فصل: تفسير الآيات (108- 109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (108- 109):

{تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)}.
التفسير:
يبين اللّه سبحانه لنبيه الكريم في هاتين الآيتين الكريمتين لطفه به وبعباده، وأنه سبحانه يخاطبه بلسان الحق، وينزّل عليه آياته بالحق، ليهتدى بها الضالون، ويعلم منها الجاهلون، وبذلك لا يكون للنّاس على اللّه حجة بعد هذا البلاغ المبين، ولا يكون لقائل منهم أن يقول ما حكاه اللّه عنهم في قوله تعالى: {رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [47: القصص].. فإذا أخذ اللّه بعد ذلك مذنبا بذنبه كان ذلك هو الحكم الذي ينبغى أن يدين به العاقل نفسه.. {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ} لأنه لو شاء سبحانه أن يعذب الناس جميعا- محسنهم ومسيئهم- لما كان لأحد أن يجاحّ اللّه في هذا، أو يدفع عن نفسه ما يريد اللّه به.. ولكنّ رحمة اللّه سبحانه بعباده، اقتضت أن يرسل إليهم رسله، يحملون إليهم آياته واضحة بيّنة، تهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها} [104: الأنعام] وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} هو بيان لما للّه على النّاس من سلطان، وأنه يحكم فيهم ولا معقّب لحكمه، وأنه آخذ بنواصيهم جميعا، فإليه مرجعهم، وبين يديه حسابهم: {إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ} [25- 26: الغاشية].
مبحث: الخير.. في خير أمة أخرجت للناس:

.تفسير الآية رقم (110):

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)}.
التفسير:
مما يكبت الضّالين من أهل الكتاب- وخاصّة اليهود- أن يروا نعمة من نعم اللّه تلبس أهل الإسلام، وخاصة إذا كانت تلك النعمة بين أطواء آية من آيات اللّه، المنزلة على رسول اللّه، لأنهم يعلمون أن ذلك حق لا ريب فيه، وأن تلك النعمة إن لم تكن قد أتت فهى آتية لا ريب فيها، وهذا مما يضاعف حسرتهم، ويملأ قلوبهم غيظا وكمدا.
وإذ تلقّى المسلمون قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} بالتهليل والتكبير، وبالثناء المستطاب على اللّه أنّ منّ عليهم بهذا الفضل، فرفع قدرهم بين الأمم، وأعلى شأنهم في العالمين- فإن أهل الكتاب-
وخاصة اليهود- قد صعقوا لهذه الآية، ودارت رءوسهم بها، وزلزلت أقدامهم منها، وأيقنوا أنهم لن يلحقوا بالمسلمين، ولن يقوموا لهم أبد الدهر! وفى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وفى التعبير بلفظ الماضي {كنتم} ما يشير إلى أن هذا الحكم الذي حكم به اللّه على هذه الأمة، بأنها خير أمة أخرجت للناس- ليس محدودا بزمن من أزمانها، ولا مخصوصا بحال من أحوالها.. وإنما هو حكم عام مطلق، يشمل الأمة الإسلامية كلها، في كل أزمانها، وفى جميع أحوالها، من عهد النبوة إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.. إنه حكم للأمة الإسلامية في ماضيها وحاضرها، ومستقبلها. وإن تلقته في أول وجودها، وفى ساعة مولدها.. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}! هذا هو حكم اللّه فيما أحاط به علمه، وفيما قدّره لكل أمة من أجل، ومن رزق!.
وفى قوله تعالى: {أُخْرِجَتْ} تنويه آخر بشأن هذه الأمة، وأنها هي المولود الكامل، الذي تمخضت عنه الإنسانية كلها.. ولن تلد مثله أبد الدهر!.
وفى قوله سبحانه: {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} تنويه ثالث بتلك الأمة، فإنها لم تخرج من الناس، ولكنها {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وكأنها بهذا من معدن غير معدن الناس، ومن عالم غير عالم الناس، جاءتهم هكذا من عالم الغيب، وأخرجت لهم من حيث لا يتوقعون.. من صحراء مجدبة قفر، ومن مجتمع أمّى غارق في الجهالة!، فقادت ركب الإنسانية، وحررتها من قيود العبودية والظلم.
هذا هو مكاننا- أمة الإسلام- الذي ندبنا اللّه له، وأحلّنا فيه، وأقامنا عليه.
وإنه لن يزحزحنا عن هذا المقام زمان، ولن يحتله مكاننا أحد.
وإننا- أمة الإسلام- على أي حال كنّا، وفى أسوأ وجود لنا- خير أمة أخرجت للناس!.
وإن ميزاننا مهما خفّ في هذه الحياة فهو أثقل من ميزان أية أمة، وإن بدا في ظاهرها أنها أقوى قوة، أو أكثر مالا، وأعزّ نفرا!.
ذلك ما ينبغى أن نؤمن به إيمانا راسخا كإيماننا باللّه.. وإلا كنا مكذبين بآياته، منكرين، أو منتكرين لكتابه! إننا- أمة الإسلام- أشبه بالذهب، بين المعادن الأخرى.. قيمته دائما فيه، حتى ولو علا بريقه التراب، وغبّر وجهه دخان الزمن.. إنه الذهب على أي حال.
فليكن ذلك شعورنا بأنفسنا، وإيماننا بمكانتنا في هذه الحياة.. ثم ليكن منّا ما يقابل هذا الشعور، وذلك الإيمان، من جدّ، ومن تحصيل لكل معانى الإنسانية الكريمة، ومثلها الرفيعة، فذلك هو الذي يحقق كل معانى الخيرية فينا، ويعرض للناس وللحياة أكمل الكمال منّا.
ومع هذا، فإنه لن ينزع عنا هذا الفضل الذي فضل اللّه به على هذه الأمة ما يلمّ بنا من ضعف أو يعرض لنا من فتور، أو يقع في محيطنا من انحراف.. فتلك كلها عوارض لا تمسّ الصميم منا، ولا تنقض حكم اللّه لنا.. فنحن- على أية حال نكون عليها- {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
ولسنا بهذا ندعى ما يدّعيه اليهود لأنفسهم من أنهم شعب اللّه المختار.
فنحن شيء، واليهود شيء.
نحن تلقّينا كرامة اللّه وفضله.. واليهود رموا بغضب اللّه ولعنته!!
ذلك أن اللّه سبحانه، أفاض على اليهود من أفضاله، ومنحهم من نعمه ما لم يمنحه أحدا من العالمين.. امتحانا وابتلاء. فلما مكروا بآيات اللّه، وعصوا رسله، وقتلوا من قتلوا من أنبيائه، وأعنتوا من أعنتوا منهم- أخذهم اللّه بالبأساء والضرّاء، وساق إليهم نقمه، وشملهم بسخطه، وصبّ عليهم لعنته- وفى هذا يقول اللّه تعالى فيهم: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [13: المائدة].
أما نحن- أمة الإسلام- فقد فضل علينا بهذا الفضل، وجعله حكما قائما فينا أبدا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ولن ينقض أبدا هذا الحكم الذي حملته كلمات اللّه.
وقوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} بيان للصفات التي استحق بها المسلمون أن يكونوا {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} فمن رسالة هذه الأمة ألا تحتجز الخير لنفسها، ولا تستأثر به حين يقع ليدها، بل تجعل منه نصيبا تبرّ به الإنسانية كلها، وتشرك الناس جميعا معها، فيه.
ذلك شأنها في كل خير تصيبه.. فإذا أصاب المسلم مالا، جعل فيه للفقراء والمساكين نصيبا، وآتى منه ذوى القربى واليتامى، وأنفق منه في سبيل اللّه، وفى إعلاء كلمة الحقّ.. وإذا أصاب هدى من اللّه، وعرف طريقا إلى الحق، لم يجد لذلك مساغا إلا إذا وجّه الناس إليه، ودلّهم عليه، ولو احتمل في سبيل ذلك الضرّ والأذى، وعرض نفسه للتلف والهلاك، شأن الطبيب الذي يرى وباء يفتك بالناس، ويذروهم كما تذرو الرياح الهشيم.. إنه- والحال كذلك- ينسى نفسه، ويدخل في معركة مع هذا الوباء، غير حاسب حسابا لما قد يقع له من سوء، ولو كان في ذلك ذهاب نفسه! هكذا هو موقف الأمة الإسلامية من الخير الذي ساقه اللّه إليها، على يد الرسول الكريم، مما تلقّى من بركات السماء، ورحماتها. {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} كما جاءكم رسول اللّه يأمركم بالمعروف وينهاكم عن المنكر.. وفى هذا يقول اللّه تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ}.
وفى قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} قدّم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان باللّه، الذي هو مقدّم على كل عمل طيب، حيث لا يطيب العمل، ولا يقبل، إلا مع الإيمان.
فكيف يؤخر الإيمان هنا، عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟
والجواب عن هذا من وجهين:
أولا: أن اللّه سبحانه وتعالى إذ وصف هذه الأمة هذا الوصف الكريم، وحكم لها هذا الحكم القاطع اللازم، لم يصفها هذا الوصف ولم يعطها هذا الحكم إلا وهى على الإيمان، مجتمعة هي عليه ومشتملا هو عليها.. فهى ليست مطلق أمة، وإنما هي أمة مسلمة، تلك الأمة التي كانت استجابة من اللّه لدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إذ يقولان كما حكاه القرآن عنهما: {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [138: البقرة].
ثانيا: ذكر الإيمان باللّه هنا لم تكن داعيته وصف هذه الأمة بأنها مؤمنة باللّه- إذ كان إيمانها باللّه، معروفا مقدرا من قبل، وإنما داعية ذكره في القرآن أنه إيمان على صفة غير ما عليه إيمان المؤمنين من أهل الكتاب!.
والإيمان باللّه الذي عليه الأمة الإسلامية، هو إيمان بريء من كل شائبة من شوائب الشرك، وخلص من كل نزغة من نزغات الشك.. إنه إيمان مصفّى، يرى فيه المؤمن وجه الحق واضحا مشرقا، إذ لا يتكلف له المؤمن جهدا في الوصول إليه، ولا تنقطع أنفاسه في الدوران حوله، لأنه قريب، قريب، يراه العامة والفلاسفة على السواء.. إنه: لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيى ويميت، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ذلكم اللّه ربّ العالمين، وهو ما يقوم به وعليه إيمان المسلمين.. بلا فلسفه، ولا كهنة، ولا أحبار، ولا رهبان.. إيمان يطمئن إليه قلب الرّاعى بين غنمه، والزارع وراء محراثه، كما يطمئن إليه قلب العالم في معمله، والفيلسوف في محراب فلسفته! إيمان بديهة.. لا تكدّ ذهنا، ولا تشتت خاطرا، ولا تزعج وجدانا.
وليس كذلك إيمان المؤمنين من أهل الكتاب.. إنه إيمان مرهق معقّد، مركّب على قضايا من المقولات الفلسفية والمنطقية، المبنية على معطيات مما وراء الطبيعة، التي تدور بها رءوس العامة، وتضطرب لها عقول العلماء.. فإذا آمن مؤمنهم باللّه كان بينه وبين اللّه حجب كثيفة من هذه المقولات، التي لا يستطيع أن يرى اللّه من خلالها إلّا محاطا بضباب كثير من الشك والارتياب!! فإيمان المسلمين باللّه، إيمان.. وإيمان أهل الكتاب باللّه إيمان.. وبين الإيمانين بعد بعيد، وبون شاسع.. ومن هنا كان ذكر إيمان المسلمين في هذا المقام تنويها بهذا الإيمان، وعزلا له عن إيمان المؤمنين من أهل الكتاب، ذلك الإيمان المشوب غير الخالص من العلل والآفات، ولهذا جاء قوله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ} جاء بعد قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} داعيا أهل الكتاب أن يؤمنوا إيمانا مصححا مجددا، كإيمان المسلمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ}.
وقد كشف القرآن الكريم عن حقيقة الإيمان الذي عليه أهل الكتاب.. فقال تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ} [13: البقرة] أي أنهم إذا دعوا إلى الإيمان باللّه إيمانا بعيدا عن المماحكات والسفسطات، وعن الألغاز والطلاسم، التي تعمّى على الناس السبيل إلى الطريق المستقيم- إذا دعوا أن آمنوا كما آمن الناس، إيمانا سمحا سهلا واضحا- أبوا وقالوا أنؤمن كما آمن السفهاء من الجهلة والعامّة؟
وقالوا في أنفسهم: كيف يهتدى أحد إلى اللّه من هذا الطريق القريب؟
إنّ اللّه بعبد بعيد، متستر في حجب جلاله وبهائه، فلا تناله الأبصار، ولا تدركه العقول، وإنه لابد- والأمر كذلك- من دراسات وفلسفات، وبحوث مضنية مرهقة، حتى يمسك الدارسون، والفلاسفة والباحثون بأذيال هذه الحقيقة الكبرى! هكذا زيّن لهم سوء عملهم فرأوه حسنا.
وقال تعالى أيضا مشيرا إلى أهل الكتاب وإلى إيمانهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [8: البقرة] إنه إيمان مشوب بالشك، ومختلط بالضلال.. فلا يعدّ، ولا يحسب في الإيمان الصحيح بحال أبدا.
وفى قوله تعالى: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} إشارة إلى أن قلّة قليلة من هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب قام إيمانهم على التسليم، ولم يقم على الوساوس والهواجس، والضرب في متاهات لا يهتدى السالك فيها إلى سواء السبيل أبدا.. أما الكثرة الكثيرة من أهل الكتاب فهم كما قال اللّه: {وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} أي هم مؤمنون ولكنهم في الوقت نفسه فاسقون أي خارجون على الإيمان.

.تفسير الآيات (111- 112):

{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)}.
التفسير:
إنهم هم اليهود.. وإنّ آيات اللّه لتكشف المستور من أمرهم، وتفضح المتوقع من خزيهم في خط مسيرتهم مع المسلمين في الحياة.
إنهم يكيدون دائما للإسلام والمسلمين، لأن داء الحسد الذي يغلى في صدورهم لا يسكن أبدا.
وكيف يسكن وهم يعلمون عن يقين أن المسلمين قد ظفروا من الكتاب الذي في أيديهم بخير الدنيا والآخرة.. وأن هذا الكتاب كان ينبغى أن يكون لهم، كما كانت كتب اللّه من قبل كلها فيهم؟ وأما وقد سبقهم العرب إلى هذا الكتاب فليفسدوه عليهم، وليعزلوا المسلمين عنه! وفى قوله تعالى مخاطبا المسلمين: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً}.
أولا: إلفات للمسلمين أن يأخذوا حذرهم من اليهود، الذين لا يكفّون أبدا عن السعى في تدبير الكيد للمسلمين، وتوجيه الضّرّ إليهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ثانيا: تطمين المسلمين- حالا ومستقبلا- مما يدبر اليهود لهم من كيد خبيث، ومكر خسيس، وأن غاية ما يبلغه اليهود من كل ما يكيدون وما يمكرون، لا يتجاوز {الأذى} الذي مهما بلغ لا يبلغ حدّ الخطر والتلف.. وسيظل المسلمون- رغم كل شيء- على الصحة والسلامة أبدا، وإن أصابهم الضرّ ومسّهم الأذى، فإن كيانهم سيظل سليما معافى، لا ينال منه هذا الضرّ، ولا يؤثر فيه هذا الأذى.
هذا في معركة الكيد، والدسّ، التي هي الميدان الذي يحسن فيه اليهود العمل.. فإذا انتقل اليهود إلى ميدان آخر، وهو ميدان القتال، واشتبكوا مع المسلمين في حرب، فإنّهم لا يلقون إلا الخزي والخذلان.. {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}.
هذا حكم اللّه فيما يقع بينهم وبين المسلمين من قتال.. النصر دائما للمسلمين، والهزيمة دائما لليهود.. وإنه لابد من وقفة هنا.
فإن وجه الأحداث المطل علينا في هذه الآية، قد يطالع منه بعض الناس شيئا آخر غير الذي تطالعنا الآية الكريمة به، والذي نتأولها نحن عليه.
يشتبك المسلمون مع اليهود اليوم في معركة (يونيه 1967- محرم 1387) قد جمع لها اليهود كل كيدهم ومكرهم، وجلبوا لها كل ما استطاعوا من عتاد، وحشدوا فيها كل من على شاكلتهم في العداوة للإسلام، والكراهية للمسلمين.
وقد أخذوا جيوش المسلمين على غرّة، فكان لهم من هذا نصر معجّل، تخلى فيه المسلمون عن مواقع كثيرة من أوطانهم، في سيناء، وسوريا، والأردن.
وتوقف القتال.. استعدادا لمعركة قادمة فاصلة.
ونكتب هذا، ونحن في شهر (أكتوبر 1967- رجب 1387).
وما زال الموقف جامدا في الظاهر.. ولكنه يتحرك في خفاء لالتحام قريب! ولا ندرى متى يكون هذا اليوم الذي نلتحم فيه مع اليهود.. ولكن الذي نؤمن به ولا نشك فيه، هو ما وعدنا اللّه به، من النصر على اليهود دائما.
{وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}.
فالنصر آت لا ريب فيه، وإنه لنصر يلبس اليهود ثوبا جديدا من أثواب الذلة التي ضربهم اللّه بها! وقد يبدو لبعض الناظرين إلى هذا الحدث، من خلال المدافع، وبين دخانه وضبابه- أن يتأول الآية الكريمة، وأن يرفع حكمها العام المطلق، ويرتفع به إلى الماضي البعيد، وإلى ما كان بين اليهود والنبىّ من قتال، أخزى اللّه فيه اليهود، وكبتهم، وأنزلهم من صياصيهم، وقذف في قلوبهم الرعب، فاستسلموا للهزيمة، ونزلوا على حكم النبيّ فيهم، فقتل من قتل، وسبى من سبى، وأجلى من أجلى.. حتى إذا كانت خلافة عمر بن الخطاب لم يكن اليهود إلا جماعات متفرقة في الجزيرة العربية، لا تملك غير الكيد والدس، ولا تعيش إلا على الكذب والنفاق، فأجلاهم عن الجزيرة العربية جميعا!! قد يبدو لبعض المتأولين أن يتأول الآية الكريمة على هذا الوجه، ويقف بها عند حدود الزمن الذي نزلت فيه، ويجعل أسباب نزولها مقيدا بهذا الوقت.. وذلك ليحمى كلام اللّه من المجازفات التي تنجم عن تعميم هذا الحكم الذي تحمله، والذي قد لا تجيء الأيام بتصديقه، خاصة وأن محامل الآية الكريمة تقبل هذا الوجه من التأويل ولا تردّه! فمالنا إذن لا نقبل هذا التأويل؟ ولم نغامر تلك المغامرة الخطرة بآية من آيات اللّه، ونحمّلها مالا تحتمل، لنتخذ منها أملا يدفئ صدورنا، ويطمئن قلوبنا، ويخفف آلام جراحنا التي نعانيها من هذا الحدث الذي نعيش فيه، في مرارة، وألم، وقلق؟
أو من أجل هذا تبلغ بنا الجرأة على كتاب اللّه، فنبيعه بهذا الثمن البخس؟
وما ذا تركنا لليهود إذن؟ وما ذا يحول بيننا وبين أن نتعرض لما تعرضوا له من سخط اللّه وقد اشتروا بآياته ثمنا قليلا؟. {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [79: البقرة].
وإنه ليس ثمة فرق بعد أن يفترى مفتر على اللّه، آية.. فيقول: هذا من عند اللّه، وبين أن يحمل آية من آيات اللّه على هواه، فيغير وجهها، ويحرّم حلالها، ويحلّل حرامها! واللّه سبحانه وتعالى يقول متوعدا اليهود: {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ () مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} [116- 117: النحل].
أفمن أحل هذا المتاع القليل الذي نجد فيه من ريح الآية الكريمة أنسا لوحشتنا، وأملا في محنتنا.. أفمن أجل هذا، نرد هذا المورد، ونجازف تلك المجازفة المهلكة؟
وكلّا، فإنا أحرص على أنفسنا من أن تلمّ بما يعرّضها لموقع من مواقع سخط اللّه، خاصة ونحن نسعى بين يدى كتابه الكريم، ابتغاء مرضاته، وطلبا للمزيد من إحسانه وفضله! أفنرجع إذن عن هذا الذي ذهبنا إليه، في حمل الآية الكريمة على عمومها، من أن النصر الذي وعد اللّه به المسلمين على اليهود هو وعد دائم مستمر، غير موقوت بوقت، أو موقوف على واقعة بعينها- أفنرجع إذن ونعود بالسلامة والعافية.. من قريب؟
وكلّا.. مرة أخرى.
فإنا مطمئنون إلى فهمنا للآية الكريمة، واثقون من معطياتها التي لا تتخلف أبدا.
بل وأكثر من هذا.. إننا ندعو إلى أن يفهمها المسلمون جميعا هذا الفهم الذي فهمناها عليه، وأن ينتظروا تأويلها في الأيام المقبلة كما ننتظره.. فإن أخلفهم من الآية هذا الوعد، وإن وجدوا لهذا الإخلاف غمزة في دينهم، أو حرجا منه في صدورهم، أو خلخلة له في قلوبهم- فالحكم اللّه بينى وبينهم! ولن يخزينا اللّه أبدا.. ولن يخلفنا وعده الذي وعد! وكيف؟
واللّه سبحانه وتعالى يقول في اليهود، بعد هذه الآية الكريمة، مؤكدا وعده الذي وعدنا.
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}.
فهذا الحكم عام شامل غير محصور بمكان، أو مقيد بزمان! {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} والتعبير بضرب الذلة عليهم فيه إحكام لهذا الحكم الواقع بهم، وأن الذلّة التي رماهم اللّه بها، ذلة متمكنة، مختلطة بوجوهم، كما يختلط لون الجلد بالجلد.. لا يتغير ولا يتبدّل أبدا! وفى قوله تعالى: {أَيْنَما ثُقِفُوا} حكم قاطع بمصاحبة الذلة لهم، أينما وجدوا، وأينما كانوا، في كل موطن، وفى كل زمن! هكذا هم في ذلة وهوان، أبد الدّهر.. ذلة في أنفسهم، وذلة بأيدى من يذلّونهم من عباد اللّه المسلطين عليهم. فإن نجوا من هذه الذلة التي يسوقها الناس إليهم، لم يخرجوا من تلك الذلة المستولية على طبيعتهم! وقوله تعالى: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}.
الحبل العهد والعقد.. والمعنى: ضربت عليهم الذلة أبدا، إلّا أن يدخلوا مع المسلمين في عهد اللّه، وذمة المسلمين، فيكونوا بذلك من أهل الذمّة، وتفرض عليهم الجزية، فيعطونها عن يد وهم صاغرون.. وهنا يرفع عنهم المسلمون الأذى والذلة التي أخذوهم بها. ولكن مع هذا لا يتخلّى عنهم روح الذلة المتسلط عليهم من داخل أنفسهم، لأن ذلك طبيعة فيهم، ولعنة من لعنات اللّه صبّها عليهم.
وقوله تعالى: {وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} بيان للحال التي يكونون عليها، بعد أن يدخلوا في ذمة المسلمين بعهد اللّه وعهد المسلمين.
فهم وإن رفعت عنهم يد المسلمين بعد هذا العهد الذي دخلوا به في ذمتهم، وإن رجعوا وقد أمنوا بطش المسلمين بهم بعد هذا العقد، فإنهم يرجعون ومعهم غضب اللّه الذي رماهم به، ومعهم المسكنة التي فرضها عليهم وابتلاهم بها.
وهكذا يعيش اليهود أبدا في كل زمان ومكان في ذلة وفى مسكنة، ذلة ومسكنة تلبسهم ظاهرا وباطنا.. إن سلم لهم ظاهرهم في حال، فلن يسلم لهم باطنهم في أي حال.. إنها لعنة اللّه {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}.
وفى قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ} تعليل لهذا العقاب الأليم الذي أخذهم اللّه به، والذي أجراه فيهم مجرى الدم في عروقهم، فكان ميراثا خبيثا، ينتقل في الخلف بعد الخلف إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين! من هذا كله نستطيع أن نقرر في إيمان وثيق، ثقتنا في صدق الكتاب الذي في أيدينا، وفى صدق كل كلمة، وكل حرف، من كلمات رب العالمين، وحروفها- أن ما بيننا وبين اليهود سينتهى بما حكم اللّه به عليهم، وهو أنهم {لا يُنْصَرُونَ} وأن الذلة والمسكنة مضروبة عليهم إلى يوم الدين، وأن هذه الصحوة التي تبدو على ظاهرهم في هذه الأيام ليست إلا صحوة الموت، يرتدون بعدها ثوبا جديدا من أثواب الذلة والمسكنة، وذلك بلاء إلى بلاء، وعذاب فوق عذاب.. فإنه ليس أشق على نفس المكروب من أن تهبّ عليه نسمة من نسمات العافية، ثم تعصف به بعدها عاصفة عاتية، وتلقى به بعيدا إلى أسوأ مما كان، ثم يتنفس نفس الحياة.. ثم تضربه موجة عاتية من موجات البلاء.. وهكذا يتردد بين الحياة والموت.. فلا يجد الحياة، ولا يستريح بالموت.. وذلك هو العذاب الذي يعذّب اللّه به أصحاب النار.
{كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ} [56: النساء].
فهذا الذي تعيش فيه إسرائيل اليوم هو فترة ما بين استبدال جلد بجلد، وذلة بذلة.. ليذوقوا العذاب، وليطعموه ألوانا في الدنيا.. ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون! وبعد، فإننا على موعد، مع نصر اللّه، ولن يخلف اللّه وعده.
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} ويومئذ يعلم الذين لا يعلمون، أن دين اللّه حق، وأن رسول اللّه حق، وأن ما نزل على الرسول حق.. ويومها يتجلّى وجه الإسلام مشرقا، وتطلع شمسه غير محجبة بضباب أو سحاب، فتعمر بالإسلام القلوب، وتشرق بنوره الآفاق {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} [8: الصف] وهكذا يصنع اللّه للإسلام، فيجعل له من الضيق فرجا، ومن البلاء عافية، ومن الشر خيرا ونعمة!