فصل: تفسير الآيات (48- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (48- 52):

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)}.
التفسير:
النبي.. وصاحب الحوت:
قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ}.
بهذه الآية، والآيات التي بعدها تختم سورة القلم التي كانت معرضا لضلال المشركين، وسفههم، وتطاولهم على رسول اللّه، كما كانت معرضا للدفاع عن القرآن الكريم، وعن الرسول، وتتويجه بهذا التاج الرباني الذي زينه به اللّه سبحانه وتعالى، بثنائه عليه، في قوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
ثم تتابعت آيات السورة، تتوعد المشركين، وتهددهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، إذا هم لم يستجيبوا للرسول، ولم يتلقوا ما تمتد به إليهم يده، من رزق اللّه الذي لا يسألهم عليه أجرا.
ثم يجيء هذا الختام الذي يتلّقى فيه النبي من ربه سبحانه دعوة إلى الصبر على ما يلقى من سفاهة السفهاء، وحماقة المحمقين من قومه.. فهذا هو حكم اللّه، الذي يدعوه إلى امتثاله: إنه الصبر، ولا شيء غير الصّبر.
وقوله تعالى: {وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} هو شدّ من عزم النبيّ على الصبر، وتوكيد لالتزامه، والتمسك به، وألا يزايل موقفه الذي هو فيه، كما فعل صاحب الحوت- وهو يونس عليه السلام- حين أخلى مكانه بين قومه، وتركهم مغاضبا لهم، بعد أن دعاهم إلى اللّه، وتوقفوا عن إجابة دعوته.. ولو أنه صبر على عنادهم، وعاود نصحهم يوما بعد يوم، لاستجابوا له، فقد كان فيهم- مع هذا العناد- بقيّة من خير، يمكن أن تكون شرارة يتوهج منها نور الإيمان، لو وجدت من ينفخ فيها برفق، وأناة، ويتلطف في الإمساك بها من غير تعجل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن موقف يونس عليه السلام: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [87: الأنبياء].. فيونس عليه السلام- هو الذي ذهب مغاضبا لقومه، أي محدثا الغضب من قبل أن تجتمع لديه أسبابه القويّة الداعية إليه.
وقوله تعالى: {إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} بيان لحال يونس عليه السلام، وهو في بطن الحوت، ثم بيان لحاله، وهو ينادى في جوف الحوت.
فاللّه سبحانه وتعالى ينهى النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- عن أن يكون في موقف كموقف يونس- عليه السلام- حين نادى ربه في حال هو فيها مكظوم، أي مغيظ، محنق، محتنق من الغيظ، والضيق.
والكظم: مخرج النفس من الصدر، وكظم فلان: أي حبس نفسه.
وكظم الغيظ: حبسه، ومنه قوله تعالى: {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ}.
ومن هنا يتبين أن المكظوم، غير الكاظم.. فالكاظم، هو الذي غلب غيظه وقهره، وأما المكظوم، فهو الذي ملكه الغيظ، وقهره، وغلبه على أمره.
وعلى هذا، فإن الذي يحذّر النبي منه، هو ألا يغلبه الغيظ، كما غلب يونس عليه السلام، بل المطلوب منه، هو أن يكظم غيظه، وأن يقهره، وألا يجعل لهذا الغيظ سلطانا عليه، يحمله على مفارقة قومه، وإخلاء مكانه فيهم، كما فعل يونس.
وفى هذا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [134: آل عمران] فقوله تعالى: {وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي لا تكن كيونس إذ نادى ربه، وقد غلبه الغيظ، وحمله على أن يترك قومه، وينزل في هذا المكان الضيق، وهو بطن الحوت.
فالذى يحذّر منه النبي، ليس هو مناداة ربه، وإنما مناداته في حال يكون قد غلبه فيها غيظه.. فإن دعاء اللّه، واللّجأ إليه- وإن كان محمودا على كل حال وفى كل حال- إنما يكون في أحمد أحواله، وأعلى مقاماته، حين يكون صاحبه متجملا بالصبر على ما أصابه، ممسكا بزمام نفسه، ثقة باللّه، واطمئنانا إليه، في أشد الأهوال، وأعظم المحن، فلا يضيق بمحنة، ولا يكظم بشدة، لأنه مسلم أمره إلى للّه، لا جيء إلى حمى سلطانه.
قوله تعالى: {لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي أن يونس- عليه السلام- لولا أن أدركته نعمة ربه، وإحسانه إليه {لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} أي لخرج من بطن الحوت وهو مذموم ملوم من ربّه.. ولكن اللّه سبحانه وتعالى، استجاب له، حين دعاه من بطن الحوت.. ثم اختاره ربّه من بعد أن خرج من بطن الحوت، فخلع عليه لباس النبوة، الذي عرّى منه أو كاد، حين فارق قومه.
فخروج يونس من بطن الحوت، هو رحمة من رحمة اللّه به، وإعادته إلى وضعه الأول في مقام النبوة، هو نعمة مجددة أنعم اللّه بها عليه، إذ جعله بها من الصالحين، الذين سلموا من الذم، ونجوا من الملامة والعيب.. إنه بعث جديد له.
ففى قوله تعالى: {فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} إشارة إلى حال جديدة، أعقبت الحال التي خرج عليها يونس من بطن الحوت، فهو- عليه السلام- خرج كما يخرج السجين من سجنه، يحمل معه آثار الذنب الذي كان منه.. ولكن اللّه سبحانه تدارك عبده، فأزال عنه هذا الأثر، وخلع عليه خلعة النبوة التي كانت تنتظره، على باب السجن الذي خرج منه، وبهذا ردّ إليه اعتباره، بعد هذا البلاء العظيم.
والسؤال هنا: ماذا كان من النبي- عليه الصلاة والسلام- من موقف مشابه لموقف يونس- عليه السلام- حتى ينبّه إلى الحذر من أن يأخذ الطريق الذي أخذه صاحب الحوت؟
نقول- واللّه أعلم-: كان النبي صلوات اللّه وسلامه عليه- قد بلغ به الحال بينه وبين قومه، ماملأ صدره ضيقا بهم، وحيرة في أمرهم، بعد أن لقيهم بكل طريق، وجاءهم بكل حجة، فلم يكن منهم إلا السفاعة، والتطاول، والإمعان في المجافاة له، والأذى لأصحابه الذين آمنوا به، وإن الموقف ليبلغ غايته من التأزم والضيق، حين يخرج النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى ثقيف بالطائب، ويعرض عليهم دين اللّه، ويبلّغهم ما أرسل به إلى الناس، ثم لا يلقى منهم إلا استهزاء وسخرية، وإلا تطاولا بالألسنة، ورجما بالأحجار، فيتركهم وقد أيئسوه من أن يجد لدعوته أذنا تسمع، أو عقلا يعى وهنا تنزل تلك الآيات على الرسول الكريم، داعية إياه إلى الصبر، محذرة إياه من أن يأخذ موقفا كموقف أخ له من أنبياء اللّه قبله، هو يونس عليه السلام وهذا على أن هذه الآيات مكية، في سورتها المكية أما على الرأى الذي يقول إنها آيات مدنية في السورة المكية، فإنه يجعل نزول هذه الآيات في أعقاب غزوة أحد، بعد أن أصاب المشركون ما أصابوا من صحابة رسول اللّه، ومنهم عمه حمزة. رضى اللّه عنه، وبعد أن أصيب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، من سهام المشركين حتى شجّ رأسه، وكسرت رباعيته وسال دمه.
وعلى أىّ، فإن نزول هذه الآيات، كان في حال اشتد فيها ضيق النبي، وكاد يقع اليأس في قلبه من إيمان هؤلاء المشركين، الذين ركبوا رءوسهم، وأسلموا للشيطان قيادهم.
هذا، وفى تلك الآيات إشارة إلى أن عاقبة هؤلاء المشركين، هي الإيمان باللّه، والاستجابة للرسول، كما آمن قوم يونس، بعد أن عاد إليهم، وجدّد دعوتهم إلى الإيمان باللّه.. كما يقول سبحانه: {فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ} [98: يونس]- وفى هذا إشارة من أنباء الغيب إلى مستقبل هذه القرية، وهى مكة، وأن أهلها سيؤمنون، كما آمن قوم يونس.
فهؤلاء المشركون الذين يقفون هذا الموقف العنادىّ الضالّ من رسول اللّه، سوف يدخلون في دين اللّه، وسوف يرى فيهم النبيّ القوم المؤمنين الذين تقوم بأيديهم دولة الإسلام.. وغاية ما هناك أن يصبر النبيّ، وأن يحتمل هذا الموقف المتأزم بينه وبين قومه، فإن الضيق إلى فرج، وإن العسر إلى يسر.
وهكذا كانت الآية من البشريات المسعدة، التي بشّر بها النبيّ في قومه، الذين كان شديد الحرص على هدايتهم ونجاتهم من الهلاك الذي يتدافعون إليه.
وفى قوله تعالى: {وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}.
هو حال من فاعل الفعل في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}.
والفاعل هو ضمير يعود إلى النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه، المتلقّى لخطاب ربّه.. أي فاصبر لحكم ربك، وإن كان قومك يرمونك بنظراتهم القاتلة.
فاللّه سبحانه وتعالى، إذ يدعو النبيّ إلى الصبر على المكاره التي يحملها من قومه، يدعوه إلى هذا في حال بلغت فيه عداوة قومه غايتها، حتى إنهم ليكادون يزلقونه أي يسقطونه فزعا من نظراتهم المصوّبة إليه بسهام الحنق والغيظ والانتقام.. فهم حين يستمعون إلى الذكر- وهو القرآن الكريم- تغلى مراجل غيظهم، فتنطلق من أعينهم نظرات ملتهبة كأنها السهام، فإذا رأى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم هذه النظرات تنوشه من كل جانب، فزع، وكرب وكاد يسقط من هول ما يطلع عليه من عداوة القوم!! وللعين قدرتها الخارقة على إظهار مكنون الإنسان، من حبّ أو بغض، ومن وعد أو وعيد، فهى المرآة التي تنعكس عليها مشاعر الإنسان، ويتجلى على صفحتها ما يعتمل في كيانه من رضا أو سخط، ومن سكينة أو فزع، حتى ليبلغ الأمر أن تكون العين سلاحا قاتلا، يصيب مقاتل من يرمى بها.. وفى هذا يقول الشاعر، في أعداء التقوا بنظراتهم المتوعدة بالشر، قبل أن يلتقوا بسيوفهم المسلولة للقتال.. يقول:
يتقارضون إذا التقوا في موطن ** نظرا يزيل مواقع الأقدام

وفى النظرة الحاسدة شيء من هذا، فإنها ترمى المحسود، في غفلة منه، فتصيب منه مقتلا.. لأنها نظرة منطلقة من قلب يغلى كمدا، وحسرة، على ما بيد المحسود من نعمة اللّه.
وليس هذا ما لقدرة العين وسلطانها في الإنسان وحده، بل إنها عند كثير من الحيوانات تكون سلاحا عاملا في الصراع الدائر بينها.
فالحيّة، كثيرا ما تجد في نفسها القدرة على إصابة عدوّها بنظرة منها، فإذا أرسلت إلى عدوها نظرة والتقت عينه بعينها، شلت حركته وجمد في مكانه، وربّما مات قبل أن تصل إليه..!
فالصبر الذي يدعى إليه النبيّ من ربه، هو في تلك الحال، التي بلغت فيه عداوة القوم له غايتها، بما يرمونه به من نظرات ملتهبة، حين يسمعون آيات اللّه تتلى عليهم.. وليس هذا النظر المشحون بسموم العداوة وحسب، بل إنهم يرمونه مع هذا بسهام أخرى من أفواههم، كقولهم: مجنون، وساحر.
وقوله تعالى: {وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ}.
هو رد على هذه التهمة الفاجرة الظالمة التي تنطلق بها أفواه هؤلاء المشركين، وهو تثبيت للنبى في موقفه، وإلفات له إلى ما بين يديه من آيات القرآن الكريم، الذي هو ذكر للعالمين، وحياة مجددة للناس، جيلا بعد جيل، وإنه لا ذكر، ولا قدر لمن فاته الاتصال بهذا الكتاب، وتلقّى عنه، وقطع مسيرة الحياة في ظله، وهذا مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} [44: الزخرف].

.سورة الحاقة:

نزولها: مكية، نزلت بعد سورة الملك.
عدد آياتها: اثنتان وخمسون آية.
عدد كلماتها: مائتان وخمس وخمسون كلمة.
عدد حروفها: ألف وأربعمائة وثمانون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
كان ختام سورة القلم دعوة من اللّه سبحانه وتعالى، إلى النبي الكريم أن يصبر على موقفه من قومه، وألا يتحول عنه، كما تحول صاحب الحوت، وإن لقى من قومه أشدّ العداوة، والشنآن، وأن يمضى في طريقه معهم منتظرا حكم اللّه بينه وبينهم، كما حكم اللّه بين إخوانه النبيين وأقوامهم.
وتجيء سورة الحاقة مفتتحة بهذه المعارض التي يتجلى فيها ما حكم اللّه سبحانه به بين بعض أنبيائه وأقوامهم، وما لقى المكذبون المعاندون منهم من مرسلات الهلاك عليهم في الدنيا، التي أخذتهم مرة واحدة، فما أبقت منهم باقية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 12):

{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)}.
التفسير:
قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ}.
هكذا تبدأ السورة الكريمة، بهذه الكلمة: {الحاقة} التي تقع على الأسماع موقع الصيحة الراعدة المزلزلة في هدأة الليل تغشى الناس بالفزع المذعور، الذي تدهش له العقول، وزيغ به الأبصار، وتخرس معه الألسنة، وقد امتلأ الجو بهذا التساؤل الكبير الذي يطلّ من كل عين:
ما هذا؟ ما هذا؟.
{مَا الْحَاقَّةُ} إنها مع صوتها الراعد المزلزل، ملففة في أطواء المجهول.. لا يعرف لها وجه، ولا تبين لها حقيقة، حتى لكأنها القدر، ترمى الناس بما في يديها من نذر، من حيث لا يحتسبون، ولا يقدّرون.. وهذا مما يضاعف في فزع الناس منها، وفى الكرب المشتمل عليهم إزاءها.
{وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ}.
ومن يستطيع أن يجيب على هذا السؤال: {مَا الْحَاقَّةُ} إن أحدا لا يستطيع أن يتصور حقيقتها، أو يبلغ إدراكه الإحاطة بها.. وفى هذا التجهيل في الجواب الذي يجاب به عنها، مضاعفة للفزع والكرب المستوليين على الناس منها.
وكأنّ المعنى هو: الْحَاقَّةُ وهذا إخبار من اللّه سبحانه وتعالى بها، وإعلان للناس بوقوعها حيث يشتمل عليهم الفزع، ويستبدّ بهم الخوف من مجرد التلفظ بها.
{مَا الْحَاقَّةُ} وهذا سؤال من الناس عن هذا الكائن العجيب، الذي يشيع ذكره الرعب والفزع.. وكأنهم يتجهون بهذا السؤال إلى النبيّ الذي ألقى بهذا الاسم على أسماعهم!! {وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ} وهذا جواب من اللّه سبحانه على تساؤل السائلين للنبىّ عن الحاقة.. إن النبيّ الذي يسألونه، ويرجون الجواب عنده، لا يدرى ما هي الحاقة؟ إنها شيء من وراء تصورات العقول، واحتمال المدارك.
أما معنى الحاقة من حيث اللغة، فهو اسم فاعل من الحقّ.. وحقّ الشيء: وجب.. ووقع، فالحاقة لغة، بمعنى الواجبة، والواقعة.. أي الواجبة الوقوع.. وهذا يعنى أنها شيء سيقع حتما.. أما ما صفة هذا الشيء الذي سيقع، وما صورته في العقول- فهذا شيء لا يمكن أحدا أن يدرك وصفه، أو يتمثل صورته.. إنه شيء مهول لم يقع للناس شيء مثله، فكيف يستقيم له تصور في أفهامهم؟
وجواب السؤال عن الحاقة في قوله تعالى: {مَا الْحَاقَّةُ} يمكن أن يكون هو قوله تعالى {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ}.
كما سنتعرض لهذا بعد قليل، ويمكن أن يكون السكوت عن الجواب هو الجواب، لأن الذين كفروا لا يستمعون إلى هذا الجواب، ولا يؤمنون به، كما فعلت ذلك عاد وثمود.
وإذن، فخير جواب على هؤلاء السائلين المتعنتين، هو عدم الردّ عليهم، وتركهم في بلبال وحيرة.
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ}.
يمكن أن يكون هذا- كما قلنا- جوابا للتساؤل عن {الحاقة}.
وهو جواب من اللّه سبحانه وتعالى، بعد أن نفى عن النبيّ إمكان الإجابة عليه.. كما يمكن أن يكون استئنافا يراد به التعقيب على هذه التساؤلات عن الحاقة.
وفى هذا الجواب تشنيع على فعلة ثمود وعاد، وتكذيبهم بالقارعة.. فكأن التكذيب بالقارعة، يضاهى الحاقة نفسها، في هو لها الذي لا تتصوره العقول، وكأنّ الجواب هو: كذبت ثمود وعاد بالحاقة التي هذا شأنها.. و{القارعة} كائن مجهول أيضا، كالحاقة.
فالقارعة، والحاقة، كلمتان مترادفتان.. وقد سميت بكل منهما سورة من سور القرآن الكريم.. وبدئت سورة القارعة بلفظ {القارعة} كما بدئت سورة الحاقة بلفظ {الحاقة}.
وكما جاء نظم الآيات الثلاث الأولى من الحاقة، جاء نظم الآيات الثلاث الأولى من القارعة.. هكذا: {الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ}.
وقدكشفت سورة الحاقة عن وجه من وجوه هذه {الحاقة} وما بين يديها من نذر البلاء، فيما أخذ اللّه المكذبين بها، من بلاء ونكال، هو أشبه في هوله بما يكون من أحداث الساعة، أو موقف الحساب والجزاء يوم القيامة، وذلك فيما يقول سبحانه وتعالى، عن مهلك ثمود وعاد.. يقول سبحانه:
{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ}.
فهذا ما أخذ اللّه به المكذبين {بالقارعة} من ثمود، وعاد.
فأما ثمود، فقد أهلكهم اللّه بالطاغية، وهى الصاعقة المزلزلة العاتية، التي جاوزت كلّ حدّ معروف لها في ظواهر الطبيعة، ولهذا سميت طاغية، ولهذا كان عقاب ثمود بها، لأنها طغت، واعتدت على صالح رسول اللّه، وعلى ناقة اللّه، كما يقول سبحانه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها} [11- 15 الشمس] وكما يقول جل شأنه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} [17: فصلت].
وأما عاد، فقد أهلكهم اللّه بريح صرصر عاتية.
والريح الصرصر، هي الريح العاصفة الباردة، القاتلة ببردها.
وفى قوله تعالى: {سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} إشارة إلى اشتمال العذاب عليهم هذا الزمن الذي تجرعوا فيه غصص الموت، قطرة قطرة.
وحصر عدد الليالى بسبع، وعدد الأيام بثمانية- إشارة إلى أن الأيام تسبق الليالى، وأن النهار يسبق الليل، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ} [40: يس].
فهذا هو كتاب اللّه الذي يصدّق بعضه بعضا، {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [82: النساء].
كما يشير هذا إلى أن العذاب وقع بالقوم نهارا، وجاءهم عيانا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ} [24: الأحقاف].
وقوله تعالى: {حسوما} صفة أيام، التي تحتوى في كيانها الليالى أيضا لأن الأيام ثمانية، والليالى سبع.. فهو في حقيقته صفة للأيام والليالى معا.
والحسوم، من الحسم، وهو القطع.. يقال حسم فلان الأمر: أي قطعه.
ومنه الحسام، وهو السيف، إذ أن من أفعاله أنه يحسم حياة من يضرب به.
وأعجاز النخل: أصولها، الممسكة بها على الأرض.
والخاوية: الجوفاء، التي فرغ جوفها، بعد موتها وجفافها.
وفى تشبيه القوم بأعجاز النخل- إشارة إلى ما كان عليه القوم من فراهة الأجسام، وضخامة الأبدان، وقوة الكيان، كما وصفهم اللّه سبحانه على لسان نبيهم هود، عليه السلام: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً} [69: الأعراف] ويقول سبحانه: {وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [130: الشعراء].
وكما كشفت سورة الحاقة عن هذا الهول الذي حلّ بالمكذبين بالقارعة، والذي تتمثل فيه بعض مشاهد القيامة- كشفت سورة القارعة عن أحداث القارعة نفسها، وهى القيامة، كما يقول سبحانه: {الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} وهكذا تلتقى السورتان: الحاقة والقارعة في تصوير أحداث هذا اليوم العظيم، يوم القيامة، الذي يكذب به المشركون، ويلحّون في التساؤل عنه، وعن اليوم الذي يقع فيه، تحديا لما ينذرهم به الرسول من أهواله، وإمعانا في تكذيبه، حيث يلقاهم العذاب في الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى: {وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً}.
هو معطوف على قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ}.
والمؤتفكات: هي قرى قوم لوط، التي ائتفكها اللّه، أي قلبها على أهلها، وجعل عاليها سافلها.. وقد جاء في آية أخرى أنها مؤتفكة، وذلك في قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى} [53: النجم].. كذلك ورد في أكثر من موضع من القرآن أنها قرية. كما في قوله تعالى: {إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ} [31: العنكبوت].. فما تأويل هذا؟
تأويل هذا- واللّه أعلم- أن هذه القرية كانت رأس القرى التي حولها، فهى أشبه بالأمّ لها.. ومن هنا كان الحديث عنها، وعن أهلها، لأنهم هم الذين يمثلون غالبية القوم، ووجوههم، كما تحدث القرآن الكريم عن مكة ووصفها أنها أمّ القرى، فقال تعالى: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها}! (92:
الأنعام).
{والخاطئة} أي الفعلة الخاطئة، التي بيّنها اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} ومجيئهم بالخاطئة: أي ارتكابهم الخطيئة، وحملهم إياها يوم القيامة.
وفى الجمع بين فرعون، وقوم لوط، مع اختلافهما زمانا، ومكانا، وخطيئة- إشارة بليغة محكمة، إلى ما بين القوم من نسب قريب في الضلال، لا من حيث صورته، ولكن من حيث واقعه ومضمونه.
فقوم لوط، قد أتوا منكرا ابدعا، لم يأته أحد في العالمين من قبلهم، كما يقول سبحانه وتعالى على لسان نبيهم لوط عليه السلام: {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ} [80: الأعراف] وأما فرعون فقد كان أمة وحده في الضلال والاستعلاء.. ولهذا ذكر وحده، دون أن يكون معه قومه، فهو كيان الضلال كله، الذي نضح منه على قومه رذاذ من هذا الضلال، فكانوا من المجرمين.. ففرعون صورة فريدة في الجبارين، وقوم لوط صورة فريدة في المجرمين.
وفى الجمع بين فرعون وقوم لوط في مقام العصيان لرسول اللّه، مع أن كلّا منهما كان له موقف مع رسول من رسل اللّه- إشارة إلى أن رسل اللّه جميعا، هم رسول واحد، من حيث الرسالة التي يحملها الرسول من اللّه إلى الناس، والدعوة التي يدعوهم إليها، وهى الإيمان باللّه.. فمن كذب برسول من رسل اللّه فهو مكذب برسل اللّه جميعا.
وقوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً} أي أخذهم اللّه أخذة متمكنة منهم بحيث تنالهم جميعا، وتشتمل على كل شيء منهم ولهم.
والرابية، المكان العالي المرتفع عما حوله، كالربوة.
وقد ابتلع البحر فرعون ومن معه، كما ابتلعت الأرض قوم لوط، واحتوتهم ومنازلهم في بطنها.. إنهم هووا جميعا إلى القاع.
قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة، ذكرت مصارع القوم الظالمين، وقطع دابرهم جميعا، بحيث لم يترك الخراب من دار ولا ديار.
ومع هذا، فإن هؤلاء المشركين من قريش، ما زالوا أحياء، يعيشون في الناس، لم يأخذهم اللّه سبحانه بما أخذ به الضالين من قبل.. وهؤلاء المشركون هم بقية من ذرية القوم الذين نجوا من الهلاك، وهم الذين آمنوا باللّه، من بين المكذبين والضالين.. وإنه لجدير بهؤلاء المشركين أن يأخذوا طريق النجاة من عذاب اللّه، كما أخذه آباؤهم الأولون من المؤمنين الذين نجوا من عذاب اللّه.
هذا وإذا كانت الآية تشير من قريب إلى أظهر صورة من صور النجاة للمؤمنين، وهلاك الكافرين، وهو ما كان من نوح، وقومه، وسفينته، وطوفانه.. حيث غرق الكافرون في الطوفان، ونجا نوح ومن معه من المؤمنين بالسفينة- إذا كانت الآية تشير من قريب إلى هذا، فإنها تشير من بعيد إلى نجاة الذين آمنوا باللّه من كل بلاء ساقه اللّه إلى الكافرين المكذبين برسل اللّه، في كل زمان ومكان.
وقوله تعالى: {لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ}.
أي لنجعل هذه الإشارة إلى نجاتكم في أصلاب آبائكم الأولين، الذين آمنوا ونجوا من الطوفان- لنجعل هذه الإشارة تذكرة لكم أيها المشركون، تذكرون بها أنكم من أصلاب آباء كانوا مؤمنين، فكونوا مثلهم، إذا كنتم حقّا تحرصون على التمسك بما كان عليه آباؤكم، إذ تقولون: {حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا} [104: المائدة].. فإن في آبائكم مهتدين، وضالين.. فتخيروا من ترونه أهلا للاتباع من هؤلاء الآباء.
وقوله تعالى: {وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ}.
معطوف على قوله تعالى: {لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً}.
أي ولتعيها أذن واعية.. فهذه التذكرة، لا تعيها، ولا تعقلها وتحتفظ بها، وتحفظها، إلا أذن عاقلة، بينها وبين العقل صلة وثيقة.. أما الأذن التي تسمع، ولا تورد ما تسمع على العقل، فهى أذن حيوانية، لا ينال منها صاحبها خيرا أبدا.