فصل: تفسير الآيات (15- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (15- 19):

{إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا}.
هو عودة إلى هؤلاء المشركين، بعد تهديدهم بالعذاب في الدنيا، والنكال وعذاب جهنم في الآخرة- عودة إليهم بعرض دعوة الإسلام عليهم من جديد، ليراجعوا أنفسهم، وليطلبوا السلامة من العذاب، القريب، والبعيد، الذي ينتظرهم.
ويكثر في القرآن الكريم، مواجهة المشركين بفرعون، وما كان منه من كفر وضلال، وما أخذه اللّه به من بلاء ونكال.
وقد قلنا في غير موضع، إن هذا الجمع بين المشركين وبين فرعون يشير فيما يشير إليه، إلى ما بين هؤلاء المشركين وبين فرعون من مشابه كثيرة، في العناد، والجهل، والضلال، والاستعلاء على سماع كلمة الحق، والنفور منها.
وقوله تعالى: {رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ} إشارة إلى أن مهمة الرسول هو تبليغهم، وأداء الشهادة عند اللّه فيهم، بما كان منهم من هدى أو ضلال، ومن استجابة له، أو إعراض عنه.. كما يقول سبحانه: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [41: النساء].
قوله تعالى: {فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا} هو بيان للمشركين، يرون فيه ما كان من فرعون، وما حل به.. لقد عصى فرعون الرسول، وهو موسى، فأخذه اللّه تعالى أخذا وبيلا، أي أخذا مخزيا، مهينا، مهلكا.. فهل يعصى هؤلاء المشركون الرسول الذي أرسله اللّه إليهم؟
إنهم إن يفعلوا فعل فرعون، فسوف يلقون ما لقى فرعون.. إنهم ليسوا أشدّ من فرعون بأسا، ولا أقوى منه قوة، ولا أعز نفرا، ولا أكثر قبيلا.
قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا}.
هو تعقيب على قوله تعالى: {فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا} أي فكيف تدفعون عن أنفسكم عذاب هذا اليوم الذي يجعل الولدان شيبا، إن كفرتم ولم تؤمنوا باللّه، ولم تستجيبوا لما يدعوكم إليه الرسول؟ كيف تدفعون عن أنفسكم هذا العذاب؟ أأنتم أقوى من فرعون قوة وأشد بأسا وأكثر نفرا؟ لقد أخذ فرعون بكفره، وستؤخذون أنتم بكفركم، إن كفرتم، وأمسكتم بهذا الكفر.
وفى قوله تعالى: {إِنْ كَفَرْتُمْ} احتراس، يراد به قيد هذا العذاب الذي يتهددهم، وأنه رهن بما ينكشف عنه موقفهم من النبي.. فهم إلى هذه اللحظة في سعة من أمرهم، مادام النبي فيهم، وما داموا في الحياة، لم تطو صحف أعمالهم بعد بالموت.
وفى هذا إغراء لهؤلاء المشركين بالإيمان، وإفساح الطريق لهم إليه.
وقد دخل كثير منهم في دين اللّه، وأصبحوا مؤمنين،. وهذا هو بعض الحكمة في قوله تعالى: {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}.
وقوله تعالى قبل ذلك: {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا}.
وقوله تعالى: {السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} هو وصف لهذا اليوم الذي تشيب من هوله الولدان.. وكما أن الأرض ترجف منه، والجبال تنهال، وتصبح كثبانا مهيلة من الرمال- كذلك السماء تنفطر به، أي تتشقق به، أي بسببه.
فالباء في {به}.
للسببية وجاء الخبر عن السماء مذكرا {مُنْفَطِرٌ} ولم يقل منفطرت للإشارة إلى بنائها، أو سقفها، الذي يقع عليه التشقق والانفطار.. أي منفطر به بناؤها.
وقوله تعالى: {كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} أي كان وعد اللّه تعالى واقعا لا محالة.. أي أن هذا الوعد ليس مجرد قول، بل هو قول، بتحول إلى فعل واقع، ومشاهد محسوس.
وقوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا}.
هذه الآيات التي تحمل النذر، والبشريات معا، هي تذكرة، يجد فيها أولو العقول السليمة، تجاوبا مع الفطرة، فيذكرون بها الميثاق الذي أخذه اللّه عليهم وهم في ظهور آبائهم، من الإيمان به، والإقرار بربوبيته ووحدانيته، كما يقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} [174: الأعراف].
وقوله تعالى: {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا} إشارة إلى أن الطريق إلى اللّه مفتوح لكل من يريد الاتجاه إليه، فليس هناك من يحول بين الإنسان وبين اتصاله بربه، كما أنه ليس هناك من يحمل الإنسان حملا على أخذ هذا الطريق.. {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} [29: الكهف].

.تفسير الآية رقم (20):

{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ...} الآية بهذه الآية المباركة تختم السورة الكريمة، فيلتقى ختامها مع بدئها، الذي كان دعوة من اللّه سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم بقيام الليل إلا قليلا، أو نصفه، أو أقل أو أزيد من النصف، وقد امتثل النبي أمر ربه، فقام من الليل ما شاء اللّه أن يقوم، في اطار هذه الحدود التي حددها اللّه سبحانه وتعالى له، فقام أحيانا الليل كله، وقام أحيانا الليل كله إلا قليلا منه، وقام أحيانا أخرى نصفه، أو أقل أو أزيد من النصف.
وفى هذا الختام، يتلّقى النبي الكريم من ربه سبحانه وتعالى، هذا الخبر المسعد له، وذلك بأن اللّه سبحانه قد تقبل منه قيامه، وأنه سبحانه سيجزيه على طاعته، وامتثاله أمر ربه- بأن يخفف عنه هذا التكليف الشاق عليه، وعلى تلك الجماعة من المؤمنين، التي تأسّت بالنبي، وقامت الليل مثله.
فقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} ليس المراد منه الإخبار بعلم اللّه، وإنما المراد بهذا الخبر ما يترتب على وقوعه، وهو الجزاء الذي يستحقه المخبر عنه، بسبب وقوع ما أخبر به عنه.
وقوله تعالى: {أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ}.
هو بيان شارح لما أمره اللّه سبحانه وتعالى به من قيام الليل في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} فقوله تعالى: {أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} أي أقرب إلى ثلثى الليل- يدخل فيه الليل كله إلا قليلا.، كما يدخل فيه مازاد على النصف.. فإن أدنى من ثلثى الليل، يحتمل طرفى الزيادة والنقص من الثلثين، فما زاد عن الثلثين قليلا، يعتبر أدنى منهما من جهة، كما أن ما نقص عنهما قليلا، يعد أدنى منهما من جهة أخرى.
وأما قوله تعالى {وَنِصْفَهُ} فهو يقابل ما جاء في قوله: {نِصْفَهُ} المذكور في أول السورة.
وأما قوله تعالى: {وَثُلُثَهُ} فهو يقابل قوله تعالى: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} أي انقص من النصف قليلا.
وقوله تعالى: {وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} هو معطوف على فاعل:
{تَقُومُ} أي تقوم أنت، ويقوم طائفة من الذين معك، أي من الذين آمنوا وأصبحوا معك، لا عليك.
وفى هذا ما يشير إلى أن قيام الليل لم يكن فرضا على المؤمنين، ولا واجبا، وإنما كان الذين قاموا الليل مع النبي جماعة من المؤمنين، لا كل المؤمنين، تأسّوا بالنبي، دون أن يدعوا إلى هذا القيام، وإلا لو كان فرضا الزم المسلمين جميعا، ولكان الذين لم يقوموا الليل، آمنين، غير مؤمنين، الأمر الذي لم تشر إليه الآيات، من قريب أو بعيد:
أما النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- فقد كان قيام الليل في أول رسالته- فرضا عليه وحده، دون المؤمنين، لأنه مكلف بمهمة لم يكلّف بها أحد غيره، وإن هذه المهمة شاقة ثقيلة تحتاج إلى دربة ومران على احتمال الصعاب والمشقات، كما أنها تحتاج إلى رصيد كبير من الزاد الذي يتزود به من قيامه الليل، وترتيله القرآن.
ثم إنه بعد أن بدأت الدعوة الإسلامية، تأخذ طريقها العملي، ويواجه بها النبي قومه- رفع اللّه سبحانه وتعالى عن النبي عبء قيام الليل، فجعل ذلك أمرا على سبيل الندب والاستحباب، وفى أي وقت وقدر من الليل، كما يقول سبحانه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} [79: الإسراء].
قيل إنه كان بين نزول أول المزمل وما حملت إلى النبي من أمر بقيام الليل، وبين هذه الآية الأخيرة من السورة، التي جاء فيها حكم التخفيف بقراءة ما تيسر من القرآن- كان بين نزول أول السورة وآخرها عشرة أشهر، وقيل سنة، كما يروى ذلك عن السيدة عائشة رضى اللّه عنها، وقيل إنه كان بينهما عشر سنين!!.
ونحن نميل إلى الرأى الثاني وهو القول بعشر سنين.
وذلك لأمور:
أولها: أن مدة عشرة أشهر أو سنة، غير كافية في التدريب على حمل هذا العبء الثقيل الذي سيحمله النبي، في تبليغ الدعوة الإسلامية، وأن ما ينتظر النبي في الدور المدني من اتصال الحرب بينه وبين المشركين واليهود، لا تدع له فرصة لسهر الليل الطويل.. على خلاف ما كان عليه الأمر في مكة، حيث كان لقاء النبي مع آيات ربه بالليل، هو الزاد الذي يعيش عليه خلال تلك المدة.
وثانيها: أن المواجهة بين النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- وبين المشركين في مكة، كانت مواجهة كلامية لم تخرج إلى حد القتال.. فالدور المكي من الدعوة كان كله حربا من جانب واحد، هو جانب قريش، لم يؤذن المسلمين بعد فيه بالقتال، لأنهم لم يكونوا يملكون في مكة القدرة على التجمع، والتحرك، كما كانوا لا يملكون وسائل القتال وعدده.
وثالثها: في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في هذا إشارة إلى أن هذه الآية نزلت والمسلمون كانوا قد أوشكوا أن يكونوا قوة مقاتلة تلتقى مع المشركين في ميادين القتال.. وأن هؤلاء الذين كانوا يقومون الليل تأسيا بالنبي، كانوا يشاركون في هذه المعارك، الأمر الذي يجعل من قيام الليل عبئا آخر إلى أعباء الحرب، فكان التخفيف عن النبي، وعن المتأسّين به في قيام الليل، أمرا مطلوبا في تلك الحال- أي حال التحام المسلمين مع المشركين واليهود في القتال، وذلك في العهد المدني قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} أي يضبط زمن كل منهما، في تكوير أحدهما على الآخر، فيطول هذا، ويقصر ذاك.. {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [3: الطلاق] أي حسابا وتقديرا.
قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي علم اللّه سبحانه وتعالى أنكم لن تحصوا أوصاف الثناء عليه سبحانه وتعالى مهما طال قيامكم بالليل.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم في قوله، مناجيا ربّه: «سبحانك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وهذا الذي ذهبنا إليه، هو المعنى الذي نستريح له.. ولم نجد أحدا من المفسرين قد ذهب إلى هذا الرأى، وإنما كانت آراؤهم كلها تدور حول معنى واحد، هو أن اللّه سبحانه علم أنكم لن تقدروا على إحصاء الليل وتحديد مواقيته، ومعرفة متى يكون ثلث الليل أو نصفه، أو ثلثاه؟.. أما النهار فإنه من الممكن ضبط أجزائه، ولهذا عاد الضمير في {تحصوه} على الليل وحده دون أن يعود عليه هو والنهار.. هكذا يقولون!! وهذا المعنى الذي يذهب إلى معنى العجز عن إحصاء أجزاء الليل- وإن كان له مفهوم وقت نزول القرآن، حيث لم تكن هناك المقاييس الزمنية المعروفة اليوم، كالساعة ونحوها، فإن هذا المفهوم الآن غير واقع.. والقرآن الكريم حكم قاض بالحق المطلق، وشاهد ناطق بالصدق المصفّى، أبد الدهر.
{لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.
ثم إن إحصاه الليل، وتقدير وقته، من الممكن أن يتحقق حتى في زمن نزول هذه الآية، وذلك برصد النجوم، وتحديد منازلها، وقد كان العرب على علم بهذا، وأنّ نظرة من أحدهم إلى مواقع النجوم في السماء، كان يعرف بها أين هو من الليل؟ وماذا ذهب منه؟ وماذا بقي..؟
ومن إعجاز القرآن الكريم أنه يتسع لمفاهيم الحياة كلها في كل زمان ومكان.. وعلى هذا يمكن أن بتوارد على قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أكثر من مفهوم، وكل مفهوم، منها يسدّ حاجة الناس في عصرهم، وما بلغته مداركهم من العلم.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} خبرا عن اللّه سبحانه وتعالى، ويكون قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} خبرا ثانيا أي واللّه يقدر الليل والنهار، واللّه علم أن لن تحصوه أي تبلغوا حق الثناء عليه.. ويجوز أن يكون قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} صلة لموصول محذوف، هو صفة للّه، بمعنى واللّه المقدر لليل والنهار.. ويكون قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} خبرا للفظ الجلالة.. بمعنى: واللّه المقدر لليل والنهار علم أن لن تحصوا الثناء عليه، مهما امتد الزمن بكم، وطال الليل أم قصر.
وقوله تعالى: {فَتابَ عَلَيْكُمْ}.
الفاء السببية، أو التفريع.. أي علم اللّه أنكم لن تحصوا الثناء عليه {فَتابَ عَلَيْكُمْ} أي فقبل منكم هذا التقصير، قبول التائب من ذنبه، فيرفع عنه وزره، ويغسل ذنوبه كما يغسل الثوب مما علق به.
وفى التعبير عن رفع الحرج عن المؤمنين في قيام الليل، على ما جاء في قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} في التعبير عن هذا بالتوبة، مع أن هؤلاء المؤمنين لم يأتوا ذنبا، إن كان منهم تقصير في قيام الليل، لأن قيام الليل لم يكن فرضا عليهم، وإنما كان مندوبا ومستحبّا، اقتداء بالنبي، وتأسيّا به، وترسما لخطاه- في التعبير عن هذا بالتوبة، إشارة إلى لطف اللّه بالمؤمنين، وإكرامه لهم، وأنهم- وإن كانوا يأتون أمرا لهم فيه سعة- فإن إلزام أنفسهم به، يقتضيهم أن يؤدوه كاملا على الوجه المرسوم له.. تماما كأفعال المتطوع، في العبادات من صوم، وزكاة وكالنذر ونحوه.. فإن المؤمن إذا ألزم نفسه شيئا من هذا، وجب عليه أن يؤديه كاملا، مستوفيا جميع أركانه، آخذا كل صفاته.. إنه عقد عقده الإنسان مع ربه، وأن أي خلل في أركان هذا العقد، هو نقض له.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [1- المائدة] ومن جهة أخرى.. فإن التهاون، والاستخفاف بما يأتيه المؤمن-
متطوعا- من عبادات، وإخلاء نفسه من شعور الجدّ فيها، والاحتفاء بها، بوصف أنه إنما يأتى به متطوعا، وأنه لا حرج عليه في أن يؤديه على أية صورة- إن هذا من شأنه أن يذهب بجلال العبادة وقد سيتها، ويجعلها أشبه باللهو واللعب.. وأنه إذا كان المؤمن شأن في أداء فرائض اللّه، فليكن هذا شأنه في جميع ما يتعبد للّه سبحانه وتعالى به، من فرائض وواجبات ونوافل.
فهو في جميع أحواله، في مقام التعبد للّه، يستوى في هذا ما كان فرضا، أو واجبا، أو تطوعا.. فإن العبادة هي العبادة، والمعبود هو المعبود، والعابد هو العابد.
فالفرائض، والواجبات، والنوافل، كلها في مقام التعبد للّه، على درجة واحدة، فيما ينبغى لها من جلال وتوقير، لأنها جميعها موجهة إلى اللّه سبحانه وتعالى.. واللّه سبحانه وتعالى طيّب لا يقبل إلا طيبا.
ففى قوله تعالى: {فَتابَ عَلَيْكُمْ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى، قد أعفى المؤمنين من هذا الإلزام الذي ألزموه أنفسهم، وقد أعنتهم الوفاء به ورهقهم الاستمرار عليه.. فتاب اللّه عليهم، وأحلّهم من هذا الإلزام، وتجاوز عن تقصيرهم، توخرج بهم من الضيق إلى السعة، لطفا منه ورحمة، وإحسانا.
وقوله تعالى: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}.
هو تفريع على قوله تعالى: {فَتابَ عَلَيْكُمْ}.
أي ولأن اللّه قد تاب عليكم، فاقرءوا ما تيسر من القرآن، دون أن يكون ذلك مقيدا بقدر محدود من الليل، أو النهار، حتى تؤدوا ذلك القدر اليسير من التلاوة على الوجه الأكمل، وفى حال حضور جسدى، ونفسى وعقلى.
قيل إن قراءة ما تيسر من القرآن، يجزئ فيها قراءة مائة آية، وقيل أقل من هذا، إلى عشر آيات.. وفى هذا اليسر، ما يمكّن للمؤمنين- كما قلنا- من لقاء اللّه سبحانه وتعالى على ذكره، لقاء واعيا، يقظا، تنشط له أعضاء الإنسان كلها، ويحضره وجوده جميعه، في غير تكاسل، أو فتور، أو غفلة.. وهذا يعنى أن العبادة ليست كيلا يكال بكمّه، ويقدّر بكثرته.. وإنما هي صلة روحية باللّه، تكفى في تحقيقها شرارة منطلقة من قلب سليم، فيتوهج بنور الحق، ويتصل بنور اللّه، الذي هو نور السموات والأرض.
وقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
هذا بيان للسبب الذي من أجله أحلّ اللّه المؤمنين من هذا الإلزام الذي ألزموا به أنفسهم، وهو أنهم لن يستطيعوا أن يقوا بهذا الالتزام على وجهه، لأنه سيكون منهم من يمرض، ويكون منهم من يضرب في الأرض ابتغاء الرزق، ويكون منهم من يقاتل في سبيل اللّه.. وهذه كلّها معوقات تعوق عن أداء هذا الإلزام على وجهه.. وهذا من شأنه أن يوقع المقصّر منهم- بعذر من هذه الأعذار- في حرج، ويقيمه مقاما قلقا مضطربا، ويوقع في نفسه كثيرا من مشاعر الأسى والحسرة.
وهنا سؤال، هو:
إذا كان قيام الليل بالنسبة لمن قاموه من جماعة المؤمنين، هو على سبيل التطوع، فكيف يجد المؤمن حرجا في أنه لم يقم الليل، لمرض، مثلا؟ أليس هذا عذرا، قد يسقط عنه بعض الفرائض، والواجبات، فكيف بالتطوع، والنافلة؟
ونقول- واللّه أعلم- إن ذلك وإن كان صحيحا، فإنه لا يخلى نفس المؤمن الحريص على دينه من الحسرة والألم أن فاته هذا الخير، وأقعده المرض عن اللحاق بإخوانه الذين حصّلوا هذا الخير.. تماما كمن يفطر رمضان لمرض، أو شيخوخة، وكمن يقعده العجز عن الجهاد في سبيل اللّه.. إنه وإن كان قد خرج من باب الحرج، فإنه لم يدخل في باب العابدين المجاهدين..!
ولهذا كان من رحمة اللّه، ولطفه، وإحسانه بالمؤمنين- أن يدعوهم جميعا إلى ساحة رضاه، وأن يمد لهم موائد الخير ليصيبوا منها جميعا، وليأخذ كلّ قدر طاقته، سواء أكان مريضا، أو ضاربا في الأرض ابتغاء الرزق، أو مجاهدا في سبيل اللّه.. فهذا القدر اليسير من تلاوة القرآن، يدخل المسلمين جميعا في مقام الإحسان، ويتيح لهم جميعا أن يشاركوا في التأسّى بالنبي في قيام الليل.
وبهذا لا ينفرد ذوو الهمم العالية من المؤمنين الذين أشار إليهم اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} لا ينفرد هؤلاء وحدهم بالتأسى بالنبي في هذا المقام، وإن انفردوا بالمنزلة العليا، وأخذوا مكان الصف الأول فيه.
ومن جهة أخرى، فإن المخاطبين في قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} المخاطبون هنا- واللّه أعلم- هم جماعة من المؤمنين بأعيانهم، وهم أولئك الذين قاموا مع النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- ما قام من الليل، أدنى من ثلثيه، أو نصفه، أو ثلثه.
فهذه الجماعة، هي التي جاءت الآية الكريمة هنا لتحلّها من هذا الالتزام الذي ألزمت به نفسها، حتى لقد تورمت أقدام كثير منهم، وكاد يؤدى بهم ذلك إلى التلف، وهم على إصرار بأن يمضوا في طريقهم إلى غايته، مهما يصبهم من عناء ورهق.
فهؤلاء الجماعة من المؤمنين، لن يظلوا على تلك الحال التي هم عليها.
بل إنه ستعرض لهم أحوال أخرى، تلجئهم إلجاء إلى عدم الوفاء بهذا الالتزام، كالمرض، أو السفر في تجارة ونحوها، أو القتال في سبيل اللّه، الذي سيشهده بعضهم إن لم يكونوا شهدوه فعلا.. ثم كان هذا التخفيف عاما لجميع المؤمنين، حيث يتاح لهم جميعا أن يأخذوا بحظهم من قيام الليل، ولو لحظات منه.
وفى ذكر القتال في سبيل اللّه هنا، نبأ من أنباء الغيب، بما سيلقى المؤمنون على طريق الإيمان من جهاد في سبيل اللّه، ومن قتال بينهم وبين المحادّين للّه، والصادّين عن سبيل اللّه.. وذلك على أن الآية مكية، كما يقول بذلك بعض العلماء.
وقوله تعالى: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ} هو توكيد لقوله تعالى: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وفى هذا تطمين لقلوب المؤمنين الذين دعتهم الآية الكريمة إلى التحول عن هذا الموقف الذي ألزموه أنفسهم، من قيام الليل.
فهو أمر يكاد يكون ملزما بالتخفيف. فما أبرّ اللّه بعباده، وما أوسع رحمته لهم، فسبحانه، سبحانه، من ربّ برّ رحيم..!!
قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}.
أي وحسبكم مع قراءة ما تيسر من القرآن، وقيام ما تيسر لكم من الليل- حسبكم- مع هذا- أداء ما افترض اللّه عليكم من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
وقوله تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} هو دعوة إلى التصدق والإنفاق تطوعا، دون أن يقدّر ذلك بقدر معين، فهو أمر موكول إلى الإنسان، وما تسمح به نفسه.. إنه أشبه بقراءة ما تيسر من القرآن، الذي يتسع لآيات معدودات، كما يتسع للقرآن كله.. فمن تصدق بالقليل، فقد أقرض اللّه قرضا حسنا.. {ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وإن كان لكل محسن جزاء ما قدم من إحسان، كلّ على قدر ما أعطى.
والقرض الحسن، هو الذي لا منّ فيه ولا أذّى، والذي يكون من طيبات ما كسب الإنسان، كما يقول سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ} [267: البقرة] وكما يقول سبحانه: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [267: البقرة].
وقوله تعالى: {وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} هو تعقيب على الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وإقراض اللّه قرضا حسنا.. فهذه كلّها طاعات، وقربات يتقرب بها إلى اللّه، وهى كلّها خير مدخر لصاحبه عند اللّه، يجده عند الحاجة إليه يوم الحساب والجزاء- خيرا من هذا الخير، قدرا، وأعظم أجرا.
قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
أي ومع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإقراض اللّه قرضا حسنا، فإن العبد لا يزال مقصرا في حق ربه، مهما بلغ من طاعة، ومهما قدم من خير- فإن ذلك كله لا يفى ببعض نعم اللّه على الإنسان.. فليستشعر المؤمن هذا أبدا، وليكن على علم بأنه مقصر في حق ربه، وأنه لا ملجأ له لتلافى هذا النقص، إلا طلب المغفرة، والرحمة من ربه.. واللّه سبحانه {غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر للمستغفر، لأنه رحيم يرحم من طلب الرحمة لنفسه، وسعى إلى إقالتها من عثراتها.