فصل: تفسير الآيات (15- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (15- 22):

{وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ}.
أي ومن نعيم الأبرار في الجنة، أنه يطاف عليهم فيها بأوان من فضة، قد ملئت بألوان النعيم، من مأكول ومشروب، كما يطاف عليهم بأكواب لم ترها عين في الحياة الدنيا، فهى أكواب من فضة، ولكنها في شفافية الزجاج، حتى ليحسبها الرائي قوارير، أي زجاجا.. والواقع أنها من الفضة، والفضة مهما رقّت لا تشفّ أبدا، فلو استطاع صانع أن يصنع من درهم فضة إبريقا، أو دلوا، لما شف هذا الإناء عما في داخله كما يشفّ الإناء من الزجاج.
وقوله تعالى: {قَدَّرُوها تَقْدِيراً}.
الضمير في قدروها يعود إلى السقاة الذين يطوفون بتلك الآنية، وهذه الأكواب.. وأنهم جعلوها بمقادير وأحجام مقدرة بحسب طلب كل طالب.. كما يصح أن يعود هذا الضمير على الشاربين، وأنهم إذا رغبوا في الشراب انتصبت في الحال بين أيديهم تلك الأكواب، فكانت على قدر ما رغبوا.
ومما يساق إلى الأبرار من نعيم، أنهم يسقون في هذه الأكواب- التي أصبحت بالشراب كأسا- يسقون كأسا قد امتزج فيها طعم الزنجبيل بمذاق الخمر.
والزنجبيل: عروق نبات تمتد في الأرض، نقيعه حرّيف الطعم، يكون أشبه بالتفكهة لشارب الخمر.
فالضمير في {فيها} من قوله تعالى: {يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً} يعود إلى تلك الأكواب التي هي قوارير من فضة.
فالأكواب، وصف لكئوس الشراب وهى فارغة، والكأس مسمّاها وهى ملأى بالشراب.
وقوله تعالى: {عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} أي ويسقون عينا في هذه الكأس تسمّى سلسبيلا.
فقوله تعالى: {عَيْناً فِيها} عطف بيان لقوله تعالى: {كَأْساً}.
فالعين هي الكأس، والكأس هي الأكواب.. يرون هذا المشهد يمرّ بهم في لحظة خاطفة.. فأداة الشرب، وهى الكوب، تبدو أولا، ثم- وفى لحظة لازمنية- ترى كأسا ملأى بالشراب.. ثم- وفى لحظة لازمنية أيضا- ترى هذه الكأس عينا تفجر تفجيرا، لا ينفد شرابها، مادامت الكأس على فم الشارب، فإذا أخذ حاجته منها غاضت هذه العين، وغاب وجه الساقي القائم على خدمتها، ليفسح المكان لألوان أخرى من النعيم.. لا تنتهى أبدا.
والسلسبيل: الدائم الجريان، السائغ الطعم، فيجرى في الحلق جريان الماء في منحدر الوادي. وبه سميت العين، من تسمية الموصوف بصفته.
وقد جمعت الأكواب، حتى إذا امتلأت بالشراب، أفردت، فكان لكل شارب كأسه الذي يشرب منه، والعين التي تفيض من هذه الكأس.
وهذا من إعجاز القرآن الكريم في جلال التصوير، وروعة الأداء، وصدق العرض.
ولا تظنن أنا ذهبنا مذهب الشطط، أو الشطح في تأويل هذه الآيات.
فما ذلك إلا شعاعة من سناها العلوي، الذي يملأ الوجود كله.. وإن هذا الترف الذي يبدو من الصورة التي عرضناها لمجلس الشراب، هو صورة باهتة هزيلة للحقيقة الواقعة التي يعيش فيها أهل هذا المجلس، في الجنة.
قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً}.
أي أن الذين يطوفون بهذا الشراب، ويقومون على خدمة الشاربين، هم ولدان، أي غلمان في أول بواكير الشباب، إذا رآهم راء حسبهم لؤلؤا منثورا.. صفاء، ورونقا، ونضارة، وإشراقا.
وفى مجيء نظم الآية في صورة خطاب- بعث لأشواق المخاطب، ودعوة له إلى مشاهدة هذه الأحوال، ثم العمل على أخذ مكانه مع هؤلاء الذين ينظر إليهم.
والمخلدون: الذين لا يتحولون عن حالهم تلك أبدا، ولا يتأثرون بمرور الدهور والأزمان.. وهو من الخلد: أي الثبات، وعدم التحول، والانتقال من مكان إلى مكان.. يقال، أخلد فلان في مكانه، أي لزمه، وأخلد إلى الراحة أي أقام في ظلها.. ومنه جنّة الخلد، أي الخلود والدوام فيها.
واللؤلؤ المنثور، هو اللؤلؤ المتناثر الحبات، الذي لم ينتظمه عقد.. واللؤلؤ المنثور أبهى منظرا، وأبهر موقعا في العين، منه لو كان منضّما بعضه إلى بعض.
كالمنثور من الزهر في الروض، تتنقل العين في محاسنه من زهرة إلى زهرة، على حلاف ما لو ضمّ بعضه إلى بعض لأخذته العين كله بنظرة واحدة!! قوله تعالى: {وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} ثم: أي هناك، في الجنة، وما يلقاه أهلها فيها من نعيم.
إنك لو كنت هناك- جعلنا اللّه وإياك من أهلها- لرأيت نعيما لا حدود له، وملكا كبيرا قائما بين يدى أصحاب النعيم.
والمراد بالملك الكبير هنا، السلطان العظيم الذي هو مظهر من مظاهر الملك، وسمة من سماته.
وأي سلطان أعظم من سلطان أهل الجنة، حيث تمضى إرادتهم في كل شيء، وتنفذ مشيئنهم في كل شيء؟ إن خطرات النفوس، وهمسات الخواطر- أيّا كانت هذه الخطرات، وأيّا كانت هذه الهمسات- تتمثل لهم واقعا حاضرا بين أيديهم، قبل أن يكتمل ميلاد الخطرة، أو تتشكل صورة الهمسة!! فمن في هذه الدنيا بلغ من نفوذ سلطانه معشار هذا السلطان؟
وتاء الخطاب في قوله تعالى: {إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ} وفى قوله سبحانه:
{وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ} هو لكل مستمع لهذه الآيات، أو تال لها، وفى هذا ما يبعث أشواقه إلى الجنة، ويشدّ عزمه على العمل لها، ليكون من أهلها، المنعمين بنعيمها، لا أن يكون من المشاهدين لهذا النعيم من بعيد، كما يشهد أصحاب النار أصحاب الجنة!! وهذا عندنا- واللّه أعلم- أولى من القول بأن هذا الخطاب للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه.
فالنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- مخاطب بالقرآن كله، ثم إنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- قد رأى الجنة ونعيمها، كما رأى أكثر من الجنة ونعيمها، في مسراه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وفى عروجه إلى الملأ الأعلى:
{لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} [18: النجم] قوله تعالى: {عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً} أي أن هؤلاء الأبرار، يطعمون أطيب المطاعم، ويشربون ألذ وأمرأ المشارب، وهم في حال اتكاء واسترواح، وبين أيديهم اللؤلؤ المنثور من الغلمان يقومون على خدمتهم، وإذ يفيض عليهم من هذا النعيم، ما تشرق به وجوههم من رضا ورضوان- تراهم وقد ألبسوا أفخر الثياب، وحلّوا بأثمن الحلي، وأكرمها.. فهذا مما يتم به النعيم، وتكمل به المسرات.
والسندس، ضرب من نسيج الحرير الرقيق، والإستبرق نسيج أغلظ من نسيج السندس.. أي أن السندس يكون شعارا، والإستبرق يكون دثارا.
و{عاليهم} ظرف، بمعنى فوقهم، أي تعلوهم ثياب سندس خضر.
وفى التعبير بلفظ {عاليهم} بدلا من عليهم- هو- واللّه أعلم- إشارة إلى أن هذه الملابس لا تلتصق بأجسامهم كما تلتصق ثيابنا على أجسادنا في هذه الدنيا، وإنما هي ألوان من النور، أشبه بألوان الطيف، تنعكس على هذه الأجسام النورانية.. وهذا يعنى أن الحياة في الجنة حياة روحية، لا يخالطها شيء من عالم المادة إلا كان في شفافية الروح وصفائها.
وقوله تعالى: {وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً} هو إشارة إلى عظم ما يساق إلى هؤلاء الأبرار من نعيم، حيث يتناولون هذا الشراب الطهور من ربهم، بعد أن يكونوا قد تذوقوا ألوان النعيم الأخرى.. فكان هذا الشراب من يد البر الرّحيم، هو النشوة الكبرى، التي لا يحيط بها وصف، ولا يعرف كنهها إلا من أكرمه اللّه بها.
فما أضل الذين ولّوا وجوههم إلى غير ربهم، وما أخسر صفقة الذين اشتروا الدنيا كلها، بقطرة من قطرات هذا الرضوان!! قوله تعالى: {إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} هو من تحية اللّه سبحانه وتعالى لعباده الأبرار المكرمين، وهو يسقيهم من هذا الشراب الطّهور.. فهم إذ يتناولون هذا الشراب من ربهم، يتناولونه محمّلا بهذه التحية المباركة من المنعم المتفضل عليهم إذ يقال لهم هذا جزاء ما عملتم، وهو ثمرة ما سعيتم، إن سعيكم كان مشكورا لكم من ربكم، وهذه التحية من ربكم هي تحية شكر وحمد لسعيكم.
الجنة ونعيمها.. بين الروحي والجسدي:
ونريد هنا أن نقف وقفة قصيرة مع تلك الأوصاف التي ذكرها القرآن الكريم لنعيم الجنة، والتي تبدو كأنها صورة من النعيم الدنيوي، بما فيه من ألوان المآكل، والمشارب، والدور، والقصور، والملابس، والحلّى، والأوانى والأمتعة، والجواري والغلمان، والعيون والأنهار، والأشجار والثمار، إلى غير ذلك مما اعتاد الناس في الدنيا أن يروه، أو يعيشوا فيه.
وهذا مما دعا بعض الأدعياء أو الأغبياء إلى أن القول بأن هذه الجنة مما يحلم به المحرومون، ومما يغذّى به الدين هذه الأحلام الجائعة! ولنسلم- جدلا- من أول الأمر بأن نعيم الجنة هو من هذا النعيم الذي يعرفه الناس في الدنيا، ويجدّون في طلبه، ويشقون في تحصيله، ثم يفوتهم كله، أو الكثير منه- فأى قصور يلحق هذا النعيم، وأي مطلب يعوز الذين ينزلون منازل هذه الجنة فيجدون كل ما كانت تشتهى أنفسهم في الدنيا حاضرا بين أيديهم، لا يتكلفون له جهدا، ولا يريقون من أجله دما أو عرقا؟ أهذا نعيم تزهد فيه النفوس؟ وأ هذا مقام يبغى إنسان التحول عنه؟ ولم إذن استبدت الرغبة في هذا النعيم بنفوس الناس في الدنيا؟ ولم أفنوا أعمارهم في طلبه؟ ولم أراقوا دماءهم في سبيله؟
فلتكن الجنة عالما ماديّا، ولتكن كلها سوقا حشدت فيه كل ما في هذه الدنيا من متع ولذاذات ومسرات ومباهج؟ أليس هذا العالم هو حلم الإنسانية الذي لم ولن يتحقق لها على هذه الأرض؟ فماذا لو وجدت عالما آخر يتحقق لها فيه هذا الحلم البعيد المنال؟ وأي إنسان يزهد في هذا النعيم إذا أتيح له، ووجد السبيل إليه؟ ولا تمدن عينيك هنا إلى أولئك الذين يقال إنهم زهدوا في نعيم الحياة المادية من الفلاسفة والحكماء، والمتصوفة، وغيرهم ممن عفّوا، أو عافوا متعة الجسد، وراحوا يعيشون على قوت أرواحهم، وعرائس أفكارهم.. فهؤلاء جميعا- إن صدقت أحوالهم- إنما أقاموا لأنفسهم عالما من الوهم، والخيال، تتراقص فيه طيوف رؤاهم وأحلامهم، بكل ما قصرت عنه أيديهم من متع مادية استبدّ بها غيرهم.. ومن زهد منهم في تلك المتع، وقد أتيحت له- فإنما لأنه استقصر حياته معها، أو توقع فرارها من يده! ولو كان هذا النعيم دائما، وكان لمن يعيش فيه ضمان بالخلود معه، لكان الحكماء، والفلاسفة، والمتصوفة أكثر الناس طلبا، وازدحاما على مورده.
ومع هذا، فإن ما جاء في القرآن الكريم من أوصاف الجنة ونعيمها، ليس هو كل ما فيها من نعيم، وإنما ذلك هو معرض من معارضها، وإشارة دالة على ما وراء هذا النعيم مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر.. إنه هو الجزء القليل الذي يمكن أن يقع في مفهوم الناس، وهم في هذا العالم الدنيوي، حتى يكون للجنة التي يوعدون بها تصور، وحتى يكون لدعوتهم إليها استجابة.. ولو جاءتهم الجنة غير مألوفة لهم، لما وقعت من أنفسهم موقعا، ولما وجدت لها في مشاعرهم ووجداناتهم مكانا.
ولا يقال- كما قيل فعلا- إن هذا النعيم الأخروى، هو نعيم جسدى، يشبع أحلام الجوعى والمحرومين، ويرضى مطالب البيئات الفقيرة المجدبة.. وهذا بدوره يعنى أن الدّين الذي يعد أهله بمثل تلك الجنة في الآخرة، إنما هو دين على مستوى هذه الحياة البدائية في الصحراء، التي لا تبعد الحياة فيها كثيرا عن حياة الغابة، وأن الدين ليس إلا أكذوبة خادعة تستهوى الجوعى والمحرومين بهذه الموائد الممدودة لهم في عالم الرؤى والأحلام.
فهذا القول، إن كان من جاهل، فهو جهل يفصح أهله ويخزيهم، وإن كان من عالم فهو زور وبهتان، يتخرص به المتخرصون في غير خجل أو حياء، ممن يكيدون للإسلام، من مستشرقى أوربا وأمريكا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} [8: الصف].
إن نعيم الجنة المادي، وما جاء في القرآن مما أعد اللّه سبحانه وتعالى منه لأهلها، من حور عين، وولدان مخلدين، ولحم طير مما يشتهون، وفاكهة مما يتخيرون، ومن أنهار من ماء ولبن، وخمر، وعسل- إن هذا- كما قلنا- هو من مطلوب الحياة الإنسانية، وبه قوام حياة الإنسان، وسعادته، مادام الإنسان إنسانا بشرا، لم يتحول إلى عالم الملائكة، ولم يصبح روحا هائما لا ذاتية له.
وإن الإنسان، هو الإنسان، في الدنيا، أو الآخرة.. هذا ما يجب القطع به.. إذ لابد أن يجد الإنسان ذاته ووجوده الإنسانى كله في الآخرة، وإلا لكان مخلوقا غريبا، ليس بينه وبين الإنسان الذي عاش في هذه الدنيا من صلة، ثم لكان حسابه وجزاؤه في الآخرة ليس حسابا، ولا جزاء لهذا الإنسان الذي كان في الدنيا.
وإنه لكى يظل الإنسان إنسانا، وليلقى حسابه وجزاءه، الحسن أو السيّء، ويحد طعمه الحلو أو المر- ينبغى أن يكون على طبيعته، في جميع أحواله، وكل حيواته.. الدنيوية، والأخروية.. إنه ينبغى أن تظل هذه الذاتية مع الإنسان، وأن تصحبه تلك الشخصية المشخصة له في عالم الدنيا والآخرة جميعا.
أما أن تتفكك هذه الشخصية، أو تنحلّ، أو تخرج عن طبيعتها جملة، فإنها لن تكون ذلك الإنسان، الذي عرف في وقت ما، أوفى حال ما، أنه فلان؟ ابن فلان!.
نعم، قد تعلو ذاتية الإنسان وتصفو مشاعره وعواطفه، وقد تنزل، وتسفّ، وتكدر.. ولكن ذلك لا يخرج بالإنسان- في أي حال من الأحوال- عن دائرة الإنسانية- ولا يلحقه بعالم الملائكة أو الشياطين.
إن الإنسان ليتنقل في أطوار شتى.. من الولادة إلى الطفولة، والصبا والشباب، والشيخوخة.
وهو في كل طور من أطوار حياته، هو تلك الذات أو الشخصية التي لا يجد فيها صاحبها أن طفولته أو صباه أو شبابه أو شيخوخته- أوصال مقطعة من ذاته.
بل إنه هو هو، في كل طور من هذه الأطوار، وإن تغيرت بعض ملامحه، وزادت معارفه، واتسعت آفاقه.. وشتان ما بين الطفولة والشباب، وشتان بين سقراط الطفل وسقراط الفيلسوف.. ولكنه هوهو سقراط، طفلا، وصبيا، وشابا، وشيخا!!.
ثم مالنا ندفع مطاعن الأوربيين عن شريعة الإسلام، وما جاء في تلك الشريعة من أوصاف حسية لنعيم الجنة- ما لنا ندفع هذا، والحال أنهم هم مطالبون أن يدفعوا هذه المطاعن ذاتها عن المسيحية، إن كانوا يؤمنون بها، أو يدفعوا بها إليها إن كانوا غير مؤمنين بها.. فإن المسيحية- على الرغم من أنها تلبس لباس الروحانية- حين تحدثت عن النعيم الذي يلقاه أهل الجنة- نجدها تعرض صورا حسية من هذا النعيم، مثل تلك الصور التي جاء بها القرآن، سواء بسواء!.
فقد ذكر المسيح- عليه السلام- لتلاميذه، أنهم سيشربون معه من ابنة العنب في ملكوت السموات: يقول لهم: إنى لست شاربا من ابنة هذه الكرمة حتى أشربها معكم في ملكوت السموات.
فأخبر بأن في الملكوت شرابا، وشرابا من خمر، وحيث يكون شراب، لا يستنكر المأكل.. فيقول السيد المسيح: ستأكلون وتشربون على مائدة أبى.
ثم هناك إلى جانب الأكل والشرب، غرف لأهل الجنة.. يقول السيد المسيح: ما أكثر الغرف والمساكن عند أبى.
فالقرآن إذن لم يكن بدعا بين الكتب السماوية، فيما جاء فيه عن النعيم الحسىّ في الجنة.. فلم تتهم شريعة الإسلام وحدها بأنها شريعة الجسد، وبأنها الشريعة التي تغرى أتباعها بهذه الألوان التي يسيل لها لعابهم، وتستيقظ لها حيوانيتهم؟.
إنها تهمة ظالمة باطلة..!
أما أنها ظالمة، فلأنها تتجه إلى الإسلام وحده، دون الشرائع والديانات التي تقول بما يقول به الإسلام في وصف هذا النعيم.
وأما أنها باطلة، فلأنها تقوم على فهم خاطئ للإنسان، وللوحدة الذاتية، التي ينبغى أن يحتفظ له بها في الحياة الآخرة.. تلك الوحدة التي تجمع الروح والجسد معا.. فلا يكون الإنسان إنسانا إلا يجسد وروح، ولا يعرف الإنسان السعادة أو الشقاء إلا إذا كان لكلّ من الجسد والروح نصيب مما يسعد به الناس أو يشقون!.
إن أهل الجنة يحملون معهم نفوسا بشريّة، لها رغباتها، ومنازعها، ومن شأن نعيم الجنة، الذي يحقق النعيم الكامل- من شأنه أن يشبع- في غير ملل- هذه الرغبات وتلك النوازع، وإلا كان نعيما غير كامل.
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ} [31: فصلت].
وعلى هذا فإن لنا أن نقول إن نعيم أهل الجنة- هذا النعيم الحسى، الذي جاء في القرآن، من مطاعم، ومشارب، وملابس، ومساكن- هو نعيم مطلوب للإنسان، لا يتم نعيمه إلا إذا أخذ حظه منه، وهو نعيم خالص من الشوائب، التي تعلق بكل نعيم دنيوى.
ثم إن وراء هذا النعيم الحسى، نعيما روحيّا.. فهناك مسرات الروح التي لا حدود لها.. وإنها لمسرات لا يمكن أن توصف بألفاظ وعبارات، ولا يمكن أن تضبط لها صورة، وغاية ما يمكن أن يقال عنها إنها بهجة النفس ولذة الروح.
أما مادة تلك اللذة، وهذه البهجة، فلا يمكن أن توصف بألفاظنا، أو تدرك بعقولنا المحدودة القاصرة.
ولقد أشار القرآن الكريم إلى بعض دلالات هذا النعيم الروحي، ولكنه لم يكشف عن مادة هذا النعيم وعناصره.. فهناك نضرة النعيم التي تسفر بها وجوه أهل الجنة: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [24: المطففين].
وهناك الأمن والاطمئنان من كل ما يزعج النفس أو يقلقها من حاضر أو مستقبل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [49: الأعراف] ثم أليس الخلاص من جهنم، وأ ليست السلامة منها، مصدر نعيم نفسى لا ينفد أبدا؟ إنها لسعادة غامرة، وهناءة كاملة، أن يرى أهل الجنة عذاب السعير، وهم في مأمن من هذا العذاب.. {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ} [185: آل عمران] ومن أجل هذا كان من حمد أهل الجنة للّه سبحانه وتعالى أن أنقذهم من عذاب النار، هو ما ذكره اللّه سبحانه من قولهم {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ} [35: فاطر] أليس هذا نعيما للنفس، وروحا للروح.. يتجدد في كل نظرة ينظر بها أصحاب الجنة إلى أصحاب الجحيم؟
ثم ماذا يطلب الإنسان من النعيم، غير أن يجد فيه السعادة المطلقة.
السعادة التي لا يدخل عليها ما يقطعها، أو ينقص منها، أو يفسد طعمها؟ إن سعادة الجنة، هي سعادة دائمة خالدة، لا تنفصل عن أهلها، ولا ينفصلون عنها، وذلك هو نعيم أهل الجنة، سواء أكان ماديّا أو معنويّا، جسديّا أو روحيّا.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا} [107- 108: الكهف].
وحسب هذا النعيم أنه غير زائل عن أهله، وحسب المنعمين به أن يقيموا عليه، ولا يبغون عنه حولا.
وأعجب ما في هذه القضية، أن يجيء الإنكار على الإسلام لهذا النعيم الجسدى الذي يعد به أتباعه في الآخرة- من عجب أن يجيء هذا الإنكار من أوربا وأمريكا، التي فنيت شعوبها فناء مطلقا في عالم المادة، حتى لقد كادت تتغير الطبيعة الإنسانية في هذه المجتمعات، وتختفى المشاعر والعواطف.. حتى بين الآباء والأبناء.. وإنه لو كان لتلك الشعوب أن تحلم بجنة في الآخرة، لما كانت جنة أحلامهم تلك إلا أنهارا تجرى من خمر، وإلا حانات تعج بالراقصين والراقصات، وإلا موائد ممدودة للطعام والشراب، والقمار.. فإن هذا الذي بلغته شعوب أوربا وأمريكا من تقدم في العلوم والفنون، وإنما كان وسيلة إلى تحقيق هذا النعيم المادىّ الذي إن فات أحدهم حظه منه، ولم يستطع الوصول إليه، ضاقت الدنيا في عينيه، واستولى عليه الكرب والهم.. ثم لم يكن له بدّ من أن يركب أحد طريقين: فإما أن يلبس ثوب الوجودية، ويتحول إلى حيوان يعيش في غابة، فلا يغير من ثيابه، ولا يصلح من هندامه، ولا يقص شعرا ولا ظفرا، ولا يغطى جسدا ولا يستر عورة.. وهو بهذا يخرج عن عالم الناس، ومن ثمّ فلا يعنيه أن يملك مثل ما يملكون، أو يتمتع مثل ما يتمتعون.
إن له متعته الخاصة التي هي على غير ما يتمتع به الناس.. وهل يلذ للذئاب مثلا أن تجلس إلى مائدة، وأن تتناول مما يطعم منه الناس.؟
أما من لم يجد له مكانا في هذا العالم فثمة طريق آخر.. طريق المنتحرين.
وليس ثمة طريق ثالث.