فصل: تفسير الآيات (36- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (36- 44):

{فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)}.
التفسير:
كانت الآيات السابقة على هذه الآيات، حديثا متصلا عن المؤمنين، وما ينبغى أن يكونوا عليه من صفات كريمة عالية، حتى ينالوا رضوان اللّه، ويدخلوا في جنات النعيم، يتلقون فيها من ربهم فواضل الإكرام والإحسان.
وهذه الآيات، تواجه المشركين، الذين أبوا أن يستجيبوا لدعوة الإيمان، وأن يكونوا من المؤمنين.
وفى قوله تعالى: {فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ}؟
المراد بالذين كفروا هنا، هم المشركون، الذين دخلوا في الحكم الذي أشار إليه قوله تعالى في الآيات السابقة: {إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}.
وقد استثنى من هذا الحكم العام على الإنسان- المؤمنون، الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم.. إلى آخر ما وصفهم اللّه سبحانه وتعالى به من صفات تدنيهم من التقوى، وتقربهم من اللّه.. وقد وعد اللّه هؤلاء المؤمنين بمقام كريم في جنات نعيم.
وإنه إذ تنتهى آيات اللّه بالمؤمنين إلى هذا الموقف، وتنزلهم منازل الرضوان في جنات النعيم- تلتفت إلى هؤلاء المشركين، فتسأل النبي الكريم عنهم، سؤال المنكر لهذا الموقف الذي هم فيه من النبيّ: {فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} أي ما بالهم يتحركون بين يديك يمينا وشمالا، مسرعين إلى شئون شتى، من جدّ أو هزل، دون أن يلتفتوا إليك، أو يستجيبوا لدعوتك؟.
وقبل النبي: تجاهه، وقبالته.
ومهطعين، أي مسرعين.. كما في قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} [8: القمر].
وقوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ} بيان لحال المشركين، وهم يهطعون جماعات جماعات، عن يمين النبي وعن شماله، ينطلقون في كل وجه، كما تنطلق الماشية في المرعى، على حين يرون النبي والمؤمنين، في شغل بعبادة اللّه، وسعى إلى الصلاة، فلا يكون منهم إلى النبي وأصحابه إلا نظرات تائهة بلهاء، أو عيون متغامزة في سخرية واستهزاء.
والعزون. الجماعة، ومنه العزّة، وهى تكون غالبا من لوازم الكثرة.
قوله تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ}.
الاستفهام إنكارى، وقد جاء الجواب عنه بالنفي في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ}.
أي كلا.. إنهم لن يدخلوا مداخل المؤمنين أبدا، ولن يكون لهم إلى جنة النعيم سبيل.
وقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ}.
هو بيان لقدرة اللّه سبحانه وتعالى، وأن أمر البعث الذي ينكرونه، وهو الذي يفسد عليهم رأيهم فيما يسمعون من آيات اللّه- هو هيّن بالنسبة لخلقهم من هذه النطفة، التي لا تعدو أن تكون نفاية من تلك النفايات التي تلفظها أجسامهم، كالمخلط، أو اللعاب ونحوها.. ومع هذا فإن هذه النطفة يقوم منها إنسان سوىّ الخلق، خصيم مبين!!.
فهذه النطفة التي يتخلق منها الإنسان، هي مما يعلم هؤلاء المشركون علما مستيقنا، بالتجربة الواقعة، التي لا تغيب عن أشدّ الناس غباء وجهلا.
قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}.
لا في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ} للنفى.. أي نفى القسم برب المشارق والمغارب، تنزيها للّه سبحانه وتعالى، أن يقسم به على أمر لا يحتاج إلى قسم، لظهوره، ظهورا يكاد في عداد البديهيات.. وهو أن اللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يذهب بهؤلاء المشركين، ويقطع دابرهم، ثم يأتى بمن هم خير منهم وعيا، وإدراكا، واستقامة على طريق الهدى.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (19: إبراهيم).
وقوله تعالى: {وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي أننا حين نطلب من نريد إهلاكه، لا يفوتنا، ولا يعجزنا، كما في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ} [4: العنكبوت] وكما يقول سبحانه على لسان الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} [12: الجن] قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}.
هو تهديد لهؤلاء المشركين، وذلك بأن يدعهم النبي وما هم فيه من خوض في الباطل، ولعب في مواقع الضلال، حتى يلاقوا اليوم الذي يوعدون، وهو يوم القيامة، وما توعّدهم اللّه به من عذاب.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}.
{يَوْمَ يَخْرُجُونَ} هو بدل من {يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}.
ففى هذا اليوم الموعود، يخرجون من الأجداث، أي القبور، سراعا، حيث يساقون سوقا إلى موقف الحساب، والجزاء، وكأنهم في سرعتهم ذاهبون إلى نصب يجتمعون عنده، ليشهدوا مجلسا من مجالس عبادتهم، يمنّون فيه أنفسهم بالربح العظيم من عبادته.
والنّصب: واحد الأنصاب، وهو الصنم، وكل ما نصب ليعبد من دون اللّه ويوفضون: أي ينتهون إلى هذا النصب.. وأوفض إلى كذا، وأفضى إليه.
أي تتبعه، وانتهى إليه سراعا.
قوله تعالى: {خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ}.
{خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ} حال من أحوال هؤلاء المشركين، بعد خروجهم من قبورهم وسوقهم إلى الموقف أو المحشر.. إنهم يسرعون مسوقين إلى هنالك، وقد خشعت أبصارهم ذلة، وهوانا.
وقوله تعالى: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} حال أخرى من أحوالهم.. أي قد أرهقتهم ذلة، وأنهكتهم، واشتدت عليهم وطأتها، وآدهم حملها.
وقوله تعالى: {ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ} إلفات للمشركين إلى هذا اليوم، وما يطلع عليهم فيه من بلاء عظيم، وكرب يقصم الظهور! إنه هو ذلك اليوم الذين كانوا يوعدون به في الحياة الدنيا، ولا يصدقون به، ولا يعملون حسابا له.. وها هوذا قد جاءهم بالعذاب، فماذا هم فاعلون؟ لا شيء إلا الصراخ والعويل، وتقطيع القلوب حسرة وندامة.

.سورة نوح:

نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة النحل.
عدد آياتها: ثمان وعشرون آية.
عدد كلماتها: مائتان وأربع وعشرون.. كلمة.
عدد حروفها: تسعمائة وتسعة وخمسون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت سورة المعارج بعرض هذا الموقف الذي يقفه المشركون من النبيّ، وبدعوة النبي من اللّه سبحانه، أن يتركهم فيما هم فيه، ليخوضوا، ويلعبوا، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.
وبدئت سورة نوح بذكر موقف قوم نوح منه، وتأبّيهم عليه، وأنه لبث فيهم عمرا طويلا امتد ألف سنة إلا خمسين عاما، يغدو ويروح بينهم بدعوته، يعرضها عليهم في كل معرض، ويلقاهم بها على كل وجه، فما استجابوا له.. ثم كانت عاقبتهم هذا العذاب الذي أخذهم اللّه به في الدنيا، وإن لهم في الآخرة لعذابا أشد وأنكى.
فالمناسبة بين السورتين قريبة، تجعل منهما سورة واحدة، لموقف واحد.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 14):

{إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً}.
قصة نوح هنا مع قومه- كما يذكرها القرآن الكريم- تمثل الموقف الأول لرسل اللّه، في مواجهة أقوامهم، وما يلقون منهم من سفاهة، وضلال، وعناد.
فالضلال، والسفه، والعناد، طبيعة، غالبة في الإنسان، متمكنة في بنى آدم، وإن هذه الآفات ليست أمرا عارضا في قوم من الأقوام، أو أمة من الأمم.
ولعل هذا من بعض الأسرار التي جاءت من أجلها سورة نوح، في أعقاب سورة المعارج التي جاء فيها قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}.
فهذا الإنسان يرى على صفته تلك، في آبائه الأولين، قوم نوح.
وفى قوله تعالى: {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} إشارة إلى أن القوم كانوا على مشارف الهاوية التي تهوى بهم إلى الهلاك، وأن نوحا إنما بعث إليهم لينذرهم بهذا الخطر الذي يتهددهم، ويوشك أن يشتمل عليهم.
وفى قوله تعالى: {قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} بعد الأمر الذي أمر به من ربه، دون توان أو تردد- في هذا ما يشير أيضا إلى أن الأمر يقتضى المبادرة بإنذار القوم، قبل أن تقع بهم الواقعة التي هي وشيكة الوقوع! وفى كلمات قليلة، ألقى نوح إلى القوم بهذا الإنذار: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
إنه لا وقت للحديث، والنار تشتمل على القوم، وتكاد تعلق بهم.. إنها كلمة واحدة: أن اطلبوا وجها للنجاة من هذا البلاء!! ثم يقدم إليهم نوح بعد هذا التنبيه إلى الخطر، مركب النجاة، الذي إن أسرعوا إليه، ودخلوا فيه، سلموا من الخطر المحدق بهم.. وهو الإيمان باللّه، والاستقامة على طريق تقواه: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} فإنهم إن آمنوا باللّه، وعبدوه، واتقوا حرماته، يدفع عنهم يد الهلاك المطلة عليهم، ويؤخرهم إلى الأجل المسمى لهم، حتى يستوفوا أعمارهم، فلا يبادرهم العذاب، وهم على طريق الحياة.. {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى}.
وقوله تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إشارة إلى أن الآجال المقدرة لا تؤخر أبدا، وأنه إذا انتهى الأجل الذي قدره اللّه، للإنسان، أو الجماعة، فلن يؤخره اللّه سبحانه أبدا.
وفى هذا احتراس لما يقع في الأفهام، من أن القوم إذا استجابوا للّه امتدت أعمارهم، إلى ما وراء الأجل المقدور لها عند اللّه.. وإنما هذا الامتداد للآجال الذي وعدوا به، هو في ظاهر الأمر البادي لهم، وهم في يد الهلاك، الذي سيأخذهم جميعا.. وأنهم إذا استمعوا لما يدعوهم إليه نوح، ونجوا من هذا الهلاك- كانت هذه النجاة قدرا من أقدارهم، وكان الانتظار بهم هو الأجل المقدور.. كما أنهم لو عصوا نوحا، ولم يقبلوا ما يدعوهم إليه، ووقع بهم الهلاك- كان هذا الهلاك قدرا من أقدارهم، وكان الموت المعجل لهم، هو نهاية الآجال التي قدرها اللّه لهم.
إن هذا التحذير، هو أمر مطلوب، وإن الفرار من وجه الخطر هو أمر مطلوب أيضا، فإذا نجا الناجي، فإنما نجا لأنه لم يستوف أجله بعد، وإذا هلك الهالك، فإنما هلك لأن أجله المقدور له قد انتهى.
ولقد دعا نوح قومه، فلم يسمعوا له، ولم يحفلوا به، فجاء إلى ربه شاكيا: {قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً}.
تلك هي حال القوم مع هذا النذير الذي جاء يدعوهم إلى النجاة من هذا البلاء المطل عليهم، وتلك قصته معهم، يعرضها على ربه، شاكيا عنادهم، طالبا من اللّه أخذهم بالعذاب الذي هم أهل له.
وإن القوم ليبلغون في السفاهة غايتها، ويركبون من الجهل أشرس مطاياه وألأمها.. إنهم كلما سمعوا صريخ النذير، ازدادوا فرارا منه، وقربا من موقع الخطر الذي يحذرهم منه.. وإنهم كلما سمعوا صريخ هذا النذير، جعلوا أصابعهم في آذانهم، كأنما يسمعون منكرا، يسدون عليه المنافذ أن يصل إلى آذانهم، وإنهم لم يقفوا عند هذا، بل غطّوا وجوههم: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ} أي جعلوها غاشية تحجبهم عن أن ينظروا في وجه هذا النذير، حتى لا يروا منه أية إشارة تشير إليهم، وتحذرهم من الخطر الزاحف عليهم..!!
وفى قوله تعالى: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ} إشارة إلى ما وقع في نفوسهم من جفاء لهذا النذير، وإلى ما أضمروا من عداوة له.. إنهم يتقونه كما يتقى الأطفال شبحا مخيفا يطلع عليهم في أحلام اليقظة، فلا يجدون سبيلا إلى الهرب منه، إلا بحجز حواسهم عنه، وإغلاق كل المنافذ التي بينهم وبينه، من بصر أو سمع! إنهم يغطّون وجوههم بثيابهم، ويدخلون رءوسهم في جيوبهم، خوفا وهلعا من هذا النور الذي يطلع في سماء ليلهم المظلم البهيم.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً}.
هو بيان للأسالبب المختلفة التي اتخذها نوح، لينفذ بدعوته من هذه الحجب الصّفيقة التي أقامتها القوم على أسماعهم، وأبصارهم.. فهو تارة يدعوهم جهارا، صارخا صراخ من يتحدث إلى أصمّ لا يسمع، حتى يخترق بصراخه العاصف، هذا السد الذي أقاموه على آذانهم.. فلما لم تنفع هذه الوسيلة، معهم، أمسك لسانه، وزمّ شفتيه، حتى إذا اطمأن القوم إلى أنه قد كف عن الحديث إليهم، همس إليهم همسا خافتا، لا يكاد يسمع، لعل كلمة عابرة تصل إلى أسماعهم من هذه النذر التي ينذرهم بها.. فهذا إعلان في إسرار.
وفى العطف بثم في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً}.
في هذا ما يشير إلى أن كل حال من تلك الأحوال كانت تستغرق وقتا طويلا، يقف فيه نوح، حتى يملّ الوقوف، وحتى يستيئس من أن أحدا يسمعه.. إنه ينادى أمواتا، ويهتف بعوالم من الجماد.
وقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً}.
هذا بيان لما كان يدعو نوح قومه إليه، ويهتف فيهم به.. إنه يناديهم، ويسرّ إليهم القول أن يستغفروا ربهم، إنه كان غفارا، يغفر لمن يستغفره، ويرجع إليه تائبا نادما.. وإنهم إن فعلوا هذا رزقهم اللّه رزقا حسنا، وأرسل السماء عليهم مدرارا، أي بالمطر الكثير، حيث تخصب الأرض، وتكثر الثمرات والخيرات، فحيث كان الماء، كان الخصب والخير الكثير في الأموال والأنفس.
ومن هذا الماء يجعل اللّه لهم جنات، ويجعل لهم أنهارا دائمة الجريان، تسقى هذه الجنات، وتضمن لها حياة دائمة، وخضرة محددة، وثمرا موفورا.
والاستغفار الذي دعا نوح قومه إليه، هو دعاه، ولجأ إلى اللّه، واستكانة إليه، والدعاء مخّ العبادة، لأنه لا يكون إلا عن إيمان باللّه، وثقة فيه، وطمع في رحمته.. ولهذا كان دعاء عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه عند الاستسقاء في سبى الجدب، هو الاستغفار.. فقيل له إنك لم تدع بشيء، أي لم تطلب شيئا في استسقائك؟ فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء التي بها يستنزل المطر يعنى أنه طلب السّقيا من أوسع أبواب السماء، بالاستغفار قوله تعالى: {ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً} هو من دعوة نوح قومه، إلى الإيمان باللّه.. وهو في هذا الاستفهام ينكر عليهم ما هم فيه من غفلة عن اللّه، واستخفاف بجلاله وعظمته.. إنهم لا يوقّرون له، ولا ينظرون إليه نظر من يرجو ثوابه، ويخشى عقابه.. إنهم لا يعرفون اللّه، ولا يقدرونه قدره! وقوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً} جملة حال، من لفظ الجلالة.. أي ما لكم لا توقرون اللّه، والحال والشأن أنه قد خلقكم أطوارا.. أي خلقا من بعد خلق.. إذ كنتم نطفة في بطون أمهاتكم، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم كسيت هذه العظام لحما.. ثم خرجتم من بطون أمهاتكم أطفالا.. ثم لبستم خارج أرحام أمهاتكم أطوارا من الحياة، فتنقلتم من الطفولة إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة.. وهكذا كانت يد القدرة القادرة تنتقل بكم من طور إلى طور، وبين الطور الأول والأخير مراد فسيح لذوى الأبصار، يرون فيه قدرة الخالق، وعظمته وحكمته، فتخشع الأبصار لجلاله، وتعنوا الجباه لقدرته.