعت بين أيديهم الوسائل الممكّنة لهم منه.
فهاهم أولاء قد استيقظوا مبكّرين، وما زال الناس نياما، وهاهم أولاء قد أوشكوا أن يبلغوا جنتهم دون أن يتنبه إليهم أحد، أو يتبعهم مسكين.
والحرد: القصد، والوجهة التي يأخذها الإنسان لغايته.. ومنه قول الشاعر:
سيل جاء من عند اللّه ** يحرد حرد الجنة المغلة

والمعنى أنهم، وقد أخذوا طريقهم إلى جنتهم، خيل إليهم أنهم قادرون على القصد الذي قصدوا إليه، وإنجاز الأمر الذي دبروه، دون أن يحول بينهم وبينه حائل.. وما دروا أن يد اللّه قد سبقتهم إليه، وأنه قد حيل بينهم وبين ما يشتهون.
قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي أنهم حين انتهى بهم الطريق إلى حيث كانت جنتهم، طلع عليهم هناك منها ما جعلهم ينكرونها، وينكرون أنفسهم حيالها.. إنها ليست جنتهم!!
وإلا فأين ثمارها اليانعة، وزروعها الناضجة؟ كلا إنهم ضلوا الطريق إليها، وهم يركبون بقية من ظلام الليل نحوها!! وإذن فأين الطريق إلى الجنة؟ وهنا يكثر تلفت القوم، ويطول وقوفهم، ثم تستبين لهم الحقيقة، وأنهم لم يضلوا الطريق إلى جنتهم.. إنهم يقفون إزاءها، كما يقف المسافرون على رسوم الديار، وأطلال المنازل.
وقوله تعالى: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} هو إضراب على قولهم: {إِنَّا لَضَالُّونَ}.
فهم- وقد عرفوا الحقيقة- ليسوا ضالين عن الطريق إلى جنتهم.. إنها هى، هى، وإن تبدلت أحوالها، وتغيرت معالمها، وذهب كل خير كان فيها.
فهم ليسوا ضالين عنها إذن، وإنما هم محرومون من ثمرها، الذي لا يدرون إلى أين ذهب! قوله تعالى {قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} وهنا يأخذ القوم في مراجعة أمرهم على ضوء هذه الحقيقة التي تكشفت لهم، ويكثر بينهم الأخذ والردّ.. ويمسك القرآن من حديثهم باللّباب منه، ضاربا صفحا عما لا غناء فيه، في هذا الموقف.
ومما رآه القرآن مستحقّا للذكر من أحاديثهم، هو قول أوسطهم، وهو أقربهم إلى الخير والحق.. ففى كل جماعة- أيّا كانوا من الضلال والسفه- بعض النفوس التي لا تخلو من خير، وبعض العقول التي لا تحرم الرؤية السليمة للأمور، في وسط هذا الضلال المنعقد حولها.
ففى بيئة فرعون- على ما كان بها من إغراق في الضلال- كانت امرأة فرعون، وكان مؤمن آل فرعون، وقد جعل القرآن لهما ذكرا طيبا في المذكورين من عباد اللّه المكرمين.. والوسط من كل شيء خياره، وأعدله، ولبابه، ومنه قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [143: البقرة] وفى الأثر: «خير الأمور أوساطها».
وقد وصف اللّه سبحانه الشجرة المباركة الزيتونة بأخذها مكانا وسطا بين الشرق والغرب، فقال تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [35: النور].. ووسط القوم أدناهم إلى الحق والخير.
وفى هذه الجماعة من أصحاب الجنة، كان فيهم من لم يرض في قرارة وجدانه عن هذا التدبير السيئ الذي دبره أصحابه، وربما كان له موقف معارض لما أرادوا.. ولكن أصحابه غلبوه على أمره، لأن إيمانه بما كان يدعوهم إليه لم يكن متمكنا من قلبه ولو أن هذا الإيمان كان قويّا متمكنا، لما تحول عنه، ولكان بالحق الذي معه، قادرا على أن يقهر الباطل الذي معهم.. ولهذا أخذه اللّه بما أخذ به أصحابه، من ابتلاء.
لقد كان في كيانه شرارة من خير، ولكنه لم يقدح هذه الشرارة بعزيمة صادقة، وإرادة عاقلة، فانطفأت جذوتها، وأصبحت رمادا لا يرجى منه خير.
وهكذا كل من يجد في نفسه نازعة من نوازع الخير ثم يغفل عنها، إنها تموت كما تموت النبتة البازعة على وجه الأرض، إن لم تجد من يرعاها، ويسقيها.
وفى قوله تعالى: {قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} بيان لموقف هذا الإنسان المقتصد في عدوانه، وأنه هنا يذكّر أصحابه بموقفه الذي كان منه معهم.
{أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} أي ألم أقل لكم، قولا لو أخذتم به لما حدث لنا هذا الذي حدث؟. وقد حذف مقول القول، لدلالة الحال عليه.. وهذا أولى عندنا من أن يكون مقول القول هو قوله: {لَوْلا تُسَبِّحُونَ} كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين.
وأما قوله تعالى: {لَوْلا تُسَبِّحُونَ}.
فهو كلام مستأنف، يعقّب به على قوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ}.
وفى هذا التعقيب، يدعوهم دعوة جديدة، يواجهون بها هذه الحال التي هم فيها، وهى أنهم وقد أخطئوا حين لم يأخذوا برأيه أولا، فإن هذا لا يمنعهم من أن يرجعوا الآن إلى اللّه، ويستغفروا لذنبهم بعد أن رأوا ما أخذهم اللّه به.
فقوله تعالى: {لَوْلا تُسَبِّحُونَ} هو من مقول أوسطهم، وهو تحضيض لهم على الإنابة إلى اللّه، واستغفاره على ما كان منهم.. أي هلا تسبحون اللّه؟.. أي بادروا بذكر اللّه، فهذا الذكر هو عزاؤنا في هذا المصاب الذي بين أيدينا.. ويكون النظم على هذا هكذا: ألم أقل لكم، ما علمتم ولم تأخذوا به؟ وهأنذا أقول لكم الآن قولا أرجو أن تأخذوا به: ألا تسبحون اللّه، وتستغفرون لذنبكم؟
قوله تعالى: {قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ}.
هو استجابة من الجماعة لما دعاهم إليه أوسطهم، من تسبيح اللّه، فقالوا سبحان ربنا.. إنا كنا ظالمين.
لقد اعترفوا بذنبهم، واستغفروا ربّهم.. وهم بين يدى رحمته.. إن شاء- سبحانه- رحمهم، وقبل توبتهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (199: البقرة) قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ}.
أي أنه كان منهم وهم على بساط التوبة والندم- كان منهم حديث يلوم فيه كلّ منهم نفسه، كما يلوم أصحابه.. فإن الجريمة مشتركة بيتهم جميعا، ولكل منهم نصيبه منها.
قوله تعالى: {قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ}.
هذا ما انتهى إليه تلاومهم، ومراجعتهم لما كان منهم.. فلقد استبان لهم أنهم كانوا معتدين حقّا، قد ركبوا طريق الطغيان، والاعتداء على حقوق المساكين فيما خوّلهم اللّه سبحانه من نعم.. وهذا الاعتراف بالذنب، هو الطريق الصحيح إلى التوبة، إن صدقته النية، وانعقد عليه العزم.
قوله تعالى: {عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ} هو من مقول القوم في رجوعهم إلى اللّه سبحانه، بعد أن اعترفوا بذنبهم، وطلبوا المغفرة من ربهم، فكان هذا مدخلا لهم إلى أن يطمعوا في فضل اللّه، وأن يرغبوا إليه في أن يبدّلهم خيرا من جنتهم تلك التي ذهبت.
قوله تعالى: {كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.
أي بمثل هذا العذاب الدنيوي نوقع عذابنا بأهل الضلال.. فهو عذاب قد ينالهم في أموالهم، أو أنفسهم.. ولكنه ليس كلّ العذاب.. بل هناك عذاب أقوى وأشد وأكبر.. هو عذاب الآخرة.
وهذه التفرقة بين عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، لا يعرفها إلا أهل العلم الذين يؤمنون باللّه، وباليوم الآخر، وما فيه من أهوال، وما أعد فيه للظالمين، والمجرمين، من عذاب عظيم.
والسؤال هنا:
ما وجه الشبه بين هذا البلاء الذي ابتلى به أصحاب الجنة، وما ابتلى اللّه المشركين به؟.
الذي ينظر في الآيات التي عرضت لقصة اصحاب الجنة، يرى أنها تمثل تمثيلا دقيقا صادقا موقف المشركين من رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- ومن الخير الذي يبسط به يده الكريمة إليهم، وأنهم كانوا بين يدى هذا الخير، بين مغالين ومقتصدين في التدبير السيئ له، وأن المغالين منهم قد غلبوا على المقتصدين، فكانوا جميعا في هذا الموقف المنحرف من الخير الذي يدعون إليه، والذي يريدون حرمان الفقراء والمستضعفين من الاتصال به، والإفادة منه.. وهكذا تجرى أحداث قصة أصحاب الجنة خطوة خطوة، مع مسيرة المشركين، وموقفهم من تلك الجنة السماوية التي بين أيديهم.
لقد ضلوا عنها أول الأمر، وحرموا زمنا من ثمرها الطيب المبارك، ثم رجعوا إلى اللّه نادمين مستغفرين، بعد أن مسّهم بعض العذاب في الدنيا، بما أصيبوا به في بدر وغيرها، وبمن مات منهم على شركه وكفره، فعاد اللّه سبحانه وتعالى عليهم بالتوبة والمغفرة.