فصل: تفسير الآيات (34- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (34- 40):

{أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى} هو دعوة إلى هذا المشرك، الكافر باليوم الآخر، المكذب بالبعث، والحساب، والجزاء- دعوة له إلى ما هو أولى به، وأحسن عاقبة له.
ولم تصرح الآية الكريمة بهذا الأولى، الذي يدعى إليه هذا الضال، بل جعلته مطلقا من غير تحديد.
وفى هذا ما يشير إلى أمور:
فأولا: أن ما فيه هذا الضال من ضلال، هو أمر واضح لا يحتاج بيان ما فيه من نكر، إلى عرض الوجه المقابل له، لأنه مستغن بذاته عن أن يدل على شناعته.
وثانيا: أن أي مذهب يذهبه هذا الضال، هو أهدى سبيلا من طريقه الذي يسير فيه، والذي سيلقى به في التهلكة، إن هو تابع مسيرته عليه.
وثالثا: أن إطلاق هذه الدعوة، التي لا تحمل غير الإشارة إلى أن هناك حالا أولى من تلك الحال التي هو فيها، دون الإشارة إلى الحال التي يراد منه الاتجاه إليها- في هذا ما يوقظ مشاعر هذا الإنسان الغارق في ضلاله، ويهز كيانه كله، حين ينبّه إلى أن هناك خطرا محدقا به، دون أن يكشف له عن طريق النجاة من هذا الخطر.. إن عليه وحده أن يعرف مصدر هذا الخطر، وعليه وحده أن يجد الطريق إلى الفرار منه.. وذلك من شأنه أن يبعث فيه كل القوى الواعية المدركة ليدفع عن نفسه هذا البلاء المشتمل عليه، وليطفئ بيديه هذه النار المشتعلة فيه.
وقد كررت الدعوة في قوله تعالى: {أَوْلى لَكَ فَأَوْلى} للتوكيد.. ثم كررت هذه الدعوة مؤكدة أيضا في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى} مبالغة في التنبيه والتحذير.
ويرى أكثر المفسرين أن قوله تعالى: {أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى} هو تهديد ووعيد، وأن المراد بما هو أولى له، هو النار المعدّة له، وأن ذلك العذاب هو ما يدعى إليه.. هذا المكذب بآيات اللّه والرأى- واللّه أعلم- هو ما ذهبنا إليه، من أن هذا إلفات وتنبيه وإغراء بالرجوع إلى اللّه، وأخذ طريق غير طريق الضلال الذي يركبه هؤلاء الضالون.. والآيات التي جاءت عقب هذا الإلفات تؤيد الرأى الذي ذهبنا إليه، لأنها تحاجّ الإنسان وتفتح له طاقات من نور يمكن أن يرى على ضوئها طريق الحق فيسلكه.
قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً}.
هو تعقيب على هذه الدعوة الموجّهة إلى منكرى البعث والحساب والجزاء.
والإنسان هنا، هو جنس الإنسان المكذب بالبعث والحساب والجزاء.
وفى الاستفهام إنكار لموقف هذا المنكر ليوم القيامة، لأنه يظن أن أن يترك سدى، أي هملا، بلا حساب، أو جزاء.. وهذا ظن خاطئ من وجوه:
فأولا: أن العاقل لا يرضى لنفسه أن ينزل إلى مرتبة الحيوان، وأن ينظر إليه نظرة من يعفى من تبعة أعماله، فتلك حال لا يصير إليها الإنسان إلا إذا كان ناقص الأهلية، أو فاقدها.
وثانيا: الإنسان في هذه الحياة، إذا أحسن عملا انتظر جزاء إحسانه، وتوقع الخير من ورائه، وأنه إذا لم يجد هذا الجزاء، استشعر مرارة الغبن وخفت في نفسه موازين الإحسان، كما أنه إذا أسيء إليه، توقع أن يؤخذ له بحقه ممن أساء إليه، وإلا تحول إلى حيوان يستعمل مخالبه وأنيابه، مهاجما ومدافعا، فكان لابد من حساب يسوّى عليه ما بين الناس من مظالم.
وثالثا: هذا الاختلاف بين مذاهب الناس في الحياة، من محسنين ومسيئين، وعاملين، ومقصرين، وأخيار وأشرار، ومظلومين وظالمين- إلى غير ذلك مما يجعل كل إنسان منهم عالما قائما بذاته- هذا الاختلاف الحاد بينهم في هذه الحياة، لابد له أن يسوى، فيكون الأخيار في جانب، والأشرار في جانب، بعد أن كشفت تجربة اجتماعهم معا في الحياة عن هذه المتناقضات.. وهذا لا يكون إلا في عالم غير هذا العالم، وفى حياة غير هذه الحياة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [35- 36: القلم].
وعلى هذا، فإنه أولى فأولى، ثم أولى فأولى لأهل الضلال أن ينزعوا عن ضلالهم، وأن يطلبوا النجاة والسلامة لأنفسهم من الدينونة والعقاب في الآخرة التي لابد منها.
قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى}.
هو دليل من الأدلة الكاشفة عن قدرة اللّه، وأن من متعلقات هذه القدرة بعث الموتى من القبور.
فهؤلاء الموتى، قد كانوا عدما قبل أن تخرجهم القدرة القادرة إلى الحياة، كما يقول سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [28: البقرة].
وهذا الإنسان الذي ينكر البعث، ويستبعده على قدرة اللّه- ألا ينظر إلى أثر هذه القدرة فيه؟ ثم ألا يدرس مسيرة حياته، ليعلم من أين بدأ؟
وكيف صار؟ وإلى أين انتهى؟.
إنه لم يك شيئا أبدا: {أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [67: مريم].
ثم إنه كان نطفة من منىّ.. لا تعدو أن تكون أشبه بالمخاط، تستقذره النفوس وتمتهنه، كما يقول سبحانه: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ} [20:
المرسلات].. وهو مهين لأنه لا ينتفع به في أي وجه من وجوه النفع، إلا إذا امتدت إليه يد القدرة، فنفخت فيه من روح الحق جل وعلا.
وفى وصف المنى بأنه {يُمْنى} إشارة إلى أنه لا يكون قابلا للإخصاب حتى يمنى، أي يخرج من صلب الرجل، بعد أن ينضج، ويصبح صالحا للقذف به في رحم الأنثى.
قوله تعالى: {ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى}.
أي ثم أصبحت هذه النطفة علقة، وهى النطفة بعد أن تأخذ شكلا جديدا في مسيرتها نحو الحياة، فتكون قطعة من الدم الغليظ المتجمد، لا حياة، فيها، ولا صورة محددة لها.
وقوله تعالى: {فَخَلَقَ فَسَوَّى}.
فاعل خلق هو اللّه سبحانه وتعالى، أي فخلق اللّه سبحانه وتعالى من تلك النطفة، علقة، ثم خلق من تلك العلقة صورا، وأشكالا، فسوّاها حالا بعد حال، وخلقا بعد خلق، حتى كان منها هذا الإنسان السوىّ، الذي يسمع، ويبصر، ويعقل، ويملأ هذه الدنيا خيرا، وشرّا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ} [6: الزمر].
ولم يذكر فاعل {خلق} لأنه أوضح من أن يذكر، إذ لا خالق غير اللّه سبحانه وتعالى، لا يشاركه أحد في هذا الفعل، فحيث ذكر الخلق كان فاعله هو اللّه سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [54: الأعراف] وقوله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى}.
أي فجعل اللّه سبحانه من هذا الخلق السوىّ، الذكر والأنثى، اللذين بهما يتناسل الإنسان وتتكاثر مواليده،.
والخلق- كما قلنا في أكثر من موضع- هو إيجاد المخلوق على الصورة التي أرادها اللّه سبحانه وتعالى له، أمّا الجعل، فهو إعطاء المخلوق الصفة الوظيفية التي يقوم بها.. فالخلق إبداع، والجعل تسخير وتسيير لهذا المخلوق المبدع.. وهذا يعنى أن خلق المرأة والرجل يجرى على نسق واحد، ويقع على صورة واحدة، حتى إذا اكتمل خلق الإنسان، انقسم إلى مخلوقين، أحدهما ذكر والآخر أنثى، كاليدين للإنسان، إحداهما يمين، والأخرى شمال.. وباليدين معا يؤدّى الإنسان وظيفته، وبالرجل والمرأة يتم للإنسان وجوده.. فكلّ من الرجل والمرأة نصف الإنسان، وبهما معا يكمل الإنسان، ويكون له القدرة على أداء وظيفته في الحياة.
أما ما جاء في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} فإن هذا في مقام إلفات النظر إلى عالم المخلوقات الحية، حيث تبدو هذه المخلوقات في أجناسها، وكأن كل جنس منها صنف واحد، حيث لا تمايز بين أفراده، مع أنه في الحقيقة صنفان، ذكور وإناث.. فهذا مقام، وذاك مقام.
قوله تعالى: {أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى}.
هذه هي القضية التي نصبت لها تلك الأدلة، التي تحدّث عن قدرة اللّه سبحانه وتعالى، والتي كانت السورة كلها معارض لتلك القدرة.
أي: أليس ذلك الإله الذي خلق الإنسان من نطفة، بقادر على أن يحيى الموتى؟
والجواب على هذا السؤال، هو بالإيجاب الملزم لكلّ ذى عقل أن يجيب به، إذا هو استجاب للحق، وأذعن لمنطق العقل، ولم يغلبه الهوى، أو يستبدّ به العناد، ويركبه الحمق والغباء.
وبهذه الآية تختم السورة، التي كان عنوانها القيامة.
فإنه لا قيامة إذا لم يتقرر إمكان بعث الموتى من القبور، فإذا تقرر ذلك، لم يكن الإخبار عن أن هناك بعثا، وقيامة، وحسابا، وجزاء- لم يكن هذا الإخبار بالأمر الذي يمارى فيه، أو يقع موقع الشك أو الإنكار.

.سورة الإنسان:

نزولها: مدنية نزلت بعد سورة الرّحمن.
عدد آياتها: إحدى وثلاثون آية.
عدد كلماتها: مائتان وأربعون.. كلمة.
عدد حروفها: ألف وخمسون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
كانت سورة القيامة معرضا للأدلة، الدالة على قدرة اللّه سبحانه، وعلى إمكان البعث، ووقوع القيامة.
والإنسان هو موضوع القيامة وهو الذي يساق إلى موقف الحساب والجزاء فيها.
فكان جعله عنوانا لسورة خاصة به، ثم كان جعله في مواجهة يوم القيامة، بعد عرضها عليه- كان ذلك مما يقيم له مرآة ينظر فيها إلى نفسه، وإلى مكانه في هذا الوجود، وإلى مسيرته في الحياة، وكيف بدأ، وإلى أين ينتهى.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 14):

{هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً}.
يرى أكثر المفسرين أن الاستفهام هنا لا يراد به حقيقته، وإنما هو بمعنى الخبر، وأن {هل} بمعنى قد.
أي قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا..!
والرأى عندنا- واللّه أعلم- أن الاستفهام على حقيقته، وأنه يحمل سؤالا موجها إلى الإنسان ليجيب عليه، وليبحث عن حقيقته، وكيف كان؟ ثم كيف صار؟ ثم إلى أين ينتهى به خط مسيرته؟
فهذا السؤال من شأنه أن يستثير تفكير الإنسان، وأن ينشّط مداركه الخامدة، وأن يفتح عينيه المغمضتين، على هذا الوجود، وعلى القدرة المسيّرة له، والقائمة على هذا النظام الممسك به.
ولو لبس الاستفهام صورة الخبر- كما يذهب إلى ذلك المفسّرون- لما، كان له هذا الأثر في تفكير الإنسان، ولما أحدث في نفسه تلك المشاعر التي يستثيرها هذا الاستفهام الطارق لها.
والحين من الدهر، هو القطعة المقتطعة من الزمن الطويل.. لأن الدهر زمن ممتد لا نهاية له، والقطعة منه أيّا كانت، هي زمن طويل قد يبلغ ألوف السنين.
وهذا يعنى أن الإنسان يمكن أن يكون قد مضى عليه دهر طويل لم يكن فيه شيئا مذكورا، أي ذا ذكر، وأثر مشهود، في الحياة.
ولو أراد الإنسان أن يجيب على هذا السؤال وهو: كم مضى عليه من الزمن لم يكن شيئا مذكورا؟- لاقتضاه ذلك أن يرجع ببصره إلى الوراء، وأن يفتش في أغوار الزمن السحيق عن يوم ميلاده الذي كان فيه شيئا مذكورا.
ثم كان عليه أن يغوص أكثر وأكثر في أعماق الزمن ليرى وجوده قبل أن يكون شيئا مذكورا.
وفى هذه النظرة العميقة المتفحصة يتسع مجال البحث، وتتشعب مسالك الدرس، حتى لتشمل علم الحياة، وكيف بدأت جرثومة الحياة على هذه الأرض، وكيف تطورت هذه الحياة، وكيف لبست صورا، وأشكالا، لا تنتهى عند حدّ؟
إن ذلك يتطلب دراسة شاملة لأصل الحياة على هذه الأرض، ثم لتاريخ الإنسان، وخط مسيرته في عالم الأحياء، وهذا باب واسع من أبواب العلم والمعرفة، لا تزال معارف الإنسانية كلها تقف على شاطئه.
وقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً}.
هو إشارة إلى موقع من مواقع الإجابة على هذه التساؤلات الكثيرة، التي لا تتصدى للإجابة عليها إلا عقول العلماء الدارسين.. أما هذا الموقع فهو مما تشارك في إمكان تصوره، والإجابة عليه عقول الناس جميعا، وهو خلق الإنسان من النطفة.. فهذا الخلق عملية مشاهدة، يراها كل إنسان في مواليده التي يلدها، كما يشهدها في مواليد الكائنات الحية التي تزخر بها الحياة من حوله.
فهذه دعوة إلى كل عقل، لينظر إلى تلك الحقيقة المشاهدة، في واقع الحس، والتي لا يستطيع أن ينكرها، أو يكابر فيها.. {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ}.
والنطفة، هي التي أشار إليها قوله تعالى في آخر سورة القيامة: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى}.
والتي هي ماء الذكر، يقذف به في رحم الأنثى.
والأمشاج: هي الأخلاط.. واحدها: مشج، ومشج، ومشيج.
ومشج الشيء بالشيء: هو مزجه وخلطه به.
وهذا يعنى أن تلك النطفة وإن بدت في مرأى العين مجرد ماء، هي في حقيقتها ماء مشوب بأشياء أخرى، أودعتها فيه قدرة الخالق جل وعلا، كما أودعت في هذه البذرة، صورة الشجرة ولون زهرها، وطعم ثمرها.. كذلك هذه النطفة الأمشاج، قد حملت في كيانها صورة الإنسان، ولونه، ومستوى إدراكه، ومستودع عواطفه، ومشاعره، وكل ما يكون به إنسانا له ذاتيته التي يتميز بها عن غيره من أبناء جنسه! وقوله تعالى: {نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً} أي فجعلنا هذا الإنسان سميعا بصيرا لنبتليه، ونختبر ماذا يعطى من ثمر بهذه القوى التي أودعناها فيه، من السمع والبصر.
وقدّم الابتلاء وهو المسبّب، على سببه الذي هو السمع والبصر المودعان فيه- للإشارة إلى أن الإنسان إنما خلق للابتلاء، وأنه لم يخلق عبثا.
فهو الكائن الوحيد في هذه الأرض، الذي حمل الأمانة، أمانة التكليف، التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان.
فالفاء في قوله تعالى: {فجعلناه} فاء السببية، أي فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه.. ووصف الإنسان بأنه سميع بصير، لا بأنه سامع ومبصر، إشارة إلى أن سمعه وبصره ليس كسمع الحيوان وبصره، وإنما هو سمع يحوّل المسموعات إلى حقائق ومعان، تنفذ إلى أعماق المسموع، وإلى ما وراء دلالات الصوت الذي يقع على الأذن من كل ما يطرقها من مسموعات، سواءا كان كلمات، أو غير كلمات.
وكذلك الشأن في البصر، فهو ليس بصرا ينقل الأشياء إلى العين، كما تنقلها المصوّرة، وإنما هو بصر يدخل إلى دائرة العقل الذي يكشف عن الحقائق المضمرة في كيان الشيء المبصر.
وبهذا السمع، والبصر، صار الإنسان سميعا، بصيرا، أي ذا قدرة على استطلاع النتائج المرتقبة من كل مسموع ومبصر، وما وراءه.. من خير أو شر، أو حق وباطل.
وبهذه القوى الإضافية التي أضافها الخالق جلّ وعلا إلى الإنسان، وأخرجه بها عن دائرة الحيوان- كان مناطا للتكليف، وأهلا للحساب والجزاء.
قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}.
أي بهذا السمع والبصر، وما يفعلان في الإنسان، وما يكشفان له من حقائق- أراه اللّه سبحانه وتعالى، السبيل الذي ينبغى أن يسلكه، وأقام له على هذه السبيل المعالم التي يقيم بها خطوه عليها، بما بعث إليه من رسل، وما شرع له من شرائع، وما بيّن له من أحكام.. وهنا يترك له الخيار فيما هو صانع بنفسه، فيتقدم أو يتأخر، ويستقيم أو ينحرف، ويشكر، أو يكفر، كما يقول سبحانه على لسان سليمان عليه السلام: {هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [40: النمل] وكما يقول سبحانه في آخر هذه السورة: {لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}.
وقوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً}.
هو بيان للجزاء الذي سيلقاه الذين يكفرون باللّه، ولا يستقيمون على صراطه المستقيم.
ومعنى: أعتدنا، أي أعددنا، وأحضرنا، والسلاسل: القيود، تكون في الأرجل والأيدى.. والأغلال: الأطواق، تكون في الأعناق.. والسعير:
النار المتسعرة بوقودها.
ولابد هنا من الإشارة إلى الرسم العثماني لكلمة {سلاسلا} ورسمها بالألف، من غير تنوين. وكان من حقها أن تكتب من غير ألف.
والسؤال هنا: لم كتبت بهذا الرسم؟: أذلك لأن الكتابة العربية لم تكن يوم كتابة المصحف العثماني قد استوفت شكلها الكامل، وقامت أسسها على قواعد مضبوطة؟ أم أن ذلك كان عن قصد وعمد؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو أن القول بأن الكتابة العربية لم تكن قد استوفت شكلها النهائى يوم أن كتب المصحف العثماني- قول مستبعد.
وذلك لأن ألفاظا وردت في القرآن الكريم على صيغة فعائل أو مفاعل ولم تكتب بالألف، مثل قوله تعالى: {كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً} [11: الجن] وقوله سبحانه: {وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [72: التوبة] وقوله تبارك اسمه: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ} [100: الإسراء] فلو كان ذلك عن نقص في رسم الكتابة لأخذت أمثال هذه الصيغ الممنوعة من الصرف، شكلا واحدا في كتابتها.
وإذن فما الحكمة، في رسم {سلاسلا} بهذه الصورة؟
والذي يقع في مفهومنا لهذا- واللّه أعلم- هو أن هذه الألف الزائدة قد زيدت عن قصد، ولحكمة تراد لها، وهى أن هذه الألف تشير إلى معنى مضمر في كلمة {سلاسلا} وأنها سلاسل طويلة جاوزت في طولها الحد المعروف للسلاسل التي يقيد بها الحيوان، أو الإنسان.
ولعلّ سائلا يسأل: أهذا يعدّ تفسيرا لبعض كلمات القرآن، يصحب الرسم التي ترسم به هذه الكلمات؟.
ونقول- واللّه أعلم- نعم! إنّه إشارة إلى معنى من معانى الكلمة، ودلالة من دلالاتها، وهذا المعنى أو تلك الدلالة، ليس عن مجرد اجتهاد شخصىّ من كتّاب المصحف العثماني، وإنما هو عن نظر إلى معنى صريح جاء في آية أخرى، يحدّث عن هذه السلاسل وطولها، وذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ} [32: الحاقة] فهل رأى الناس سلسلة طولها سبعون ذراعا يشدّ إليها إنسان أو حيوان؟
فهذه السلاسل، هي من نوع هذه السلسلة الغريبة، ولهذا رسمت ذلك الرسم الغريب في صورته شكلا، ونطقا.. إذ كانت الألف تحتمل مطّ الصوت بها وامتداده، وإطالته، كما طالت تلك السلاسل، طولا غريبا.
وما قلناه في لفظ {سلاسل} يقال في لفظ {قَوارِيرَا قَوارِيرَا}، فقد رسم هذا اللفظ في الموضعين بألف زائدة في آخره، دون تنوين.
وهذا الرسم يشير إلى غرابة هذه القوارير، وأنها ليست مما للناس عهد به.
فما رأى الناس أبدا قوارير من فضة، أي أكوابا زجاجية، هي في حقيقة أمرها من فضة! فالأ كواب إما من فضة، وإمّا من زجاج.
أما أن تكون فضة وزجاجا معا، فذلك هو الذي لا يقع في تصوّر أحد.
ولكن هذه أكواب الجنة التي يشرب بها عباد اللّه هناك شرابهم.. إنها أكواب من فضة، ولكنها في صفاء الزجاج، وشفافيته، حيث يرى من ظاهرها لون ما فيها من شراب، وهذا لا يكون إلا لآنية الزجاج وحده.
قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً}.
الأبرار. جمع برّ، أو بارّ.. والبارّ: هو النقي الطاهر، الذي لم يغيّر من فطرته الطاهرة النقية شيء من كبير الذنوب أو صغيرها.
والكأس: إناء الشراب، ويطلق على الشراب نفسه.. كما يقول الشاعر:
وكأس شربت على لذّة ** وأخرى تداويت منها بها

ولا يقال له كأس إلا إذا كان فيه شراب، فإذا كان فارغا سمّى قدحا.
والكافور: نبت طيّب الريح.
أي أن هؤلاء الأبرار يشربون من كأس ممزوجة بالكافور الذي يجعل لها ريحا طيبة، إلى جانب مذاقها الطيب.
وإذ كان معنى الكأس هنا هو الشراب الذي فيها، كان معنى شرب الأبرار من تلك الكأس أنهم يشربون من هذا الشراب، أو من هذه الخمر، التي مزاجها كافور.
قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً}.
هو بيان لهذه الكأس، أو هذه الخمر، وهى أنها عين يشرب بها عباد اللّه.
ونصب {عينا} على أنه مفسّر لقوله تعالى: {مِنْ كَأْسٍ} على سبيل الاختصاص للمدح.
وعباد اللّه، هم الأبرار الذين ذكرهم اللّه سبحانه في قوله: {إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً}.
وفى إضافتهم إلى اللّه سبحانه تعالى، تشريف، وتكريم، لهؤلاء الصفوة الكرام من الناس، فهم عباده، وهم أهل ودّه.
وفى قوله تعالى: {يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً} أي أنها عين تتفجر دائما كلما أرادوا أن يشربوا من خمر هذه العين.. فما هي إلا همسة خاطر حتى تنبع العين، ويتفجر منها الخمر، على هيئة كئوس تتناولها الأيدى من قريب.
وفى تعدية الفعل {يشرب} بحرف الجر الباء مع أنه يتعدى بنفسه أو بحرف الجر {من} فيقال شربت اللبن، أو شربت من اللبن- في تعدية هذا الفعل بالباء، إشارة إلى أن العين التي يشرب منها عباد اللّه، هي خمر وكأس معا، وأنهم إذ يشربون بهذه العين التي هي خمر، يشربون الخمر ذاتها.. وهذا يعنى أن هذا الشراب الذي ينبع من تلك العين، لصفائه، ورقته، وشعشعة أضوائه- قد امتزج بالكأس، فصارا معا كيانا واحدا، لا يدرى الناظر إليهما، أينظر إلى كأس أم إلى خمر.. فكلاهما أصفى من الهواء، وأرق من الشعاع.. وإلى هذا المعنى يشير أبو نواس في قوله:
رقّ الزجاج ورقت الخمر ** وتشاكلا فتشابه الأمر

فكأنما خمر ولا قدح ** وكأنما قدح ولا خمر

وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، إنما لمحناه من قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً} حيث عدل النظم القرآنى عن تعدية الفعل {يشرب} إلى أداة الشرب بالباء، كما هو المألوف، إذ يقال شربت بالكأس وبالكوب، وعدى إلى تلك الأداة بمن.. ثم جاء قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ} فعدل عن تعدية الفعل إلى مادة الشراب بحرف الجر من، إلى تعديته بحرف الجر الباء {عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ}.
وبهذا أحلّ النظم القرآنى مادة الشراب (العين) محلّ الكأس، على حين أقام الكأس مقام العين!.. وبهذا تبدو الصورة هكذا.
{إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} ومقتضى النظم: {إن الأبرار يشربون بكأس} {عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ} ومقتضى النظم كذلك: {عينا يشرب منها عباد اللّه}:
وقد عدّ وصف أبى نواس للخمر والكأس أبلغ ما قالت العرب من وصف جامع للخمر وللكأس معا.
ولكن الذي ينظر في الوصف القرآنى للخمر والكأس، لا يجد من وصف أبى نواس إلا طنين ذباب، بين يدى نغم علوىّ آسر، يملك زمام العقول، ويهزّ أوتار القلوب! وأين زبالة المصباح من ضياء الشمس، وروائها؟
وأين ضآلة المخلوق من عظمة الخالق وجلاله؟
أبو نواس آلة مصورة لروض جميل رائع، ولكن لا حياة فيه، ولا ريح زهره ولا مذاق لثمره.
والنظم القرآنى ينقل هذا المنظر في كلمات تنبض بالحياة، وتندى بالطيب فتنشق الأنوف عبيره، وتطعم الأرواح مذاق جناه!! أبو نواس يستعين على إخراج الصورة بالأسلوب التقريرى المباشر، فيقول:
رق الزجاج ورقت الخمر

فهو يقرر الصفة التي عليها كلّ من الكأس والخمر، وهى الرقة.. ثم يبنى على هذه المقدمة حكما مسلّما به، وهو التشاكل والتشابه بين شيئين كل منهما على صفة الآخر.. وهذا عيب في الأسلوب البلاغى، الذي يعتمد على التلميح دون التصريح، ويستغنى بالإماءة، عن المواجهة والمكاشفة!
فإذا استمعت إلى قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ} تمثلت لك العين كأسا يشرب بها، ثم نازعتك نفسك إلى البحث عن أداة الشرب، فلا تجد إلا العين شرابا وكأسا معا.
وإذا استمعت إلى قوله تعالى: {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً} تمثلت لك الكأس عينا يشرب منها، فإذا شاقك أن ترى العين وجدتها هي الكأس والشراب معا، قد أصبحا كيانا واحدا.
هذا، ولم يجمع النظم القرآنى بين الوصفين- وصف الخمر، ووصف الكأس- حتى يقيم منهما الصورة التي تحقق صفتهما معا- لم يفعل النظم القرآنى هذا الصنيع، لأن كل صورة منهما تحقق الوصف المطلوب للكأس والخمر أتم تحقيق.. فإذا نظر الناظر في الصورتين معا وجد أنهما وجهان لحقيقة واحدة! كأس وخمر، وخمر وكأس.
وقد جاء النظم القرآنى بهذا الإعجاز من أقرب طريق، وأيسره، فبكلمة واحدة، لا بل بحرف واحد، أقام هذا الإعجاز، وكشف عن وجه هذه المعجزة.. فما زاد النظم القرآنى عن أقام حرف الباء مكان الحرف {من} في إحدى المعجزتين، على حين أقام الحرف {من} مقام حرف الباء في المعجزة الأخرى! فهذا كلام اللّه، تتجلى معجزاته في غير بهرج من اللفظ، ولا خلابة أو تهويل من النظم.. حتى ليبدو- في ظاهره- وكأنه مما يتكلم به الناس، من منثور ومنظوم.. تماما كما كانت تبدو عصا موسى في يده، عصا يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه.. لكن ما إن ألقاها من يده حتى سرت في كياتها نفخة من روح الحق، وإذا هي حية تسعى؟.. وهكذا كلمات اللّه، تبدو في ظاهرها، وكأنها من مادة ما نتكلم به، من حروف وكلمات، ولكنها آيات معجزة، تتحدّى، وتفحم، وتعجز.
قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} النذر: ما ألزم الإنسان به نفسه من طاعات وقربات، ومنه قوله تعالى، على لسان مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [26: مريم] والوفاء بالنذر: هو إمضاء لعقد عقده الإنسان مع ربه، بما يتقرب به إليه، فهو عقد ملزم، لا ينبغى الفكاك منه، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [1: المائدة] وهذا النذر، هو من صفات الأبرار، حيث لا يقفون عند أداء ما فرض اللّه سبحانه وتعالى عليهم من فرائض، وما أوجب عليهم من واجبات، ولا ما سن لهم الرسول الكريم من سنن، بل يتجاوزن ذلك إلى طلب المزيد من القربات للّه، في كل ما يرون للّه سبحانه فيه رضا، ولو شقّ ذلك عليهم، وحرمهم لذة النوم، والشبع، والرىّ.
ولم تعطف هذه الآية على ما قبلها، لأنها جواب عن سؤال، هو تعقيب على ما ذكر في الآيات السابقة، مما وعد اللّه سبحانه وتعالى به الأبرار، من عظيم المثوبة، وكريم الجزاء- فكان مما يسأل عنه في هذا المقام هو:
وبم استحق هؤلاء المكرمون هذا التكريم؟ وماذا كان شأنهم في الحياة الدنيا؟ فكان الجواب: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (7: الإنسان).
وجيء بالجواب في صورة المستقبل {يوفون}، مع أن السؤال عن حال من وقع منهم الوفاء كان فعلا في الماضي قد وقع منهم، واستحقوا الجزاء الحسن عليه- وذلك للإشارة إلى أن هذا الفعل ليس مقصورا على جماعة بأعيانهم، في زمن معين، بل هو فعل ممتد الزمن على مدى الحياة الإنسانية في هذه الدنيا، فهو فعل متجدد الأزمان، والأعيان.. وكأنّ الجواب هو هكذا:
هذا الجزاء لمن يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا.
وقوله تعالى: {وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} صفة أخرى من صفات هؤلاء الأبرار، وهى أنهم يخافون لقاء اللّه يوم القيامة، وما يغشى الناس في هذا اليوم من أهوال وشدائد، فهو يوم شره عظيم مستطير.. فمن لم يعمل حسابه، ويتزود له بالأعمال الصالحة، احتواه هذا الشر، واشتمل عليه.. إنه امتحان قاس لا يجوز بحره المتلاطم إلّا من أعد نفسه له.
قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}.
أي ومن صفات هؤلاء الأبرار أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. فالطعام الذي عليه قوام الحياة وملاكها، لا يؤثرون أنفسهم به، بل يجعلون لمن يعوزهم هذا الطعام نصيبا منه، ولو كانوا هم أنفسهم في أشد الحاجة إليه.
وفى قوله تعالى: {على حبه} إشارة إلى أن هذا الطعام ليس شيئا رخيصا مبتذلا، كشأنه في أحوال الرخاء، ووفرة حاجات النفوس منه، وإنما هو الطعام في أحوال القحط، والجدب، وفى أزمان المجاعات التي تكون فيها لقمة الطعام أعز ما يملك الناس، وأثمن ما يحرصون عليه من مال ومتاع، حتى إن المرء ليسترخص كل عزيز يملكه، في سبيل شيء منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [92: آل عمران] ولهذا استحق هؤلاء المطعمون لهذا الطعام أن يكونوا في الأبرار، لأنهم أنفقوا مما يحبون، ومما تشتد رغبة النفس إليه، وحرصها عليه.. والمسكين، واليتيم، والأسير، هم أضعف أعضاء الجسد الاجتماعى، وهم الذين يتلقون أول الضربات وأقساها وأفعلها، في أزمان المحل، والجدب، فيكونون أول حطب تشتعل فيه نار المجاعات.
فالمسكين قد أضرعه الفقر، وأذلّه الحرمان، حتى في أوقات الرخاء واليسر، وهو في حال القحط والمجاعة أشد ضراعة، وأكثر ذلة وضعفا وحرمانا.
واليتيم- والمراد به اليتيم الفقير- قد اجتمع عليه اليتم والفقر معا، فذهب اليتم بالجناح الذي كان يظله، وقصّ الجناح الذي كان يطير به، على حين ذهب الفقر بكل حبة كانت في عشه.
والأسير، سجين في قيد الأسر.. إن كان ذا غنى فهو لا سبيل له إلى ما يملك، وإن كان قويّا ذا حول وحيلة، فقد عطّل الأسر كل قواه، وسلبه كل ماله من حول وحيلة.
ومثل الأسير كل من انقطعت وسائله المتاحة له، وحيل بينه وبين مصادر رزقه، وعمله، كالمرضى والمساجين، وأبناء السبيل، وذوى العاهات، ونحوهم.
قوله تعالى: {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً}.
هو حكاية لقول الأبرار، الذين يطعمون- في ساعة العسرة- المسكين واليتيم والأسير، فهم إنما يطعمون من يطعمون ابتغاء وجه اللّه، لا يريدون على ما أطعموا جزاء، ولا شكورا ممن أطعموهم.. ولو أنهم فعلوا ذلك لما كان لهم فضل، ولما استحقوا عند اللّه أجرا، لأنهم استوفوا جزاء ما عملوا، ممن صنعوا بهم هذا الصنيع.
وهذا القول من الأبرار ليس بلسان المقال، يواجهون به من أطعموهم، فإنهم لو فعلوا، لكان ذلك من باب المنّ والأذى، الذي يحبط الأعمال، ويمحق الإحسان- وإنما هو بلسان الحال، ومما انطوت عليه ضمائرهم، وانعقدت عليه نيّاتهم.
قال مجاهد، وسعيد بن جبير، رضى اللّه عنهما: واللّه ما قالوا ذلك بألسنتهم، ولكن علمه اللّه من قلوبهم، فأثنى به عليهم، ليرغب في ذلك راغب.
وروى عن عائشة رضى اللّه عنها، أنها كانت إذا بعثت بالصدقة إلى أهل بيت من الفقراء، سألت من بعثته: ماذا قالوا لك؟ فإن ذكر أنهم دعوا لها، أخذت هي بالدعاء لهم، ليبقى لها عملها خالصا لوجه اللّه.
قوله تعالى: {إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}.
وهذا أيضا مما يقوله الأبرار المتصدقون، بلسان الحال، لا بلسان المقال.
إنهم إنما فعلوا ما فعلوا ابتغاء وجه ربهم، وخوفا من لقائه يوم القيامة، حيث مزدحم الأهوال، وحيث يكثر العويل، والبكاء، وصرير الأسنان!! ووصف اليوم بأنه هو العبوس القمطرير، لأنه يطلع على الناس أغبر متجهما، يرمى بالنذر والمهلكات.. وإنه على صفحة الأيام والليالى تنطبع أحوال الناس، فالحزين يرى الحزن مخيّما على وجه أيامه ولياليه، والمتوجّع الشاكي، لا يسمع من أصداء الزمن إلا توجعا وأنينا، على حين يجد الخلّى المغتبط، الأيام والليالى، تغازله بالبسمات، والضحكات.. وهكذا تتلون ساعات الزمن بألوان النفوس، وتصطبغ بما فيها من مساءات أو مسرات.
يسمع المحزون هديل الحمام، وسجع البلابل، فيقع ذلك على أذنه وقع العويل والنواح، ويسمع السعيد الهانئ تلك الأصوات، فتوقّع على سمعه أعذب الألحان، وأحلى الأنغام.. وإلى هذا المعنى يشير الشاعر إلى وقع هديل الحمام من النفوس، فيقول:
شجا قلب الخلىّ فقيل غنّى ** وبرّح بالشجيّ فقيل ناحا

والقمطرير: وصف للعبوس بأنه عبوس بالغ الغرابة في شدته، متناه في صفته.
ولفظ القمطرير، يحكى بجرسه ما يشبه هدير الرعد، وقصف العواصف.
فبناؤه اللفظىّ يجسّم أصدق صورة لمعناه.
قوله تعالى: {فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}.
أي أن هؤلاء الأبرار، الذين خافوا هذا اليوم، وأعدوا العدة له، قد وقاهم اللّه شره، ودفع عنهم مكارهه، وألقى عليهم نضرة النعيم، وبهجة الرضوان، ففاضت نفوسهم مسرة وحبورا.
قوله تعالى: {وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً}.
أي وجعل اللّه سبحانه جزاءهم عنده أن أدخلهم الجنة، وكساهم فيها خير ما يكسى به أهل النعيم في الدنيا، وهو الحرير، ولكنه حرير الجنة الذي لا يعلم صفته إلا اللّه تعالى.
وقوله تعالى: {بما صبروا} إشارة إلى أن جزاءهم هذا الجزاء الطيب إنما كان بصبرهم في الدنيا على أعباء التكاليف، وأداء الواجبات.. فالطاعات والأعمال الصالحة كلها لا تؤدّى إلا بمجاهدة النفس، ومغالبة الهوى. وفى الحديث: «حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات» قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} هي حال من أحوال الأبرار، وقد أخذوا منازلهم من الجنة، ولبسوا فيها فاخر الحلل.. فإذا نظر إليهم ناظر هناك، رآهم متكئين على الأرائك، قد أخلوا أنفسهم من هموم الدنيا، وتوقعات المساءات منها، من مرض، أو فقر، أو شيخوخة، أو موت.
والأرائك: جمع أريكة، وهى السرير، مرخى عليه السّتر الرقيقة، رفها وتنعّما.
وفى الاتكاء على السرر، مع أن الاتكاء إنما يكون على الوسائد، على حين أن النوم يكون على السرر- في هذا إشارة إلى أن هذه السّرر هي متكأ لأهل الجنة، وأنها بمنزلة الوسائد في الدنيا، وأن أهل الدنيا إذا اتخذوا السرر، وجملوها بما جملوها به، ليكون منامهم عليها، فإن أهل الجنة يتخذون هذه السرر للاتكاء، والاسترخاء عليها، لأن أهل الجنة لا ينامون.
وقوله تعالى: {لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} أي أنهم لا يرون في هذه الجنة شمسا، أي حرّا، لأن الشمس هي مصدر الحرارة، كما أنهم لا يرون زمهريرا، أي لا يحسون بردا، ولو لم تكن هناك شمس.. بل إن الجنة نور من نور الحق جلّ وعلا، وجوها سجسچ، لا حرّ فيه ولا برد.
جوّها سجسج وفيها نسيم كل غصن إلى لقاه يميل وأين جو من جو؟ وأين نسيم من نسيم؟ وأين ما في دار الفناء مما في دار البقاء؟
قوله تعالى: {وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا}.
ودانية: معطوف على قوله تعالى: {متكئين}.
وظلالها فاعل لاسم الفاعل: {ودانية}.
أي أن هذه الجنة قد أرسلت ظلال أشجارها على هؤلاء الأبرار.. أما قطوفها أي ثمارها، فقد ذللت لهم، أي انقادت، وخضعت لمشيئتهم، فحيث أرادوها وجدوها حاضرة بين أيديهم، يأخذون منها ما يشاءون، ومنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}.