فصل: تفسير الآيات (13- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (13- 18):

{فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً}.
تعرض الآيتان الكريمتان هنا مشهدا من مشاهد القيامة، وما يقع فيها من انقلاب شامل في صورة العالم التي ألفها الإنسان، وعاش فيها بحواسه المحدودة.
وقد تحدثنا في سورة الواقعة عن هذه التغيرات التي ذكرها القرآن الكريم عن يوم القيامة، وقلنا إن هذه التغيرات ليست واقعة على الموجودات من أرض وجبال، وبحار، ومن سماء ونجوم، وشمس وقمر، وإنما التغير الذي يحدث، هو في الإنسان المتلقّى لهذه الموجودات، حيث تغيرت طبيعته بعد البعث، وأصبح له من القوى في حواسه ومدركاته أضعاف أضعاف ما كان له في حياته الأولى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [22: ق].. فلقد كشف للإنسان الغطاء في هذا اليوم، عن كثير من عوالم الوجود، مما لم يكن من الممكن أن يراه، أو يعلمه، وهو في الحياة الدنيا.
فقوله تعالى: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ} يشير إلى أنه نفخ في الصور، بعث الموتى من القبور بتلك النفخة الواحدة، لأن هذه النفخة هي أمر من أمر اللّه، فإذا أمر اللّه أمرا وقع كما أمر، كما يقول سبحانه: {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [82: يس] وكما يقول سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [51: يس] وقوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً}.
أي رفعت الأرض والجبال، فكانتا كيانا واحدا.
وحمل الأرض وجبالها، هو ظهورها معلقة في الفضاء، كما هي عليه في حقيقتها، التي هي أشبه بكرة معلقة في فلك الكون.. هكذا يراها الإنسان يوم القيامة بما عليها من جبال، وبحار، حين يكون محلقا في سموات عالية فوق هذه الأرض.
ودكّ الأرض مع الجبال، هو اندماجهما في كيان واحد، وذلك في مرأى العين، التي تنظر إليهما من بعيد، كما ننظر نحن من عالمنا الأرضى إلى القمر، فنراه سطحا مستويا، لا جبال فيه، ولا وهاد.. وهذا يعنى أن الناس إذ يبعثون يوم القيامة، يخرجون من العالم الأرضى، إلى عالم آخر.. فالأرض هي عالم الناس الدنيوي، ولا شك أن للناس في الآخرة عالما غير هذا العالم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً} [47:
الكهف] فبروز الأرض لا يبدو إلا لمن خرج منها، ونظر إليها من مكان خارج عن فلكها.. كما يشير إلى ذلك أيضا، تلك الحالة التي سيبعث الناس عليها في قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ} [4: القارعة] وفى قوله سبحانه: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ} [7: القمر].
قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ} هو جواب إذا الشرطية الظرفية، في قوله تعالى: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ}.
أي إذا كان هذا النفخ في الصور، وحمل الأرض والجبال ودكهما- إذا كان هذا، فهو يوم وقوع الواقعة، وهى القيامة.
ووقوع الأمر: مجيئه من عل، في قوة وتمكن، بحيث لا يمكن ردّه.
ومنه قوله تعالى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
وقوله سبحانه:
{قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} [71: الأعراف].. فهو وقوع لامردّ له.
وفى مجيء جواب الشرط فعلا ماضيا في قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ}، مع أن مقتضى سياق النظم أن يكون فعلا مضارعا هكذا: فيومئذ تقع الواقعة في هذا إشارة إلى أن وقوعها أمر محقق لذاته، غير متوقف على شرط.. فهى واقعة لا محالة، سواء وقع شرطها أم لم يقع، وشرطها واقع لوقوعها، لا أنها هي التي تقع لوقوع شرطها.
وقوله تعالى: {وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ}.
معطوف على قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ}.
أي وانشقت السماء.
ومعنى انشقاق السماء، ظهور هذا السقف الذي يظلنا، والذي يبدو وكأنه سقف منعقد، محبوك، لا يمكن النفوذ منه- ظهوره يومئذ لنا على حقيقته، وهو أنه ليس إلا فضاء لانهاية له، وأنه مهما صمّد المصعدون فيه، لا يلقاهم إلا الفضاء الرحيب الذي لا ينتهى.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً} [19: النبأ].
وقوله تعالى: {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ} إشارة إلى ما يبدو عليه هذا السقف من وهى وضعف، فلا تردّ السماء من يخترق طبقاتها، أو ينفذ من أقطارها.
قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ}.
أي ويرى الملائكة في هذا اليوم على جنبات السماء، في أحوال شتى.
بين ساجد، وقائم، وغاد، ورائح.. هكذا يراهم الناس يومئذ.. فالملائكة المحجوبون عن أنظارنا اليوم، نراهم يوم القيامة، كما يرى بعضنا بعضا، سواء في هذا من كان من أهل الجنة، أو من أهل النار.. وقد ذكر القرآن الكريم لقاءات كثيرة للناس مع الملائكة، في موقف الحساب، وفى الجنة، وفى النار.
والضمير في {فوقهم} في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} يعود إلى {الملك} بمعنى الملائكة.. فهو مفردلفظا، جمع معنى، كما في قوله تعالى: {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}.
أي ويحمل عرش ربك فوق هؤلاء الملائكة {ثَمانِيَةٌ}.
وقد اختلف في الثمانية: أهم ملائكة، عددهم ثمانية؟ أم هم ثمانية صفوف من الملائكة؟ أم ثمانية أفلاك، هي أطباق السموات، التي فيها الجنات الثماني؟ وهذا يعنى أن عرش اللّه، أي سلطانه، قائم على هذا الوجود العلوي، مستو عليه.
والعرش، وحملة العرش، والملائكة، والكرسي، والقلم، واللوح، ونحوها، هو مما يلزمنا التصديق به كما تحدث القرآن الكريم عنه، دون البحث عن الصورة التي تكون عليها هذه المبدعات التي استأثر اللّه سبحانه وتعالى وحده بعلمها.
والسؤال عن هذه الغيبيات، بدعة، والتصدّى لتكييفها تكلّف، وقد يجر إلى الافتراء على اللّه.
وتفويض العلم بها إلى اللّه، والإيمان بها على ما أخبر به القرآن عنها، هو الإيمان السليم، القائم على التسليم للّه، والتصديق بما نزل على رسول اللّه، من آيات اللّه.. وهو الإيمان بالغيب، الذي أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: {ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [2- 5:
البقرة].
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ}.
أي في هذا اليوم الذي تقع فيه الواقعة، أي تقوم القيامة- في هذا اليوم يعرض الناس على رب العالمين.. أي يقدمون للحساب والجزاء، حيث لا يخفى على اللّه من أعمالهم صغيرة ولا كبيرة.
وقوله تعالى: {لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ} جملة حالية من نائب الفاعل، وهو الضمير في {تُعْرَضُونَ}.
أي تعرضون في حال قد تكشفت فيها أحوال الناس وظهر ما في سرائرهم، وحصّل ما في صدورهم، فكان باطنهم كظاهرهم، يرونه هم، ويراه بعضهم من بعض.

.تفسير الآيات (19- 37):

{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)}.
التفسير:
بعد أن أنذرت الآيات السابقة الناس بالنفخ في الصور، والبعث من القبور، ثم ساقتهم للعرض على اللّه، للحساب والجزاء- جاءت تلك الآيات بعدها لتضع الناس مواضعهم، وتنزلهم منازلهم يوم القيامة.. فهم سعداء وأشقياء.. أصحاب الجنة، وأصحاب النار.
وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ}.
هو بيان لأحوال أهل السلامة في هذا اليوم، يوم القيامة.. حيث تسير خطواتهم إلى الجنة، على هدى ونور من ربهم، وحيث تلقاهم البشريات على كل مرحلة من مراحل مسيرتهم إلى رضوان اللّه.
فمنذ يخرج المؤمن من هذه الدنيا، وتفارق روحه الجسد، وهو يرى مشاهد النجاة، وينشق أرواح الجنة، ويشم أريجها العطر.. كما يشير إلى هذا قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [32: النحل] فهذه أولى بشريات المؤمن، وهو على أول الطريق إلى اللّه، والدار الآخرة.
فإذا كان يوم القيامة، ووقع النفخ في الصور، وبعث الموتى من القبور-
لم يحزن هؤلاء المؤمنون ولم يجزعوا، من فزع هذا اليوم، بل تتلقاهم الملائكة، تخفف عنهم من وقع الصدمة، وتخبرهم بأن هذا هو اليوم الذي وعدوا به، وعملوا له، وانتظروه.. وفى هذا يقول اللّه سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [101- 103: الأنبياء].
فإذا سبق الناس إلى المحشر، وعرضوا للحساب، وجد كل إنسان كتاب أعماله في يده، فمن كان من أصحاب الجنة، أخذ كتابه بيمينه، ومن كان من أهل النار، أخذ كتابه بشماله، وهنا يعرف الناس- في صورة مجملة- المصير الذي سيصير إليه كل منهم، وهنا تعلو أهل المحشر أحوال شتى، تختلط فيها صيحات الفوز، وزغاريد الفرح، بأنّات الحسرة، وزفرات اليأس.
فمن أخذ كتابه بيمينه، تراه وقد استطاره الفرح، واستخفّه الظفر، فجعل يلوّح بكتابه، وينادى به في الناس: أن اقرءوا كتابيه!! إنه يريد أن يشهد الناس معه هذه الحال التي هو فيها، وليشاركوه هذه الفرحة الكبيرة التي لا تحتملها نفسه!.
وقوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ} هو من مقولة صاحب الكتاب المأخوذ باليمين، لمن يلقى من أهل المحشر.. فهو إذ يأخذ كتابه بيمينه، يطير فرحا، فيحدّث كل من يلقاه من أهل المحشر، ويدعوهم إلى أن يقرءوا كتابه، وأن يروا ما في وثيقة النجاح التي في يده، من أعمال طيبة، وأن هذه الأعمال الطيبات، إنما هي التي أعدّها لهذه اليوم، وعملها في دنياه، لأنه كان على يقين من أنه سيبعث وسيحاسب!!
أرأيت إلى الناس في ساجة القضاء، وقد نطق القاضي ببراءة بعض الناس، وإدانة البعض؟ إنه صورة مصغرة إلى أبعد حدود الصّفر، لحال الناس يوم القيامة، في موقف الحساب والجزاء.
والظن هنا، ظن يقين، وليس ظنّ شك وتردد.
وفى التعبير عن الإيمان بالآخرة بلفظ {الظن}، الذي يغلب على معناه التوقع والاحتمال، لا اليقين- في هذا ما يشير إلى أن الإيمان بالغيب- وإن وقع في قلب المؤمن موقع اليقين، فإنه يظل في منطقة الظن من عقله، حيث لا يسلم العقل السليم إلا بما يقع في دائرة إدراكه، وتلك الدائرة لا يدخل في محيطها ما كان من الغيبيات، وإنما يقع ذلك الغيب في محيط القلب، وبقدر ما يكون في القلب من اطمئنان، بقدر ما يقع في العقل من إدراك، والعكس صحيح أيضا.
وليس الظن الغالب في مقام الإيمان بالشيء، بالذي ينقص من قيمة هذا الإيمان، والعمل بمقتضاه، فإن أغلب معارفنا ومدركاننا مبنى على الظن الغالب، لا اليقين المحقق، ومع هذا فإننا نقيم وجودنا على هذه المعارف، وتلك المدركات.
ومثل هذا الظن ما جاء في قوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ} [12: النور].
فهذا الظن الحسن الذي يدعى المؤمنون إليه، في نظرتهم إلى ما يقع من إخوانهم المؤمنين، مما قد يكون موضع ريبة واتهام- هو كاف في إمساك الألسنة عن قول السوء، والمسارعة إلى الاتهام.. فهو ظن عامل موجّه، لا ظن توقف وارتياب.
قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ}.
هو بيان لحال من أوتى كتابه بيمينه، وللجزاء الحسن الذي يلقاه يوم القيامة.
إنه سيكون في عيشة راضية، أي في حياة طيبة، يجد فيها الرضا كله، في جميع أحواله.
وفى وصف العيشة بأنها هي الراضية، إشارة إلى أن حقيقة هذه العيشة هي الرضا نفسه، الذي يسع النفوس جميعا، على اختلاف مقاماتها ومنازعها.
وهذا أبلغ- في مقام الرضا- من أن يكون الوصف بالرضا لمن يعيش في المعيشة.. فقد يرضى الإنسان بلون من المعيشة، هي في حقيقتها معيشة تافهة حقيرة، تأباها كثير من النفوس الكبيرة، وتراها شقاء وبلاء إذا هي حملت عليها.
فمن الناس من تكفيه اللقمة يشبع بها بطنه، ويراها أملا مرجوّا، إذا تحقق له، سعد به، ورضى عنه، وإن كان ذلك من فتات موائد القمار، والعهر، أو من شباك النصب والاحتيال، أو من صدقات المتصدقين، وإحسان المحسنين.. على حين أن كثيرا من الناس لا يرضيهم من العيش إلا أن يكونوا في مقام الصدارة والسيادة، وإلا أن يضعوا في أيديهم كل أسباب الملك والسلطان.
وهكذا تبدو المسافة بعيدة غاية البعد، بين ما يحقق الرضا لبعض النفوس، وما يحققه لبعض آخر منها.
وقد تداول هذا المعنى كثير من الشعراء.
فعن النفوس النازلة، التي يرضيها التافه الحقير من نفايات الحياة، يقول المتنبي:
وفى الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والنعل جلده!! وعن النفس العالية الكبيرة التي لا يرضيها إلا أن تأخذ مكانها مع مطالع النجوم ومسارات الكواكب، يقول المتنبي أيضا ويعنى نفسه:
وشرّ ما قنصته راحتى قنص ** شهب البزاة سواء فيه والرخم

فوصف المعيشة بأنها عيشة راضية، كما جاء بها النظم القرآنى، في قوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ} وصفها بأنها هي العيشة الراضية- هو الوصف الذي يحقق الرضا لجميع النفوس، صغيرها وكبيرها، فلا يجد الإنسان- أي إنسان- حيث تقلّب في هذه العيشة، إلا الرضا المطلق، الذي لا يتكلف له جهدا، وهى معيشة تنزل الناس جميعا منزلة عالية، وترتفع بنفوسهم عن كل ما هو دون محتقر.
أما ما يذهب إليه علماء البلاغة: من تخريج هذا المعنى، على ما يخرّجون عليه من قولهم: إن اسم الفاعل: {راضِيَةٍ} هو معدول به عن اسم المفعول مرضىّ أي مرضى عنها ففيه إفساد للمعنى الذي تحمله المعجزة القرآنية في كلمة {راضية} وحجب لوجهها المعجز الذي رأيناها عليه، فقد تكون المعيشة مرضية، وهى في حقيقتها تافهة لا تتعلق بها إلا النفوس الصغيرة.
وقوله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ} هو بيان لتلك المعيشة الراضية، وكشف عن وجهها الكريم.
وأين يجدها الذين وعدهم اللّه بها؟ إنها في جنة عالية، علوّا حسيا، ومعنويا، وإن قطوفها- أي ثمارها- دانية لمن يعيشون فيها، فليس علوّها هذا بالذي يبعد ثمرها عنهم.. بل إن ثمرها دان قريب، يجده طالبه حاضرا عتيدا بين يديه في أي وقت يشاء.. كما يقول سبحانه: {وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا} [14: الإنسان].
فهذه هي العيشة الكريمة الراضية، التي تتعلق بها النفوس الكبيرة، وتتطلع إليها الهمم العالية.
قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ}.
الخطاب هنا لأصحاب اليمين جميعا، وقد استقر بهم المقام الكريم في الجنة، واجتمع بعضهم إلى بعض، وسعد بعضهم بلقاء بعض، ونازع بعضهم بعضا طيباتها وثمراتها.. ففى هذه المشاركة رضا إلى رضا، وسعادة إلى سعادة.
وقوله تعالى: {بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ} إشارة إلى ما كان من المؤمنين من أعمال طيبة صالحة في الأيام الخالية، أي الحياة الدنيا، التي خلّفوها وراءهم.
فالباء في قوله تعالى: {بِما أَسْلَفْتُمْ} باء السببية.. أي {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً} أي طيبا، لا ينالكم مما تأكلون أو تشربون تخمة أو سوء هضم، أو نحو هذا، مما يقع للآكلين والشاربين في الدنيا، وذلك بسبب ما قدمتم في أيام حياتكم الدنيا، من صالح الأعمال.. {إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} (22: الإنسان) قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ}.
هذا هو الوجه المقابل لأصحاب اليمين، وهم أصحاب الشمال.
وقد جاء بهم النظم القرآنى أفرادا لا جماعات، كما جاء بأصحاب اليمين أفرادا كذلك، لأن الحساب يوم القيامة، إنما يقوم على هذا الوجه، وهو أن يحاسب كل إنسان بما عمل، كما يقول سبحانه: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً} [95: مريم].
فكل من أوتى كتابه بشماله، يلقاه هذا الكتاب بالحكم المحكوم به عليه، وهو أنه من أصحاب النار، فلا يكاد يقع ليده حتى يستبد به الهلع والفزع، ويركبه جنون الهول، فيظل يهدى، ويعوى، حتى تتقطع أنفاسه.
{يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ}.
فلقد كان الأمر مستورا عنه قبل هذا الكتاب، فلما جاء الكتاب طلع عليه بهذا البلاء المبين.
فلقد عرف حسابه، وإنه لحساب خاسر، يهوى به إلى عذاب السعير..!!
وأين المفر؟ إنه لا مفر إلا بالموت.. {يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ}.
ولكنها أمنية لن تتحقق أبدا.. فما أقسى الصبر على هذا البلاء، وما أشد الوقوع في هذه المحنة التي يشتهى الموت فرارا منها!!
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا قوله تعالى: {ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ}.
هو من هذيان هذا الشقىّ، الذي أحاطت به خطيئته.. إنه طلب الموت فما وجده.. وطلب ماله ليفتدى به نفسه من هذا العذاب، فما رآه.. واستنجد بكل ما كان له من قوة، وجاء، وسلطان، فلم يسعفه شيء.. {هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ}.
وفى التعبير بقوله: {هلك} بدلا من ذهب.. إشارة إلى أن هذا السلطان لن يلقاه أبدا، ولن يعود إليه بحال.. لقد هلك، وما كان لهالك أن يتعلق به أمل.
قوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ}.
إنه بعد أن ترك هذا الشقىّ الأثيم، يهذى ويعوى، ويلهث، باحثا في كل وجه، متطلعا إلى كل أفق، يطلب وجها للخلاص من هذا البلاء- إنه بعد أن ترك هكذا حتى تقطعت أنفاسه، وسقط إعياء- لم يترك لشأنه هذا، وما هو فيه من بلاء، بل قرع أذنه هذا الصوت الآمر، بأخذه، ووضع القيد في عنقه، ثم سحبه إلى جهنم، وربطه هناك في سلسلة طولها سبعون ذراعا!! وهل بقي مع هذا الشقىّ قوة، حتى يخشى من أن يفرّ من هذا المصير المساق إليه؟ إنه لا يقوى على الحركة، فكيف يفرّ؟ وإن فرّ، فإلى أين؟
ولكن هذا القيد الذي أحاط بعنقه، وهذه السلسلة الطويلة التي يسحب منها، إنما هو إذلال له، وامتهان لكرامته بين الناس، ومعاملته معاملة الحيوان الذي يقاد من مقوده، ويربط في حظيرته.
ولا نتجاوز بالحديث عن هذه الأدوات الجهنمية، من قيود، وسلاسل، ومقامع، وغيرها من أدوات النكال والتعذيب- لا نتجاوز بها الحدود التي يتسع لها اللفظ القرآنى.. فهناك- يقينا- أدوات عذاب- وقانا اللّه شرها- من سلاسل، وأغلال، ومقامع، وطعام من زقوم، وشراب من حميم، وغير ذلك مما ورد ذكره في القرآن الكريم.. ولكن ما صفة هذا؟ ولم كان طول السلسلة سبعين ذراعا؟. هذا مالا نتكلف البحث عنه، وطلب الجواب له..! وحسبنا أن نقول كما علمنا اللّه أن نقول في مثل هذا المقام: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا} [7: آل عمران].
قوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ}.
هو بيان للسبب الذي من أجله صار هذا الشقىّ إلى هذا المصير المشئوم.
{إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} الذي ملك بعظمته وسلطانه أمر هذا الوجود، والتصرف فيه كما يشاء، دون أن يكون لأحد سلطان معه.
وفى وصف اللّه سبحانه وتعالى بالعظمة هنا، إشارة إلى أن هذا اليوم- يوم القيامة- يتعرّى فيه كل ذى سلطان من سلطانه.. فقد كان للناس في الدنيا، شيء من الإرادة، والتصرف، والملك والسلطان، ولكنهم في هذا اليوم سلبوا كل شيء، وتعرّوا من كلّ شيء.. ولهذا يقول الحق سبحانه في هذا اليوم: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيجيب الوجود كله: {لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ}.
وفى قوله تعالى.. {وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ}.
إشارة إلى ما لرعاية المساكين والعطف عليهم من تقدير واعتبار، في مقام الإيمان، حيث جاء ذلك بعد الإيمان باللّه، معطوفا عليه، وموازنا له.. وهذا يعنى أن من الإيمان باللّه العطف والإحسان إلى عباد اللّه، إذ كان هؤلاء المساكين هم ضيوف اللّه، فمن أكرمهم للّه، أكرمه اللّه، ومن أهانهم، وأمسك يده عنهم، أهانه اللّه، وأمسك رحمته عنه.
والحضّ على الشيء: الحثّ عليه، وإغراء الغير به.
وفى التعبير عن الدعوة إلى إطعام المسكين، بلفظ الحضّ.
إشارة إلى ما في الطبيعة الإنسانية من شحّ وبخل، وحبّ للذات.. وأن الإحسان إلى الفقراء لا يكون إلا عن مغالبة هذه الطبيعة، وحمل النفس على ما يخالف هواها.
وهذا إنما يكون عن مراودة بين الإنسان ونفسه، وحثها على البذل والسخاء.
ثم إن في بذل الإنسان، وسخائه في وجوه البر والمعروف، حضّا صامتا على إشاعة الإحسان بين الناس، حيث يرى فيه الناس قدوة حسنة في هذا المقام.
قوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ}.
فهذا هو جزاء من لم يؤمن باللّه العظيم، ولم يحضّ على طعام المسكين.
إنه لا صديق له يدفع عنه هذا العذاب، لأنه لم يكن له من عباد اللّه صديق ينال من خيره وبرّه.. فإذا ضاقت به الحال في هذا اليوم، فإنه لا يجد المعين الذي يمينه، لأنه لم يقدم لأحد عونا في حياته الدنيا.
ثم لأنه لم يطعم المسكين، وتركه يمضغ الجوع، والحرمان- فليس له في هذا اليوم طعام إلا من غسلين، أي من صديد، مما يفرزه المعذّبون بنار جهنم.
فهو يتغذّى من هذه الإفرازات الذاتية التي تفرز من جسده المحترق، كما ترك هو الجائع المسكين يتغذّى من داخل جسده، ويأكل بعض أعضائه بعضا.
وقوله تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ} هو وصف لهذا الطعام الجهنمىّ.
إنه طعام أصحاب الخطايا والآثام، طعام المجرمين، لا طعام لهم إلا هذا الطعام، وما أشبهه! هذا، وفى خطاب أصحاب اليمين بلفظ الجمع في قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ}.
مضاعفة لنعيمهم، وزيادة في تكريمهم، إذ يجمعهم اللّه على بساط هذا النعيم، حيث يأنس بعضهم ببعض، وحيث يتنازعون كئوس الخمر التي يطوف عليهم بها الولدان المخلدون.. {عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ}.
وعلى عكس هذا، قد أفرد أصحاب الشمال في عذاب الجحيم، وحتى لكأنما كل واحد منهم قد اشتمل عليه العذاب وحده، لا يشاركه فيه أحد، مما قد يكون مصدر عزاءله.. وفى هذا مضاعفة لعذابه، وبلائه.. {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ}.
إن هذا أشبه بالحبس الانفرادى، الذي يعانى فيه أهله، تلك الوحشة القاتلة، التي تجمع هموم الدنيا كلها في قلوبهم، غير مشارك لهم فيها أحد.